الصفحة السابقة

أصول السرخسي

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 327

قطع الحكم وهو الحرمة الثابتة له بسبب الحرم. وإذا صال على إنسان فكذلك الجواب. وبظاهر هذا الكلام يقول الشافعي في الجمل إذا صال على إنسان فقتله إنه لا يضمن شيئا، لان فعل الجمل صالح لقطع الحكم الثابت به وهو العصمة والتقوم الثابت فيه لحق المالك. ولكنا نقول: فعل الدابة غير صالح لايجاب الشيء على مالكها، وفي إسقاط حقه في تضمين المتلف إيجاب حكم عليه وهو الكف عن الاعتداء على من اعتدى عليه بإتلاف ماله ومثله لا يوجد في صيد الحرم. وعلى هذا قلنا: لو أرسل كلبا على صيد مملوك لانسان فقتله الكلب أو أشلاه على بعير إنسان فقتله أو على ثوب إنسان فخرقه، لم يضمن شيئا، لان ما وجد منه من الاشلاء سبب قد اعترض عليه فعل من مختار غير منسوب إلى ذلك السبب، فإن بمجرد الاشلاء لا يكون سابقا له، بخلاف ما إذا أرسل كلبه المعلم على صيد فذبحه فإنه يجعل كأنه ذبحه بنفسه في حكم الحل، لان الاصطياد نوع كسب ينفي عنه معنى الحرج ويبني الحكم فيه على قدر الامكان، فأما في ضمان العدوان يجب الاخذ بمحض القياس، لان مع الشك في السبب الموجب للضمان لا يجب الضمان بحال. وعلى هذا قلنا: لو أوقد نارا في ملكه فهبت الريح بها إلى أرض جاره حتى أحرقت كدسه لم يضمن، ولو ألقى شيئا من الهوام على الطريق فانقلبت من مكان إلى مكان آخر ثم لدغت إنسانا لم يضمن الملقي شيئا. فما كان من هذا الجنس فتخريجه على الاصل الذي قلنا. وأما الشرط اسما لا حكما وهو المجاز في هذا الباب فنحو الشرط السابق وجودا فيما علق بالشرطين، نحو أن يقول لعبده إن دخلت هاتين الدارين فأنت حر، فإن دخوله في الدار الاولى شرط اسما لا حكما، لان الحكم غير مضاف إليه وجوبا به ولا وجودا عنده، ولهذا لم يعتبر علماؤنا قيام الملك عند وجود الشرط الاول خلافا لزفر رضي الله عنه، وهذا لان الملك في المحل شرط

ص 328

لنزول الجزاء أو لصحة الايجاب، والحكم غير مضاف إلى الشرط وجوبا به فإنه لا تأثير للشرط في ذلك، ولا وجودا عنده فإنه لا يترك الطلاق في المحل ما لم يتم الشرط، فلو اعتبرنا الملك عند وجوده إنما يعتبر لبقاء اليمين ومحل اليمين الذمة، فكانت باقية ببقاء محلها من غير أن يشترط فيه الملك في المحل. وأما الشرط الذي هو علامة فنحو الاحصان لايجاب الرجم، فإنه علامة يعرف بظهوره كون الزنا موجبا للرجم، وهو في نفسه ليس بعلة ولا سبب ولا شرط محض في إيجاب الرجم. وحد الشرط: ما يمتنع ثبوت العلة حقيقة بعد وجودها صورة إلى وجوده، كما في تعليق الطلاق بدخول الدار، والزنا موجب للعقوبة بنفسه ولا يمتنع ثبوت الحكم به إلى وجود الاحصان، كيف ولو وجد الاحصان بعد الزنا لا يثبت بوجوده حكم الرجم؟ فعرفنا أنه غير مضاف إليه وجوبا به ولا وجودا عند وجوده، ولكنه يعرف بظهوره أن الزنا حين وجد كان موجبا للرجم فكان علامة، ولهذا لا يوجب الضمان على شهود الاحصان إذا رجعوا، بخلاف ما قال أبو حنيفة رضي الله عنه في المزكين لشهود الزنا إذا رجعوا بعد الرجم، فإن التزكية بمنزلة علة العلة (كما بينا) ولهذا يثبت الاحصان بعد الزنا بشهادة رجل وامرأتين عندنا خلافا لزفر، لانه لما كان معرفا ولم يكن الرجم مضافا إليه وجوبا ولا وجودا كانت هذه الحالة كغيرها من الاحوال في حكم الشهادة، فكما ثبت النكاح بشهادة رجل وامرأتين في غير هذه الحالة فكذلك في هذه الحالة. فإن قيل: أنا أثبت النكاح بهذه الشهادة ولكن لا يثبت التمكن للامام من إقامة الرجم، لانه كما لا مدخل لشهادة النساء في إيجاب الرجم فلا مدخل لشهادتهن في إثبات التمكن من إقامة الرجم، بمنزلة ما لو كان الزاني عبدا مسلما لنصراني فشهد عليه نصرانيان أن مولاه كان أعتقه قبل الزنا، فإنه تثبت الحرية بهذه الشهادة ولا يثبت تمكن الامام من إقامة الرجم عليه، لانه كما لا مدخل لشهادة الكفار في إيجاب الرجم على المسلم فلا مدخل لشهادتهم

ص 329

في إثبات التمكن من إقامة الرجم على المسلم. قلنا: هذا ليس بصحيح، لان شهادة النساء دخلها الخصوص في المشهود به لا في المشهود عليه، والمشهود به ليس يمس الرجم أصلا، وشهادة الكفار دخلها الخصوص في المشهود عليه لا في المشهود به فإن شهادتهم حجة في الحد على الكفار ولكنها ليست بحجة على المسلم، والاقامة عند الشهادة تكون على المسلم وهو حادث فلا تجعل شهادتهم فيه حجة، وهذا لان في الموضعين جميعا في الشهادة معنى تكثير محل الجناية من حيث الجناية على نعمة الحرية في أحد الموضعين وعلى نعمة إصابة الحلال بطريقه في الموضع الآخر وهو الاحصان. ثم في تكثير محل الجناية يتضرر الجاني والجاني مسلم، وشهادة الكفار فيما يتضرر به المسلم لا تكون حجة أصلا، فأما شهادة النساء فيما يتضرر به الرجل تكون حجة، وإنما لا تكون حجة فيما تضاف إليه العقوبة وجوبا به أو جودا عنده، وذلك لا يوجد في هذه الشهادة أصلا. وعلى هذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا علق طلاقا أو عتاقا بولادة امرأة ولم يقر بأنها حبلى ثم شهدت القابلة على ولادتها، يثبت بها وقوع الطلاق والعتاق، لان هذا شرط بمنزلة العلامة من حيث إن الطلاق إنما يصير مضافا إلى نفس الولادة وجودا عندها، وأما ظهور الولادة فمعرف لا يضاف إليه الطلاق وجوبا به ولا وجودا عنده، والولادة تظهر بشهادة النساء في غير هذه الحالة حتى يثبت النسب بشهادة القابلة وحدها، فكذلك في هذه الحالة كما في مسألة الاحصان. ولكن أبو حنيفة رضي الله عنه يقول: الولادة شرط محض من حيث إنه يمنع ثبوت علة الطلاق والعتاق حقيقة إلى وجوده ثم لا يكون الطلاق والعتاق من أحكام الولادة، وشهادة القابلة حجة ضرورية في الولادة لانه لا يطلع عليها الرجال، فإنما تكون حجة فيما هو من أحكام الولادة أو مما لا تنفك الولادة عنه خاصة، فأما في الطلاق والعتاق هذا الشرط كغيره من الشرائط. وعلى هذا قال أبو يوسف ومحمد في المعتدة إذا جاءت بولد فشهدت القابلة على الولادة: يثبت النسب بشهادتها

ص 330

وإن لم يكن هناك حبل ظاهر ولا فراش قائم ولا إقرار من الزوج بالحبل، لان الولادة لثبوت النسب شرط بمنزلة العلامة، فإن بها يظهر ويعرف ما كان موجودا في الرحم قبل الولادة، وكان ثابت النسب من حين وجد، فلم يكن النسب مضافا إلى الولادة وجوبا بها ولا وجودا عندها، والولادة في غير هذه الحالة تثبت بشهادة القابلة وحدها، يعني إذا كان هناك فراش قائم أو حبل ظاهر أو إقرار من الزوج بالحبل، فكذلك في هذه الحالة. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الولادة بمنزلة المعرف كما قالا ولكن في حق من يعرف الباطن، فأما في حقنا فالنسب مضاف إلى الولادة، لانا نبني الحكم على الظاهر ولا نعرف الباطن، فما كان باطنا يجعل في حقنا كالمعدوم إلى أن يظهر بالولادة، بمنزلة الخطاب النازل في حق من لم يعلم به، فإنه يجعل كالمعدوم ما لم يعلم به، وإذا صار النسب مضافا إلى الولادة من هذا الوجه لا تثبت الولادة في حقه إلا بما هو حجة لاثبات النسب، بخلاف ما إذا كان الفراش قائما، فالفراش المعلوم هناك مثبت للنسب قبل الولادة فكانت الولادة علامة معرفة، وكذلك إذا كان الحبل ظاهرا أو أقر الزوج بالحبل فقد كان السبب هناك ثابتا بظهور ما يثبته لنا قبل الولادة. وعلى هذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه: استهلال المولود في حكم الارث لا يثبت بشهادة القابلة وحدها، لان حياة الولد كان غيبا عنا وإنما يظهر عند استهلاله فيصير مضافا إليه في حقنا، والارث يبتنى عليه، فلا يثبت بشهادة القابلة كما لا يثبت حق الرد بالغيب بشهادة النساء في جارية اشتراها بشرط البكارة إذا شهدت أنها ثيب قبل القبض ولا بعده ولكن يستحلف البائع، فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الاستهلال (معرف، فإن حياة الولد لا تكون مضافا إليه وجوبا به ولا وجودا عنده، ونفس الاستهلال) في غير حالة التوريث يثبت بشهادة القابلة حتى يصلى على المولود، فكذلك في حالة التوريث.

ص 331

فصل: في بيان تقسيم العلامة

 العلامة أنواع أربعة: علامة هي دلالة الوجود فيما كان موجودا قبله. ومنه علم الثوب، ومنه علم العسكر، وهذا حد العلامة المحضة. وعلامة هي بمعنى الشرط، وذلك الاحصان في حكم الرجم كما بينا. وعلامة هي علة فقد بينا أن العلل الشرعية بمنزلة العلامات للاحكام، فإنها غير موجبة بذواتها شيئا بل بجعل الشرع إياها موجبة وعلامة تسمية ومجازا وهي علل الحقائق المعتبرة بذواتها على ما نبينها في موضعها. وقد جعل الشافعي عجز القاذف عن إقامة أربعة من الشهداء علامة لبطلان شهادة القاذف لا شرطا حتى قال القذف مبطل شهادته قبل ظهور عجزه عن إقامة الشهود، ثم ظهور العجز يعرف لنا هذا الحكم فكان علامة، بخلاف الجلد فإنه فعل يقام على القاذف فكان العجز فيه شرطا، لان إقامة الحد يصير مضافا إليه وجودا عنده، فأما سقوط شهادته أمر حكمي فيثبت بنفس القذف لانه كبيرة، لما فيه من إشاعة الفاحشة وهتك ستر العفة على المسلم، فالاصل في الناس هو العفة عن الزنا، والتمسك بالاصل واجب حتى يتبين خلافه، وباعتبار هذا الاصل كان القذف كبيرة، فيكون بمنزلة سائر الكبائر في ثبوت سمة الفسق وسقوط الشهادة بنفسها. ولكنا نقول: العجز عن إقامة أربعة من الشهداء شرط لاقامة الجلد ولابطال شهادة القاذف، والحكم المعلق بالشرط لا يكون ثابتا قبل وجود الشرط، وهذا لان كل واحد منهما فعل خوطب الامام بإقامته على القاذف وأحدهما معطوف على الآخر، كما قال تعالى: *(فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا)* ثم هذا العجز الذي هو شرط يثبت بما ثبت به العجز عن دفع سائر الحجج في إلزام الحكم بها، وذلك بأن يمهله على قدر ما يرى إلى آخر المجلس أو إلى المجلس الثاني، والذي قال القذف كبيرة قلنا: هذه الصفة للقذف غير ثابت بنفسه مستحقا شرعا بدليل أنه يتمكن من إثباته بالبينة وهو في نفسه خبر متميل بين الصدق

ص 332

والكذب، وقد يتعين فيه معنى الحسبة إذا كان الزاني مصرا غير تائب، وللقاذف شهود يشهدون عليه بالزنا ليقام عليه الحد، وكيف يكون نفس القذف كبيرة وقد تتم به الحجة موجبا للرجم، فإن الشهود على الزنا قذفة في الحقيقة، ثم كانت شهادتهم حجة لايجاب الرجم، فعرفنا أن ما ادعاه الخصم من المعنى الذي يجعل به نفس القذف مسقطا للشهادة بحث لا يمكن تحقيقة، وبعدما ظهر عجزه عن إقامة الشهود إنما تسقط شهادته بسبب ظهور عجزه وهو من حيث الظاهر حتى إن بعد إقامة الحد عليه وبطلان شهادته لو أقام أربعة من الشهداء على زنا المقذوف فإن الشهادة تكون مقبولة حتى يقام الحد على المشهود عليه، ويصير القاذف مقبول الشهادة إن لم يتقادم العهد، وإن تقادم العهد يصير مقبول الشهادة أيضا وإن كان لا يقام الحد على المشهود عليه. أورد ذلك في المنتقى رواية عن أبي يوسف أو محمد، هذا قول أحدهما، وفي قول الآخر لا تقبل الشهادة بعد إقامة الحد عليه، لان إقامة الحد على القاذف حكم يكذب الشهود في شهادتهم على المقذوف بالزنا، وكل شهادة جرى الحكم بتعين جهة الكذب فيها لا تكون مقبولة أصلا، كالفاسق إذا شهد في حادثة فردت شهادته ثم أعادها بعد التوبة، والله المجزي لمن اتقى وأحسن.

 

 باب: أهلية الآدمي لوجوب الحقوق له وعليه وفي الامانة التي حملها الانسان

 قال رضي الله عنه: فهذه الاهلية نوعان: أهلية الوجوب، وأهلية الاداء فأما أهلية الوجوب وإن كان يدخل في فروعها تقسيم فأصلها واحد، وهو الصلاحية لحكم الوجوب، فمن كان فيه هذه الصلاحية كان أهلا للوجوب عليه، ومن لا فلا. وأهلية الاداء نوعان: كامل، وقاصر.

ص 333

فالكامل: ما يلحق به العهدة والتبعية. والقاصر: ما لا يلحق به ذلك. فنبدأ ببيان أهلية الوجوب. فنقول: أصل هذه الاهلية لا يكون إلا بعد ذمة صالحة لكونها محلا للوجوب، فإن المحل هو الذمة، ولهذا يضاف إليها ولا يضاف إلى غيرها بحال، ولهذا اختص به الآدمي دون سائر الحيوانات التي ليست لها ذمة صالحة. ثم الذمة في اللغة هو: العهد، قال تعالى: *(لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة)* وقال عليه السلام: وإن أرادوكم أن تعطوهم ذمة الله فلا تعطوهم ومنه يقال أهل الذمة للمعاهدين، والمراد بهذا العهد ما أشار الله تعالى في قوله: *(وإذ أخذ ربك من بني آدم)* والجنين ما دام مجننا في البطن ليست له ذمة صالحة، لكونه في حكم جزء من الام ولكنه منفرد بالحياة معد ليكون نفسا له ذمة، فباعتبار هذا الوجه يكون أهلا لوجوب الحق له من عتق أو إرث أو نسب أو وصية، ولاعتبار الوجه الاول لا يكون أهلا لوجوب الحق عليه، فأما بعدما يولد فله ذمة صالحة، ولهذا لو انقلب على مال إنسان فأتلفه كان ضامنا له، ويلزمه مهر امرأته بعقد الولي عليه، وهذه حقوق تثبت شرعا. ثم بعد هذا زعم بعض مشايخنا أن باعتبار صلاحية الذمة يثبت وجوب حقوق الله تعالى في حقه من حين يولد. وإنما يسقط ما يسقط بعد ذلك بعذر الضمان لدفع الحرج. قال: لان الوجوب بأسباب هي الوجوب شرعا وقد تقدم بيانها، وتلك الاسباب متقررة في حقه والمحل صالح للوجوب فيه فيثبت الوجوب باعتبار السبب والمحل، وهذا لان الوجوب خبر ليس للعبد فيه اختيار حتى يعتبر فيه عقله وتمييزه، بل هو ثابت عند وجود السبب علينا شرعا شئنا أو أبينا، قال تعالى: *(وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه)* والمراد بالعنق الذمة، وإنما يعتبر تمييزه أو تمكنه من الاداء في وجوب الاداء، وذلك حكم وراء أصل الوجوب، ألا ترى أن النائم والمغمى عليه يثبت حكم وجوب الصلاة في حقهما بوجود النسب مع عدم التمييز والتمكن من الاداء للحال ثم يتأخر وجوب الاداء إلى الانتباه والافاقة، وهذا

ص 334

لان الله تعالى لما خلق الانسان لحمل أمانته أكرمه بالعقل والذمة ليكون بها أهلا لوجوب حقوق الله تعالى عليه، ثم أثبت له العصمة والحرية والمالكية ليبقى فيتمكن من أداء ما حمل من الامانة، ثم هذه الحرية والعصمة والمالكية ثابتة للمرء من حين يولد، المميز وغير المميز فيه سواء، فكذلك الذمة الصالحة لوجوب الحقوق فيها ثابتا له من حين يولد يستوي فيه المميز وغير المميز، ثم كما يثبت الوجوب بوجود السبب شرعا في محله تثبت الحرمة، يعني الحرمة بالنسب والرضاع والمصاهرة، وتلك الحرمة تثبت في حق المميز وغير المميز لوجود السبب بعد صلاحية المحل وإن كان ذلك حكما شرعيا، فكذلك الوجوب، ثم وجوب الاداء بعد هذا يكون بالامر الثابت بالخطاب، وذلك لا يكون إلا بعد اعتدال الحال والعلم به، وقد بينا أن المطالبة بأداء الواجب غير أصل الوجوب، وهو تأويل الحديث المروي (رفع القلم عن ثلاث) فالمراد بالقلم الحساب، وذلك ينبني على وجوب الاداء (دون أصل الوجوب كما في الدين المؤجل إنما تكون المحاسبة بعد وجوب الاداء) بمضي الاجل، وأصل الوجوب ثابت لوجود سببه. وزعم بعض مشايخنا أن الوجوب لا يثبت إلا بعد اعتدال الحال بالبلوغ عن عقل، لان الموجب هو الله تعالى لما خاطب به عباده من الامر والنهي، وحكم هذا الخطاب لا يثبت في حق المخاطب ما لم يعلم به علما معتبرا في الالزام شرعا وذلك إنما يكون بعد اعتدال الحال. ومن جعل السبب موجبا فقد أخلى صيغة الامر عن حكمه، لان حكم الامر المطلق الوجوب واللزوم، وإذا كان الوجوب ثابتا بالسبب قبل ثبوت الخطاب في حقه لم يبق للامر حكم، فيؤدي هذا إلى القول بأنه لا فائدة في أوامر الله تعالى ونواهيه، وأي قول أقبح من هذا! ولانه لا يفهم من الوجوب شيء سوى وجوب الاداء وذلك لا يكون إلا بعد اعتدال الحال وهو حكم الامر بالاتفاق، فعرفنا أن الوجوب كذلك، فكانت الاسباب بمنزلة العلامات في حقنا لنعرف بظهورها الوجوب بحكم

ص 335

الامر، وقد بينا أن الحكم غير مضاف إلى العلامة وجوبا ولا وجودا. والدليل عليه أن الوجوب لفائدة راجعة إلى العباد، فإن الله يتعالى عن أن تلحقه المنافع والمضار، أي يوصف بالحاجة إلى إيجاب حق على عبده لنفسه، والفائدة للعباد ما يكون لهم به من الجزاء، وذلك لا يكون إلا بالاداء الذي يكون عن اختيار من العبد، فإثبات الوجوب بدون أهلية وجوب الاداء وبدون تصور الاداء يكون إثبات حكم شرعي هو خال من الفائدة والقول به لا يجوز. قال رضي الله عنه: وكلا الطريقين عندي غير مرضي، لما في الطريق الاول من مجاوزة الحد في الغلو، وفي الطريق الثاني من مجاوزة الحد في التقصير، فإن القول بأنه لا عبرة للاسباب التي جعلها الشرع سببا لوجوب حقوقه على سبيل الابتلاء للعباد ولتعظيم بعض الاوقات أو الامكنة وتفضيلها على بعض نوع تقصير، والقول بأن الوجوب ثابت بنفس السبب من غير اعتبار ما هو حكم الوجوب نوع غلو، ولكن الطريق الصحيح أن يقول بأن بعد وجوب السبب والمحل لا يثبت الوجوب إلا بوجود الصلاحية لما هو حكم الوجوب، لان الوجوب غير مراد ذمة لعينه بل لحكمه، فكما لا يثبت الوجوب إذا وجد السبب بدون نفس المحل فكذلك لا يثبت إذا وجد السبب والمحل بدون حكم، وهذا لان بدون الحكم لا يكون مفيدا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن فائدة الحكم في الدنيا تحقيق معنى الابتلاء، وفي الآخرة الجزاء وذلك باعتبار الحكم، ونعني بهذا الحكم وجوب الاداء ووجود الاداء عند مباشرة العبد عن اختيار حتى يظهر به المطيع من العاصي، فيتحقق الابتلاء المذكور في قوله تعالى: *(ليبلوكم أيكم أحسن عملا)* وكذلك المجازاة في الآخرة ينبني على هذا كما قال تعالى: *(جزاء بما كانوا يعملون)* وهذا لان الوجوب خبر لا اختيار فيه للعبد كما قالوا، وإنما ينال العبد الجزاء على ما له فيه اختيار، فتبين أن

ص 336

الوجوب بدون حكمه غير مفيد، فلا يجوز القول بثبوته شرعا، ولهذا قلنا: إن قتل الاب ابنه لا يكون موجبا للقصاص، والسبب هو العمد المحض موجود والمحل موجود، ولكن لانعدام فائدة الوجوب وهو التمكن من الاستيفاء فإن الولد لا يكون متمكنا من أن يقصد قتل أبيه شرعا بحال. قلنا: لا يثبت الوجوب أصلا، وهذا أعدل الطرق، ففيه اعتبار السبب في ثبوت الوجوب به إذا كان موجبا حكمه وقد جعله الشرع كذلك، وفيه اعتبار الامر لاثبات ما هو حكم الوجوب به وهو لزوم الاداء أو إسقاط الواجب به عن نفسه. ومن تأمل صيغة الاوامر ظهر له أن موجبها ما قلنا، فإنه قال: *(أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)* والاقامة والايتاء هو إسقاط الواجب بالاداء. وكذلك قوله تعالى: *(فمن شهد منكم الشهر فليصمه)* وقوله تعالى: *(وأتموا الحج)* فإن مباشرة فعل الصوم وإتمام الحج يكون إسقاط الواجب والامر لالزام ذلك. ثم على هذا الطريق يتبين التقسيم في الحقوق، فنقول: أما حقوق العباد فما يكون فيه غرما أو عوضا كالثمن في البيع فالوجوب ثابت في حق الصبي الذي لا يعقل لوجود سببه وثبوت حكمه وهو وجوب الاداء بوليه الذي هو نائب عنه، لان المقصود المال هنا دون الفعل، فإن المراد به رفع الخسران بما يكون جبرانا له أو حصول الربح وذلك بالمال يكون، وأداء وليه كأدائه في حصول هذا المقصود به. وما كان منه صلة له شبه المؤونة كنفقة الزوجات والاقارب فوجوبه ثابت في حقه عند وجود سببه، لان في حق نفقة الزوجات معنى العوضية، وفي نفقة الاقارب معنى مؤونة اليسار، والمقصود إزالة حاجة المنفق عليه بوصول كفايته إليه وذلك بالمال يكون، وأداء الولي فيه كأدائه، فعرفنا أن الوجوب فيه غير خال عن الحكمة

ص 337

وما يكون صلة له شبه الجزاء لا يثبت وجوبه في حقه أصلا، وذلك كتحمل العقل فإنه صلة ولكنها شبه الجزاء على ترك حفظ السفيه والاخذ على يد الظالم، ولهذا يختص برجال العشيرة الذين هم من أهل هذا الحفظ دون النساء فلا يثبت ذلك في حق الصبي أصلا. وكذلك ما يكون جزاء بطريق العقوبة كالقتل لاجل الردة بطريق الغرامة كالعقل لا يثبت وجوبه في حقه أصلا لانعدام ما هو حكم الوجوب في حقه. فأما في حقوق الله تعالى فنقول: وجوب الايمان بالله تعالى في حق الصبي الذي لا يعقل لا يمكن القول به لانعدام الاهلية لحكم الوجوب وذلك الاداء وجوبا أو وجودا في حقه، فما كان القول بالوجوب هنا إلا نظير القول بالوجوب باعتبار السبب بدون المحل كما في حق البهائم وذلك لا يجوز القول به. وكذلك العبادات المحضة، البدني والمالي في ذلك سواء، لان حكم الوجوب لا يثبت في حقه بحال فلا يثبت الوجوب، وبيانه أن الوجوب أفعال يتحقق في مباشرتها معنى الابتلاء وتعظيم حق الله تعالى، ولا تصور لذلك من الصبي الذي لا يعقل بنفسه، ولا يحصل ذلك بأداء وليه، لان ثبوت الولاية عليه يكون جبرا بغير اختياره وبمثله لا يصير هو متقربا حقيقة ولا حكما، فلو جعلنا أداء الوالي كأدائه فيما هو مالي كان يتبين به أن المقصود هو المال لا الفعل، وذلك مما لا يجوز القول به، فلهذا لا يثبت في حقه وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، يقرره أنه لو كان الوجوب ثابتا ثم سقوط الحكم لدفع الحرج بعذر الصبي لكان ينبغي أن يقال: إذا أنفق الاداء منه كان مؤديا للواجب كصوم الشهر في حق المريض والمسافر والجمعة في حق المسافر، إنه إذا أدى كان موديا للواجب وبالاتفاق لا يكون هو مؤديا للواجب، وإن تصور منه ما هو ركن هذه العبارات، فعرفنا أن الوجوب غير ثابت أصلا. وكذلك قال محمد رضي الله عنه في صدقة الفطر لرجحان معنى العبادة والقربة فيها. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما: فيها معنى المؤونة فيثبت الوجوب

ص 338

كخبر الفاسق الواحد. ولفظ الكتاب مشتبه فإنه قال حتى يخبره رجلان أو رجل عدل فقيل: معناه: رجلان أو رجل عدل لان صيغة هذا النعت للفرد والجماعة واحد، ألا ترى أنه يقال: شاهدا عدل. ومن اعتمد القول الاول قال اشتراط زيادة العدد للتوكيد هنا بمنزلة اشتراط العدد في إخبار العدول في الشهادات فإنها للتوكيد، واستدل عليه بما قال في الاستحسان: لو أخبر أحد المخبرين بطهارة الماء والآخر بنجاسته وأحدهما عدل والآخر غير عدل فإنه يعتمد خبر العدل منهما. ولو كان في أحد الجانبين مخبران وفي الجانب الآخر واحد واستووا في صفة العدالة فإنه يأخذ بقول الاثنين. وكذلك في الجرح والتعديل كما يرجح خبر العدل على خبر غير العدل يترجح خبر المثنى من العدول على خبر الواحد، فعرفنا أن في زيادة العدد معنى التوكيد. والذي أسلم في دار الحرب إذا لم يعلم بوجوب العبادات عليه حتى مضى زمان لم يلزمه القضاء، فإن أخبره بذلك فاسق فقد قال مشايخنا هو على الخلاف أيضا: عند أبي حنيفة لا يعتبر هذا الخبر في إيجاب القضاء عليه، وعندهما يعتبر. قال رضي الله عنه: والاصح عندي أنه يعتبر الخبر هنا في إيجاب القضاء عندهم جميعا لان هذا المخبر نائب عن رسول الله (ص) مأمور من جهته بالتبليغ كما قال: ألا فليبلغ الشاهد الغائب فهو بمنزلة رسول المالك إلى عبده، ثم هو غير متكلف في هذا الخبر ولكنه مسقط عن نفسه ما لزمه من الامر بالمعروف فلهذا يعتبر خبره.

 فصل: في أقسام الرواة الذين يكون خبرهم حجة

 قال رضي الله عنه: اعلم بأن الرواة قسمان: معروف، ومجهول. فالمعروف نوعان: من كان معروفا بالفقه والرأي في الاجتهاد، ومن كان معروفا بالعدالة وحسن الضبط والحفظ ولكنه قليل الفقه. فالنوع الاول كالخلفاء الراشدين والعبادلة وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبي موسى الاشعري وعائشة وغيرهم من المشهورين بالفقه من الصحابة رضي الله عنهم، وخبرهم حجة موجبة

ص 339

للعلم الذي هو غالب الرأي، ويبتني عليه وجوب العمل، سواء كان الخبر موافقا للقياس أو مخالفا له، فإن كان موافقا للقياس تأيد به، وإن كان مخالفا للقياس يترك القياس ويعمل بالخبر. وكان مالك بن أنس يقول يقدم القياس على خبر الواحد في العمل به، لان القياس حجة بإجماع السلف من الصحابة، ودليل الكتاب والسنة والاجماع أقوى من خبر الواحد فكذلك ما يكون ثابتا بالاجماع. ولكنا نقول: ترك القياس بالخبر الواحد في العمل به أمر مشهور في الصحابة ومن بعدهم من السلف لا يمكن إنكاره حتى يسمون ذلك معدولا به عن القياس، وعليه دل حديث عمر رضي الله عنه، فإن حمل ابن مالك رضي الله عنه حين روي له حديث الغرة في الجنين قال: كدنا أن نقضي فيه برأينا فيما فيه قضاء عن رسول الله (ص) بخلاف ما قضى به. وفي رواية: لولا ما رويت لرؤينا خلاف ذلك. وقال ابن عمر رضي الله عنه: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي عليه السلام نهى عن كراء المزارع فتركناه لاجل قوله، ولان قول الرسول (ص) موجب للعلم باعتبار أصله وإنما الشبهة في النقل عنه. فأما الوصف الذي به القياس فالشبهة والاحتمال في أصله لانا لا نعلم يقينا أن ثبوت الحكم المنصوص باعتبار هذا الوصف من بين سائر الاوصاف، وما يكون الشبهة في أصله دون ما تكون الشبهة في طريقه بعد التيقن بأصله، يوضحه أن الشبهة هنا باعتبار توهم الغلط والنسيان في الراوي وذلك عارض، وهناك باعتبار التردد بين هذا الوصف وسائر الاوصاف وهو أصل، ثم الوصف الذي هو معنى من المنصوص كالخبر والرأي، والنظر فيه كالسماع، والقياس كالعمل به، ولا شك أن الوصف ساكت عن البيان والخبر بيان في نفسه فيكون الخبر أقوى من الوصف في الابانة، والسماع أقوى من الرأي في الاصابة، ولا يجوز ترك القوي بالضعيف. فأما المعروف بالعدالة والضبط والحفظ كأبي هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهما وغيرهما ممن اشتهر بالصحبة مع رسول الله (ص) والسماع منه مدة

ص 340

في حقه وإن عقل ما لم يعتدل حاله بالبلوغ، فإن باعتبار عقله يصحح الاداء منه وصحة الاداء تستدعي كون الحكم مشروعا ولا تستدعي كونه واجب الاداء، فعرفنا بهذا أن حكم الوجوب وهو وجوب الاداء معدوم في حقه (وقد بينا أن الوجوب لا يثبت باعتبار السبب والمحل بدون حكم الوجوب) إلا أنه إذا أدى يكون المؤدي فرضا، لان بوجود الاداء صار ما هو حكم الوجوب موجودا بمقتضى الاداء (وإنما لم يكن الوجوب ثابتا لانعدام الحكم فإذا صار موجودا بمقتضى الاداء) كان المؤدى فرضا، بمنزلة العبد فإن وجوب الجمعة في حقه غير ثابت، حتى إنه إن أذن له المولى أو حضر الجامع مع المولى كان به أن لا يؤدي، ولكن إذا أدى كان المؤدى فرضا، لان ما هو حكم الوجوب صار موجودا بمقتضى الاداء، وإنما لم يكن الوجوب ثابتا لانعدام حكمه. وكذلك المسافر إذا أدى الجمعة كان مؤديا للغرض مع أن وجوب الجمعة لم يكن ثابتا في حقه قبل الاداء بالطريق الذي ذكرنا، والله أعلم.

 فصل: في بيان أهلية الاداء

 قال رضي الله عنه: هذه الاهلية نوعان: قاصرة وكاملة فالقاصرة باعتبار قوة البدن، وذلك ما يكون للصبي المميز قبل أن يبلغ، أو المعتوه بعد البلوغ فإنه بمنزلة الصبي من حيث إن له أصل العقل وقوة العمل بالبدن وليس له صفة الكمال في ذلك حقيقة ولا حكما. والكاملة تبتنى على قدرتين: قدرة فهم الخطاب وذلك يكون بالعقل، وقدرة العمل به وذلك بالبدن. ثم يبتنى على الاهلية القاصرة صحة الاداء، وعلى الكاملة وجوب الاداء وتوجه الخطاب به، لان الله تعالى قال: *(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)* وقبل التمييز والتمكن من الاداء لا وجه لاثبات التكليف بالاداء، لانه تكليف ما لا يطاق وقد نفى الله تعالى ذلك بهذه الآية، ولا تصور للاداء على الوجه المشروع وهو

ص 341

أن يكون على قصد التقرب إلى الله تعالى، وبعد وجود أصل العقل والتمكن من الاداء قبل كماله في إلزام الاداء حرج، قال الله تعالى: *(ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج)* وقال تعالى *(ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم)* وفي إلزام خطاب الاداء قبل إكمال العقل من معنى الاضرار والحرج ما لا يخفى. ثم أصل العقل يعرف بالعيان، وذلك نحو أن يختار المرء في أمر دنياه وأخراه ما يكون أنفع لديه ويعرف به مستوى عاقبة الامر فيما يأتيه ويذره، ونقصانه يعرف بالتجربة والامتحان، وبعد الترقي عن درجة النقصان ظاهرا تتفاوت أحوال البشر في صفة الكمال فيه على وجه يتعذر الوقوف عليه، فأقام الشرع اعتدال الحال بالبلوغ عن عقل مقام كمال العقل حقيقة في بناء إلزام الخطاب عليه تيسيرا عل العباد، ثم صار صفة الكمال الذي يتوهم وجوده قبل هذا الحد ساقط الاعتبار، وبقاء توهم النقصان بعد هذا الحد كذلك، على ما بينا أن السبب الظاهر متى قام مقام المعنى الباطن للتيسير دار الحكم معه وجودا وعدما وأيد هذا كله قوله (ص): (رفم القلم عن ثلاث) والمراد بالقلم الحساب، والحساب إنما يكون بعد لزوم الاداء، فدل أن ذلك لا يثبت إلا بالاهلية الكاملة، وهو اعتدال الحال بالبلوغ عن عقل. وعلى هذا قلنا: ما يكون من حقوق الله تعالى فهو صحيح الاداء عند وجود الاهلية القاصرة. وذلك أنواع: فمنها ما يكون صفة الحسن متعينا فيه على وجه لا يحتمل غيره، وصفة كونه مشروعا متعين فيه على وجه لا يحتمل أن لا يكون مشروعا بحال، وذلك نحو الايمان بالله تعالى، فإنه صحيح من الصبي العاقل في أحكام الدنيا والآخرة جميعا لوجود حقيقته بعد وجود الاهلية للاداء، فإن حقيقته يكون بالتصديق بالقلب والاقرار باللسان، ومن رجع إلى نفسه علم أنه في مثل هذه الحالة كان يعتقد وحدانية الله تعالى بقلبه، والاقرار منه مسموع لا يشك فيه ولا في كونه صادقا فيما يقر به، والحكم بوجود الشيء يبتنى على وجود حقيقته،

ص 342

قال فيمن وطئ جارية امرأته: فإن طاوعته فهي له وعليه مثلها، وإن استكرهها فهي حرة وعليه مثلها فإن القياس الصحيح يرد هذا الحديث ويتبين أنه كالمخالف للكتاب والسنة المشهورة والاجماع. ثم هذا النوع من القصور لا يتوهم في الراوي إذا كان فقيها لان ذلك لا يخفى عليه لقوة فقهه، فالظاهر أنه إنما روى الحديث بالمعنى عن بصيرة فإنه علم سماعه (من رسول الله كذلك مخالفا للقياس ولا تهمة في روايته فكأنما سمعنا ذلك) من رسول الله (ص) فيلزمنا ترك كل قياس بمقابلته، ولهذا قلت رواية الكبار من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، ألا ترى إلى ما روي عن عمرو بن ميمون قال صحبت ابن مسعود سنين فما سمعته يروي حديثا إلا مرة واحدة، فإنه قال سمعت رسول الله (ص) ثم أخذه البهر والفرق وجعلت فرائصه ترتعد فقال نحو هذا أو قريبا منه أو كلاما هذا معناه، سمعت رسول الله (ص) يقول كذا. فبهذا يتبين أن الوقوف على ما أراده رسول الله (ص) من معاني كلامه كان عظيما عندهم فلهذا قلت رواية الفقهاء منهم، فإذا صحت الرواية عنهم فهو متقدم على القياس. ومع هذا كله فالكبار من أصحابنا يعظمون رواية هذا النوع منهم ويعتمدون قولهم، فإن محمدا رحمه الله ذكر عن أبي حنيفة رحمه الله أنه أخذ بقول أنس بن مالك رضي الله عنه في مقدار الحيض وغيره، وكان درجة أبي هريرة فوق درجته، فعرفنا بهذا أنهم ما تركوا العمل بروايتهم إلا عند الضرورة لانسداد باب الرأي من الوجه الذي قررنا. فأما المجهول فإنما نعني بهذا اللفظ من لم يشتهر بطول الصحبة مع رسول الله (ص) إنما عرف بما روي من حديث أو حديثين، نحو وابصة بن معبد، وسلمة بن المحبق، ومعقل بن سنان الاشجعي رضي الله عنهم وغيرهم. ورواية هذا النوع على خمسة أوجه: أحدها أن يشتهر لقبول الفقهاء روايته والرواية عنه، والثاني أن يسكتوا عن الطعن فيه بعدما يشتهر، والثالث أن يختلفوا في الطعن في روايته، والرابع أن يطعنوا في روايته من غير خلاف بينهم في ذلك، والخامس أن لا تظهر روايته ولا الطعن فيه فيما بينهم. أما من قبل السلف منه روايته وجوزوا النقل عنه

ص 343

فهو بمنزلة المشهورين في الرواية، لانهم ما كانوا متهمين بالتقصير في أمر الدين، وما كانوا يقبلون الحديث حتى يصح عندهم أنه يروى عن رسول الله (ص)، فإما أن يكون قبولهم لعلمهم بعدالته وحسن ضبطه، أو لانه موافق لما عندهم مما سمعوه من رسول الله (ص) أو من بعض المشهورين يروى عنه. وكذلك إن سكتوا عن الرد بعد ما اشتهر روايته عندهم، لان السكوت بعد تحقق الحاجة لا يحل إلا على وجه الرضا بالمسموع، فكان سكوتهم عن الرد دليل التقرير، بمنزلة ما لو قبلوه وردوا عنه. وكذلك ما اختلفوا في قبوله وروايته عنه عندنا، لانه حين قبله بعض الفقهاء المشهورين منهم فكأنما روى ذلك بنفسه. وبيان هذا في حديث معقل بن سنان أن رسول الله (ص) قضى لبروع بنت واشق الاشجعية بمهر مثلها حين مات عنها زوجها ولم يسم لها صداقا فإن ابن مسعود رضي الله عنه قبل روايته وسر به لما وافق قضاءه قضاء رسول الله (ص)، وعلي رضي الله عنه رده فقال: ماذا نصنع بقول أعرابي بوال على عقبه حسبها الميراث لا مهر لها. فلما اختلفوا فيه في الصدر الاول أخذنا بروايته، لان الفقهاء من القرن الثاني كعلقمة ومسروق والحسن ونافع بن جبير قبلوا روايته فصار معدلا بقبول الفقهاء روايته. وكذلك أبو الجراح صاحب راية الاشجعيين صدقه في هذه الرواية. وكأن عليا رضي الله عنه إنما لم يقبل روايته لانه كان مخالفا للقياس عنده، وابن مسعود رضي الله عنه قبل روايته لانه كان موافقا للقياس عنده. فتبين بهذا أن رواية مثل هذا فيما يوافق القياس يكون مقبولا ثم العمل يكون بالرواية. وأما إذا ردوا عليه روايته ولم يختلفوا في ذلك فإنه لا يجوز العمل بروايته، لانهم كانوا لا يتهمون برد الحديث الثابت عن رسول الله (ص) ولا بترك العمل به وترجيح الرأي بخلافه عليه، فاتفاقهم على الرد دليل على أنهم كذبوه في هذه الرواية وعلموا أن ذلك وهم منه. ولو قال الراوي أوهمت لم يعمل بروايته، فإذا ظهر دليل ذلك ممن هو فوقه أولى. وبيان هذا في حديث فاطمة بنت قيس، فإن عمر رضي الله عنه قال: لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت. قال عيسى

ص 344

يسترق والاسترقاق عقوبة على وجه الجزاء على الكفر، فإن الكفار حين أنكروا وحدانية الله تعالى جازاهم على ذلك فجعلهم عبيد عبيده، وفي الاسترقاق إتلاف حكمي بطريق الجزاء لم يثبت استحقاقه، فكيف لا يثبت استحقاق الاتلاف الحقيقي إذا صحت ردته شرعا؟ قلنا: أما الضرب إذا أساء الادب فهو تأديب للرياضة في المستقبل وليس بجزاء على الفعل الماضي منه بطريق العقوبة، بمنزلة ضرب الدواب للتأديب، وقد ورد الشرع به فقال: (تضرب الدابة على النفار ولا تضرب على العثار) وأما الاسترقاق فليس بطريق الجزاء ولكن ما كان مباحا غير معصوم وهو محل التملك كالصيود، وذراري أهل الحرب بهذه الصفة. فإن قيل: فقد قلتم العصمة للآدمي أصل ثم زوال هذه العصمة الثابتة كرامة تكون بطريق الجزاء قلنا: لا كذلك ولكن زوال هذه العصمة كزوال صفة الصحة التي هي نعمة بالمرض، وصفة الحياة بالموت وصفة الغنى بملك المال بالفقر بهلاك المال، وأحد لا يقول إن ذلك جزاء بطريق العقوبة. فأما ما يتردد من حقوق الله تعالى ويحتمل أن لا يكون مشروعا في بعض الاوقات أو لا يكون حسنا في بعض الاوقات فإنه يثبت حكم صحة الاداء فيه قبل البلوغ باعتبار الاهلية القاصرة، ولا يثبت وجوب الاداء المالي والبدني فيه سواء كالصلاة والصوم والزكاة والحج عندنا، فإن في وجوب الاداء قبل اعتدال الحال إلزام العهدة وفي صحة الاداء فيما كان منه بدنيا محض المنفعة، لانه يعتاد أداءها فلا يشق ذلك عليه بعد البلوغ، ولهذا صح منه التنفل بجنس هذه العبادات بعد أداء ما هو مشروع بصفة الفرضية في حق البالغين، وما كان منه ماليا ففي صحة الاداء منه إضرار به في العاجل باعتبار نقصان ملكه فيبتنى ذلك على الاهلية الكاملة، ثم ليس من ضرورة صحة أداء البدني اللزوم، فإن من شرع في صوم أو صلاة على ظن أنها عليه ثم تبين أنها ليست عليه يصح منه الاتمام مع انعدام صفة اللزوم حتى إذا فسد لا يجب القضاء، وفي الحج إذا شرع بالظن ثم تبين أنه ليس عليه تنعدم صفة اللزوم حتى إذا أحصر فتحلل لم يلزمه القضاء ويصح الاتمام منه بعد انتفاء صفة اللزوم. والخصم

ص 345

يفرق بين المالي والبدني في هذا النوع باعتبار أن المالي يقبل النيابة في الاداء فيتوجه الخطاب بالاداء في حقه على أن ينوب الولي عنه في الاداء، والبدني لا يحتمل هذه النيابة، فلو توجه عليه الخطاب به لحقه العهدة بسببه فربما يعجز عن الاداء لصغره، ثم يتضاعف عليه وجوب الاداء بعد البلوغ فيلحقه الحرج، فلدفع الحرج قلنا لا يثبت في حقه خطاب الاداء فيما هو بدني، وهذا لا معنى له، لان الواجب في الموضعين الفعل، فالاقامة والايتاء كل واحد منهما فعل، وقد بينا أن هذا الفعل لازم بطريق القربة وذلك لا يتحقق بأداء الولي، إذ الولاية ثابتة عليه شرعا بغير اختياره، وبمثل هذه الولاية لا تتأدى العبادة. ثم هو لا يلزمه الخطاب بالايمان كما هو مذهبنا، ولو كان المعنى فيه الحرج الذي يلحقه بتضاعف الاداء بعد البلوغ لكان الخطاب بالايمان يثبت في حقه لانه بدني، ولا يتضاعف وجوب الاداء عليه بعد البلوغ لتوجه الخطاب في حالة الصغر، بل ينبني عليه صحة الاداء فرضا على مذهبه، وقد جوز مثل هذا في العبادات البدنية لتوفير المنفعة عليه حتى قال: إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره فإن المؤدى يجوز عن الفرض، لان سقوط الخطاب لمعنى النظر، ومعنى النظر هنا في توجه الخطاب عليه في أول الوقت حتى لا تلزمه الاعادة. وكذلك قال: إذا أحرم بالحج ثم بلغ قبل الوقوف فإن حجه يكون عن الفرض، لان معنى النظر هنا في إلزام الخطاب إياه سابقا على الاحرام، فكان ينبغي أن يقول مثل هذا في الايمان. ونحن أثبتنا هذا في الصلاة والاحرام، لان توجه الخطاب لما كان لا يثبت إلا بعد البلوغ مقصورا عليه فالمؤدي قبله إذا كان بحيث يتردد بين الفرض والنفل لا يمكن أن يجعل فرضا بحال، أرأيت لو صلى رجل بعد زوال الشمس أربع ركعات قبل نزول فرضية الظهر ثم نزلت فرضية الظهر قبل مضي الوقت أكان ذلك جائزا عن فرضه؟ هذا شيء لا يقول به أحد. وعلى هذا قلنا: إحرامه صحيح باعتبار الاهلية القاصرة ولكن لا تلزمه الكفارات بارتكاب المحظورات،

ص 346

الكذب محظور عقله فنستدل بانزجاره عن سائر ما نعتقده محظورا على انزجاره عن الكذب الذي نعتقده محظورا، أو لما كان منزجرا عن الكذب في أمور الدنيا فذلك دليل انزجاره عن الكذب في أمور الدين وأحكام الشرع بالطريق الاولى، فأما إذا لم يكن عدلا في تعاطيه فاعتبار جانب تعاطيه يرجح معنى الكذب في خبره، لانه لما لم يبال من ارتكاب سائر المحظورات مع اعتقاده حرمته فالظاهر أنه لا يبالي من الكذب مع اعتقاده حرمته، واعتبار جانب اعتقاده يدل على الصدق في خبره فتقع المعارضة ويجب التوقف، وإذا كان ترجيح جانب الصدق باعتبار عدالته وبه يصير الخبر حجة للعمل شرعا، فعرفنا أن العدالة في الراوي شرط لكون خبره حجة. فأما اشتراط الإسلام: لانتفاء تهمة الكذب لا باعتبار نقصان حال المخبر بل باعتبار زيادة شيء فيه يدل على كذبه في خبره، وذلك لان الكلام في الاخبار التي يثبت بها أحكام الشرع، وهم يعادوننا في أصل الدين بغير حق على وجه هو نهاية في العداوة فيحملهم ذلك على السعي في هدم أركان الدين بإدخال ما ليس منه فيه، وإليه أشار الله تعالى في قوله: *(لا يألونكم خبالا)*: أي لا يقصرون في الافساد عليكم، وقد ظهر منهم هذا بطريق الكتمان، فإنهم كتموا نعت رسول الله (ص) ونبوته من كتابه بعدما أخذ عليهم الميثاق بإظهار ذلك فلا يؤمنون من أن يقصدوا مثل ذلك بزيادة هي كذب لا أصل له بطريق الرواية، بل هذا هو الظاهر، فلاجل هذا شرطنا الإسلام في الراوي لكون خبره حجة، ولهذا لم نجوز شهادتهم على المسلمين، لان العداوة ربما تحملهم على القصد للاضرار بالمسلمين بشهادة الزور، كما لا تقبل شهادة ذي الضغن لظهور عداوته بسبب الباطن، وقبلنا شهادة بعضهم على بعض لانعدام هذا المعنى الباعث على الكذب فيما بينهم. وبهذا تبين أن رد خبره ليس لعين الكفر بل لمعنى زائد يمكن تهمة الكذب في خبره، بمنزلة شهادة الاب للولد فإنها لا تكون مقبولة لمعنى زائد يمكن تهمة الكذب في شهادته وهو شفقة الابوة وميله إلى ولده طبعا. وأما بيان حد هذه الشروط وتفسيرها فنقول: العقل نور في الصدر به يبصر

ص 347

القلب عند النظر في الحجج بمنزلة السراج، فإنه نور تبصر العين به عند النظر فترى ما يدرك بالحواس لا أن السراج يوجب رؤية ذلك ولكنه يدل العين عند النظر عليه، فكذلك نور الصدر الذي هو العقل يدل القلب على معرفة ما هو غائب عن الحواس من غير أن يكون موجبا لذلك، بل القلب يدرك (بالعقل) ذلك بتوفيق الله تعالى، وهو في الحاصل عبارة عن الاختيار الذي يبتنى عليه المرء ما يأتي به وما يذر مما لا ينتهي إلى إدراكه سائر الحواس، فإن الفعل أو الترك لا يعتبر إلا لحكمة وعاقبة حميدة، ولهذا لا يعتبر من البهائم لخلوه عن هذا المعنى، والعاقبة الحميدة لا تتحقق فيما يأتي به الانسان من فعل أو ترك له إلا بعد التأمل فيه بعقله، فمتى ظهرت أفعاله على سنن أفعال العقلاء كان ذلك دليلا لنا على أنه عاقل مميز وأن فعله وقوله ليس يخلو عن حكمة وعاقبة حميدة، وهذا لان العقل لا يكون موجودا في الآدمي باعتبار أصله ولكنه خلق من خلق الله تعالى يحدث شيئا فشيئا، ثم يتعذر الوقوف على وجود كل جزء منه بحسب ما يمضي من الزمان على الصبي إلى أن يبلغ صفة الكمال، فجعل الشرع الحد لمعرفة كمال العقل هو البلوغ تيسيرا للامر علينا، لان اعتدال الحال عند ذلك يكون عادة والله تعالى هو العالم حقيقة بما يحدثه من ذلك في كل أحد من عباده من نقصان أو كمال، ولكن لا طريق لنا إلى الوقوف على حد ذلك، فقام السبب الظاهر في حقنا مقام المطلوب حقيقة تيسيرا، وهو البلوغ مع انعدام الآفة، ثم يسقط اعتبار ما يوجد من العقل للصبي قبل هذا الحد شرعا لدفع الضرر عنه لا للاضرار به، فإن الصبا سبب للنظر له، ولهذا لم يعتبر فيما يتردد بين المنفعة والمضرة ويعتبر فيما يتمخض منفعة له. ثم خبره في أحكام الشرع لا يكون حجة للالزام دفعا لضرر العهدة عنه كما لا يجعل وليا في تصرفاته في أمور الدنيا دفعا لضرر العهدة عنه، ولهذا صح سماعه وتحمله للشهادة قبل البلوغ إذا كان مميزا، فقد كان في الصحابة من سمع في حالة الصغر وروي بعد البلوغ وكانت روايته مقبولة، لانه ليس في ذلك من معنى ضرر لزوم العهدة شيء، وإنما يكون ذلك في الاداء، فيشترط لصحة أدائه على وجه يكون حجة كونه عاقلا مطلقا، ولا يحصل ذلك إلا

ص 348

استحق الرضخ، لان ذلك محض منفعة يثبت بالاهلية القاصرة كالاحتطاب والاحتشاش، وينبغي أن يكون هذا على أصل الخصم أيضا، فإنه يقول: كل منفعة من هذا الجنس يصلح له بوليه فإنه لا يكون أهلا لتحصيل ذلك لنفسه بنفسه، وما لا يحصل له بوليه يكون هو أهلا لتحصيله ذلك لنفسه. وفي قبول الهبة والصدقة له قولان: في أحدهما لا يصح ذلك منه بنفسه ويصح من الولي ذلك في حقه، وفي القول الآخر على عكس هذا. ثم استحقاق الرضخ بسبب القتال محض منفعة لا يمكن تحصيله له من قبل الولي بمباشرته سببه فينبغي أن يجعل هو أهلا لتحصيله لنفسه بمباشرته سببه. فأما ما هو ضرر محض فنحو إبطال الملك في الطلاق والعتاق، ونقل الملك بالهبة والصدقة، فإنه محض ضرر في العاجل لا يشوبه منفعة، ولهذا ينبني صحته شرعا على الاهلية الكاملة فلا يثبت بالاهلية القاصرة حتى لا يملكه الصبي بنفسه ولا بواسطة الولي إذا باشر ذلك في حقه. وزعم بعض مشايخنا أن هذا الحكم غير مشروع في حق الصبي أصلا حتى إن امرأته لا تكون محلا للطلاق. قال رضي الله عنه: وهذا عندي وهم، فإن الطلاق يملك بملك النكاح إذ لا ضرر في إثبات أصل الملك وإنما الضرر في الايقاع، حتى إذا تحققت الحاجة إلى صحة إيقاع الطلاق من جهته لدفع الضرر كان صحيحا، وبهذا يتبين فساد قول من يقول: إنا لو أثبتنا ملك الطلاق في حقه كان خاليا عن حكمه وهو ولاية الايقاع، والسبب الخالي عن حكمه غير معتبر شرعا كبيع الحر وطلاق البهيمة، فإن الحكم ثابت في حقه عند الحاجة حتى إذا أسلمت امرأته وعرض عليه الإسلام فأبى فرق بينهما وكان ذلك طلاقا في قول أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما، وإذا ارتد وقعت الفرقة بينه وبين امرأته وكان طلاقا في قول محمد، وإذا وجدته امرأته مجبوبا فخاصمت في ذلك فرق بينهما. ولم يبين في الجامع أن هذه الفرقة تكون بطلاق أم لا. وقال بعض مشايخنا إنها تكون بطلاق اكتفاء

ص 349

بالاهلية القاصرة عند تحقق الحاجة إلى دفع الضرر عنها. وقال بعضهم: هذه تكون بغير طلاق، لان الصبي المميز والرضيع الذي لا يعقل في هذا الحكم سواء، وينعدم في حق الرضيع الاهلية القاصرة والكاملة جميعا. وإذا كاتب الاب أو الوصي نصيب الصغير من عبد مشترك بينه وبين غيره واستوفى بدل الكتابة صار الصبي معتقا بنصيبه حتى يضمن قيمة نصيب شريكه إن كان موسرا، وهذا الضمان لا يجب إلا بالاعتاق فيكفي بالاهلية القاصرة في جعله معتقا للحاجة إلى دفع الضرر عن الشريك، فعرفنا أن الحكم ثابت في حقه عند الحاجة، فأما بدون الحاجة لا يجعل ثابتا، لان الاكتفاء بالاهلية القاصرة لتوفير المنفعة على الصبي وهذا المعنى لا يتحقق فيما هو ضرر محض. فأما ما يتردد بين المنفعة والضرر فنحو المعاوضات كالبيع والشراء والنكاح، وهذا ثابت في حق الصبي عند مباشرة الولي أو عند المباشرة بإذن الولي، لان معنى توفير المنفعة فيه متوهم، وكذلك معنى الضرر ولا يندفع معنى الضرر إلا بالرأي الكامل وذلك يحصل عند مباشرة الولي أو عند مباشرة الصبي بعد استطلاع رأي الولي، فإذا اندفع توهم الضرر التحق بما تتمخض فيه المنفعة فيكون للصبي فيه عبارة صحيحة بالاهلية القاصرة، وهذا لان بهذه الاهلية اعتبرت عبارته في تصحيح التصرف شرعا في حق الغير فلان يعتبر في حق نفسه كان أولى. والمعنى فيه ما بينا أن في تصحيح عبارته نوع منفعة لا تحصل له تلك المنفعة بمباشرة الولي، ثم فيه فتح طريق يحصل المقصود عليه من وجهين: أحدهما بمباشرته بنفسه، والآخر بمباشرة الولي فيكون ذلك أنفع منه إذا كان الطريق واحدا، وقد بينا أن بالاهلية القاصرة يثبت ما فيه توفير المنفعة عليه. ثم على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه لما صار الرأي القاصر في حقه مجبورا بانضمام رأي الولي إليه التحقق بالبالغ حتى نفذ تصرفه بالغبن الفاحش مع الاجانب كما ينفذ من البالغ، ولما اندفع معنى توهم الضرر برأي الولي جعل بمنزلة ما لو اندفع ذلك برأيه الكامل بعد البلوغ فينفذ تصرفه بالغبن الفاحش

ص 350

والمقصود ما في باطن الكتاب لا عين الكتاب فلا يتم ضبطه إلا بمعرفة ذلك، ولهذا استحب المتقدمون من السلف تقليل الرواية، ومن كان أكرمهم وأدوم صحبة وهو الصديق رضي الله عنه كان أقلم رواية، حتى روي عنه أنه قال: إذا سئلتم عن شيء فلا ترووا ولكن ردوا الناس إلى كتاب الله تعالى. وقال عمر رضي الله عنه: أقلوا الرواية عن رسول الله (ص) وأنا شريككم. ولما قيل ل‍ زيد بن أرقم ألا تروي لنا عن رسول الله (ص) شيئا فقال: قد كبرنا ونسينا والرواية عن رسول الله شديد. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن رسول الله (ص) فأما إذا ركبتم الصعب والذلول فهيهات! فقد جمع أهل الحديث في هذا الباب آثارا كثيرة ولاجلها قلت رواية أبي حنيفة رضي الله عنه حتى قال بعض الطاعنين إنه كان لا يعرف الحديث. ولم يكن على ما ظن، بل كان أعلم أهل عصره بالحديث، ولكن لمراعاة شرط كمال الضبط قلت روايته. وبيان هذا أن الانسان قد ينتهي إلى مجلس وقد مضى صدر من الكلام فيخفى على المتكلم حاله لتوقفه على ما مضى من كلامه مما يكون بعده بناء عليه، فقلما يتم ضبط هذا السامع لمعنى ما يسمع بعدما فاته أول الكلام، ولا يجد في تأمل ذلك أيضا، لانه لا يرى نفسه أهلا بأن يؤخذ الدين عنه، ثم يكون من قضاء الله تعالى أن يصير صدرا يرجع إليه في معرفة أحكام الدين، فإذا لم يتم ضبطه في الابتداء لم ينبغ له أن يجازف في الرواية، وإنما ينبغي أن يشتغل بما وجد منه الجهد التام في ضبطه فيستدل بكثرة الرواية ممكن كان حاله في الابتداء بهذه الصفة على قلة المبالاة، ولهذا ذم السلف الصالح كثرة الرواية، وهذا معنى معتبر في الروايات والشهادات جميعا، ألا ترى أن من اشتهر في الناس بخصلة دالة على قلة المبالات من قضاء الحاجة بمرأى العين من الناس أو الاكل في الاسواق يتوقف في شهادته. فهذا بيان تفسير الضبط. وأما العدالة: فهي الاستقامة. يقال: فلان عادل إذا كان مستقيم السيرة في الانصاف والحكم بالحق. وطريق عادل، سمى به الجادة، وضده الجور. ومنه يقال: طريق جائر إذا كان من البنيات. ثم العدالة نوعان: ظاهرة. وباطنة. فالظاهرة

ص 351

تثبت بالدين والعقل على معنى أن من أصابها فهو عدل ظاهرا، لانهما يحملانه على الاستقامة ويدعوانه إلى ذلك. والباطنة لا تعرف إلا بالنظر في معاملات المرء، ولا يمكن الوقوف على نهاية ذلك لتفاوت بين الناس فيهما، ولكن كل من كان ممتنعا من ارتكاب ما يعتقد الحرمة فيه فهو على طريق الاستقامة في حدود الدين. وعلى هذه العدالة نبني حكم رواية الخبر في كونه حجة، لان ما تثبت به العدالة الظاهرة يعارضه هوى النفس الشهوة الذي تصده عن الثبات على طريق الاستقامة، فإن الهوى أصل فيه سابق على إصابة العقل، ولا يزايله بعدما رزق العقل، وبعدما اجتمعا فيه يكون عدلا من وجه دون وجه، فيكون حاله كحال الصبي العاقل والمعتوه الذي يعقل من جملة العقلاء، وقد بينا أن المطلق يقتضي الكامل، فعرفنا أن العدل مطلقا من يترجح أمر دينه على هواه، ويكون ممتنعا بقوة الدين عما يعتقد الحرمة فيه من الشهوات، ولهذا قال في كتاب الشهادات: إن من ارتكب كبيرة فإنه لا يكون عدلا في الشهادة، وفيما دون الكبيرة من المعاصي إن أصر على ارتكاب شيء لم يكن مقبول الشهادة. وكان ينبغي أن لا يكون مقبول الشهادة أصر أو لم يصر، لانه فاسق بخروجه عن الحد المحدود له شرعا، والفاسق لا يكون عدلا في الشهادة، إلا أن في القول بهذا سد الباب أصلا فغير المعصوم لا يتحقق منه التحرر عن الزلات أجمع، لان لله تعالى على العباد في كل لحظة أمرا ونهيا يتعذر عليهم القيام بحقهما، ولكن التحرر عن الاصرار بالندم والرجوع عنه غير متعذر، والحرج مدفوع، وليس في التحرز عن ارتكاب الكبائر الموجبة للحد معنى الحرج، فلهذا بنينا حكم العدالة على التحرز المتأتي عما يعتقد الحركة فيه، ولهذا قلنا صاحب الهوى إذا كان ممتنعا عما يعتقد الحرمة فيه فهو مقبول الشهادة وإن كان فاسقا في اعتقاده ضالا، لانه بسبب الغلو في طلب الحجة والتعمق في اتباعه أخطأ الطريق فضل عن سواء السبيل، وشدة اتباع الحجة لا تمكن تهمة الكذب في شهادته وإن أخطأ الطريق، وكذلك الكافر من أهل الشهادة إذا كان عدلا في تعاطيه بأن كان منزجرا عما يعتقد الحرمة فيه، إلا أنه غير مقبول الشهادة على المسلمين

ص 352

الفصول على شيء معلوم، فإنه يعتبر عبارته في الاختيار بين الابوين لالزام الحكم به، ولا يعتبر عبارته في الحكم بإسلامه إذا سمع منه الاقرار به، ولا شك أن المنفعة في هذا أظهر في الدنيا والآخرة، وتعتبر عبارته في الوصية والتدبير ولا تعتبر في صحة البيع والشراء، ومعنى المنفعة فيه أظهر منه في الوصية، وإنما له حرف واحد يطرده في جميع هذه الفصول، وهو أن كل منفعة يمكن تحصليها له بمباشرة وليه لا تعتبر عبارته في ذلك، وما لا يمكن تحصيله به بمباشرة وليه تعتبر عبارته فيه، فالمنفعة المقصودة من البيع والشراء يمكن تحصيلها به بمباشرة الولي، والمنفعة المطلوبة بالوصية لا يمكن تحصيلها به بمباشرة الولي، وكذلك المنفعة التي له باختيار أحد الابوين لا يمكن تحصيلها له بمباشرة الولي فتعتبر عبارته في ذلك، والمنفعة المطلوبة بالاسلام يمكن تحصيلها به بمباشرة الولي، فإنه يصير مسلما بإسلام أحد الابوين تبعا وإن كان عاقلا فلا تعتبر عبارته في ذلك. وقرر الشافعي رحمه الله هذا من طريق الفقه فقال: كونه موليا عليه سمة العجز، وكونه وليا دليل القدرة وبينهما مغايرة على سبيل المضادة فلا يجوز اجتماعهما. قال الشافعي: ولهذا لا أصحح ردته بنفسه، لان حكم الردة في حقه لما كان يثبت بطريق التبعية للابوين يسقط اعتبار مباشرته لذلك بنفسه. ثم قرر الشافعي رحمه الله هذا فقال: إذا أسلم أحد أبويه يحكم بإسلامه مع كونه معتقدا للكفر بنفسه، فإذا كان لا يعتبر اعتقاده في استدامة ما كان ثابتا في حقه فلان لا يعتبر اعتقاده في إثبات ما لم يكن ثابتا كان أولى. ولكنا نقول: هذا شيء نطرده من غير أن نتبين صحته بدليل شرعي، فإنه لا منافاة بين تحصيل منفعة له بواسطة الولي في حالة وبين تحصيل تلك المنفعة له بمباشرته بنفسه في حالة أخرى، ألا ترى أنه يصير مسلما بإسلام أبيه تارة وبإسلام أمه أخرى، وإنما تتحقق هذه (المنافاة) في حالة واحدة، ونحن إذا جعلناه مسلما بإسلام نفسه لا نجعله تبعا في تلك الحالة، وفي الحال الذي يكون تبعا لابويه لا يكون مسلما بإسلام نفسه، وما هذا إلا نظير العبد يكون تبعا لمولاه في السفر والاقامة في حالة واحدة،

ص 353

ويكون أصلا بنفسه في حالة. وهو إذا خلى المولى بينه وبين ذلك، وهذا لما في تصحيح عبارته من تحصيل منفعة مقصودة له لا يحصل ذلك بمباشرة الولي بما في توسيع الطرق عليه من المنفعة التي لا تحصل إذا كان جهة الاصابة واحدا عينا، وإذا أسلم أحد أبويه فإنما نجعله مسلما تبعا، لانه في نفسه غير معتقد شيئا ولا واصف لشيء سوى ذلك، حتى لو علم أنه معتقد للكفر بأن وصف ذلك نجعله مرتدا ونجعل حكمه كحكم من أسلم بنفسه ثم ارتد (نعود بالله تعالى) بعد ذلك. فهذا تمام البيان فيما ينبني على الاهلية القاصرة والكاملة، والله أعلم بالحقيقة والصواب. وفي نهاية نسخة المكتبة الاحمدية: تم الكتاب ونجز وهذا آخره، ووافق الفراغ من كتابته يوم الثلاثاء العشرين من شهر ربيع الاول، سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، على يد العبد الفقير إلى ربه، المعترف بذنبه، الراجي عفو ربه: عمر بن أحمد بن محمد الجرهمي الحنفي عفا الله تعالى عنهم أجمعين تكرما، بالمدرسة المقدمية الجولينية الحنفية، بدمشق المحروسة، رحم الله واقفها ونور ضريحه، الحمد لله رب العالمين، وصلواته على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلامه.

 

الصفحة السابقة

أصول السرخسي

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب