ص 341
وهذا عام دخله خصوص. وروي أن عائشة قالت لابن أخيها ألا تعجب من كثرة رواية هذا
الرجل ورسول الله (ص) حدث بأحاديث لو عدها عاد لاحصاها! وقال إبراهيم النخعي رضي
الله عنه: كانوا يأخذون من حديث أبي هريرة ويدعون. وقال لو كان ولد الزنا شر
الثلاثة لما انتظر بأمه أن تضع. وهذا نوع قياس. ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن أبا
هريرة يروي ما لا يعرف قال: لتكفن عن هذا أو لالحقنك بجبال دوس. فلمكان ما اشتهر من
السلف في هذا الباب قلنا ما وافق القياس من ته رواي فهو معمول به، وما خالف القياس
فإن تلقته الامة بالقبول فهو معمول به، وإلا فالقياس الصحيح شرعا مقدم على روايته
فيما ينسد باب الرأي فيه. ولعل ظانا يظن أن في مقالتنا ازدراء به ومعاذ الله من
ذلك، فهو مقدم في العدالة والحفظ والضبط كما قررنا، ولكن نقل الخبر بالمعنى كان
مستفيضا فيهم، والوقوف على كل معنى أراده رسول الله (ص) بكلامه أمر عظيم، فقد أوتي
جوامع الكلم على ما قال: أوتيت جوامع الكلم واختصر لي اختصارا ومعلوم أن الناقل
بالمعنى لا ينقل إلا بقدر ما فهمه من العبارة، وعند قصور فهم السامع ربما يذهب عليه
بعض المراد، وهذا القصور لا يشكل عند المقابلة بما هو فقه (لفظ) رسول الله (ص)،
فلتوهم هذا القصور قلنا: إذا انسد باب الرأي فيما روي وتحققت الضرورة بكونه مخالفا
للقياس الصحيح فلا بد من تركه، لان كون القياس الصحيح حجة ثابت بالكتاب والسنة
والاجماع فما خالف القياس الصحيح من كل وجه فهو في المعنى مخالف للكتاب والسنة
المشهورة والاجماع. وبيان هذا في حديث المصراة فإن الامر برد صاع من تمر مكان اللبن
قل أو كثر مخالف للقياس الصحيح من كل وجه، لان تقدير الضمان في العدوانات بالمثل أو
القيمة حكم ثابت بالكتاب والسنة والاجماع. وكذلك فيما يرويه سلمة بن المحبق أن رسول
الله (ص)
ص 342
قال فيمن وطئ جارية امرأته: فإن طاوعته فهي له وعليه مثلها، وإن استكرهها فهي حرة
وعليه مثلها فإن القياس الصحيح يرد هذا الحديث ويتبين أنه كالمخالف للكتاب والسنة
المشهورة والاجماع. ثم هذا النوع من القصور لا يتوهم في الراوي إذا كان قيها ف لان
ذلك لا يخفى عليه لقوة فقهه، فالظاهر أنه إنما روى الحديث بالمعنى عن بصيرة فإنه
علم سماعه (من رسول الله كذلك مخالفا للقياس ولا تهمة في روايته فكأنا سمعنا ذلك)
من رسول الله (ص) فيلزمنا ترك كل قياس بمقابلته، ولهذا قلت رواية الكبار من فقهاء
الصحابة رضي الله عنهم، ألا ترى إلى ما روي عن عمرو بن ميمون قال: صحبت ابن مسعود
سنين فما سمعته يروي حديثا إلا مرة واحدة، فإنه قال سمعت رسول الله (ص) ثم أخذه
البهر والفرق وجعلت فرائصه ترتعد فقال نحو هذا أو قريبا منه أو كلاما هذا معناه،
سمعت رسول الله (ص) يقول كذا. فبهذا يتبين أن الوقوف على ما أراده رسول الله (ص) من
معاني كلامه كان عظيما عندهم فلهذا قلت رواية الفقهاء منهم، فإذا صحت الرواية عنهم
فهو مقدم على القياس. ومع هذا كله فالكبار من أصحابنا يعظمون رواية هذا النوع منهم
ويعتمدون قولهم، فإن محمدا رحمه الله ذكر عن أبي حنيفة رحمه الله أنه أخذ بقول أنس
بن مالك رضي الله عنه في مقدار الحيض وغيره وكان درجة أبي هريرة فوق درجته، فعرفنا
بهذا أنهم ما تركوا العمل بروايتهم إلا عند الضرورة لانسداد باب الرأي من الوجه
الذي قررنا. فأما المجهول فإنما نعني بهذا اللفظ من لم يشتهر بطول الصحبة مع رسول
الله (ص) إنما عرف بما روي من حديث أو حديثين، نحو وابصة بن معبد، وسلمة بن المحبق،
ومعقل بن سنان الاشجعي رضي الله عنهم وغيرهم. ورواية هذا النوع على خمسة أوجه:
أحدها أن يشتهر لقبول الفقهاء روايته والرواية عنه، والثاني أن يسكتوا عن الطعن فيه
بعدما يشتهر، والثالث أن يختلفوا في الطعن في روايته، والرابع أن يطعنوا في روايته
من غير خلاف بينهم في ذلك، والخامس أن لا تظهر روايته ولا عن الط فيه فيما بينهم.
أما من قبل السلف منه روايته وجوزوا النقل عنه
ص 343
فهو بمنزلة المشهورين في الرواية: لانهم ما كانوا متهمين بالتقصير في أمر الدين،
وما كانوا يقبلون الحديث حتى يصح عندهم أنه يروي عن رسول الله (ص)، فإما أن يكون
قبولهم لعلمهم بعدالته وحسن ضبطه، أو لانه موافق لما عندهم مما سمعوه من رسول الله
(ص) أو من بعض المشهورين يروي عنه. وكذلك إن سكتوا عن الرد بعدما اشتهر روايته
عندهم، لان السكوت بعد تحقق الحاجة لا يحل إلا على وجه الرضا بالمسموع فكان سكوتهم
عن الرد دليل التقرير، بمنزلة ما لو قبلوه وردوا عنه. وكذلك ما اختلفوا في قبوله
وروايته عنه عندنا، لانه حين قبله بعض الفقهاء المشهورين منهم فكأنه روى ذلك بنفسه.
وبيان هذا في حديث معقل بن سنان أن رسول الله (ص) قضى لبروع بنت واشق الاشجعية بمهر
مثلها حين مات عنها زوجها ولم يسم لها صداقا، فإن ابن مسعود رضي الله عنه قبل
روايته وسر به لما وافق قضاءه قضاء رسول الله (ص)، وعلي رضي الله عنه رده فقال:
ماذا نصنع بقول أعرابي بوال على عقبه حسبها الميراث لا مهر لها. فلما اختلفوا فيه
في الصدر الاول أخذنا بروايته، لان الفقهاء من القرن الثاني كعلقمة مسروق و والحسن
ونافع بن جبير قبلوا روايته فصار معدلا بقبول الفقهاء روايته. وكذلك أبو الجراح
صاحب راية الاشجعيين صدقه في هذه الرواية. وكأن عليا رضي الله عنه إنما لم يقبل
روايته لانه كان مخالفا للقياس عنده، وابن مسعود رضي الله عنه قبل روايته لانه كان
موافقا للقياس عنده. فتبين بهذا أن رواية مثل هذا فيما يوافق القياس يكون مقبولا ثم
العمل يكون بالرواية. وأما إذا ردوا عليه روايته ولم يختلفوا في ذلك فإنه لا يجوز
العمل بروايته، لانهم كانوا لا يتهمون برد الحديث الثابت عن رسول الله (ص) ولا بترك
العمل به وترجيح الرأي بخلافه عليه، فاتفاقهم على الرد دليل على أنهم كذبوه في هذه
الرواية وعلموا أن ذلك وهم منه. ولو قال الراوي أوهمت لم يعمل بروايته، فإذا ظهر
دليل ذلك ممن هو فوقه أولى. وبيان هذا في حديث فاطمة بنت قيس، فإن عمر رضي الله عنه
قال: لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت. قال عيسى
ص 344
بن أبان رحمه الله مراده من الكتاب والسنة القياس الصحيح، فإن ثبوته بالكتاب والسنة
وهو قياس الشبه في اعتبار النفقة بالسكنى من حيث إن كل واحد منهما حق مالي مستحق
بالنكاح. فإن قيل: هذا إشارة إلى غير ما أشار إليه عمر، فإنه لم يقل لا نقبل حديثها
لعلمنا أنها أوهمت، ولكن قال: لا ندع كتاب ربنا لانا لا ندري أصدقت أم كذبت. قلنا:
في قوله لا ندري إشارة إلى هذا المعنى، فإن قبول الرواية والعمل به يبتني على ظهور
رجحان جانب الصدق وهو بين أنه لم يظهر رجحان جانب الصدق في روايتها، والرأي يدل ى
عل خلاف روايتها فنترك روايتها ونعمل بالقياس الصحيح، وفي المعنى لا فرق بين هذا
وبين قوله لا نقبل روايتها، بمنزلة القاضي يرد شهادة الفاسق بقوله ائت بشاهد آخر
ائت بحجة. ومن هذا النحو حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه في القسامة: أتحلفون
وتستحقون دم صاحبكم؟ وحديث بسرة رضي الله عنها: من مس ذكره فليتوضأ وحديث أبي
هريرة: من أصبح جنبا فلا صوم له وأما ما لم يشتهر عندهم ولم يعارضوه بالرد فإن
العمل به لا يجب ولكن يجوز العمل به إذا وافق القياس، لان من كل من الصدر الاول
فالعدالة ثابتة له باعتبار الظاهر، لانه في زمان الغالب من أهله العدول على ما قال
عليه السلام: خير الناس قرني الذي أنا فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم
فباعتبار الظاهر يترجح جانب الصدق في خبره، وباعتبار أنه لم تشتهر روايته في السلف
يتمكن تهمة الوهم فيه فيجوز العمل به إذا وافق القياس على وجه حسن الظن به ولكن لا
يجب العمل به، لان الوجوب شرعا لا يثبت بمثل هذا الطريق الضعيف، ولهذا جوز بو أ
حنيفة القضاء بشهادة المستور، ولم يوجب على القاضي القضاء، لانه كان في القرن
الثالث والغالب على أهله الصدق، فأما في زماننا رواية مثل هذا لا يكون مقبولا، ولا
يصح العمل به ما لم يتأيد بقبول العدول روايته، لان الفسق
ص 345
غلب على أهل هذا الزمان، ولهذا لم يجوز أبو يوسف ومحمد القضاء بشهادة المستور قبل
ظهور عدالته. فصار الحاصل أن الحكم في رواية المشهور الذي لم يعرف بالفقه وجوب
العمل وحمل روايته على الصدق إلا أن يمنع منه مانع وهو أن يكون مخالفا للقياس وأن
الحكم في رواية المجهول أنه لا يكون حجة للعمل إلا أن يتأيد بمؤيد وهو قبول السلف
أو بعضهم روايته، والله أعلم.
فصل: في بيان شرائط الراوي حدا وتفسيرا وحكما

قال رضي
الله عنه: اعلم بأن هذه الشرائط أربعة: العقل، والضبط، والعدالة، م والاسلا. أما
اشتراط العقل: فلان الخبر الذي يرويه كلام منظوم له معنى معلوم، ولا بد من اشتراط
العقل في المتكلم من العباد ليكون قوله كلاما معتبرا، فالكلام المعتبر شرعا ما يكون
عن تمييز وبيان، لا عن تلقين وهذيان، ألا ترى أن من الطيور من يسمع منه حروف منظومة
ويسمى ذلك لحنا لا كلاما، وكذلك إذا سمع من إنسان صوته بحروف منظومة لا يدل على
معنى معلوم لا يسمى ذلك كلاما، فعرفنا أن معنى الكلام في الشاهد ما يكون مميزا بين
أسماء الاعلام، فما لا يكون بهذه الصفة يكون كلاما صورة لا معنى، بمنزلة ما لو صنع
من خشب صورة آدمي لا يكون آدميا لانعدام معنى الآدمي فيه. ثم التمييز الذي به يتم
الكلام بصورته ومعناه لا يكون إلا بعد وجود العقل، فكان العقل شرطا في المخبر، لان
خبره أحد أنواع الكلام فلا يكون معتبرا إلا باعتبار عقله. وأما الضبط: فلان قبول
الخبر باعتبار معنى الصدق فيه ولا يتحقق ذلك إلا بحسن ضبط الراوي من حين يسمع إلى
حين يروي. فكان الضبط لما هو معنى هذا النوع من الكلام بمنزلة العقل الذي به يصح
أصل الكلام شرعا. وأما العدالة: فلان الكلام في خبر من هو غير معصوم عن الكذب فلا
تكون جهة الصدق متعينا في خبره لعينه، وإنما يترجح جانب الصدق بظهور عدالته، لان
ص 346
الكذب محظور عقله فنستدل بانزجاره عن سائر ما نعتقده محظورا على انزجاره عن الكذب
الذي نعتقده محظورا، أو لما كان منزجرا عن الكذب في أمور الدنيا فذلك دليل انزجاره
عن الكذب في أمور الدين وأحكام الشرع بالطريق الاولى، فأما إذا لم يكن عدلا في
تعاطيه فاعتبار جانب تعاطيه يرجح معنى الكذب في خبره، لانه لما لم يبال من ارتكاب
سائر المحظورات مع اعتقاده حرمته، فالظاهر أنه لا يبالي من الكذب مع اعتقاده حرمته،
واعتبار جانب اعتقاده يدل على الصدق في خبره فتقع المعارضة يجب و التوقف، وإذا كان
ترجيح جانب الصدق باعتبار عدالته وبه يصير الخبر حجة للعمل شرعا، فعرفنا أن العدالة
في الراوي شرط لكون خبره حجة. فأما اشتراط الإسلام: لانتفاء تهمة الكذب لا باعتبار
نقصان حال المخبر بل باعتبار زيادة شيء فيه يدل على كذبه في خبره، وذلك لان الكلام
في الاخبار التي يثبت بها أحكام الشرع، وهم يعادوننا في أصل الدين بغير حق على وجه
هو نهاية في العداوة فيحملهم ذلك على السعي في هدم أركان الدين بإدخال ما ليس منه
فيه، وإليه أشار الله تعالى في قوله: *(لا يألونكم خبالا)* أي لا يقصرون في الافساد
عليكم، وقد ظهر منهم هذا بطريق الكتمان، فإنهم كتموا نعت رسول الله (ص) ونبوته من
كتابه بعدما أخذ عليهم الميثاق بإظهار ذلك فلا يؤمنون من أن يقصدوا مثل ذلك بزيادة
هي كذب لا أصل له بطريق الرواية، بل هذا هو الظاهر، فلاجل هذا شرطنا الإسلام في
الراوي لكون خبره حجة، ولهذا لم تجوز شهادتهم على المسلمين، لان العداوة ربما
تحملهم على القصد للاضرار سلمين بالم بشهادة الزور، كما لا تقبل شهادة ذي الضغن
لظهور عداوته بسبب الباطن، وقبلنا شهادة بعضهم على بعض لانعدام هذا المعنى الباعث
على الكذب فيما بينهم. وبهذا تبين أن رد خبره ليس لعين الكفر بل لمعنى زائد يمكن
تهمة الكذب في خبره، بمنزلة شهادة الاب للولد فإنها لا تكون مقبولة لمعنى زائد يمكن
تهمة الكذب في شهادته وهو شفقة الابوة وميله إلى ولده طبعا. وأما بيان حد هذه
الشروط وتفسيرها فنقول: العقل نور في الصدر به يبصر
ص 347
القلب عند النظر في الحجج بمنزلة السراج، فإنه نور تبصر العين به عند النظر فترى ما
يدرك بالحواس لا أن السراج يوجب رؤية ذلك ولكنه يدل العين عند النظر عليه، فكذلك
نور الصدر الذي هو العقل يدل القلب على معرفة ما هو غائب عن الحواس من غير أن يكون
موجبا لذلك، بل القلب يدرك (بالعقل) ذلك بتوفيق الله تعالى، وهو في الحاصل عبارة عن
الاختيار الذي يبتنى عليه المرء ما يأتي به وما يذر مما لا ينتهي إلى إدراكه سائر
الحواس، فإن الفعل أو الترك لا يعتبر إلا لحكمة وعاقبة حميدة ، ولهذا لا يعتبر من
البهائم لخلوه عن هذا المعنى، والعاقبة الحميدة لا تتحقق فيما يأتي به الانسان من
فعل أو ترك له إلا بعد التأمل فيه بعقله، فمتى ظهرت أفعاله على سنن أفعال العقلاء
كان ذلك دليلا لنا على أنه عاقل مميز وأن فعله وقوله ليس يخلو عن حكمة وعاقبة
حميدة، وهذا لان العقل لا يكون موجودا في الآدمي باعتبار أصله ولكنه خلق من خلق
الله تعالى يحدث شيئا فشيئا، ثم يتعذر الوقوف على وجود كل جزء منه بحسب ما يمضي من
الزمان على الصبي إلى أن يبلغ صفة الكمال، فجعل الشرع الحد لمعرفة كمال العقل هو
البلوغ تيسيرا للامر علينا، لان اعتدال الحال عند ذلك يكون عادة والله تعالى هو
العالم حقيقة بما يحدثه من ذلك في كل أحد من عباده من نقصان أو كمال، ولكن لا طريق
لنا إلى الوقوف على حد ذلك، فقام السبب الظاهر في حقنا مقام المطلوب حقيقة تيسيرا،
وهو البلوغ مع انعدام الآفة، ثم يسقط اعتبار ما يوجد من العقل للصبي قبل هذا الحد
شرعا لدفع الضرر عنه لا للاضرار به، فإن الصبا سبب للنظر له، ولهذا لم يعتبر فيما
يتردد بين المنفعة والمضرة ويعتبر فيما يتمخض منفعة له. ثم خبره في أحكام الشرع لا
يكون حجة للالزام ا دفع لضرر العهدة عنه، كما لا يجعل وليا في تصرفاته في أمور
الدنيا دفعا لضرر العهدة عنه، ولهذا صح سماعه وتحمله للشهادة قبل البلوغ إذا كان
مميزا، فقد كان في الصحابة من سمع في حالة الصغر وروى بعد البلوغ وكانت روايته
مقبولة، لانه ليس في ذلك من معنى ضرر لزوم العهدة شيء، وإنما يكون ذلك في الاداء
فيشترط لفسخه أدائه على وجه يكون حجة كونه عاقلا مطلقا. ولا يحصل ذلك إلا
ص 348
باعتدال حاله ظاهرا كما بينا. وصار الحاصل أن العاقل نوعان: من يصيب بعض العقل على
وجه يتمكن من التمييز به بين ما يضره وما ينفعه ولكنه ناقص في نفسه كالصبي قبل
البلوغ والمعتوه الذي يعقل، وعاقل هو كامل العقل وهو البالغ الذي لا آفة به، فإن
بالآفة يستدل تارة على انعدام العقل بعد البلوغ كالمجنون، وتارة على نقصان العقل
كما في حق المعتوه، فإذا انعدمت الآفة كان اعتدال الظاهر بالبلوغ دليلا على كمال
العقل الذي هو الباطن، والمطلق من كل شيء يتناول الكامل منه، فاشتراط العقل لصحة
خبره على وجه يكون حجة دليل على أنه يشترط كمال العقل في ذلك. فأما الضبط: فهو
عبارة عن الاخذ بالجزم، وتمامه في الاخبار أن يسمع حق السماع، ثم يفهم المعنى الذي
أريد به، ثم يحفظ ذلك (بجهده، ثم يثبت على ذلك) بمحافظة حدوده ومراعاة حقوقه
بتكراره إلى أن يؤدي إلى غيره، لان بدون السماع لا يتصور الفهم، وبعد السماع إذا لم
يفهم معنى الكلام لم يكن ذلك سماعا مطلقا بل يكون ذلك سماع صوت لا سماع كلام هو
خبر، وبعد فهم المعنى يتم التحمل وذلك يلزمه الاداء كما تحمل، ولا يتأتى ذلك إلا
بحفظه والثبات على ذلك إلى أن يؤدي. ثم الاداء إنما يكون مقبولا منه باعتبار معنى
الصدق فيه وذلك لا يتأتى إلا بهذا، ولهذا لم يجوز أبو حنيفة رضي الله عنه أداء
الشهادة لمن عرف خطه في الصك ولا يتذكر الحادثة لانه غير ضابط لما تحمل وبدون الضبط
لا يجوز له أداء الشهادة. ثم الضبط نوعان: ظاهر، وباطن. فالظاهر منه بمعرفة صيغة
المسموع والوقوف على معناه لغة، والباطن منه بالوقوف على معنى الصيغة فيما يبتنى
عليه أحكام الشرع وهو الفقه، وذلك لا يتأتى إلا بالتجربة والتأمل بعد معرفة معاني
اللغة وأصول أحكام الشرع، ولهذا لم تقبل رواية من اشتدت غفلته إما خلقة أو مسامحة
ومجازفة، لان الضبط ظاهرا لا يتم منه عادة، وما يكون شرطا يراعي وجوده بصفة الكمال،
ولهذا لم يثبت السلف المعارضة بين رواية من لم يعرف بالفقه ورواية من عرف بالفقه
لانعدام الضبط باطنا ممن لم يعرف بالفقه، على ما يروى عن عمرو بن دينار أن جابر بن
زيد أبا الشعثاء، روى له عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (ص)
ص 349
تزوج ميمونة وهو محرم، قال عمرو فقلت لجابر: إن ابن شهاب أخبرني عن يزيد بن الاصم
أن النبي عليه السلام تزوجها وهو حلال. فقال: إنها كانت خالة ابن عباس وهو أعلم
بحالها. فقلت: وقد كانت خالة يزيد بن الاصم أيضا. فقال: أنى يجعل يزيد بن الاصم
بوال على عقبه إلى ابن عباس! فدل أن رواية غير الفقيه لا تكون معارضة لرواية
الفقيه، وهذا الترجيح ليس إلا باعتبار تمام الضبط من الفقيه، وكأن المعنى فيه أن
نقل الخبر بالمعنى كان مشهورا فيهم، فمن لا يكون معروفا بالفقه ربما يقصر في أداء
المعنى بلفظه بناء على فهمه، ويؤمن مثل ذلك من الفقيه، ولهذا قلنا إن المحافظة على
اللفظ في زماننا أولى من الرواية بالمعنى لتفاوت ظاهر بين الناس في فهم المعنى. فإن
قيل: كيف يستقيم هذا ونقل القرآن صحيح ممن لا يفهم معناه؟ قلنا: أصل النقل في
القرآن من أئمة الهدى الذين كانوا خير الورى بعد رسول الله (ص)، إنما و نقلوا بعد
تمام الضبط، ثم من بعدهم إنما ينقل بعد جهد شديد يكون منه في التعلم والحفظ
واستدامة القراءة، ولو وجد مثل ذلك في الخبر لكنا نجوز نقله أيضا، مع أن الله تعالى
وعد حفظ القرآن عن تحريف المبطلين بقوله تعالى: *(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له
لحافظون)* وبهذا النص عرفنا انقطاع طمع الملحدين عن القرآن فصححنا النقل فيه ممن
يكون ضابطا له ظاهرا وإن كان لا يعرف معناه، ومثل ذلك لا يوجد في الاخبار فكان تمام
الضبط فيها بما قلنا. مع أن هناك يتعلق بالنظم أحكام: منها حرمة القراءة على الجنب
والحائض، وجواز الصلاة بها في قول بعض العلماء، وكون النظم معجزا. فأما في الاخبار
المعتبر هو المعنى المراد بالكلام، فتمام الضبط إنما يكون بالوقوف على ما هو
المراد، ولهذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا تجوز الشهادة على الكتاب والختم
إذا لم يعرف الشاهد ما في باطن الكتاب، لان الضبط في الشهادة شرط للاداء
ص 350
والمقصود ما في باطن الكتاب لا عين الكتاب فلا يتم ضبطه إلا بمعرفة ذلك، ولهذا
استحب المتقدمون من السلف تقليل الرواية، ومن كان أكرمهم وأدوم صحبة وهو الصديق رضي
الله عنه كان أقلهم رواية، حتى روي عنه أنه قال: إذا سئلتم عن شيء فلا ترووا ولكن
ردوا الناس إلى كتاب الله تعالى. وقال عمر رضي الله عنه: أقلوا الرواية عن رسول
الله (ص) وأنا شريككم. ولما قيل ل زيد بن أرقم ألا تروي لنا عن رسول الله عليه
السلام شيئا فقال: قد كبرنا ونسينا والرواية عن رسول الله شديد. وقال ابن عباس رضي
الله عنهما: كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن رسول الله (ص) فأما إذا ركبتم الصعب
والذلول فهيهات! فقد جمع أهل الحديث في هذا الباب آثارا كثيرة ولاجلها قلت رواية
أبي حنيفة رضي الله عنه حتى قال بعض الطاعنين إنه كان لا يعرف الحديث. ولم يكن على
ما ظن، بل كان أعلم أهل عصره بالحديث، ولكن لمراعاة شرط كمال الضبط قلت روايته.
وبيان هذا أن الانسان قد ينتهي إلى مجلس وقد مضى صدر من الكلام فيخفي على المتكلم
حاله لتوقفه على ما مضى من كلامه مما يكون بعده بناء عليه، فقلما يتم ضبط هذا
السامع لمعنى ما يسمع بعد ما فاته أول الكلام، ولا يجد في تأمل ذلك أيضا، لانه لا
يرى نفسه أهلا بأن يؤخذ الدين عنه، ثم يكون من قضاء الله تعالى أن يصير صدرا يرجع
إليه في معرفة أحكام الدين، فإذا لم يتم ضبطه في الابتداء لم ينبغ له أن يجازف في
الرواية، وإنما ينبغي أن يشتغل بما وجد منه الجهد التام في ضبطه فيستدل بكثرة
الرواية ممن كان حاله في الابتداء بهذه الصفة على قلة المبالاة، ولهذا ذم السلف
الصالح كثرة الرواية، وهذا معنى معتبر في الروايات والشهادات جميعا، ألا ترى أن من
اشتهر في الناس بخصلة دالة على قلة المبالاة من قضاء الحاجة بمرأى العين من الناس
أو الاكل في الاسواق يتوقف في شهادته. فهذا بيان تفسير الضبط. وأما العدالة: فهي
الاستقامة. يقال: فلان عادل إذا كان مستقيم السيرة في الانصاف والحكم بالحق. وطريق
عادل، سمي به الجادة، وضده الجور. ومنه يقال: طريق جائر إذا كان من البنيات. ثم
العدالة نوعان: ظاهرة، وباطنة. فالظاهرة
ص 351
تثبت بالدين والعقل على معنى أن من أصابها فهو عدل ظاهرا، لانهما يحملانه على
الاستقامة ويدعوانه إلى ذلك. والباطنة لا تعرف إلا بالنظر في معاملات المرء، ولا
يمكن وقوف ال على نهاية ذلك لتفاوت بين الناس فيهما، ولكن كل من كان ممتنعا من
ارتكاب ما يعتقد الحرمة فيه فهو على طريق الاستقامة في حدود الدين. وعلى هذه
العدالة نبني حكم رواية الخبر في كونه حجة، لان ما تثبت به العدالة الظاهرة بعارضة
هوى النفس والشهوة الذي تصده عن الثبات على طريق الاستقامة، فإن الهوى أصل فيه سابق
على إصابة العقل، ولا يزايله بعدما رزق العقل، وبعدما اجتمعا فيه يكون عدلا من وجه
دون وجه، فيكون حاله كحال الصبي العاقل والمعتوه الذي يعقل من جملة العقلاء، وقد
بينا أن المطلق يقتضي الكامل، فعرفنا أن العدل مطلقا من يترجح أمر دينه على هواه،
ويكون ممتنعا بقوة الدين عما يعتقد الحرمة فيه من الشهوات، ولهذا قال في كتاب
الشهادات: إن من ارتكب كبيرة فإنه لا يكون عدلا في الشهادة، وفيما دون الكبيرة من
المعاصي إن أصر على ارتكاب شيء لم يكن مقبول الشهادة. وكان ينبغي أن لا يكون مقبول
الشهادة أصر أو لم يصر، لانه فاسق بخروجه عن الحد المحدود له شرعا، والفاسق لا يكون
عدلا في الشهادة، إلا أن في القول بهذا سد الباب أصلا فغير المعصوم لا يتحقق منه
التحرز عن الزلات أجمع، لان لله تعالى على العباد في كل لحظة أمرا ونهيا يتعذر
عليهم القيام بحقهما، ولكن التحرز عن الاصرار بالندم والرجوع عنه غير متعذر، والحرج
مدفوع، وليس في التحرز عن ارتكاب الكبائر الموجبة للحد معنى رج الح، فلهذا بنينا
حكم العدالة على التحرز المتأتي عما يعتقد الحرمة فيه، ولهذا قلنا صاحب الهوى إذا
كان ممتنعا عما يعتقد الحرمة فيه فهو مقبول الشهادة وإن كان فاسقا في اعتقاده ضالا،
لانه بسبب الغلو في طلب الحجة والتعمق في اتباعه أخطأ الطريق فضل عن سواء السبيل،
وشدة اتباع الحجة لا تمكن تهمة الكذب في شهادته وإن أخطأ الطريق، وكذلك الكافر من
أهل الشهادة إذا كان عدلا في تعاطيه بأن كان منزجرا عما يعتقد الحرمة فيه، إلا أنه
غير مقبول الشهادة على المسلمين
ص 352
لاجل عداوة ظاهرة تحمله على التقول عليه، وهي عداوة بسبب باطل فتكون مبطلة للشهادة،
ولهذا قلنا: الرق والانوثة والعمى لا تقدح في العدالة أصلا وإن كانت تمنع من قبول
الشهادة أو تمكن نقصانا فيها، لانه لا تأثير لهذه المعاني في الحمل على ارتكاب ما
يعتقد الحرمة فيه والعدالة تبتنى على ذلك، ولهذا لم يجعل الفاسق والمستور عدلا
مطلقا في حكم الشهادة حتى لا يجوز القضاء بشهادة الفاسق وإن كان لو قضى به القاضي
نفذ، ولا يجب القضاء بشهادة المستور قبل ظهور حاله. وقال الشافعي رحمه الله: ولما
لم يكن خبر الفاسق والمستور حجة فخبر المجهول أحرى أن لا يكون حجة. وقلنا نحن:
المجهول من القرون الثلاثة عدل بتعديل صاحب الشرع إياه ما لم يتبين منه ما يزيل
عدالته، فيكون خبره حجة على الوجه الذي قررنا. وأما الإسلام: فهو عبارة عن شريعتنا،
وهو نوعان أيضا: ظاهر، وباطن فالظاهر يكون بالميلاد بين المسلمين والنشوء على
طريقتها شهادة وعبادة. والباطن يكون بالتصديق والاقرار بالله كما هو بصفاته وأسمائه
والاقرار بملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره من الله تعالى
وقبول أحكامه وشرائعه. فمن استوصف فوصف ذلك كله فهو مسلم حقيقة، وكذلك إن كان
معتقدا لذلك كله. فقبل أن يستوصف هو مؤمن فيما بينه وبين ربه حقيقة. وقال في الجامع
الكبير: إذا بلغت المرأة فاستوصفت الإسلام فلم تصف فإنها تبين من زوجها. وقد كنا
حكمنا بصحة النكاح بظاهر إسلامها ثم يحكم بفساد النكاح حين لم تحسن أن تصف وجعل ذلك
ردة منها. وقد استقصى بعض مشايخنا في هذا فقالوا: ذكر الوصف على سبيل الاجمال لا
يكفي ما لم يكن عالما بحقيقة ما يذكر، لان حفظ الفقه غير حفظ المعنى، ألا ترى أن من
يذكر أن محمدا رسول الله ولا يعرف من هو لا يكون مؤمنا به، فإن النصارى يزعمون أنهم
يؤمنون بعيسى وعندهم أنه ولد الله فلا يكون ذلك منهم معرفة لعيسى الذي هو عبد الله
ورسوله. ولكنا نقول: في المصير إلى هذا الاستقصاء حرج بين، فالناس يتفاوتون في ذلك
تفاوتا ظاهرا، وأكثرهم لا يقدرون على بيان تفسير صفات الله لى تعا وأسمائه على
الحقيقة، ولكن ذكر الاوصاف على الاجمال يكفي
ص 353
لثبوت الايمان حقيقة، ألا ترى أن رسول الله (ص) كان يمتحن الناس بذلك حتى قال
للاعرابي الذي شهد برؤية الهلال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ فقال:
نعم. فقال: الله أكبر يكفي المسلمين أحدهم ولما سأله جبريل عن الايمان والاسلام
لاجل تعليم الناس معالم الدين بين ذلك على سبيل الاجمال. وكتاب الله يشهد بذلك، قال
تعالى: *(فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن)* وقد كان
هذا الامتحان من رسول الله (ص) والمسلمين بالاستيصاف على الاجمال، وهذا لان المطلق
عند الاستيصاف يكون محمولا على الكامل كما هو الاصل، وقد يعجز المرء عن إظهار ما
يعتقده بعبارته فينبغي أن يكون الاستيصاف بذكر ذلك على وجه استفهام المخاطب أنه هل
يعتقد كذا وكذا، فإذا قال نعم كان مؤمنا حقيقة، وإن كان قال لا أعرف ما تقول أو لا
أعتقد ذلك فحينئذ يحكم بكفره، وكذلك من ظهر منه أمارات المعرفة نحو أداء الصلاة
بالجماعة مع المسلمين، فإن ذلك يقوم مقام الوصف في الحكم بإيمانه مطلقا، قال عليه
السلام: إذا رأيتم الرجل يعتاد الجماعات فاشهدوا له بالايمان ولا يختلف ما ذكرنا
بالرق والحرية والذكورة والانوثة والعمى والبصر، فلهذا جعلنا خبر هؤلاء في كونه حجة
في لاحكام ا الشرعية بصفة واحدة، لان الشرائط التي يبتنى عليها وجوب قبول الخبر
يتحقق في الكل. أما العبد فلا شك في استجماع هذه الشرائط فيه وإن لم يكن من أهل
الشهادة لان الاهلية للشهادة تبتنى على الاهلية للولاية على الغير والرق ينفي هذه
الولاية، وهذا لان الشهادة تنفيذ القول على الغير وذلك ينعدم في الخبر من وجهين:
أحدهما أن المخبر لا يلزم أحدا شيئا ولكن السامع إنما يلتزم باعتقاده أن المخبر عنه
مفترض الطاعة (فإذا ترجح جانب الصدق في خبر المخبر ضاهى ذلك المسموع ممن هو مفترض
الطاعة) في اعتقاده فيلزمه العمل باعتبار اعتقاده، كالقاضي يلزمه القضاء بالشهادة
بتقلده هذه الامانة لا بإلزام الشاهد إياه، فإن كلام الشاهد يلزم المشهود عليه دون
القاضي. وبيان هذا أن قوله عليه السلام: لا صلاة إلا بقراءة ليس في ظاهره إلزام أحد
شيئا بل بيان صفة تتأدى به الصلاة إذا أرادها، بمنزلة قول
ص 354
القائل لا خياطة إلا بالابرة. والثاني أن المخبر يلتزم أولا ثم يتعدى حكم اللزوم
إلى غيره من السامعين، فأما الشاهد فإنه يلزم غيره ابتداء، ولهذا جعلنا العبد
بمنزلة الحر في الشهادة التي يكون فيها التزام على الوجه الذي يكون في الخبر وهو
الشهادة على رؤية هلال رمضان. ثم قد صح أن رسول الله (ص) كان يجيب دعوة المملوك فدل
أنه كان يعتمد خبره بأن مولاه أذن له. وسلمان رضي الله عنه حين كان عبدا أتاه بصدقة
فاعتمد خبره وأمر أصحابه بالاكل، ثم أتاه بهدية فاعتمد خبره وأكل منه. وكان يعتمد
خبر بريرة رضي الله عنها قبل أن تعتق وبعد عتقها، فدل أن المملوك في حكم قبول الخبر
كالحر وأن الانثى في ذلك كالذكر وإن تفاوتا في حكم الشهادة، لانه يشترط العدد في
النساء لثبوت معنى الشهادة، وفي باب الخبر العدد ليس بشرط فكما فارق الشهادة الخبر
في اشتراط أصل العدد فكذلك في اشتراط العدد في النساء، ألا ترى أن الصحابة كانوا
يرجعون إلى أزواج رسول الله (ص) فيما يشكل عليهم من أمر الدين فيعتمدون خبرهن. وقال
رسول الله عليه السلام تأخذون ثلثي دينكم من عائشة وأما العمى فإنه لا يؤثر في
الخبر لانه لا يقدح في العدالة، ألا ترى أنه قد كان في الرسل من ابتلي بذلك كشعيب
ويعقوب، وكان في الصحابة من ابتلي به كابن أم مكتوم وعتبان بن مالك رضي الله عنهما،
وفيهم من كف بصره كابن عباس وابن عمر وجابر وواثلة بن الاسقع رضي الله عنهم،
والاخبار المروية عنهم مقبولة، ولم يشتغل أحد بطلب التاريخ في ذلك أنهم رووا في
حالة البصر أم بعد العمى، وهذا بخلاف الشهادة فإن شهادتهم إنما لا تقبل لحاجة
الشاهد إلى تمييز بين المشهود له والمشهود ليه ع عند الاداء وهذا التمييز من البصير
يكون بالمعاينة، ومن الاعمى بالاستدلال وبينهما تفاوت يمكن التحرز عنه في جنس
الشهود، وفي رواية الخبر لا حاجة إلى هذا التمييز فكان الاعمى والبصير فيه سواء
والمحدود في القذف بعد التوبة في رواية الخبر كغيره في ظاهر المذهب، فإن أبا بكرة
رضي الله عنه مقبول الخبر ولم يشتغل أحد بطلب التاريخ في خبره أنه روى بعدما أقيم
عليه الحد أم قبله، بخلاف
ص 355
الشهادة فإن رد شهادته من تمام حده ثبت ذلك بالنص، ورواية الخبر ليست في معنى
الشهادة، ألا ترى أنه لا شهادة للنساء في الحدود أصلا، وروايتهن في باب الحدود
كرواية الرجال، وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه لا يكون المحدود
في القذف مقبول الرواية لانه محكوم بكذبه بالنص، قال تعالى: *(فأولئك عند الله هم
الكاذبون)* والمحكوم بالكذب فيما يرجع إلى التعاطي لا يكون عدلا، ومن شرط كون الخبر
حجة العدالة مطلقا كما بينا.
فصل: في بيان ضبط المتن والنقل بالمعنى

قال بعض أهل
الحديث: مراعاة اللفظ في الرواية واجب على وجه لا يجوز النقل بالمعنى من غير مراعاة
اللفظ بحال، وذلك منقول عن ابن سيرين. قال بعض أهل النظر: قول الصحابي على سبيل
الحكاية عن رسول الله (ص) في أقواله وأفعاله لا يكون حجة بل يجب طلب لفظ رسول الله
(ص) في ذلك الباب حتى يصح الاحتجاج به، وهذا قول مهجور. وقال جمهور العلماء مراعاة
اللفظ في النقل أولى، ويجوز النقل بالمعنى بعد حسن الضبط على تفصيل نذكره في آخر
الفصل. وقد نقل ذلك عن الحسن والشعبي والنخعي. فأما من لم يجوز ذلك استدل بقوله
عليه السلام: نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى
غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه فقد أمر بمراعاة اللفظ في النقل، وبين
المعنى فيه وهو تفاوت الناس في الفقه والفهم، واعتبار هذا المعنى يوجب الحجر عاما
عن تبديل اللفظ بلفظ آخر، وهذا لان النبي (ص) أوتي من جوامع الكلم والفصاحة في
البيان ما هو نهاية لا يدركه فيه غيره، ففي التبديل بعبارة أخرى لا يؤمن التحريف أو
الزيادة والنقصان فيما كان مرادا له. وحجتنا في ذلك ما اشتهر من قول الصحابة: أمرنا
رسول الله (ص) بكذا ونهانا عن كذا، ولا يمتنع أحد من قبول ذلك إلا من هو متعنت.
وروينا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان إذا روى حديثا قال: نحو هذا أو قريبا منه
ص 356
أو كلاما هذا معناه، وكان أنس رضي الله عنه إذا روى حديثا قال في آخره أو كما قال
رسول الله عليه السلام، فدل أن النقل بالمعنى كان مشهورا فيهم، وكذلك العلماء بعدهم
يذكرون في تصانيفهم: بلغنا نحوا من ذلك. وهذا لان نظم الحديث ليس بمعجز والمطلوب
منه ما يتعلق بمعناه وهو الحكم من غير أن يكون له تعلق بصورة النظم، وقد علمنا أن
الامر بالتبليغ لما هو المقصود به فإذا كمل ذلك بالنقل بالمعنى كان ممتثلا لما أمر
به من النقل لا مرتكبا للحرام، وإنما يعتبر النظم في نقل القرآن لانه معجز مع أنه
قد ثبت أيضا فيه نوع رخصة ببركة دعاء رسول الله (ص) على ما أشار إليه في قوله: أنزل
القرآن على سبعة أحرف إلا أن في ذلك رخصة من حيث الاسقاط، وهذا من حيث التخفيف
والتيسير، ومعنى الرخصة يتحقق بالطريقين كما تقدم بيانه. إذا عرفنا هذا فنقول:
الخبر إما أن يكون محكما له معنى واحد معلوم بظاهر المتن، أو يكون ظاهرا معلوم
المعنى بظاهره على احتمال شيء آخر كالعام الذي يحتمل الخصوص والحقيقة التي تحتمل
المجاز، أو يكون مشكلا، أو يكون مشتركا يعرف المراد بالتأويل، أو يكون مجملا لا
يعرف المراد به إلا ببيان، أو يكون متشابها، أو يكون من جوامع الكلم. فأما المحكم
يجوز نقله بالمعنى لكل من كان عالما بوجوه اللغة، لان المراد به معلوم حقيقة، وإذا
كساه العالم باللغة عبارة أخرى لا يتمكن فيه تهمة الزيادة والنقصان. فأما الظاهر
فلا يجوز نقله بالمعنى إلا لمن جمع إلى العلم باللغة العلم بفقه الشريعة، لانه إذا
لم يكن عالما بذلك لم يؤمن إذا كساه عبارة أخرى أن لا تكون تلك العبارة في احتمال
الخصوص والمجاز مثل العبارة الاولى، وإن كان ذلك هو المراد به، ولعل العبارة التي
يروي بها تكون أعم من تلك العبارة لجهله بالفرق بين الخاص والعام، فإذا كان عالما
بفقه الشريعة يقع الامن عن هذا التقصير منه عند تغيير العبارة فيجوز له النقل
بالمعنى كما كان يفعله الحسن والنخعي والشعبي رحمهم الله.
ص 357
فأما المشكل والمشترك لا يجوز فيهما النقل بالمعنى أصلا، لان المراد بهما لا يعرف
إلا بالتأويل، والتأويل يكون بنوع من الرأي كالقياس فلا يكون حجة على غيره. وأما
المجمل فلا يتصور فيه النقل بالمعنى لانه لا يوقف على المعنى فيه إلا بدليل آخر،
والمتشابه كذلك لانا ابتلينا بالكف عن طلب المعنى فيه فكيف يتصور نقله بالمعنى.
وأما ما يكون من جوامع الكلم كقوله عليه السلام: الخراج بالضمان وقوله عليه السلام:
العجماء جبار وما أشبه ذلك فقد جوز بعض مشايخنا نقله بالمعنى على الشرط الذي ذكرنا
في الظاهر. قال رضي الله عنه: والاصح عندي أنه لا يجوز ذلك لان النبي عليه السلام
كان مخصوصا بهذا النظم على ما روي أنه قال: أوتيت جوامع الكلم أي خصصت بذلك فلا
يقدر أحد بعده على ما كان هو مخصوصا به، ولكن كل مكلف بما في وسعه، وفي وسعه نقل
ذلك اللفظ ليكون مؤديا إلى غيره ما سمعه منه بيقين، وإذا نقله إلى عبارته لم يؤمن
القصور في المعنى المطلوب به ويتيقن بالقصور في النظم الذي هو من جوامع الكلم، وكان
هذا النوع هو مراد رسول الله (ص) بقوله: ثم أداها كما سمعها.
فصل: في بيان الضبط
بالكتابة والخط

قال رضي الله عنه: اعلم بأن الكتابة نوعان: تذكرة، وإمام. فالتذكرة
هو أن ينظر في المكتوب فيتذكر به ما كان مسموعا له، والنقل بهذا الطريق جائز سواء
كان مكتوبا بخطه أو بخط غيره، وذلك الخط معروف أو مجهول، لانه إنما ينقل ما يحفظ
غير أن النظر في الكتاب كان مذكرا له فلا يكون دون التفكر، ولو تفكر فتذكر جاز له
أن يروي ويكون خبره حجة فكذلك إذا نظر في الكتاب فتذكر، ولهذا المقصود ندب إلى
الكتاب على ما جاء في الحديث: قيدوا العلم بالكتاب وقال إبراهيم: كانوا يأخذون
العلم حفظا ثم أبيح لهم الكتابة لما حدث بهم من الكسل، ولان النسيان مركب في
الانسان لا يمكنه أن يحفظ نفسه منه إلا ما كان خاصا لرسول الله عليه السلام بقوله:
سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء
ص 358
الله ولهذا الاستثناء وقع لرسول الله عليه السلام تردد في قراءته سورة المؤمنين في
صلاة الفجر حتى قال لابي رضي الله عنه: (هلا ذكرتني) فثبت أن النسيان مما لا يستطاع
الامتناع منه إلا بحرج بين والحرج مدفوع، وبعد النسيان النظر في الكتاب طريق للتذكر
والعود إلى ما كان عليه من الحفظ، وإذا عاد كما كان فالرواية تكون عن ضبط تام. وأما
النوع الثاني فهو أن لا يتذكر عند النظر ولكنه يعتمد الخط، وذلك يكون في فصول
ثلاثة: رواية الحديث، والقاضي يجد في خريطته سجلا مخطوطا بخطه من غير أن يتذكر
الحادثة، والشاهد يرى خطه في الصك ولا يتذكر الحادثة. فأبو حنيفة رحمه الله أخذ في
الفصول الثلاثة بما هو العزيمة وقال لا يجوز له أن يعتمد الكتاب ما لم يتذكر، لان
النظر في الكتاب لمعرفة القلب كالنظر في المرآة للرؤية بالعين، ثم النظر في المرآة
إذا لم تفده إدراكا لا يكون معتبرا، فالنظر في الكتاب إذا لم يفده تذكرا يكون هدرا،
وهذا لان الرواية والشهادة وتنفيذ القضاء لا يكون إلا بعلم والخط يشبه الخط فبصورة
الخط لا يستفيد علما من غير التذكر، وما كان الفساد في سائر الاديان إلا بالاعتماد
على الصور بدون المعنى. وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهما الله أن في السجل
ورواية الاثر يجوز له أن يعتمد الخط وإن لم يتذكر به وفي الصك لا يجوز له ذلك. وروى
ابن رستم عن محمد رحمهما الله أن ذلك جائز في الفصول كلها، وما ذهبنا إليه رخصة
للتيسير على الناس. ثم هذه الرخصة تتنوع أنواعا: إما أن يكون الكتاب بخطه، أو بخط
رجل معروف ثقة موقع بتوقيعه، أو بخط رجل معروف غير ثقة أو غير موقع، أو بخط مجهول
أما أبو يوسف رحمه الله فقال: السجل يكون في خريطة القاضي مختوما بختمه وكان في يده
أيضا فباعتبار الظاهر يؤمن فيه التزوير والتبديل بالزيادة والنقصان، والقاضي مأمور
باتباع الظاهر في القضاء فله أن يعتمد السجل في ذلك، وكذلك كتاب المحدث إذا كان في
يده، وإن لم يكن السجل في يد القاضي فليس له أن يعتمده لان التزوير والتغيير فيه
عادة لما يبتنى عليه من المظالم والخصومات، ومثله في كتاب
ص 359
الحديث ليس بعادة فلا فرق فيه بين أن يكون في يده أو في يد أمين آخر لم يظهر منه
خيانة في مثله، وأما الصك فيكون بيد الخصم فلا يقع الامن فيه عن التغيير والتزوير،
حتى إذا كان في يد الشاهد كان الجواب فيه مثل الجواب في السجل. والحاصل أنه بنى هذه
الرخصة على ما يوقع الامن عن التغيير والتعديل عادة، ومحمد رحمه الله أثبت الرخصة
في صك ال أيضا وإن لم يكن في يده إذا علم أن المكتوب خطه على وجه لا يبقى فيه شبهة
له، لان الباقي بعد ذلك توهم التغيير وله أثر بين يوقف عليه، فإذا لم يظهر ذلك فيه
جاز اعتماده، فأما إذا وجد الكتاب بخط بين وهو معلوم عنده أو بخط رجل معروف موثق به
فإنه يجوز له أن يقول وجدت بخط فلان كذا لا يزيد على ذلك، ثم إن كان ذلك الخط
منفردا ليس معه شيء آخر فإنه لا يكون حجة، وإن كان معه غيره فذلك يوقع الامن عن
التزوير بطريق العادة فيجوز اعتماده على وجه الرخصة (وهذا في الاخبار خاصة) فأما في
الشهادة والقضاء فلا، لان ذلك من مظالم العباد يعتبر فيه من الاستقصاء ما لا يعتبر
في رواية الاخبار واشتراط العلم فيه منصوص عليه، قال تعالى: *(إلا من شهد بالحق وهم
يعلمون)* وقال عليه السلام للشاهد: إذا رأيت مثل هذا الشمس فاشهد وإلا فدع.
فصل: في
بيان وجوه الانقطاع

قال رضي الله عنه: اعلم بأن الانقطاع نوعان: انقطاع صورة،
وانقطاع معنى. أما صورة الانقطاع صورة ففي المراسيل من الاخبار، ولا خلاف بين
العلماء في مراسيل الصحابة رضي الله عنهم أنها حجة، لانهم صحبوا رسول الله (ص)، فما
يروونه عن رسول الله عليه السلام مطلقا يحمل على أنهم سمعوه منه أو من أمثالهم، وهم
كانوا أهل الصدق والعدالة، وإلى هذا أشار البراء بن عازب رضي الله عنهما بقوله: ما
كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله (ص)، وإنما كان يحدث بعضنا بعضا، ولكنا لا
نكذب.
ص 360
فأما مراسيل القرن الثاني والثالث حجة في قول علمائنا رحمهم الله. وقال الشافعي لا
يكون حجة إلا إذا تأيد بآية أو سنة مشهورة، أو اشتهر العمل به من السلف، أو اتصل من
وجه آخر. قال: ولهذا جعلت مراسيل سعيد بن المسيب حجة لاني اتبعتها فوجدتها مسانيد.
احتج في ذلك فقال: الخبر إنما يكون حجة باعتبار أوصاف في الراوي ولا طريق لمعرفة
تلك الاوصاف في الراوي إذا كان غير معلوم الاصل، فلا تقوم الحجة بمثل هذه الرواية،
وإعلامه بالاشارة إليه في حياته وبذكر اسمه ونسبه بعد وفاته، فإذا لم يذكره أصلا
فقد تحقق انقطاع هذا الخبر عن رسول الله، والحجة في الخبر باتصاله برسول الله عليه
السلام فبعد الانقطاع لا يكون حجة. ولا يقال إن رواية العدل عنه تكون تعديلا له وإن
لم يذكر اسمه، لان طريق معرفة الجرح والعدالة الاجتهاد، وقد يكون الواحد عدلا عند
إنسان، مجروحا عند غيره بأن يقف منه على ما كان الآخر لا يقف عليه، ألا ترى أن شهود
الفرع إذا شهدوا على شهادة الاصول من غير ذكرهم في شهادتهم لا تكون شهادتهم حجة
لهذا المعنى، يوضحه أنه قد كان فيهم من يروي عمن هو مجروح عنده على ما قال الشعبي
رحمه الله: حدثني الحارث وكان والله كذابا. فعرفنا أن بروايته عنه لا يثبت فيه ما
يشترط في الراوي فيكون خبره حجة، ولان الناس تكلفوا بحفظ الاسانيد في باب الاخبار،
فلو كانت الحجة تقوم بالمراسيل لكان تكلفهم اشتغالا بما لا يفيد فيبعد أن يقال
اجتمع الناس على ما ليس بمفيد. ولكنا نقول: الدلائل التي دلت على كون خبر الواحد
حجة من الكتاب والسنة كلها تدل على كون المرسل من الاخبار حجة. ثم قد ظهر الارسال
من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم ظهورا لا ينكره إلا متعنت. أما من الصحابة
فبيانه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (ص) قال: من أصبح جنبا فلا صوم له
ولما أنكرت ذلك عائشة رضي الله عنها قال هي أعلم حدثني به الفضل بن عباس رضي الله
عنهما، فقد أرسل الرواية عن النبي (ص) من غير سماع منه، وقيل إن ابن عباس ما سمع من
رسول الله (ص) إلا بضعة عشر حديثا وقد كثرت روايته مرسلا، وإنما كان ذلك سماعا من
غير
ص 361
رسول الله عليه السلام، حتى روي أن النبي عليه السلام كان يلبي حتى رمى جمرة العقبة
يوم النحر، وإنما سمع ذلك من أخيه الفضل ونعمان بن بشير رضي الله عنهم، ما سمع من
رسول الله عليه السلام إلا حديثا واحدا وهو قوله عليه السلام إن في الجسد مضغة إذا
صلحت صلح سائر جسده، وإذا فسدت فسد سائر جسده ألا وهي القلب ثم كثرت روايته عن رسول
الله عليه السلام مرسلا، والحسن وسعيد بن المسيب رضي الله عنهما وغيرهما من أئمة
التابعين كان كثيرا ما يروون مرسلا قال رسول الله (ص) حتى قيل أكثر ما رواه سعيد بن
المسيب مرسلا إنما سمعه من عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال الحسن: كنت إذا اجتمع
لي أربعة من الصحابة على حديث أرسلته إرسالا. وقال ابن سيرين رضي الله عنه: ما كنا
نسند الحديث إلى أن وقعت الفتنة فقال الاعمش: قلت لابراهيم إذا رويت لي حديثا عن
عبد الله فأسنده لي، فقال: إذا قلت لك حدثني فلان عن عبد الله فهو ذاك، وإذا قلت لك
قال عبد الله فهو غير واحد، ولهذا قال عيسى بن أبان: المرسل أقوى من المسند فإن من
اشتهر عنده حديث (بأن سمعه) بطرق طوى الاسناد لوضوح الطريق عنده وقطع الشهادة بقوله
قال رسول الله عليه السلام، وإذا سمعه بطريق واحد لا يتضح الامر عنده على وجه لا
يبقى له فيه شبهة فيذكره مسندا على قصد أن يحمله من يحمل عنه. فإن قيل: فعلى هذا
ينبغي أن يجوز النسخ بالمرسل كما يجوز بين الاخبار بالمشهور عندكم. قلنا: إنما لم
يجز ذلك لان قوة المرسل من هذا الوجه بنوع من الاجتهاد فيكون نظير قوة تثبت بطريق
القياس والنسخ بمثله لا يجوز. ثم رواية هؤلاء الكبار مرسلا، أما إن كان باعتبار
سماعهم ممن ليس بعدل عندهم أو باعتبار سماعهم من عدل مع اعتقادهم أن ذلك ليس بحجة
أو على اعتقادهم أن المرسل حجة كالمسند، والاول باطل فإن من يستجيز الرواية عمن
يعرفه غير عدل بهذه الصفة لا يعتمد روايته مرسلا ولا مسندا، ولا يجوز أن يظن بهم
هذا، والثاني باطل لانه قول بأنهم كتموا موضع
ص 362
الحجة بترك الاسناد مع علمهم أن الحجة لا تقوم بدونه، فتعين الثالث وهو أنهم
اعتقدوا أن المرسل حجة كالمسند وكفى باتفاقهم حجة. وقال الشافعي في بعض كتبه إنما
أرسلوا ليطلب ذلك في المسند: وهذا كلام فاسد، لانه إما أن يقال لم يكن عندهم إسناد
ذلك أو كان ولم يذكروا، والاول باطل لان فيه قولا بأنهم تخرصوا ما لم يسمعوا ليطلب
ذلك في المسموعات ولا يجوز ذلك لمن هو دونهم فكيف بهم؟ والثاني باطل لانه إذا كان
عندهم الاسناد وقد علموا أن الحجة لا تقوم بدونه فليس في تركه إلا القصد إلى إتعاب
النفس بالطلب. ولو قال من أنكر الاحتجاج بخبر الواحد إنهم إنما رووا ذلك ليطلب ذلك
في المتواتر لا يكون هذا الكلام مقبولا منه بالاتفاق فكذلك هذا، يقرره أن المفتي
إذا قال للمستفتي قضى رسول الله في هذه الحادثة بكذا كان عليه أن يعمل به، وإن لم
يذكر له إسنادا فكذلك إذا قال قال رسول الله (ص) كذا. ولو قال روى فلان عن فلان قبل
ذلك منه وإن لم يقل حدثني ولا سمعته منه، وهذا في معنى الارسال. فإن قال: إنما
نجيزه على هذا الوجه عمن لقي فيحمل مطلق كلامه على المسموع منه. قلنا: لما جاز حمل
كلامه على هذا وإن لم ينص عليه لتحسين الظن به فكذلك يجوز حمل كلامه عند الارسال
على السماع ممن هو عدل باعتبار الظاهر لتحسين الظن به، وهذا لانه لا طريق لنا إلى
معرفة الشرائط للرواية فيمن لم يدركه إلا بالسماع ممن أدركه، وإذا كان من أدركه
عدلا ثقة فإنه لا يروي عنه مطلقا ما لم يعرف استجماع الشرائط فيه، فبروايته عنه
يثبت لنا استجماع الشرائط، ألا ترى أنه لو أسند الرواية إليه يثبت استجماع الشرائط
فيه بروايته عنه فكذلك إذا أرسله بل أولى، لانه إذا أسند إليه فإنما شهد عليه بأنه
روى ذلك، فإذا أرسل فإنما يشهد على رسول الله أنه قال ذلك، ومن علم أنه لا يستجيز
الشهادة على غير رسول الله بالباطل فكيف يظن أن يستجيز الشهادة على رسول الله
بالباطل مع قوله عليه السلام: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار يوضحه أن
القاضي إذا كتب سجلا فيه قضاؤه في حادثة وأشهد على ذلك كان ذلك حجة وإن لم يبين اسم
الشهود في المسجل وما كان ذلك إلا بهذا الطريق، وهذا بخلاف الشهود على شهادة الغير،
لان العلماء
ص 363
مختلفون في أن عند الرجوع هل يجب الضمان على شهود الاصل أم لا فلعل القاضي ممن يرى
تضمينهم فلا يتمكن من القضاء به إذا لم يكونوا معلومين عنده ومثل هذا لا يتحقق في ب
با الاخبار مع أن شاهد الفرع ينوب عن شاهد الاصل في نقل شهادته، ألا ترى أنه لو
أشهد قوما على شهادته فسمعه آخرون لم يكن لهم أن يشهدوا على شهادته بخلاف رواية
الاخبار، وإذا كان الفرعي يعبر عن الاصل بشهادته لم يجد بدا من ذكره ليكون معبرا،
ألا ترى أنه لو قال: أشهد عن فلان لم يكن ذلك مقبولا. وهنا لو قال أروي عن فلان كان
مقبولا منه. ثم اشتغال الناس بالاسناد كاشتغالهم بالتكلف لسماع الحديث من وجوه،
وذلك لا يدل على أن خبر الواحد لا يكون حجة، فكذلك اشتغالهم بالاسناد لا يكون دليلا
على أن المرسل لا يكون حجة. فأما مراسيل من بعد القرون الثلاثة فقد كان أبو الحسن
الكرخي رحمه الله لا يفرق بين مراسيل أهل الاعصار، وكان يقول: من تقبل روايته مسندا
تقبل روايته مرسلا. للمعنى الذي ذكرنا. وكان عيسى بن أبان رحمه الله يقول: من اشتهر
في الناس بحمل العلم منه تقبل روايته مرسلا ومسندا. وإنما يعني به محمد بن الحسن
رحمه الله وأمثاله من المشهورين بالعلم، ومن لم يشتهر بحمل الناس العلم منه مطلقا
وإنما اشتهر بالرواية عنه فإن مسنده يكون حجة ومرسله يكون موقوفا إلى أن يعرض على
من اشتهر بحمل العلم عنه. وأصح الاقاويل في هذا ما قاله أبو بكر الرازي رضي ه الل
عنه أن مرسل من كان من القرون الثلاثة حجة ما لم يعرف منه الرواية مطلقا عمن ليس
بعدل ثقة، ومرسل من كان بعدهم لا يكون حجة إلا من اشتهر بأنه لا يروي إلا عمن هو
عدل ثقة لان النبي عليه السلام شهد للقرون الثلاثة بالصدق والخيرية فكانت عدالتهم
ثابتة بتلك الشهادة ما لم يتبين خلافهم، وشهد على من بعدهم بالكذب بقوله ثم يفشو
الكذب، فلا تثبت عدالة من كان في زمن شهد على أهله بالكذب إلا برواية من كان معلوم
العدالة يعلم أنه لا يروي إلا عن عدل. وإلى نحو هذا أشار عروة بن الزبير رضي الله
عنهما حين روى لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حديث رسول الله (ص): من أحيا أرضا
ميتة فهي له فقال: أتشهد به على رسول الله عليه السلام؟ قال: نعم فما يمنعني من ذلك
وقد أخبرني به العدل الرضا. فقبل عمر بن عبد العزيز روايته.
ص 364
واختلف أصحاب الحديث في منقطع من وجه متصل من وجه آخر. فمنهم من قال سقط تبار اع
الاتصال فيه بالانقطاع من وجه، وكأن هذا القائل جعل الانقطاع بسكوت راوي الفرع عن
تسمية راوي الاصل دليل الجرح فيه، وإذا استوى الموجب للعدالة والموجب للجرح يغلب
الجرح، وأكثرهم على أن هذا يكون حجة لوجود الاتصال فيه بطريق واحد والطريق الآخر
الذي هو منقطع يجعل كأن لبس، لان ذلك الطريق ساكت عن الراوي وحاله أصلا، وفي الطريق
المتصل بيان له ولا معارضة بين الساكت والناطق. فأما النوع الثاني وهو الانقطاع
معنى ينقسم قسمين: إما أن يكون ذلك المعنى بدليل معارض، أو نقصان في حال الراوي
يثبت به الانقطاع. فأما القسم الاول وهو ثبوت الانقطاع بدليل معارض فعلى أربعة
أوجه: إما أن يكون مخالفا لكتاب الله تعالى، أو لسنة مشهورة عن رسول الله، أو يكون
حديثا شاذا لم يشتهر فيما تعم به البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته، أو يكون
حديثا قد أعرض عنه الائمة من الصدر الاول بأن ظهر منهم الاختلاف في تلك الحادثة ولم
تجر بينهم المحاجة بذلك الحديث. فأما الوجه الاول وهو ما إذا كان الحديث مخالفا
لكتاب الله تعالى فإنه لا يكون مقبولا ولا حجة للعمل به عاما كانت الآية أو خاصا
نصا أو ظاهرا عندنا على ما بينا أن تخصيص العام بخبر الواحد لا يجوز ابتداء، وكذلك
ترك الظاهر فيه والحمل على نوع من المجاز لا يجوز بخبر الواحد عندنا خلافا للشافعي،
وقد بينا هذا، ودليلنا في ذلك قوله عليه السلام: كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو
باطل وكتاب الله أحق والمراد كل شرط هو مخالف لكتاب الله تعالى لا أن يكون المراد
ما لا يوجد عينه في كتاب الله تعالى فإن عين هذا الحديث لا يوجد في كتاب الله
تعالى، وبالاجماع من الاحكام ما هو ثابت بخبر الواحد والقياس وإن كان لا يوجد ذلك
في كتاب الله تعالى، فعرفنا أن المراد ما يكون مخالفا لكتاب الله تعالى، وذلك
ص 365
تنصيص على أن كل حديث هو مخالف لكتاب الله تعالى فهو مردود. وقال عليه السلام: تكثر
الاحاديث لكم بعدي فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب لله ا تعالى فما وافقه
فاقبلوه واعلموا أنه مني، وما خالفه فردوه واعلموا أني منه برئ ولان الكتاب متيقن
به وفي اتصال الخبر الواحد برسول الله (ص) شبهة فعند تعذر الاخذ بهما لا بد من أن
يؤخذ بالمتيقن ويترك ما فيه شبهة، والعام والخاص في هذا سواء لما بينا أن العام
موجب للحكم فيما يتناوله قطعا كالخاص، وكذلك النص والظاهر سواء، لان المتن من
الكتاب متيقن به ومتن الحديث لا ينفك عن شبهة لاحتمال النقل بالمعنى، ثم قوام
المعنى بالمتن فإنما يشتغل بالترجيح من حيث المتن أولا إلى أن يجئ إلى المعنى، ولا
شك أن الكتاب يترجح باعتبار النقل المتواتر في المتن على خبر الواحد، فكانت مخالفة
الخبر للكتاب دليلا ظاهرا على الزيافة فيه، ولهذا لم يقبل علماؤنا خبر الوضوء من مس
الذكر لانه مخالف للكتاب، فإن الله تعالى قال: *(فيه رجال يحبون أن يتطهروا)* يعني
الاستنجاء بالماء فقد مدحهم بذلك وسمى فعلهم تطهرا ومعلوم أن الاستنجاء بالماء لا
يكون إلا بمس الذكر فالحديث الذي يجعل مسه حدثا بمنزلة البول يكون مخالفا لما في
الكتاب، لان الفعل الذي هو حدث لا يكون تطهرا. وكذلك لم يقبل حديث فاطمة بنت قيس في
أن لا نفقة للمبتوتة لانه مخالف للكتاب وهو قوله تعالى: *(أسكنوهن من حيث سكنتم من
وجدكم)* ولا خلاف أن المراد وأنفقوا عليهن من وجدكم، فالمراد الحائل فإنه عطف عليه
قوله تعالى: *(وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن)* وكذلك لم يقبل خبر
القضاء بالشاهد واليمين لانه مخالف للكتاب من أوجه، فإن الله تعالى قال:
*(واستشهدوا شهيدين من رجالكم)* الآية، وقوله: واستشهدوا أمر بفعل هو مجمل فيما
يرجع إلى عدد الشهود كقول القائل كل يكون مجملا فيما يرجع إلى عدد الشهود كقول
القائل كل يكون مجملا فيما يرجع إلى بيان المأكول فيكون ما بعده تفسيرا لذلك المجمل
وبيانا لجميع ما هو المراد بالامر وهو استشهاد رجلين فإن لم يكونا فرجل وامرأتان،
كقول القائل كل طعام كذا
ص 366
فإن لم يكن ا فكذ، أو أذنت لك أن تعامل فلانا فإن لم يكن ففلانا، يكون ذلك بيانا
لجميع ما هو المراد بالامر والاذن، وإذا ثبت أن جميع ما هو المذكور في الآية كان
خبر القضاء بالشاهد واليمين زائدا عليه والزيادة على النص كالنسخ عندنا، يقرره قوله
تعالى: *(ذلك أدنى ألا ترتابوا)* فقد نص على أن أدنى ما تنتفي به الريبة شهادة
شاهدين بهذه الصفة، وليس دون الادنى شيء آخر تنتفي به الريبة، ولانه نقل الحكم من
استشهاد الرجل الثاني بعد شهادة الشاهد الواحد إلى استشهاد امرأتين، مع أن حضور
النساء مجالس القضاء لاداء الشهادة خلاف العادة وقد أمرن بالقرار في البيوت شرعا،
فلو كان يمين المدعي مع الشاهد الواحد حجة لما نقل الحكم إلى استشهاد امرأتين، وهو
خلاف المعتاد، مع تمكن المدعي من إتمام حجته بيمينه. وبمثل هذا الطريق جعلنا شهادة
أهل الذمة بعضهم على بعض حجة، لان الله تعالى نقل الحكم عن استشهاد مسلمين على وصية
المسلم إلى استشهاد ذميين بقوله تعالى: *(أو آخران من غيركم)* مع أن حضور أهل الذمة
مجالس القضاة لاداء الشهادة خلاف المعتاد، فذلك دليل ظاهر على أن الحجة تقوم
بشهادتهم في الجملة. وهو دليل أيضا على رد خبر القضاء بالشاهد واليمين لانه نقل
الحكم إلى استشهاد ذميين عند عدم شاهدين مسلمين، فلو كان الشاهد الواحد مع يمين
المدعي حجة لكان الاولى بيان ذلك عند الحاجة، وذكر في الآية يمين الشاهدين ظاهرا
عند الريبة مع أن ذلك ليس بحجة اليوم (لاجل النسخ) فلو كان بيمين المدعي تنتفي
الريبة أو تتم الحجة لكان الاولى ذكر يمينه عند الحاجة. فبهذه الوجوه يتبين أن خبر
القضاء بالشاهد واليمين مخالف للكتاب فتركنا العمل به لهذا، وكذلك الغريب من أخبار
الآحاد إذا خالف السنة المشهورة فهو منقطع في حكم العمل به، لان ما يكون متواترا من
السنة أو مستفيضا أو مجمعا عليه فهو بمنزلة الكتاب في ثبوت علم اليقين به، وما فيه
شبهة فهو مردود في مقابلة اليقين، وكذلك المشهور من السنة فإنه أقوى من الغريب
لكونه أبعد عن موضع الشبهة، ولهذا جاز النسخ بالمشهور دون الغريب، فالضعيف لا يظهر
في مقابلة القوي،
ص 367
ولهذا لم يعمل بخبر القضاء بالشاهد واليمين، لانه مخالف للسنة المشهورة وهو قوله
عليه السلام: البينة على المدعي واليمين على من أنكر من وجهين: أحدهما أن في هذا
الحديث بيان أن اليمين في جانب المنكر دون المدعي، والثاني أن فيه بيان أنه لا يجمع
بين ن اليمي والبينة فلا تصلح اليمين متممة للبينة بحال، ولهذا الاصل لم يعمل أبو
حنيفة بخبر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في بيع الرطب بالتمر أن النبي عليه السلام
قال: أينتقص إذا جف؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذا لانه مخالف للسنة المشهورة وهو قوله
عليه السلام: التمر بالتمر مثل بمثل من وجهين: أحدهما أن فيها اشتراط المماثلة في
الكيل مطلقا لجواز العقد فالتقييد باشتراط المماثلة في أعدل الاحوال وهو بعد الجفوف
يكون زيادة، والثاني أنه جعل فضلا يظهر بالكيل هو الحرام في السنة المشهورة فجعل
فضل يظهر عند فوات وصف مرغوب فيه ربا حراما يكون مخالفا لذلك الحكم، إلا أن أبا
يوسف ومحمدا قالا: السنة المشهورة لا تتناول الرطب لان مطلق اسم التمر لا يتناوله،
بدليل أن من حلف لا يأكل تمرا فأكل رطبا لم يحنث، ولو حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله
بعد ما صار تمرا لم يحنث، فإذا لم تتناوله السنة المشهورة وجب إثبات الحكم فيه
بالخبر الآخر. وأبو حنيفة قال: التمر اسم للثمرة الخارجة من النخل من حين تنعقد
صورتها إلى أن تدرك، وما يختلف عليه أحوال وأوصاف حسب ما يكون على الآدمي لا يتبدل
به اسم العين، وفي الايمان تترك الحقائق لدلالة العرف، واليمين تتقيد بوصف في العين
إذا كان داعيا إلى اليمين. ففي هذين النوعين من الانتقاد للحديث علم كثير، وصيانة
للدين بليغة، فإن أصل البدع والاهواء إنما ظهر من قبل ترك عرض أخبار الآحاد على
الكتاب والسنة المشهورة، فإن قوما جعلوها أصلا مع الشبهة في اتصالها برسول الله ه
علي السلام ومع أنها لا توجب علم اليقين، ثم تأولوا عليها الكتاب والسنة المشهورة
فجعلوا التبع متبوعا، وجعلوا الاساس ما هو غير متيقن به فوقعوا في الاهواء والبدع،
بمنزلة من أنكر خبر الواحد فإنه لما لم يجوز العمل به احتاج إلى القياس ليعمل به
وفيه أنواع من الشبهة، أو إلى استصحاب الحال وهو ليس
ص 368
بحجة أصلا وترك العمل بالحجة إلى ما ليس بحجة يكون فتحا لباب الآحاد، وجعل ما هو
غير متيقن به أصلا، ثم تخريج ما فيه التيقن عليه يكون فتحا لباب الاهواء والبدع وكل
واحد منهما زيف مردود، وإنما سواء السبيل ما ذهب إليه علماؤنا رحمهم الله من إنزال
كل حجة منزلتها، فإنهم جعلوا الكتاب والسنة المشهورة أصلا ثم خرجوا عليهما ما فيه
بعض الشبهة وهو المروي بطريق الآحاد مما لم يشتهر، فما كان منه موافقا للمشهور
قبلوه، وما لم يجدوا في الكتاب ولا في السنة المشهورة له ذكرا قبلوه أيضا وأوجبوا
العمل به، وما كان مخالفا لهما ردوه، على أن العمل بالكتاب والسنة أوجب من العمل
بالغريب بخلافه، وما لم يجدوه في شيء من الاخبار وصاروا حينئذ إلى القياس في معرفة
حكمه لتحقق الحاجة إليه. وأما القسم الثالث وهو الغريب فيما يعم به البلوى ويحتاج
الخاص والعام إلى معرفته للعمل به فإنه زيف، لان صاحب الشرع كان مأمورا بأن يبين
للناس ما يحتاجون إليه، وقد أمرهم بأن ينقلوا عنه ما يحتاج إليه من بعدهم، فإذا
كانت الحادثة مما تعم به البلوى فالظاهر أن صاحب الشرع لم يترك بيان ذلك للكافة
وتعليمهم، م وأنه لم يتركوا نقله على وجه الاستفاضة، فحين لم يشتهر النقل عنهم
عرفنا أنه سهو أو منسوخ، ألا ترى أن المتأخرين لما نقلوه اشتهر فيهم، فلو كان ثابتا
في المتقدمين لاشتهر أيضا وما تفرد الواحد بنقله مع حاجة العامة إلى معرفته، ولهذا
لم تقبل شهادة الواحد من أهل المصر على رؤية هلال رمضان إذا لم يكن بالسماء علة،
ولم يقبل قول الوصي فيما يدعي من إنفاق مال عظيم على اليتيم في مدة يسيرة، وإن كان
ذلك محتملا لان الظاهر يكذبه في ذلك، وعلى هذا الاصل لم نعمل بحديث الوضوء من مس
الذكر، لان بسرة تفردت بروايته مع عموم الحاجة لهم إلى معرفته. فالقول بأن النبي
عليه السلام خصها بتعليم هذا الحكم مع أنها لا تحتاج إليه ولم يعلم سائر الصحابة مع
شدة حاجتهم إليه شبه المحال، وكذلك خبر الوضوء مما مسته النار، وخبر
ص 369
الوضوء من حمل الجنازة، وعلى هذا لم يعمل علماؤنا رحمهم الله بخبر الجهر بالتسمية،
وخبر رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع، لانه لم يشتهر النقل فيها مع
حاجة الخاص والعام إلى معرفته. فإن قيل فقد قبلتم الخبر الدال على وجوب الوتر، وعلى
وجوب المضمضة والاستنشاق في الجنابة وهو خبر الواحد فيما تعم به البلوى. قلنا: لانه
قد اشتهر أن نبي ال عليه السلام فعله وأمر بفعله، فأما الوجوب حكم آخر سوى الفعل
وذلك مما يجوز أن يوقف عليه بعض الخواص لينقلوه إلى غيرهم، فإنما قبلنا خبر الواحد
في هذا الحكم، فأما أصل الفعل فإنما أثبتناه بالنقل المستفيض. وأما القسم الرابع
وهو ما لم تجر المحاجة به بين الصحابة مع ظهور الاختلاف بينهم في الحكم فإنه زيف،
لانهم الاصول في نقل الدين لا يتهمون بالكتمان، ولا يترك الاحتجاج بما هو الحجة
والاشتغال بما ليس بحجة، فإذا ظهر منهم الاختلاف في الحكم وجرت المحاجة بينهم فيه
بالرأي والرأي ليس بحجة مع ثبوت الخبر، فلو كان الخبر صحيحا لاحتج به بعضهم على
بعض، حتى يرتفع به الخلاف الثابت بينهم بناء على الرأي، فكان إعراض الكل عن
الاحتجاج به دليلا ظاهرا على أنه سهو ممن رواه بعدهم أو هو منسوخ، وذلك نحو ما يروى
الطلاق بالرجال والعدة بالنساء فإن الكبار من الصحابة اختلفوا في هذا وأعرضوا عن
الاحتجاج بهذا الحديث أصلا، فعرفنا أنه غير ثابت أو مؤول، والمراد به أن إيقاع
الطلاق إلى الرجال. وكذلك ما يروى أن النبي (ص) قال: ابتغوا في أموال اليتامى خيرا
كيلا تأكلها الصدقة فإن الصحابة اختلفوا في وجوب الزكاة في مال الصبي وأعرضوا عن
الاحتجاج بهذا الحديث أصلا، فعرفنا أنه غير ثابت إذ لو كان ثابتا لاشتهر فيهم وجرت
المحاجة به بعد تحقق الحاجة إليه بظهور الاختلاف، ففي الانتقاد جهين بالو الاولين
تظهر الزيافة معنى للمقابلة، بمنزلة نقد البلد إذا قوبل بنقد أجود منه تظهر الزيافة
فيه، وفي الانتقاد بالوجهين الآخرين إظهار الزيافة معنى من حيث إنه تقوي فيه شبهة
الانقطاع، بمنزلة نقد تبين فيه زيادة غش على ما هو في
ص 370
النقد المعهود فيصير زيفا مردودا من هذا الوجه. والشافعي أعرض عن طلب الانقطاع معنى
واشتغل ببناء الحكم على ظاهر الانقطاع في المرسل فترك العمل به مع قوة المعنى فيه
كما هو دأبه ودأبنا، فإنه يبني على الظاهر أكثر الاحكام، وعلماؤنا يبنون الفقه على
المعاني المؤثرة التي يتضح الحكم عند التأمل فيها. وأما النوع الثاني وهو ما يبتنى
على نقصان حال الراوي فبيان ذلك في فصول: منها خبر المستور، والفاسق، والكافر،
والصبي، والمعتوه، والمغفل، والمساهل، وصاحب الهوى. أما المستور فقد نص محمد رحمه
الله في كتاب الاستحسان على أن خبره كخبر الفاسق، وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله
عنهما أنه بمنزلة العدل في رواية الاخبار لثبوت العدالة له ظاهرا بالحديث المروي عن
رسول الله (ص) (وعن عمر رضي الله عنه): المسلمون عدول بعضهم على بعض. ولهذا جوز أبو
حنيفة القضاء بشهادة المستورد فيما يثبت مع الشبهات إذا لم يطعن الخصم، ولكن ما
ذكره في الاستحسان أصح في زماننا، فإن الفسق غالب في أهل هذا الزمان فلا تعتمد
رواية المستورد ما لم تتبين عدالته كما لم تعتمد شهادته في القضاء قبل أن تظهر
عدالته، وهذا بحديث عباد بن كثير أن النبي عليه السلام قال: لا تحدثوا عمن لا
تعلمون بشهادته ولان في رواية الحديث معنى الالزام فلا بد من أن يعتمد فيه دليل
ملزم وهو العدالة التي تظهر بالتفحص عن أحوال الراوي. وأما الفاسق فقد ذكر في كتاب
الاستحسان أنه إذا أخبر بطهارة الماء أو بنجاسته أو بحل الطعام والشراب وحرمته فإن
السامع يحكم رأيه في ذلك، فإن وقع عنده أنه صادق فعليه أن يعمل بخبره وإلا لم يعمل
به، وعلى هذا قال بعض مشايخنا رحمهم الله: الجواب كذلك فيما يرويه الفاسق. قال رضي
الله عنه: والاصح عندي أن خبره لا يكون حجة لانه غير مقبول الشهادة وفي حل الطعام
وحرمته وطهارة الماء ونجاسته إنما اعتبر خبره إذا تأيد
ص 371
بأكثر الرأي لاجل الضرورة، لان ذلك حكم خاص ربما يتعذر الوقوف عليه من جهة غيره،
ومثل هذه الضرورة لا يتحقق في رواية الخبر فإن في العدول كثرة يمكن الوقوف على
معرفة الحديث بالسماع منهم، فلا حاجة إلى الاعتماد على رواية الفاسق فيه. ثم في
المعاملات جعل خبر الفاسق مقبولا لاجل الضرورة أيضا فإن المعاملة تكثر بين الناس
ولا يوجد عدل يرجع إليه في كل خبر من ذلك النوع إلا أن ذلك ينفك عن معنى الالزام،
فجوز الاعتماد فيه على خبر الفاسق مطلقا، والحل والحرمة فيه معنى الالزام من وجه
فلهذا لم نجعل خبر الفاسق فيه معتمدا على الاطلاق حتى ينضم إليه غالب الرأي. ومن
الناس من لم يجعل خبر الفاسق مقبولا في المعاملة أيضا لظاهر قوله تعالى: *(إن جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا)* وروي أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة حين بعثه رسول الله (ص)
مصدقا إلى قوم فرجع إليه وقال إنهم هموا بقتلي فأراد رسول الله أن يعتمد خبره ويبعث
إليهم خيلا لانه ما كان ظاهر الفسق عنده فأنزل الله تعالى هذه الآية، وما أخبر به
كان من المعاملات خاليا عن الالزام ومع ذلك أمر الله تعالى بالتوقف في هذا النبأ من
الفاسق. ولكنا نقول: كان ذلك خبرا مستنكرا، فإنه أخبر أنهم ارتدوا بمنع الزكاة
وجحودها وهموا بقتله وفيه إلزام الجهاد معهم، ونحن نقول: إن من ثبت فسقه لا يعتبر
خبره في مثل هذا، فأما في المعاملات التي تنفك عن معنى الالزام فيجوز اعتماد خبره
لاجل الضرورة، إذ الفسق يرجح معنى الكذب في خبره من غير أن يكون موجبا الحكم بأنه
كاذب في خبره لا محالة، ولهذا جعلناه مع الفسق من أهل الشهادة. فأما الكافر فإنه لا
تعتمد روايته في باب الاخبار أصلا. وكذلك في طهارة الماء ونجاسته إلا أنه إذا وقع
في قلب السامع أنه صادق فيما يخبر به من نجاسة الماء فالافضل له أن يريق الماء ثم
يتيمم، ولا تجوز صلاته بالتيمم قبل إراقة الماء، لانه لا يعتمد خبره في باب الدين
أصلا فيبقى مجرد غلبة الظن وذلك لا يجوز له الصلاة بالتيمم مع وجود الماء، بخلاف
الفاسق فهناك يلزمه أن وضأ يت بذلك الماء إذا وقع في قلبه أنه صادق في الاخبار
بطهارة
ص 372
الماء، وإن أخبر بنجاسة الماء ووقع في قلبه أنه صادق فالاولى له أن يريق الماء
ويتيمم، فإن تيمم ولم يرق الماء جازت صلاته. وأما خبر الصبي فقد ذكر في الاستحسان
بعد ذكر الفاسق والكافر: وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان. فزعم بعض
مشايخنا أن المراد العطف على الفاسق وأن خبره بمنزلة خبر الفاسق في طهارة الماء
ونجاسته، والاصح أن المراد عطفه على الكافر، فإن الصبي ليس من أهل الشهادة أصلا كما
أن الكافر ليس من أهل الشهادة على المسلمين، بخلاف الفاسق فهو من أهل الشهادة وإن
لم يكن مقبول الشهادة لفسقه (و) لان الصبي بخبره يلزم الغير ابتداء من غير أن يلتزم
شيئا لانه غير مخاطب كالكافر يلزم غيره من غير أن يلتزم، لانه غير معتقد للحكم الذي
يخبر به، فأما الفاسق فيلتزم أولا ثم يلزم غيره، ولان الولاية المتعدية تبتنى على
الولاية القائمة للمرء على نفسه والفاسق من أهل هذه الولاية فيكون أهلا للولاية
المتعدية أيضا، بخلاف الصبي، والمعتوه بمنزلة الصبي، فقد سوى علماؤنا بينهما في
الاحكام في الكتب لنقصان عقلهما. ومن الناس من يقول رواية الصبي في باب الدين
مقبولة وإن لم يكن هو مقبول الشهادة لانعدام الاهلية للولاية منزلة ب رواية العبد،
واستدل فيه بحديث أهل قباء، فإن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما أتاهم وأخبرهم
بتحويل القبلة إلى الكعبة وهم كانوا في الصلاة فاستداروا كهيئتهم، وكان ابن عمر
يومئذ صغيرا على ما روي أنه عرض على رسول الله (ص) يوم بدر أو يوم أحد على حسب ما
اختلف الرواة فيه وهو ابن أربع عشرة سنة فرده، وتحويل القبلة كان قبل بدر بشهرين،
فقد اعتمدوا خبره فيما لا يجوز العمل به إلا بعلم وهو الصلاة إلى الكعبة ولم ينكر
عليهم رسول الله (ص). ولكنا نقول: قد روي أن الذي أتاهم أنس بن مالك، وقد روى عبد
الله
ص 373
بن عمر، فإنا نحمل على أنهما جاء أحدهما بعد الآخر وأخبرا بذلك، وإنما تحولوا
معتمدين على خبر البالغ وهو أنس بن مالك، أو كان ابن عمر بالغا يومئذ وإنما رده
رسول الله (ص) في القتال لضعف بنيته يومئذ لا لانه كان صغيرا فإن ابن أربع عشرة سنة
يجوز أن يكون بالغا. فأما المغفل فإن كان أغلب أحواله التيقظ فهو بمنزلة من لا غفلة
به في الرواية والشهادة، لان ما به من الغفلة يسير قلما يخلو العدل عن مثله إلا من
عصمه الله تعالى، وإن تفاحش ما به من الغفلة حتى ظهر ذلك في أغلب أموره فهو بمنزلة
المعتوه، لان ما يلزم من النقصان في المرء بطريق العادة يجعل بمنزلة الثابت بأصل
الخلقة، ألا ترى أنه يترجح معنى السهو والغلط في الرواية باعتبارهما جميعا كما
يترجح جانب الكذب باعتبار فسق الراوي. وأما المساهل فهو كالمغفل فإنه اسم لمن يجازف
في الامور ولا يبالي بما يقع له من السهو والغلط، ولا يشتغل فيه بالتدارك بعد أن
يعلم به، فيكون بمنزلة المغفل إذا ظهر ذلك في أكثر أموره. وأما صاحب الهوى فقد بينا
أن الصحيح أنه لا تعتمد روايته في أحكام الدين وإن كانت شهادتهم مقبولة إلا
الخطابية، فإن الهوى لا يكون مرجحا جانب الكذب في شهادته على ما قررنا، إلا
الخطابية وهم ضرب من الروافض يجوزون أداء الشهادة إذا حلف المدعي بين أيديهم أنه
محق في دعواه، ويقولون المسلم لا يحلف كاذبا، ففي هذا الاعتقاد ما يرجح جانب الكذب
في شهادتهم لتوهم أنهم اعتمدوا ذلك. وكذلك قالوا فيمن يعتقد أن الالهام حجة موجبة
للعلم لا تقبل شهادته لتوهم أن يكون اعتمد ذلك في أداء
ص 374
الشهادة بناء على اعتقاده. فأما من سواهم من أهل الاهواء ليس فيما يعتقدون من الهوى
ما يمكن تهمة الكذب في شهادتهم، لان الشهادة من باب المظالم والخصومات، ولا يتعصب
صاحب الهوى بهذا الطريق مع من هو محق في اعتقاده حتى يشهد عليه كاذبا، فأما في
أخبار الدين فيتوهم بهذا التعصب لافساد طريق الحق على من هو محق حتى يجيبه إلى ما
يدعو إليه من الباطل، فلهذا لا تعتمد روايته ولا تجعل حجة في باب الدين، والله
أعلم.
فصل: في بيان أقسام الاخبار

قال رضي الله عنه: هذه الاقسام أربعة: خبر يحيط
العلم بصدقه، وخبر يحيط لم الع بكذبه، وخبر يحتملهما على السواء، وخبر يترجح فيه
أحد الجانبين. فالاول: أخبار الرسل المسموعة منهم، فإن جهة الصدق متعين فيها لقيام
الدلالة على أنهم معصومون عن الكذب وثبوت رسالتهم بالمعجزات الخارجة عن مقدور البشر
عادة، وحكم هذا النوع اعتقاد الحقية فيه والائتمار به بحسب الطاقة، قال تعالى:
*(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)*. والنوع الثاني: نحو دعوى فرعون
الربوبية مع قيام آيات الحدث فيه ظاهرا، ودعوى الكفار أن الاصنام آلهة أو أنها
شفعاؤهم عند الله، أو أنها تقربهم إلى الله زلفى مع التيقن بأنها جمادات، ونحو دعوى
زرادشت وماني ومسيلمة وغيرهم من المتنبئين النبوة مع ظهور أفعال تدل على السفه
منهم، وأنهم لم يبرهنوا على ذلك إلا بما هو مخرفة من جنس أفعال المشعوذين، فالعلم
يحيط بكذب هذا النوع، وحكمه اعتقاد البطلان فيه ثم الاشتغال برده باللسان واليد
بحسب ما تقع الحاجة إليه في دفع الفتنة. والنوع الثالث: نحو خبر الفاسق في أمر
الدين، ففيه احتمال الصدق باعتبار
ص 375
دينه وعقله، واحتمال الكذب باعتبار تعاطيه، واستوى الجانبان في الاحتمال فالحكم فيه
التوقف إلى أن يظهر ما يترجح به أحد الجانبين عملا بقوله تعالى: *(فتبينوا)*.
والنوع الرابع: نحو شهادة الفاسق إذا ردها القاضي، فإن بقضائه يترجح جانب الكذب ه
في، وخبر المحدود في القذف عند إقامة الحد عليه، وحكمه أنه لا يجوز العمل به بعد
ذلك لتعين جانب الكذب فيه فيما يوجب العمل. ومن هذا النوع خبر العدل المستجمع
لشرائط الرواية في باب الدين، فإنه يترجح جانب الصدق فيه بوجود دليل شرعي موجب
للعمل به وهو صالح للترجيح، والمقصود هذا النوع. ولهذا النوع أطراف ثلاثة: طرف
السماع، وطرف الحفظ، وطرف الاداء. فطرف السماع نوعان: عزيمة، ورخصة. فالعزيمة ما
تكون بحسب الاستماع. وهو أربعة أوجه: وجهان من ذلك حقيقة وأحدهما أحق من الآخر،
ووجهان من ذلك عزيمة فيهما شبهة الرخصة. فالوجهان الاولان قراءة المحدث عليك وأنت
تسمع، وقراءتك على المحدث وهو يسمع، ثم استفهامك إياه بقولك أهو كما قرأت عليك
فيقول نعم، وأهل الحديث يقولون الوجه الاول أحق لانه طريق رسول الله عليه السلام،
وهو الذي كان يحدث أصحابه ثم نقلوه عنه، وهو أبعد من الخطأ والسهو فيكون أحق فيما
هو المقصود وهو تحمل الامانة بصفة تامة. وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أن قراءتك على
المحدث أقوى من قراءة المحدث عليك، وإنما كان ذلك لرسول الله (ص) خاصة لكونه مأمون
السهو والغلط، ولانه كان يذكر ما يذكره حفظا، وكان لا يكتب ولا يقرأ المكتوب أيضا،
وإنما كلامنا فيمن يخبر عن كتاب لا عن (حفظه حتى إذا كان يروي عن حفظ لا عن كتاب
فقراءته أقوى لانه يتحدث به) حقيقة، فأما إذا كان يروي عن كتاب فالجانبان
ص 376
سواء في معنى التحدث بما في الكتاب، ألا ترى أن في الشهادات لا فرق بين أن يقرأ من
عليه الحق ذكر إقراره عليك وبين أن تقرأه عليه، ثم تستفهمه هل تقر بجميع ما قرأته
عليك فيقول نعم، وبكل واحد من الطريقين يجوز أداء الشهادة، وباب الشهادة أضيق من
باب رواية الخبر، فكان المعنى فيه أن نعم جواب مختصر ولا فرق في الجواب بين المختصر
والمشبع، فيصير ما تقدم كالمعاد في الجواب كله، ثم للطالب من الرعاية عند القراءة
عادة ما ليس للمحدث، فعند قراءة المحدث لا يؤمن من الخطأ في بعض ما يقرأ لقلة
رعايته، ويؤمن ذلك إذا قرأ الطالب لشدة رعايته. فإن قيل عند قراءة الطالب يتوهم أن
يسهو المحدث عن بعض ما يسمع وينتفي هذا التوهم إذا قرأه المحدث لشدة رعاية الطالب
في ضبط ما يسمع منه. قلنا: هو كذلك ولكن السهو عن سماع البعض مما لا يمكن التحرز
عنه عادة وهو أيسر مما يقع بسبب الخطأ في القراءة، فمراعاة ذلك الجانب أولى.
والوجهان الآخران الكتابة والرسالة، فإن المحدث إذا كتب إلى غيره على رسم الكتب
وذكر في كتابه: حدثني فلان عن فلان إلى آخره، ثم قال: وإذا جاءك كتابي هذا وفهمت ما
فيه فحدث به عني فهذا صحيح. وكذلك لو أرسل إليه رسولا فبلغه على هذه الصفة، فإن
رسول الله عليه السلام كان مأمورا بتبليغ الرسالة، وبلغ إلى قوم مشافهة وإلى آخرين
بالكتاب والرسول وكان ذلك تبليغا تاما. وكذلك في زماننا يثبت من الخلفاء تقليد
السلطنة والقضاء بالكتاب والرسول بهذا الطريق كما يثبت بالمشافهة، إلا أن المختار
في الوجهين الاولين للراوي أن يقول حدثني فلان، وفي الوجهين الآخرين أن يقول
أخبرني، لان في الوجهين الاولين شافهه المحدث بالاسماع فيكون محدثا له، وفي الوجهين
الآخرين لم يشافهه ولكنه مخبر له بكتابه، فإن الكتاب ممن بعد كالخطاب ممن حضر،
والرسول كالكتاب أو أقوى لان معنى الضبط يوجد فيهما، ثم الرسول ناطق والكتاب غير
ناطق. وعلى هذا ذكر في الزيادات: إذا حلف أن لا يتحدث بسر فلان أو لا يتكلم
ص 377
به فكتب به أو أرسل رسولا لم يحنث، ولو تكلم به مشافهة يحنث، ولو حلف لا يخبر به
فكتب أو أرسل يحنث بمنزلة ما لو تكلم به. والدليل عليه أن الله تعالى أكرمنا بكتابه
ورسوله، ثم لا يجوز لاحد أن يقول حدثني الله ولا كلمني الله، إنما ذلك لموسى عليه
الصلاة والسلام خاصة كما قال تعالى: *(وكلم الله موسى تكليما)* ويجوز أن يقول
أخبرنا الله بكذا أو أنبأنا ونبأنا، فلهذا كان المختار في الوجهين الاولين حدثني
وفي الوجهين الآخرين أخبرني. وأما الرخصة فيه فمما لا تكون فيه إسماع، وذلك الاجازة
والمناولة، وشرط الصحة في ذلك أن يكون ما في الكتاب معلوما للمجاز له مفهوما له،
وأن يكون المجيز من أهل الضبط والاتقان قد علم جميع ما في الكتاب، وإذا قال حينئذ
أجزت لك أن تروي عني ما في هذا الكتاب كان صحيحا، لان الشهادة تصح بهذه الصفة، فإن
الشاهد إذا وقف على جميع ما في الصك، وكان ذلك معلوما لمن عليه الحق فقال أجزت لك
أن تشهد علي بجميع ما في هذا الكتاب كان صحيحا فكذلك رواية الخبر، والاحوط للمجاز
له أن يقول عند اية الرو أجاز لي فلان، فإن قال أخبرني فهو جائز أيضا وليس ينبغي له
أن يقول حدثني، فإن ذلك مختص بالاسماع ولم يوجد. والمناولة لتأكيد الاجازة فيستوى
الحكم فيما إذا وجدا جميعا أو وجدت الاجازة وحدها. فأما إذا كان المستجيز غير عالم
بما في الكتاب فقد قال بعض مشايخنا إن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا تصح
هذه الاجازة، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تصح على قياس اختلافهم في كتاب القاضي
إلى القاضي وكتاب الشهادة، فإن علم الشاهد بما في الكتاب شرط في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله، ولا يكون شرطا في قول أبي يوسف رحمه الله لصحة أداء الشهادة.
قال رضي الله عنه: والاصح عندي أن هذه الاجازة لا تصح في قولهم جميعا إلا أن أبا
يوسف استحسن هناك لاجل الضرورة، فالكتب تشتمل على أسرار لا يريد الكاتب والمكتوب
إليه أن يقف عليها غيرهما وذلك لا يوجد في كتب الاخبار.
ص 378
ثم الخبر أصل الدين أمره عظيم، وخطبه جسيم، فلا وجه للحكم بصحة تحمل الامانة فيه
قبل أن يصير معلوما مفهوما له، ألا ترى أنه لو قرأ عليه المحدث فلم يسمع ولم يفهم
لم يجز له أن يروي، والاجازة إذا لم يكن ما في الكتاب معلوما له دون ذلك كيف تجوز
الرواية بهذا القدر، وإسماع الصبيان الذين لا يميزون ولا يفهمون نوع تبرك استحسنه
الناس، فأما أن يثبت بمثله نقل الدين فلا. وكذلك من حضر مجلس السماع واشتغل بقراءة
كتاب آخر غير ما ه يقرؤ القارئ، أو اشتغل بالكتابة لشيء آخر أو اشتغل بتحدث أو لغو
أو لهو، أو اشتغل عن السماع لغفلة أو نوم، فإن سماعه لا يكون صحيحا مطلقا له
الرواية إلا أن مقدار ما لا يمكن التحرز عنه من السهو والغفلة يجعل عفوا للضرورة،
فأما عند القصد فهو غير معذور ولا يأمن أن يحرم بسبب ذلك حظه ونعوذ بالله، فأما إذا
قال المحدث: أجزت لك أن تروي عني مسموعاتي فإن ذلك غير صحيح بالاتفاق، بمنزلة ما لو
قال رجل لآخر اشهد علي بكل صك تجد فيه إقراري فقد أجزت لك ذلك فإن ذلك باطل. وقد
نقل عن بعض أئمة التابعين أن سائلا سأله الاجازة بهذه الصفة فتعجب وقال لاصحابه:
هذا يطلب مني أن أجيز له أن يكذب علي! وبعض المتأخرين جوزوا ذلك على وجه الرخصة
لضرورة المستعجلين، ولكن في هذه الرخصة سد باب الجهد في الدين، وفتح باب الكسل فلا
وجه للمصير إليه. فأما الكتب المصنفة التي هي مشهورة في أيدي الناس فلا بأس لمن نظر
فيها، وفهم شيئا منها، وكان متقنا في ذلك أن يقول: قال فلان كذا أو مذهب فلان كذا
من غير أن يقول حدثني أو أخبرني، لانها مستفيضة بمنزلة الخبر المشهور، وبعض الجهال
من المحدثين استبعدوا ذلك حتى طعنوا على محمد رحمه الله في كتبه المصنفة. وحكي أن
بعضهم قال لمحمد بن الحسن رحمه الله: أسمعت هذا كله من أبي حنيفة؟ فقال: لا. فقال:
أسمعته من
ص 379
أبي يوسف؟ فقال: لا وإنما أخذنا ذلك مذاكرة. فقال: كيف يجوز إطلاق القول ن بأ مذهب
فلان كذا أو قال فلان كذا بهذا الطريق؟! وهذا جهل لان تصنيف كل صاحب مذهب معروف في
أيدي الناس مشهور كموطأ مالك رحمه الله وغير ذلك فيكون بمنزلة الخبر المشهور يوقف
به على مذهب المصنف، وإن لم نسمع منه فلا بأس بذكره على الوجه الذي ذكرنا بعد أن
يكون أصلا معتمدا يؤمن فيه التصحيف والزيادة والنقصان. فأما بيان طرق الحفظ فهو
نوعان: عزيمة ورخصة. فالعزيمة فيه أن يحفظ المسموع من وقت السماع والفهم إلى وقت
الاداء، وكان هذا مذهب أبي حنيفة في الاخبار والشهادات جميعا، ولهذا قلت روايته،
وهو طريق رسول الله (ص) فيما بينه للناس. وأما الرخصة فيه أن يعتمد الكتاب إلا أنه
إذا نظر في الكتاب فتذكر فهو عزيمة أيضا ولكنه مشبه بالرخصة، وإذا لم يتذكر فهو محض
الرخصة على قول من يجوز ذلك، وقد بينا فيما سبق. والاداء أيضا نوعان: عزيمة، ورخصة.
فالعزيمة أن يؤدي على الوجه الذي سمعه بلفظه ومعناه، والرخصة فيه أن يؤدي بعبارته
معنى ما فهمه عند سماعه، وقد بينا ذلك. ومن نوع الرخصة التدليس وهو أن يقول قال
فلان كذا لمن لقيه ولكن لم يسمع منه، فيوهم السامعين أنه قد سمع ذلك منه، وكان
الاعمش والثوري يفعلان ذلك، وكان شعبة يأبى ذلك ويستبعده غاية الاستبعاد حتى كان
يقول: لان أزني أحب إلي من أن أدلس. والصحيح القول الاول، وقد بينا أن الصحابة
كانوا يفعلون ذلك فيقول الواحد منهم قال رسول الله (ص) كذا، فإذا روجع فيه قال
سمعته من فلان يرويه عن رسول الله عليه السلام، وما كان ينكر بعضهم على بعض ذلك،
فعرفنا أنه لا بأس به وأن هذا النوع لا يكون تدليسا مطلقا، فإنه لا يجوز لاحد أن
يسمي أحدا من الصحابة مدلسا، وإنما التدليس المطلق أن يسقط اسم من
ص 380
رواه له ويروى عن راوي الاصل على قصد الترويج بعلو الاسناد، فإن هذا القصد غير
محمود، فأما إذا لم يكن على هذا القصد وإنما كان على قصد التيسير على السامعين
بإسقاط تطويل الاسناد عنهم، أو على قصد التأكيد بالعزم على أنه قول رسول الله عليه
السلام قطعا فهذا لا بأس به، وما نقل عن الصحابة والتابعين محمول على هذا النوع.
وتجوز الرواية عمن اشتهر بهذا الفعل إذا علم أنه لا يدلس إلا فيما سمعه عن ثقة،
فأما إذا كان يروي عمن ليس بثقة ويدلس بهذه الصفة لا تجوز الرواية عنه بعدما اشتهر
بالتدليس. واختلف العلماء في فصل من هذا الجنس وهو أن الصحابي إذا قال أمرنا بكذا
أو نهينا عن كذا أو السنة كذا، فالمذهب عندنا أنه لا يفهم من هذا المطلق الاخبار
بأمر رسول الله عليه السلام أو أنه سنة رسول الله. وقال الشافعي في القديم: ينصرف
إلى ذلك عند الاطلاق، وفي الجديد قال: لا ينصرف إلى ذلك بدون البيان لاحتمال أن
يكون المراد سنة البلدان أو الرؤساء، حتى قال في كل موضع قال مالك رحمه الله السنة
ببلدنا كذا: فإنما أراد سنة سليمان بن بلال وهو كان عريفا نة بالمدي، وعلى قوله
القديم أخذ بقول سعيد بن المسيب رضي الله عنه في العاجز عن النفقة إنه يفرق بينه
وبين امرأته لانه حمل قول سعيد السنة، على سنة رسول الله (ص). وكذلك أخذ بقوله في
أن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية بقول سعيد فيه السنة، فحمل ذلك على سنة رسول
الله عليه السلام. ولم نأخذ نحن بذلك لانا علمنا أن مراده سنة زيد، ورجحنا قول علي
وعبد الله رضي الله عنهما على قول زيد رضي الله عنه بالقياس الصحيح. وحجتنا في ذلك
أن الامر والنهي يتحقق من غير رسول الله عليه السلام كما يتحقق منه، قال تعالى:
*(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم)* وعند الاطلاق لا يثبت إلا أدنى
الكمال، ألا ترى أن مطلق قول العالم أمرنا بكذا لا يحمل على أنه أمر الله أنزله في
كتابه نصا، فكذلك لا يحمل على أنه أمر رسول الله عليه السلام نصا لاحتمال أن يكون
الآمر غيره ممن يجب متابعته. وكذلك السنة، فقد قال عليه السلام: عليكم بسنتي وسنة
الخلفاء من بعدي وقال عليه السلام: من سن سنة حسنة فله
ص 381
أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل
بها إلى يوم القيامة وقد ظهر من عادة الصحابة التقييد عند إرادة سنة رسول الله عليه
السلام بالاضافة إليه على ما قال عمر لصبي بن معبد: هديت لسنة نبيك. وقال عقبة بن
عامر رضي الله عنه: ثلاث ساعات نهانا رسول الله عليه السلام أن نصلي فيهن. وقال
صفوان بن عسال رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله يه عل السلام إذا كنا سفرا أن لا
ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها) الحديث. فبهذا يتبين أنهم إذا أطلقوا هذا اللفظ
فإنه لا يكون مرادهم الاضافة إلى رسول الله (ص) نصا، ومع الاحتمال لا يثبت التعيين
بغير دليل. تم بتوفيق الله تعالى وعونه الجزء الاول من اصول الامام السرخسى ويليه
الجزء الثاني، واوله: (فصل في الخبر بلحقه التكذيب من جهة الراوى أو من جهة غيره).