ص 356
واعتبار آرائهم شواذ من بين الاراء، فقد قال المنصور: اجعل العلم يا أبا عبد الله
علما واحدا. هذا والمعروف ان مالكا قد وضع الموطأ وما كان يفرغ منه حتى مات المنصور
(1)، أي أنه ألفه في أواخر عهد المنصور. واتفق المؤرخون على أن مالكا بدأ بكتابة
الموطأ سنه 148، واستمر يعيد النظر فيه ويمحصه ويحققه حتى انتهى منه سنة 159 (2)،
وهو دليل على أن فكرة التدوين كانت بعد الظفر بمحمد وإبراهيم ابني عبد الله بن
الحسن. على أننا لا ننكر ان المنصور - قبل قيام النفس الزكية - قد فكر في تدوين هذا
الأمر وشجع العلماء على ذلك، وانهم كانوا بالفعل قد بدأوا في تأصيل العلوم، نقل
السيوطي في تاريخ الخلفاء عن الذهبي: (في سنة 143 شرع علماء الإسلام في تدوين
الحديث والفقه والتفسير فصنف ابن جريح بمكة، ومالك الموطأ بالمدينة، والأوزاعي
بالشام، وابن أبي عروية وحماد بن سلمة بالبصرة، ومعمر باليمن، وسفيان الثوري
بالكوفة، وصنف ابن إسحاق المغازي، وصنف أبو حنيفة الفقه بالرأي....) (3) وبهذا تجلى
ان وضع الموطأ وتدوينه كان حكوميا.
سياسة الترهيب والترغيب تجاه الفقهاء
نقل الصيمري في أخبار أبي حنيفة، وابن قتيبة في الأمامة والسياسة وغيرهم عن الأمام مالك
سبب خوف المنصور وحيطته من أهل المدينة وأصحاب الأثر في أوائل الأمر، بقوله: لما
ولي أبو جعفر المنصور الخلافة وأتي إليه الملاقون المشاؤون بالنميمة عني بكلام كان
قد حفظ علي، فأتاني رسوله ليلا ونحن بمنى وقال: أجب أمير المؤمنين، وذلك بعد
مفارقتي له وخروجي عنه، فلم أشك انه
(هامش)
(1) انظر: حياة مالك، لأبي زهرة: ص 180، ترتيب المدارك 1: 192. (2) انظر: الأئمة
الأربعة، للشرباصي: ص 92، إسلام بلا مذاهب: ص 415، الأئمة الأربعة، لشكعة: ص 412.
(3) انظر: تاريخ الخلفاء: ص 261. وغيره من كتب التاريخ. (*)
ص 357
القتل، ففرغت من عهدي، واغتسلت وتوضأت ولبست كفني وتحفظت ثم نهضت فدخلت عليه
السرادق، وهو قاعد على فراش قد نظم بالدر الأبيض والياقوت الأحمر والزمرد الأخضر،
وابن أبي ذؤيب وابن سمعان قاعدان بين يديه. ثم التفت إلي وقال: أما بعد - معشر
الفقهاء - فقد بلغ أمير المؤمنين عنكم ما أخشى صدره، وضاق به ذرعه، وكنتم أحق الناس
بالكف عن ألسنتكم، والأخذ بما يشبهكم، وأولى الناس بلزوم الطاعة والمناصحة في السر
والعلانية لمن استخلفه الله عليكم. قال مالك، فقلت: يا أمير المؤمنين، قال الله
تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا. فقال أبو جعفر: ذلك أي
الرجال أنا عندكم؟ أمن أئمة العدل أم من أئمة الجور؟ فقال مالك: يا أمير المؤمنين،
انا نتوسل إليك بالله تعالى وأتشفع إليك بمحمد وبقرابتك منه إلا ما أعفيتني عن
الكلام في هذا. فقال: قد أعفاك أمير المؤمنين. ثم التفت إلى ابن سمعان فقال له:
أيها القاضي، ناشدتك الله تعالى، أي الرجال أنا عندك؟ فقال ابن سمعان: أنت والله
خير الرجال يا أمير المؤمنين، تحج بيت الله الحرام، وتجاهد العدو، وتؤمن السبل
ويأمن الضعيف بك أن يأكله القوي وبك قوام الدين، فأنت خير الرجال وأعدل الأئمة. ثم
التفت إلى ابن أبي ذؤيب فقال له: ناشدتك الله، أي الرجال أنا عندك؟ فقال: أنت والله
عندي شر الرجال، استأثرت بما لله ورسوله، وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين،
وأهلكت الضعيف، وأتعبت القوي، وأمسكت أموالهم فما حجتك غدا بين يدي الله؟ فقال له
المنصور: ويحك ما تقول؟ أتعقل؟ انظر ما أمامك؟ قال: نعم، قد رأيت أسيافا، وإنما هو
الموت ولابد منه، عاجله خير من آجله. ثم خرجا وجلست، قال المنصور: اني لأجد رائحة
الحنوط عليك؟ قلت: أجل لما نمى إليك عني ما نمى جاءني رسولك في الليل ظننت القتل،
ص 358
فاغتسلت وتطيبت ولبست كفني. فقال أبو جعفر: سبحان الله، ما كنت لأثلم الإسلام وأسعى
في نقضه، أو ما تراني أسعى في أود الإسلام، واعزاز الدين، عائذا الله مما قلت يا
أبا عبد الله، انصر ف إلى مصيرك راشدا مهديا وإن أحببت ما عندنا فنحن ممن لا يؤثر
عليك أحدا، ولا يعدل بك مخلوقا. فقلت: إن يجبرني أمير المؤمنين على ذلك فسمعا وطاعة
وإن يخيرني أمير المؤمنين أخترت العافية. فقال: ما كنت لأجبرك ولا أكرهك، انقلب
معافى مكلوءا. قال: فبت ليلتي، فلما أصبحنا أمر أبو جعفر بصرر دنانير في كل صرة
خمسة آلاف دينار، ثم دعا برجل من شرطته فقال له: تقبض هذا المال، وتدفع لكل رجل
منهم صرة، أما مالك بن أنس إن أخذها فبسبيله وإن ردها لا جناح عليه فيما فعل، وإن
أخذها ابن أبي ذؤيب، فأتني برأسه وإن ردها عليك فبسبيله لا جناح عليه، وإن يكن ابن
سمعان ردها فأتني برأسه وإن أخذها فهي عافيته. فنهض إلى القوم، فأما ابن سمعان
فأخذها فسلم، وأما ابن أبي ذؤيب فردها فسلم، وأما أنا فكنت والله محتاجا إليها
فأخذتها، ثم رحل أبو جعفر متوجها إلى العراق (1). وجاء في غالب كتب التاريخ أن
سفيان الثوري لقي المنصور بمنى سنة 140 أو 144 واعترض على إسراف المنصور وتبذيره..
فقال له المنصور: فإنما تريد أن أكون مثلك؟ فقال الثوري: لا تكن مثلي، ولكن كن دون
ما أنت منه، وفوق ما أنا فيه فقال له المنصور: أخرج. فخرج الثوري من عنده وأتى
الكوفة فجعل يأخذ عليه ما يفعل بالمسلمين من الجور والقهر، فصبر عليه المنصور مدة،
وأخيرا أمر بأخذه، فاختفى. ولما
(هامش)
(1) الأمامة والسياسة 2: 144 - 145، أخبار أبي حنيفة: ص 59، موقف العباسيين: ص 195.
(*)
ص 359
مات أبو جعفر 158 ظن الثوري ان الخلاف الذي بينه وبين الحكومة قد دفن معه، وكان قد
عاش الشدة حين اختفائه بمكة، فجاء إلى المهدي وسلم عليه تسليم العامة. فقال له
المهدي: يا سفيان، تفر منا ههنا وههنا، وتظن انا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك، فقد
قدرنا عليك الان، إنما تخشى أن نحكم فيك بهوانا؟ قال سفيان: إن تحكم في بحكم، يحكم
فيك ملك قادر يفرق بين الحق والباطل. فقال الربيع للمهدي - وكان قائما على رأس
سفيان -: ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ ائذن لي أن أضرب عنقه. فقال له المهدي:
اسكت ويلك! وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن نقتلهم فنشقى بشقاوتهم، اكتبوا عهده على
قضاء الكوفة على أن لا يعترض عليه في حكم (1). فالحكام وبتولية الفقهاء القضاء
كانوا يريدون القضاء على شخصيتهم، وما نقلناه كان خير شاهد على ذلك. فقد نقل
المباركفوري في تحفة الأحوذي عن شعيب بن جرير انه طلب من سفيان الثوري أن يحدثه
بحديث السنة، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم: القرآن كلام غير مخلوق.... إلى أن
يقول: يا شعيب لا ينفعك ما كتبت حتى ترى المسح على الخفين، وحتى ان إخفاء بسم الله
الرحمن الرحيم أفضل من الجهر، وحتى تؤمن بالقدر، وحتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر،
والجهاد ما مضى إلى يوم القيامة، والصبر تحت لواء السلطان جائرا أو عادلا. فقلت: يا
أبا عبد الله، الصلاة كلها؟ قال: لا، ولكن صلاة الجمعة والعيدين، صل خلف من أدركت،
أما سائر ذلك فأنت مخير لا تصلي إلا من تثق به وتعلم انه من أهل السنة (2).
(هامش)
(2) تاريخ بغداد 9: 152 - 153، مقدمة تفسير سفيان الثوري / طبعة دار الكتب العلمية
- بيروت - 1403. (1) تحفة الأحوذي: ص 352 (المقدمة). (*)
ص 360
وهذا النص يوقف القارئ على ان أصول سياسة الحكام كانت مبتنية على مخالفة علي في
نهجه وفقهه، وان في قول سفيان (يا شعيب لا ينفعك ما كتبت حتى ترى المسح) إشارة إلى
أن السنة الحكومية هي القول بالمسح على الخفين وإخفاء بسم الله الرحمن الرحيم و...
وكل هذه القضايا مخالفة لفقه علي بن أبي طالب ونهجه، وبل إنها لتؤكد على إطاعة
السلطان برا كان أم فاجرا! كانت هذه هي سياسة المنصور، وتراها مبتنية على الترهيب
والترغيب، والمطالع في هذا النص يقف على دهاء المنصور وكيف كان يتعامل مع كل فرد
حسب نفسيته. وننقل نصا آخر يوضح طريقة اختباره لأعدائه وطرق تجسسه، وان نقل هذه
النصوص يعطي للمطالع صورة قد تكون قريبة من الواقع. طلب المنصور عقبة بن مسلم بن
نافع من الأزد يوما وأناط به مهمة، فقال له: اني لأرى لك همة وموضعا، واني أريدك
لأمر أنا معني به. قال: أرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين؟ قال: فأخف شخصك وائتني في
يوم كذا، فأتيته.. فقال: ان بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا كيدا لملكنا، ولهم شيعة
بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم، ويرسلون إليهم بصدقات وألطاف، فاخرج بكسى وألطاف حتى
تأتيهم متنكرا بكتاب تكتبه عن أهل القرية، ثم تسير ناحيتهم، فإن كانوا نزعوا عن
رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب، وإن كانوا على رأيهم علمت ذلك، وكنت على حذر منهم،
فاشخص حتى تلقى عبد الله بن الحسن متخشعا، فإن جبهك - وهو فاعل - فاصبر، وعاوده
أبدا حتى يأنس بك، فإذا ظهر لك ما قبله فاعجل علي. ففعل ذلك، وفعل به حتى آنس عبد
الله بناحيته، فقال له عقبة: الجواب؟ فقال: أما الكتاب فإني لا أكتب إلى أحد، ولكن
أنت كتابي إليهم فاقرأهم السلام، واخبرهم ان ابني خارج لوقت كذا وكذا؟ فشخص عقبة
حتى قدم على أبي جعفر فأخبره الخبر (1). وقد امتحن المنصور الصادق وعبد الله بن
الحسن وابنيه محمدا وإبراهيم
(هامش)
(1) انظر: مقاتل الطالبيين: ص 211 - 212، والطبري وغيره من كتب المؤرخين. (*)
ص 361
وغيرهم من الطالبيين في عدة قضايا وأراد أن يقف على رأيهم من الأموال والسياسة،
فانخدع عبد الله بن الحسن وابناه وغيرهم بطرق التمويه العباسية، أما الصادق فكان
الوحيد من البيت العلوي الذى لا تخدعه الأساليب (1). ومما نقله المؤرخون أن المنصور
كان يسعى في استمالة الصادق وجذب عطفه للنظام، وكان يقول له: لم لا تغشانا كالناس؟
فأجابه الصادق: ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الاخرة ما نرجوك له، ولا
أنت في نعمة فنهنيك فيها ولا تراها نقمة حتى نعزيك عليها. ويقول له في نص آخر:
تصحبنا لتنصحنا؟ فقال له الصادق: من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الاخرة لا
يصحبك. هذه الأساليب كانت لا تجدي نفعا ولا تثمر إذ ان الصادق كان يرى المنصور
يتلاعب بالأحكام وانه قد جعل الشريعة جسرا يعبر عليه إلى مقاصده كالأمويين.. فكيف
به يتعاون مع شخص كهذا. ولما اتضح للمنصور أنه لا يمكنه التوافق مع الأمام واحتواء
العلويين فكريا وسياسيا وخصوصا بعد مقتل النفس الزكية.. بدأ يغير سياسته متخذا
التضليل والعنف أصولا في سياسته. فقد نقل المفيد والكنجي وابن الجوزي وغيرهم أن
المنصور حج في سنة 147 ودخل المدينة وأمر الربيع بإحضار الأمام الصادق فتغافل
الربيع، ثم أعاد ذكره وقال: أرسل إليه من يأتيني به؟ فلما بصر به المنصور قال له:
قتلني الله إن لم أقتلك، أتلحد في سلطاني وتبغيني الغوائل؟ فقال الصادق: والله ما
فعلت ولا أردت، فإن كان بلغك فمن كاذب. ولو كنت فعلت لقد ظلم يوسف فغفر، وابتلى
أيوب فصبر، وأعطي سليمان فشكر، فهؤلاء أنبياء وإليهم يرجع نسبك. فقال له المنصور:
أجل.. ارتفع هاهنا، فارتفع، فقال له: ان فلان بن فلان أخبرني
(هامش)
(1) انظر: مناقب آل أبي طالب، لابن شهرآشوب 4: 220. (*)
ص 362
عنك بما ذكرت. فقال: أحضره يا أمير المؤمنين ليواقفني على ذلك، فاحضر الرجل
المذكور. فقال له المنصور: أنت سمعت ما حكيت عن جعفر؟ قال: نعم. فقال أبو عبد الله:
فاستحلفه على ذلك. فقال له المنصور: أتحلف؟ قال: نعم، وابتدأ باليمين. فقال له أبو
عبد الله: دعني يا أمير المؤمنين أحلفه أنا. فقال له: افعل. فقال أبو عبد الله
للساعي: قل، برئت من حول الله وقوته والتجأت إلى حولي وقوتي، لقد فعل كذا وكذا
جعفر، وقال كذا وكذا جعفر. فامتنع منها هنيهة ثم حلف بها، فما برح حتى ضرب برجله.
فقال أبو جعفر: جروا برجله، فاخرجوه، لعنه الله. قال الربيع: وكنت رأيت جعفر بن
محمد حين دخل على المنصور يحرك شفته فكلما حركهما سكن غضب المنصور، حتى أدناه منه
وقد رضي عنه، فلما خرج أبو عبد الله من عند أبي جعفر اتبعته فقلت: ان هذا الرجل كان
من أشد الناس غضبا عليك، فلما دخلت عليه وأنت تحرك شفتيك، وكلما حركتهما سكن غضبه،
فبأي شي كنت تحركهما؟ قال: بدعاء جدي الحسين بن علي. قلت: جعلت فداك، وما هذا
الدعاء؟ قال: يا عدتي عند شدتي ويا غوثي عند كربتي، احرسني بعينك التي لا تنام
واكنفني بركنك الذى لا يرام (1). قال الربيع: فحفظت هذا الدعاء فما نزلت بي شدة قط
إلا دعوت به ففرج
(هامش)
(1) نقل أسد حيدر في كتابه (الأمام الصادق 1: 465) عن عيون الأدب والسياسة، لابن
هذيل: ص 163 دعاء آخر أكمل من هذا فراجع. (*)
ص 363
عني. قال: وقلت لجعفر بن محمد: لم منعت الساعي أن يحلف بالله؟ قال: كرهت أن يراه
الله يوحده ويمجده فيحلم عنه ويؤخر عقوبته، فاستحلفته بما سمعت فأخذه أخذة رابية
(1). هذا وان المنصور - من أوائل حكمه - كان قد بدأ بسياسة خاصة مع الصادق، فكان
يكتب رسائل مزورة على لسان بعض شيعة أهل البيت ويرسلها بيد أعوانه، ويحاول أن ينال
غرضه عندما يحصل على جوابها، لكن أحلامه باءت بالفشل ولم يظفر بشيء من ذلك، للخطة
التي اتخذها الأمام ولنظرته الصائبة ورأيه السديد. وان المنصور - كما قال السيوطي -
كان أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين، وكانوا قبلها شيئا واحدا (2). وقد
زادت سياسة التنكيل والبطش بالعلويين بعد قمع ثورتي النفس الزكية في المدينة
وإبراهيم في البصرة، فجمع المنصور بني هاشم في الربذة وأثقلهم بالحديد والضرب
بالسياط حتى اختلطت بدمائهم ولحومهم، ثم حملهم إلى العراق على أخشن مركب وتوجه بهم
إلى الكوفة، وأودعهم ذلك السجن المظلم الضيق الذي لا يعرف فيه الليل من النهار إلا
بأجزاء كان يرتلها علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن (3). وسلط عليهم شرطة جفاة
بعيدين عن الرقة كابتعاده عن الأنسانية فعذبوهم بأمره، كما انه أمر أن تترك أجساد
الموتى منهم في السجن، فاشتدت رائحة الجثث على الأحياء، فكان الواحد منهم يخر ميتا
إلى جنب أخيه.
(هامش)
(1) انظر: الأرشاد 2: 184، كفاية الطالب، لكنجي الشافعي: ص 455، تذكرة الخو اص: ص
309، صفوة الصفوة 2: 96، الفصول المهمة، لابن الصباغ: ص 225، وعنهم المجلسي في
البحار 47: 174 / 21. (2) تاريخ الخلفاء: ص 261. (3) انظر: مقاتل الطالبيين: 192 -
194، وتاريخ الطبري. (*)
ص 364
ولما قتل إبراهيم بن عبد الله أرسل برأسه إلى أبيه مع الربيع وهو في السجن. وكان
أبوه عبد الله يصلي، فقال له أخوه إدريس: اسرع في صلاتك يا أبا محمد، فالتفت إليه
وأخذ رأس ولده، وقال: أهلا وسهلا يا أبا القاسم، والله لقد كنت من الذين قال الله
عز وجل فيهم: الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله
به أن يوصل... فقال له الربيع: كيف أبو القاسم في نفسه؟ قال: كما قال الشاعر: فتى
كان يحميه من الذل سيفه ويكفيه أن يأتي الذنوب اجتنابها ثم التفت إلى الربيع فقال:
قل لصاحبك قد مضى من يومنا أيام والملتقى القيامة؟ فمكثوا في ذلك السجن، لا يعرفون
أوقات صلاتهم إلا بأجزاء من القرآن.. حتى كانت نهاية أمرهم أن أمر المنصور بهدم
السجن على الأحياء منهم (1) ليذوقوا الموت من بين ألم القيود وثقل السقوف والجدران.
وكان منهم من سمر يديه بالحائط، ولما خشي المنصور عاقبة فعله مع أبناء الحسن قام
خطيبا بالهاشمية بلسان سياسي، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل خراسان أنتم
شيعتنا وأنصارنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا خيرا منا، وان ولد ابن أبي طالب
تركناهم والذي لا إله إلا هو فلم نعرض لهم بقليل ولا بكثير. إلى أن يقول: ثم وثب
بنو أمية علينا فأماتوا شرفنا وأذهبوا عزنا والله ما كانت لهم عندنا ترة يطلبونها،
وما كان ذلك كله إلا بسببهم وخروجهم - يعني العلويين - فنفونا من البلاد فصرنا مرة
بالطائف ومرة بالشام ومرة بالسراة حتى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصارا... ونحن لا
نريد مناقشة هذه الخطبة وغيرها ونضع النقاط على الحروف بل نريد أن نعكس لهجة
المنصور لأرضاء أنصاره وخشيته من إنكارهم عليه. وينقل جعفر بن محمد الصادق نصا آخر،
نرى فيه صورة أخرى عن ظلامة
(هامش)
(1) انظر: مروج الذهب 3: 299، الكامل في التاريخ 5: 551 وغيره. (*)
ص 365
الهاشميين وما نزل بهم من المكاره، فقال: لما قتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن
بباخمرى حسرنا عن المدينة ولم يترك منا محتلم حتى قدمنا الكوفة، فمكثنا فيها شهرا
نتوقع فيها القتل، ثم خرج إلينا الربيع الحاجب فقال: أين هؤلاء العلوية؟ ادخلوا على
أمير المؤمنين رجلين منكم ذوي الحجى. قال: فدخلنا إليه أنا والحسن بن زيد، فلما صرت
بين يديه.. قال لي: أنت الذي تعلم الغيب؟ قلت: لا يعلم الغيب إلا الله. قال: أنت
الذي يجئ إليك الخراج؟ قلت: إليك يجئ يا أمير المؤمنين الخراج. قال: أتدرون لم
دعوتكم؟ قلت: لا. قال: أردت أن أهدم رباعكم، وأروع قلوبكم، وأعقر نخلكم، وأترككم
بالسراة لا يقربكم أحد من أهل الحجاز وأهل العراق، فإنهم لكم مفسدة. وقد ذكر
المؤرخون ومنهم الطبري بأن المنصور لما عزم على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة
المهدي - وكان المهدي بالري فأوصاها بما أراد وعهد إليها ودفع إليها مفاتيح الخزائن
على أن تدفعها للمهدي، فلما قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام دفعت إليه
المفاتيح وأخبرته عن المنصور انه أخذ عهدا منها ألا يفتحه أحد حتى يصح عندها موته،
فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور وولي الخلافة فتح الباب ومعه ريطة، فإذا أزح
كبير فيه جماعة من قتلى الطالبيين وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وإذا فيهم أطفال
ورجال شباب ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهدي ارتاع وأمر فحفرت لهم حفيرة
فدفنوا فيها وعملوا عليها دكانا. وبهذا الأسلوب كانوا يريدون السيطرة على العلويين
فكريا وسياسيا. علما بأن الشيعة كانوا لا يرون قيمة للسلطان لأنه لا يتمسك بحكم
الشرع ولا يتنزه عن الظلم ولا يتورع عن محارم الله هذا من جهة.
ص 366
ومن جهة أخرى كانوا يرون أحقية أهل البيت بالأمر، وان رسول الله قد أوصى لهم وانهم
الدعاة إلى أمره ومن الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم. فإن هذا المعنى والمفهوم
كان لا يرضي الخليفة العباسي إذ كان ينظر إليهم نظرة خصم لا تلين قناته ولا يعمل
الأرهاب عمله فيهم، واعتبرهم رافضة يجب التنكيل بهم لأن الأعراض عن طلبات السلطان
يعني الرفض، والرفض غالبا ما يردف التنكليل والتحزب وإلصاق التهم والخروج عن الدين!
تهمة سب الشيخين ومواجهة الصادق (عليه السلام) لها 
على ضوء ما قدمنا عرفت أن السياسة العامة
كانت قائمة على مخالفة الحكومة لنهج علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفقهه، وتقوية فقه الشيخين
وعثمان، كما مر عليك في رسالة المنصور إلى محمد النفس الزكية وغيرها. ومن النقاط
التي ركزت عليها الحكومة وأثارتها ضد أتباع علي (ع) هي اتهامهم بسب الشيخين
والصحابة، وكان مصير كل من ثبتت عليه هذه التهمة هو رميه بالخروج عن الدين وتكفيره
ومن ثم الحكم عليه بالموت، وهذا السلاح الخطير شهرته الحكومة العباسية بوجه
العلويين لأضعافهم فقهيا وسياسيا واجتماعيا، وكأن الخلاف منحصر في هذه التهمة التي
ألقيت عهدتها على عاتق مدرسة علي بن أبي طالب. لذلك نرى الأمام الصادق يقف إزاء هذه
التهمة موقفا حازما فيردها كما رد تهمة الغلو التي أرادتها الحكومة العباسية، فنهى
الأمام الصادق عن سب الشيخين في أكثر من مورد وموطن، فقال: (لا تسبوا أبا بكر فإنه
أولدني مرتين). وقال: (لا تكونوا سبابين ولا لعانين). وقد نقل من قبل رد وردع
الأمام السجاد لمثل ضده النعرة التي أثارتها الحكومة، ولعلها أرسلت عينا وجاسوسا
على الأمام السجاد يسأله عن رأيه في انه يحب أبا بكر وعمر ويتولاهما، فأجابه الأمام
بما يردع ويقمع هوى الحكومة الأموية، فقال له: (إذهب وأحب أبا بكر وعمر وتولهما،
فما كان من إثم خفي عني). إن الأئمة كانوا لا يريدون أن ينشغل المسلمون بمثل تلك
الجزئيات ويتركوا
ص 367
أمهات المسائل وأصول الحكم والعدالة التي تلاعبت بها الحكومة وأشعلت نار الخلافات
والفتن بين المسلمين لأبعاد أنظارهم عما تفعله هي من مساوئ وتحريفات في الدين. ثم
إن سب الشيخين لا يتلائم ومنطق الأمور، ذلك لأن الشيعة كانوا هم المضطهدين
الملاحقين المشتومين.. فكيف يمكن تصور صدور هذا السباب منهم وهم في تلك الحالة من
المراقبة والحصار؟! نعم، ينسجم ذلك إذا اعتبرنا قضية السباب غطاء تستر به النظام
لأسقاط خصمه وتمرير مخططاته بعيدا عن أنظار المسلمين، وهذا ما ليس بوسع باحث
إنكاره. قال صاحب المنتظم: ان الحكومة إذا أرادت أن تعاقب شيعيا لمذهبه لم تذكر اسم
علي، بل تجعل سبب العقوبة انه شتم أبا بكر وعمر. وقد كانت الحكومة العباسية قد وضعت
الحجر الأساس وأرست قاعدة لا تقبل النقاش والجدل، مفادها تقديم الشيخين على جميع
الصحابة. فقد دخل مالك على المنصور العباسي، فسأله المنصور: من أفضل الناس بعد رسول
الله؟ فقال له مالك: أبو بكر وعمر. فقال المنصور: أصبت، وهذا رأي أمير المؤمنين -
يعني نفسه (1). إن المنصور يريد أن يؤكد للفقهاء التزامه بفكرة تقديم أبي بكر وعمر
على سائر الصحابة ومنهم علي بن أبي طالب - وهو المقصود بالذات من هذه الفكرة -
لأبعاد فكره ونهجه عن الفقه، ولطرحه فيما إذا تعارض مع رأي الشيخين. واستمر ذلك
النهج أكثر شدة وإغراقا في النزع، فاضطرت الحكومة العباسية إلى تقديم عثمان - رغم
قربه من بني أمية - على علي بن أبي طالب - مع قربه منهم، لترسيخ الفقه المطلوب وضرب
الفقه العلوي والحركات العلوية. روى مصعب - تلميذ مالك - انه سأل مالكا: من أفضل
الناس بعد
(هامش)
(1) البداية والنهاية 10: 125. (*)
ص 368
رسول الله؟ فقال مالك: أبو بكر. قال: ثم من؟ قال: عمر. قال: ثم من؟ قال: عثمان.
إلصاق التهم وبث الغلاة في صفوف العلويين
هذا وان الحكومة العباسية لم تكتف بسياسة
تقديم الشيخين وإخراج علي من بين الخلفاء الأربعة، بل أمعنت أكثر، فراحت تلصق التهم
بجعفر بن محمد الصادق والادعاء بانه يقول اني إله أو نبي أو ينزل علي الوحي وما
شابه ذلك، بعد أن يئسوا من احتوائه، والخدش في عقيدته وأفكاره! وقد كانت تهمة نزول
الوحي وغيرها من أهم المشاكل التي لاقاها الأمام الصادق إذ ان بعض السذج من الناس
وبسطاء العقيدة كانوا يتفاعلون مع هذه الشائعات الحكومية لما يرون من ملكات باهرة
عند الأمام ومن فقه رفيع وكرامات قدسية وقد كان صائد الهندي ومحمد بن مقلاس ووهب بن
وهب القاضي والمغيرة بن شعبة وسالم بن أبي حفصة العجلي وغيرهم.. ممن كانوا يبثون
الأحاديث المغالية في الأئمة. وقد كذبهم الأمام وأعطى قاعدة عامة لأصحابه فقال: (لا
تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا
المتقدمة، فإن المغيرة ابن سعيد لعنه الله دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها،
فاتقوا الله ولا تقبلوا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا). وقال: (لعن الله المغيرة بن
سعيد ولعن الله يهودية كان يختلف إليها). قال ابن عدي: لم يكن بالكوفة ألعن من
المغيرة بن سعيد، كان يكذب على أهل البيت. وقال ابن داود عن سالم بن أبي حفصة
العجلي: كان يكذب على أبي جعفر وقد لعنه الأمام الصادق.
ص 369
وقد لعن الصادق أبا الخطاب في أكثر من مرة. وهناك نصوص كثيرة تدل على موقف الأمام
الحازم من الغلاة والبراءة منهم، فقد كتب إلى أصحابه: (لا تقاعدوهم ولا تواكلوهم
ولا تشاربوهم ولا تصافحوهم ولا توارثوهم). وكان يقول: (والله ما الناصب لنا حربا
بأشد علينا مؤونة من الناطق علينا بما نكره). ويقول: (ان الناس قد أولعوا بالكذب
علينا، واني أحدث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتى يتأوله على غير تأويله، وذلك
انهم كانوا لا يطلبون بأحاديثنا ما عند الله وإنما يطلبون الدنيا وكل يحب أن يدعى
رأسا). وعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله إنهم (أي الخطابية) يقولون: انك تعلم
قطر المطر وعدد النجوم وورق الشجر ووزن ما في البحر، وعدد ما في التراب. فرفع
الأمام الصادق يده وقال: (سبحان الله، سبحان الله، والله ما يعلم هذا إلا الله).
وعن سدير عن أبيه قال: قلت لأبي عبد الله: إن قوما يزعمون أنكم آلهة يتلون علينا
بذلك قرآنا. قال: (يا سدير، سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء، برئ
الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ودين آبائي. والله لا يجمعني وإياهم يوم إلا
وهو عليهم ساخط). والشيعة قد تلقوا تلك الأوامر بالقبول والامتثال فأعلنوا البراءة
من هؤلاء الغلاة وملأوا كتبهم بالتبرئ منهم، وأفتوا بحرمة مخالطتهم. ومن يرجع إلى
كتب الفتاوى لفقهاء الشيعة يقف على هذه الحقيقة، بل يجد أنهم قد أجمعوا على نجاسة
الغلاة وعدم جواز غسلهم ودفن موتاهم وتحريم أعطيتهم ولم يجوزوا للمغالي أن يتزوج
المسلمة ولا يجوز للمسلم أن يتزوج الغالية، ولا توارث بينهم. فلو صح ما ينسب إلى
الشيعة وأنهم يغالون في أئمتهم، فما معنى هذه الأحكام في كتبهم الفقهية؟!
ص 370
وما معنى لعن الصادق المغيرة بن سعيد وأبا الخطاب والعجلي؟ وما معنى قوله لمرازم:
(قل للغالية: توبوا إلى الله فإنكم فساق كفار مشركون). وقال له أيضا: (إذا قدمت
الكوفة فأت بشار الشعيري وقل له: يقول لك جعفر بن محمد: يا كافر يا فاسق، أنا برئ
منك). وقال لبشار الشعيري لما دخل عليه: (أخرج لعنك الله، والله لا يظلني وإياك سقف
أبدا). فلما خرج قال الأمام: (ويله ما صغر الله أحدا تصغيره هذا الفاجر، انه شيطان
ابن شيطان، خرج ليغوي أصحابي وشيعتي فاحذروه، وليبلغ الشاهد الغائب اني عبد الله
وابن أمته جمعتني الأصلاب والأرحام، واني لميت ومبعوث ثم مسؤول). ان حركة الغلو
بدأت من زمان الأمام علي وطورتها وأيدتها الحكومات الأموية والعباسية، لأنها خير
مبرر لاستنقاص أهل البيت، وان هذه الظاهرة كانت موجودة حتى عهد المهدي من ولد الحسن
العسكري. فقد كتب الأمام الحسن العسكري إلى أحد مواليه: (اني أبرأ إلى الله من ابن
نصير الفهري وابن بابا القمي فابرأ منهما، واني محذرك وجميع موالي ومخبرك أني
ألعنهما، عليهما لعنة الله، يزعم ابن بابا اني بعثته نبيا وانه باب ويله لعنه الله،
سخر منه الشيطان فأغواه فلعن الله من قبل منه، يا محمد إن قدرت أن تشدخ رأسه
فافعل). وبهذه النصوص وهذه المواقف كان الأئمة يسعون لدفع تهم التاهمين وافتراء
المفترين ويعملون لتوعية البسطاء والمغفلين للوقوف أمام إشاعات الساسة والمغرضين.
والان لنرجع إلى ما ألزمنا به أنفسنا من البحث في أطراف الحركة العلمية في العهد
العباسي وسعي الخلفاء لاحتواء الفقهاء سياسيا وفكريا، فالخلفاء رغم جهودهم
المتواصلة لم يوفقوا لاحتواء الأمامين جعفر الصادق وأبي حنيفة. أما الأمام مالك فقد
تعاون مع السلطة ودخل في سلكها بعد الفتنة والأطاحة بثورة النفس الزكية وأخيه
إبراهيم فدون لها الموطأ، علما بأن الأمام مالكا - وقبل توجه
ص 371
الحكومة إليه - لم تكن له تلك المكانة، وان والده أنس بن مالك بن أبي عامر لم يكن
معروفا عند العلماء ولم يفصح التاريخ بشيء من حياته ولا تاريخ وفاته، بل كل ما كان
يقال عن مالك بأنه أخو النضر، وذلك لشهرة النضر بن أنس أخو مالك، وهو الذي روى عن
ابن عباس. ونقل أبو بكر الصنعاني: أتينا مالك بن أنس فحدثنا عن ربيعة الرأي - وهو
أستاذ مالك ومعلمه - فكنا نستزيده، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة وهو نائم في
ذاك الطاق؟ فأتينا ربيعة، فقلنا: كيف يحط بك مالك ولم تحط أنت بنفسك؟ فقال: أما
علمتم ان مثقالا من دولة خير من حمل علم (1). وفي هذا النص إشارة إلى دور السياسة
والحكومة في ترسيخ المذاهب وتقديم المفضول مع وجود الفاضل (2)! وقد جاء في تاريخ
بغداد ان أبا العباس أمر لربيعة الري بجائزة فرفض أن يقبلها، فأعطاه خمسة آلاف درهم
ليشتري بها جارية فامتنع عن قبولها (3). ولابد هنا من الأشارة إلى ما ذكره بعضهم من
تعليل سبب المحنة التي لاقاها مالك وضرب بسببها بالسياط وتعاطفه بعدها مع السلطة
الحاكمة، فقال ان السبب هو قوله بتحريم نكاح المتعة خلافا لابن عباس هو جد
العباسيين!! وانا نرى هذا الرأي في غاية الضحالة لأن الساسة تهمهم غالبا مصالحهم
ولا يعيرون لابائهم ولا لأبنائهم أي اهتمام، وقد نقلنا سابقا كلام المنصور لمالك
وسؤاله عن آراء ابن عمر وقوله له: خذ بها وإن خالف عليا وابن عباس! وفي نص آخر: يا
مالك، أراك تعتمد على قول ابن عمر دون أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: يا أمير
المؤمنين، انه آخر من بقي عندنا من أصحاب رسول الله، فاحتاج
(هامش)
(1) انظر: طبقات الفقهاء، لأبي إسحاق: ص 68، تاريخ بغداد 8: 424. (2) قد ذهبت أغلب
المذاهب الإسلامية إلى ذلك، انظر: الأمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 183. (3)
تاريخ بغداد 8: 425. (*)
ص 372
الناس إليه، فسألوه وتمسكوا بقوله. فقال: يا مالك، عليك بما تعرف أنه الحق عندك،
ولا تقلدن عليا وابن عباس (1). فترجيح رأي ابن عمر وإن خالف رأي ابن عباس هو من
سياسة الدولة العباسية في دحض نهج السنة وإن كان ابن عباس من رواده. وباعتقادنا ان
الأحاديث المضطربة المنسوبة إلى ابن عباس في الفقه هي من صنع هؤلاء الحكام لكسب
المبرر والقول بأن ما يقولونه ليس مخالفا لاراء آبائهم وأجدادهم، بل هو المنقول
عنهم بحذافيره! وان إثبات هذا المدعى يحتاج إلى بحث وتحقيق أكثر، نتركه للسادة
العلماء والباحثين في أمور الشريعة. هذا وقد أنكر الأستاذ أبو زهرة ما ذكره
المؤرخون في سبب محنة الأمام مالك بقوله: (وهذا لا يصلح سببا، لأنه ما عرف ان
المنصور كان يستبيح المتعة، ولأن أكثر الرواة على أن ابن عباس رجع عنها بعد أن لامه
على ذلك ابن عمه علي ابن أبي طالب). نحن نترك نص الأستاذ بدون أي تعليق حتى يقف
القارئ الكريم بنفسه على كيفية نسبة الأقوال إلى هذا ورفعها عن ذاك ومدى تدخل
السياسة والأهواء في ارتسام تلك الاراء. نعم ان الذي نرجحه في محنة الأمام مالك هو
أنه عندما رأى قوة العلويين تتزايد في المدينة وتلتها ثورة إبراهيم بالبصرة وهجوم
العلويين على معسكر الفقهاء (2) وظهور بوادر النصر العلوي أخذ يتعاطف معهم حتى ان
روايته لحديث (ليس على مكره يمين) وغيرها إنما جاءت لهذا الغرض. قال الشيخ أبو
زهرة: ان سبب المحنة ليس هو التحديث بالحديث وحده، بل التحديث بدأ في وقت قيام هذه
الثورة العلوية واستفادة الثوار منها لتحريض الناس في الخروج على الحكومة.
(هامش)
(1) راجع: الأمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 504. (2) انظر: مقاتل الطالبيين: ص
363. (*)
ص 373
ونحن نرى أن الأمام مالكا ان يعيش في خوفين: الأول: خوف من السلطة وكيف إذا خرج عن
طاعة السلطان ودخل في الفتنة. الثاني: خوف من قيام الدولة العلوية والأطاحة بالحكم
العباسي لأنه قد رأى بوادر الانتصار تلوح فمال إلى التعاون مع العلويين لكي لا
يلاقي مشكلة معهم في المستقبل. وقد نقل ابن قتيبة أن أحد العلويين قدم على مالك
يعرض عليه ما نالهم من أذى واضطهاد، فقال مالك: اصبر حتى يجئ تأويل هذه الايه:
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (1) مشيرا
بذلك إلى ظهور بوادر الانتصار، والى ان هذه الدولة ظالمة وان تعاونه معها إنما كان
عن إكراه. هذا وان المنصور لما أطاح بالنفس الزكية وأخيه إبراهيم واستقر الأمر له..
أمر ولاته بالتنكيل بالعلويين. ومن أولئك الولاة جعفر بن سليمان - واليه على
المدينة - فقد ضرب مالكا في سنة 146 بالسياط لتعاونه مع العلويين ولأفتائه: (ليس
على مكره يمين) لأنه ينطوي على تأييد تلويحي للحركة العلوية، وانه لا حنث على من
خلع المنصور بعد البيعة. ثم ان المنصور أراد أن يرغب الأمام مالكا بعد أن أرهبه،
فلما جاء إلى الحجاز حاجا، أرسل إلى مالك يدعوه ليعتذر إليه. ومالك ينقل لنا الخبر:
لما دخلت على أبي جعفر، قال لي: والله الذي لا إله إلا هو، ما أمرت بالذي كان ولا
علمته! انه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم، واني أخالك أمانا لهم من
عذاب، ولقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة، فإنهم أسرع الناس إلى الفتن. ولقد أمرت
بعدو الله أن يؤتى به - أي الوالي - على قتب وأمرت بتضييق محبسه والاستبلاغ في
امتهانه، ولابد أن أنزل به العقوبة أضعاف ما نالك منه. فقلت: عافى الله أمير
المؤمنين وأكرم مثواه، فقد عفوت عنه لقرابته من رسول الله
(هامش)
(2) انظر: جهاد الشيعة: ص 225. (*)
ص 374
وقرابته منك. قال: فعفا الله عنك ووصلك (1). بهذه السياسة هيمن العباسيون على عواطف
المسلمين واستمالوا الأمام مالكا وأناطوا به مسؤولية تدوين السنة والأفتاء وغيرهما.
أما الأمامان الصادق وأبا حنيفة فلم يثنهما المنصور عما رسماه لأنفسهما وهو مقاطعة
السلطة، لكن الحكام تمكنوا - بمرور الايام - من احتواء نهج الأمام أبي حنيفة
بتقريبهم الأمام أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني والحسن بن زياد اللولوي، وإناطة
القضاء والأفتاء بهم. وكان ذلك بالطبع بعد وفاة أبي حنيفة. لكنهم رغم كل المحاولات
لم يمكنهم اختراق صفوف الشيعة لتولي عدول من أهل البيت شؤون قيادتهم، فكانوا ينفون
عن فكرهم بدع المبدعين. وان سياسة العصيان المدني الذي رسمه الأئمة وأرشدوا إليه
شيعتهم في الخروج عن طاعة السلطان الفاجر وتأكيدهم على عدم جواز المرافعة إلى
الحكام والركون إليهم، وقولهم: (الفقهاء أمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا
إلى السلاطين فاتهموهم)، ودعوتهم للأءمر بالمعروف والنهي عن المنكر رغم الرقابة
المشددة عليهم، كلها سبل هادفة لتوعية الأمة واطلاعها على الحقيقة، إذ ان عدم
التعاون يعني رفض الحكام ويعني سلب أهلية الحاكم لتولي الحكم، وأنهم ولاة جور وان
قول الصادق: (أيما مؤمن قدم مؤمنا في خصومة إلى قاض أو سلطان جائر، فقضى عليه بغير
حكم الله، فقد شركه الأثم). وقوله: (ما أحب أن أعقد لهم - أي الظلمة - عقدة أو وكيت
لهم وكاء، ولا مدة بقلم. إن الظلمة وأعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى
يحكم الله بين العباد). وقوله: (أيما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق فدعاه
إلى رجل من
(هامش)
(1) تاريخ المذاهب الإسلامية: ص 417، ترتيب المدارك 1: 229، الأئمة الأربعة،
للشرباصي: ص 89. (*)
ص 375
إخوانكم ليحكم بينه وبينه، فأبى الا أن يرافعه إلى هؤلاء، كان بمنزلة الذين قال
الله عز وجل فيهم: ألم تر الذين يزعمون انهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك
يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به). وسئل الصادق عن قاض بين
قريتين يأخذ من السلطان عن القضاء الرزق؟ فأجاب: (ان ذلك سحت، وان العامل بالظلم
والمعين له والراضي به كلهم شركاء). وعليه فقد عرفت أن الشيعة سموا بالرافضة لرفضهم
التعاون مع الحكام لا لرفضهم الإسلام كما ينادي به أعوان الظلمة! كل هذه النصوص
تدلل على تضاد في الرؤى والأهداف بين السلطة وأهل البيت، وان صدور هذه النصوص عن
أئمة أهل البيت في تلك الفترة يعني أن الحكومة غير شرعية. ومن الطبيعي أن تكون هذه
الرؤية مما يزعج الحكام إذ يرون السلطتين التشريعية والتنفيذية في أيديهم، وهم
يسعون بما يقدمونه من آراء أن ينالوا ثقة الناس، فكيف يسمح لهؤلاء أن يحطوا من لا
يرون قيمة للسلطان؟! وعليه فإن مخالفة الشيعة للحكام لم تكن لغصبهم الخلافة وكونهم
خلفاء غير شرعيين فحسب بل لجهلهم بكتاب الله وسنة نبيه. وستقف على أقوالهم لاحقا.
ان السلطة الحاكمة اعتبرت هذا التصور خروجا عن الطاعة، ومن هنا كانوا يعتبرون
اتهامهم الأئمة وشيعتهم بسوء العقيدة والخروج عن الإسلام، ثم دعوة وعاظ السلاطين
للنيل منهم والتهجم عليهم، ضرورة سياسية يفرضها الواقع الاجتماعي. وان تهمة الغلو
في الأئمة وما واكبها من مصاعب كان من تأثيرات السياسة، وان الساسة كانوا وراءها،
فانهم لم يكتفوا بما أشاعوه عن الصادق بل نسبوا إلى مخالفيهم السياسيين الاخرين
كسفيان الثوري وأبي حنيفة تهما أيضا، وذلك لأن الأمام أبا حنيفة ناصر الثورات
العلوية كثورة زيد بن علي ومحمد النفس الزكية وإبراهيم الأمام وانه كان يفتي برأي
علي بن أبي طالب، وقال بأن الخلافة هي حق ولد علي من فاطمة وان الخلفاء قد غصبوا
هذا الحق، وذهب إلى أن عليا كان محقا في قتاله أهل الجمل، وقال عن يوم الجمل: سار
علي فيه بالعدل وهو
ص 376
أعلم المسلمين في قتال أهل البغي، وقوله: ما قاتل عليا إلا وعلي أولى. وقال: ان
أمير المؤمنين عليا إنما قاتل طلحة والزبير بعد أن بايعا وخالفا. وقال يوما لأصحابه
معللا بغض أهل الشام لهم: أتدرون لم يبغضنا أهل الشام؟ قالوا: لا. قال: لأنا لو
شهدنا عسكر علي بن أبي طالب ومعاوية لكنا مع علي. وقال: أتدرون لم يبغضنا أهل
الحديث؟ قالوا: لا. قال: لأنا نحب أهل بيت رسول الله ونقر بفضائلهم. وفي رواية أخرى
انه قال: أتدرون لم يبغضنا أصحاب الحديث؟ قالوا: لا. قال: لأنا نثبت خلافة علي وهم
لا يثبتونها. فإنه بنقله هذه النصوص كان يريد الأشارة إلى سياسة الحكام في الحديث،
وانه قد ترك الكثير من هذه الأحاديث الحكومية لعرفانه بدور السلطة في وضع الحديث
وليس كما علله مقدم كتاب المنذري (1) وابن خلدون (2) من انه قد ترك الحديث لأن
كثيرا من الزنادقة في عصره كانوا يضعون الأحاديث وان أهل الغفلة من المحدثين كانوا
يروونها، وان الأمام قد تركها لذلك! فالرجل حضر عند علماء الأمة وأخذ عن نافع مولى
ابن عمر وعاصم بن أبي النجود وعطية العوفي وعطاء بن رباح وزياد بن رباح وزياد بن
علاقة وهشام بن عروة والباقر والصادق وعبد الله بن الحسن وزيد بن علي بن الحسين
وآخرين.. حتى قيل ان شيوخه بلغوا أربعة آلاف (3) منهم في الكوفة والبصرة والمدينة
ومكة والشام، فلا يعقل أن يقل حديثه إلى هذا الحد، ونحن وإن كنا لا ننكر أنه كان
(هامش)
(1) انظر: الترغيب والترهيب 1: 13 (المقدمة). (2) المقدمة: ص 410. (3) موقف الخلفاء
العباسيين: ص 30. (*)
ص 377
قياسا متشددا في الرؤية ولا يقبل الخبر إلا إذا رواه جماعة عن جماعة، أو كما يقول
أصحابه: إذا كان خبر عامة عن عامة، أو اتفق علماء الأمصار على العمل به، إلا أنه قد
طرح كثيرا من أحاديث السلطة وقبل أحاديث أخرى. أما أصحابه فلم يتشددوا في قبول
الرواية كما كان هو، فأبو يوسف - مثلا - قد أدخل في فقه أبي حنيفة أحاديث كثيرة،
وهكذا كان شأن محمد بن الحسن الشيباني الذي لقي مالكا وقرأ الموطأ وتأثر به وطبق
مذهب أصحابه على الموطأ مسألة مسألة (1). قال مالك بن مغول: قال لي الشعبي ونظر إلى
أصحاب الرأي: ما حدثك هؤلاء عن أصحاب محمد فاقبله، وما خبروك به عن رأيهم فارم به
الحش، قال: إياكم والقياس فإنكم إن أخذتم به حرمتم الحلال وأحللتم الحرام (2). وان
تضعيف البخاري وابن الجوزي وابن عدي وغيرهم من المحدثين والرجاليين لأبي حنيفة دليل
على مخالفته لنهج الحكومة وذهابه إلى آراء لا يستسيغها الحكام، فنسبوا إليه آراء
يدل التتبع والتحقيق على انه لم يقلها، منها: ما رواه الترمذي من رواية عبد الحميد
الحماني ان أبا حنيفة قال: ما رأيت أكذب من جابر الجعفي ولا أفضل من عطاء. فلو صح
هذا النقل عنه، فكيف نرى اسم الجعفي في ضمن أسماء مشايخه؟ وقد ورد اسمه كثيرا في
أسانيده، وكيف ينسب إليه: ما سألت جابر الجعفي عن مسألة قط إلا أورد فيها حديثا.
وكيف يصح القول بكذب الجعفي ونرى كبار التابعين يوثقونه كسفيان الثوري وزهير وشعبة
ووكيع وغيرهم. وقد جاء في جامع أسانيد أبي حنيفة عن زهير انه قال: إذا قال جابر بن
يزيد الجعفي: حدثني أو سمعت.. فهو من أصدق الناس (3).
(هامش)
(1) انظر: رسالة الأنصاف: ص 8. (2) تأويل مختلف الحديث: 58. (3) جامع أسانيد أبي
حنيفة 1: 305، عنه في الأمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 298. (*)
ص 378
وكلامنا هذا عن الأمام لا يعني أنه كان شيعيا أو ان الأمام الصادق قد رضي عنه أو
ترضى عليه، أو صحح رؤاه العقائدية والفقهية أو خذ عنه، بل نقول إن كثيرا من الطعن
الذي لحقه كان بسبب بعض مواقفه المعارضة للحكومة والمؤيدة للعلويين وغيرهم من أعداء
خط السلطة العقائدي الفقهي، بل ان أهل البيت كانوا لا يرتضون القياس ولا أحكامه
المبتنية عليه. قال الأستاذ عبد الحليم الجندي: لو كانت الحكومة تدرك بأن أبا حنيفة
يعتنق مذهب التشيع لما تركته يلقي دروسه في الكوفة - مركز السنة - سنوات عديدة (1)!
وهناك نصوص حوارية كثيرة بين الصادق وأبي حنيفة تؤكد رفض الصادق لارائه القياسية.
وقد ألف علماء الشيعة وأصحاب الأئمة في رد القياس كتبا كثيرة، لكن المهم الذي نؤكد
عليه هو دور السياسة في احتواء الفقهاء فكريا وسياسيا وبثهم الدعايات والتهم
والشائنة ضد من لم يمكن احتواؤهم، بل إنهم قد جندوا الطاقات والعلماء الاخرين لكي
ينسبوا إليهم ما لم يقولوه، أو لكي يحرفوه أو ليضخموه فيصبغوه صبغة هو بعيد عنها.
وقد وقفت على دور أبي هريرة والسيدة عائشة وابن عمر والزهري وفقهاء المدينة السبعة
في العهد الأموي. وعرفت شدة تأكيد الحكومة على الأخذ بأقوالهم. ومر عليك قول ابن
عمر وإرجاعه الناس للأخذ بفقه عبد الملك بن مروان وتأكيد المنصور على الأخذ بفقه
ابن عمر. وقد عرفت أن فقهاء الحكومة قبل مالك وأبي يوسف في العهد العباسي كانوا:
ابن شبرمة وابن أبي ليلى - وقد بقيا إلى عهد متأخر، وان الحكام أمكنهم تقريب أبي
يوسف واستمالته للتأثير على معتنقي الحنفية، فكان أول من قلد منصب قاضي القضاة في
الإسلام. وقد صرح أكثر من واحد من المؤرخين أن أبا يوسف اختلف عن أستاذه في توليه
المناصب العامة في الدولة العباسية لفقره خاصة) (2).
(هامش)
(1) انظر: أبو حنيفة: ص 213. (2) انظر: الفهرست: ص 286. (*)
ص 379
وعليه فإن ابن شبرمة وابن أبي ليلى وأضرابهم كانوا فقهاء الدولة منذ أواخر العهد
الأموي وحتى زمن أبي العباس السفاح وشطرا من خلافة المنصور، وان المنصور بتقريبه
مالكا وإعطائه المكانة العليا، وتوحيد الحديث والفقه على يده قد قلل من نفوذ
الاخرين! ومنذ أواخر عهد المنصور وحتى أواخر عهد الرشيد تمكنت الحكومة من السيطرة
على الاتجاهين: اتجاه الرأي واتجاه الأثر، وذلك بتقريبهم أبا يوسف ومحمد ابن الحسن
الشيباني في بغداد وتقليدهم منصب القضاء، ووجود مالك في المدينة من قبل في ركابهم.
رأي آخر
وبعد هذا العرض السريع الذي بينا فيه بعض الرؤى - نحاول أن نطرح رؤية أخرى
هي في سبب تسمية المذهب الشيعي الاثني عشري بمذهب جعفر بن محمد الصادق. ذلك أن ما
قيل بأن الأمام عاش بين فترة الشيخوخة الأموية والطفولة العباسية، وان هذه الفترة
كانت مواتية لنشر المذاهب، لم تكن السبب الوحيد في ذلك بل هناك أمور أخر، منها: دور
الحكام في الأحكام الشرعية واحتواؤهم للفقهاء والمحدثين والقراء وسوهم. فإن الصادق
لما رأى دورهم في تدوين الحديث ثم تأصيل المذاهب وتقريب المحدثين والقراء والشعراء،
والاهتمام بالحركة العلمية، كان واضحا لديه أن هذه المبادرة الحكومية هي ثورة
ثقافية ضد الأصول العقائدية والفقهية والتاريخية للمسلمين، فالأمام أبو حنيفة يبث
أفكاره في الكوفة مركز العلويين، وبين أفكاره وما يطرحه من رؤى ما يخالف الصريح من
كلام الرسول. والأمام مالك يسيطر على مركز الدعوة الإسلامية ويفتي الناس بالمدينة.
والليث بن سعد يفتي الناس بمصر. وقيل إن أهل مصر كانوا ينتقصون من عثمان، فنشأ فيهم
الليث فحدثهم بفضائل عثمان. والأوزاعي يفتي الناس بالشام وقد عرف انحرافه عن أهل
البيت، فكان في كل مصر فقه خاص واعتقاد خاص يبتعد في غالبه عن
ص 380
الأصول النبوية والاراء الفقهية الصحيحة في القليل أو الكثير. ولما رأى الصادق دعم
الحكومة لهؤلاء الفقهاء - تلويحا وتصريحا - أحس بالخطر وضرورة مواجهة الغزو الفكري
والفورة الثقافية التي شنتها الحكومة العباسية على النهج العلوي، فكان أن بدأ في
مواجهة هذه الحملة مواجهة في غاية الجد، وأخذ أصحابه في التوجه إلى الفقه وتعلم
الأحكام وقد تخوف على شيعته من تأثرهم بالخطوط الفكرية العاملة آنذاك، فأخذ يوضح
لهم ما وصل إليه من كلام رسول الله، ويعنعن إسناده إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لا تكون ذريعة بيد
المغرضين للنيل منه. وبهذا تبين تلويحا سبب عدم مشاركة الأمام الصادق في الثورات
العلوية، إذ نراه يتبنى مسألة هي أهم بكثير مما عليه المقاتلون إذ انهم يرابطون على
الثغور العسكرية، في حين كان الصادق يرابط على ثغور العقيدة والفكر. وان توزيع
الأمام الصادق البحوث العلمية والنشاطات المعرفية التي تحتاج إليها الساحة بين
أصحابه لهو أمر ثابت في التاريخ. فقد أمر أبان بن تغلب أن يجلس في المسجد ويفتي
الناس. وأوكل إلى حمران بن أعين الأجابة عن مسائل علوم القرآن. وعين زرارة للمناظرة
في الفقه. ومؤمن الطاق للمساجلة في الكلام. والطيار للمناظرة في الأمامة وغيرها.
وهشام بن الحكم للمناظرة في الأمامة والعقائد. وبطون الكتب حافلة بمحاورات هؤلاء
الأصحاب ومناظراتهم، وقد أشارت كتب الفهارس إلى أسماء ما ألفوه في كل الميادين، حتى
أحصي ما دونوه في عصره فكانت أربعمائة مؤلف لأربعمائة مؤلف في الحديث فقط، وهي التي
عرفت بالأصول الأربعمائة التي عليها مدار الفقه الشيعي. بعد هذا لا نشك أن تكون
السلطة وراء طرح بعض الاراء الفقهية التي لا يقبلها الطالبيون، إذ ان في طرح تلك
الرؤى تأصيلا لنهج وفقه الحكومة وتعرفا على مخالفيها، وان الأحكام الفقهية خير
ميدان للتعرف على الرافضة ومن لا يقبل
ص 381
سلطان الدولة. وقد مر عليك سابقا خبر الرجل الذى جاء الرشيد مخبرا بمكان اختفاء
يحيى بن عبد الله بن الحسن وتعرفه عليه إثر جمعه بين الصلاتين، وقول الرشيد له: لله
أبوك لجاد ما حفظت تلك صلاة العصر وذلك وقتها عند القوم. وقول سليمان بن جرير
لإدريس بن عبد الله بن الحسن: ان السلطان طلبني لما يعلمه من مذهبي، فجئتك... وقد
نقلنا قبل ذلك حديث أبي مالك الأشعري، وكيف كان يتخوف من إتيان صلاة رسول الله،
ويقول: هل فيكم أحد غيركم؟ فقالوا: لا، إلا ابن أخت لنا. قال: ابن أخت القوم منهم،
فدعا... وغيرها الكثير. وهي جميعها تؤكد على أن الفقه الإسلامي صار يستقي منابعه من
طريقين: 1 - السلطان ومن يعمل معه. 2 - الطالبيون، وقد انحصر هذا الخط بجعفر بن
محمد الصادق وآله. وان الفقهاء والمحدثين والقراء غالبا ما كانوا يدورون في فلك
السلطان يرسمون القواعد ويوقفون الخليفة على الحلول، وكان الخليفة يقرب من العلماء
من يخدم أهداف السلطان ويبعد من لا يرتضي التعاون معه بل يرفضه! فقد نقل المؤرخون:
ان الرشيد أعطى الأمان ليحيى بن عبد الله بن الحسن، ثم ظفر به وبعد ذلك سعى لنقض
الأمان، فاستعان بالفقهاء لتسويغ غدره هذا. نترك تفاصيل الخبر لأبي الفرج
الأصفهاني، قال في سياقه خبر مقتل يحيى ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن
أبي طالب: ثم جمع له الرشيد الفقهاء وفيهم: محمد بن الحسن صاحب أبي يوسف القاضي،
والحسن بن زياد اللؤلؤي، وأبو البختري وهب بن وهب، فجمعوا في مجلس وخرج إليهم مسرور
الكبير بالأمان، فبدأ محمد بن الحسن فنظر فيه فقال: هذا أمان مؤكد لا حيلة فيه -
وكان يحيى قد عرضه بالمدينة على مالك، وابن الدراوردي وغيرهما، فعرفوه انه مؤكد لا
علة فيه. قال: فصاح عليه مسرور وقال: هاته، فدفعه إلى الحسن بن زياد اللؤلؤي
ص 382
فقال بصوت ضعيف: هو أمان. واستلبه أبو البختري وهب بن وهب فقال: هذا باطل منتقض، قد
شق عصا الطاعة وسفك الدم فاقتله، ودمه في عنقي! فدخل مسرور إلى الرشيد فأخبره فقال
له: اذهب فقل له: خرقه إن كان باطلا بيدك، فجاءه مسرور فقال له ذلك، فقال: شقه يا
أبا هاشم. قال له مسرور: بل شقه أنت إن كان منتقضا. فأخذ سكينا وجعل يشقه ويده
ترتعد حتى صيره سيورا، فأدخله مسرور على الرشيد فوثب فأخذه من يده وهو فرح وهو يقول
له: يا مبارك يا مبارك! ووهب لأبي البختري ألف ألف وستمائة ألف، وولاه القضاء وصرف
الاخرين، ومنع محمد بن الحسن من الفتيا مدة طويلة، وأجمع على إنفاذ ما أراده في
يحيى ابن عبد الله (1). بهذه الطريقة كانوا يستخدمون الفقهاء، ويغيرون الأحكام
الشرعية. وان السياسة العباسية - كغيرها من السياسات - كانت مبتنية على الترغيب
والترهيب، وان الطالبيين من أبناء علي كانوا أكثر الناس ظلامة. ولو درسنا حال يحيى
بن عبد الله بن الحسن، وهو أحد الطالبيين، وما جرى عليه من الظلم لوقفت على
الحقيقة، ولننقل خبر يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين وكيف كان يريد
الالتقاء بعمه عيسى بن زيد. قال يحيى بن الحسين بن زيد: قلت لأبي: يا أبه، اني
أشتهي أن أرى عمي عيسى بن زيد، فإنه يقبح بمثلي أن لا يلقى مثله من أشياخه، فدافعني
عن ذلك مدة، وقال: إن هذا أمر يثقل عليه، وأخشى أن ينتقل عن منزله كراهية للقائك
إيا ه فتزعجه. فلم أزل به أداريه وألطف به حتى طابت نفسه لي بذلك، فجهزني إلى
الكوفة وقال لي: إذا صرت إليها فاسأل عن دور بني حي، فإن أدللت عليها فاقصدها في
السكة الفلانية، وستري في وسط السكة دارا لها باب صفته كذا وكذا، فاعرفه
(هامش)
(1) مقاتل الطالبيين: ص 479 - 480. (*)
ص 383
واجلس بعيدا منها في أول السكة، فإنه سيقبل عليك عند المغرب كهل طويل مسنون الوجه
قد أثر السجود في جبهته، عليه جبة صوف، يستقي الماء على جمل [وقد انصرف يسوق الجمل]
لا يضع قدما ولا يرفعها إلا ذكر الله عز وجل ودموعه تنحدر، فقم وسلم عليه وعانقه،
فإنه سيذعر منك كما يذعر الوحش، فعرفه نفسك وانتسب له، فإنه يسكن إليك ويحدثك
طويلا، ويسألك عنا جميعا ويخبرك بشأنه ولا يضجر بجلوسك معه، ولا تطل عليه وودعه،
فإنه سوف يستعفيك من العودة إليه، فافعل ما يأمرك به من ذلك. فإنك إن عدت إليه توار
ى عنك، واستوحش منك وانتقل عن موضعه، وعليه في ذلك مشقة!! فقلت: أفعل كما أمرتني،
ثم جهزني إلى الكوفة وودعته وخرجت، فلما وردت الكوفة قصدت سكة بني حي بعد العصر،
فجلست خارجها بعد أن تعرفت الباب الذي نعته لي، فلما غربت الشمس إذا أنا به قد أقبل
يسوق الجمل، وهو كما وصف لي أبي: لا يرفع قدما ولا يضعها إلا حرك شفتيه بذكر الله،
ودموعه ترقرق في عينيه وتذرف أحيانا، فقمت فعانقته، فذعر مني كما يذعر الوحش من
الأنس. فقلت: يا عم، أنا يحيى بن الحسين بن زيد ابن أخيك، فضمني إليه وبكى حتى قلت
قد جاءت نفسه! ثم أناخ جمله وجلس معي فجعل يسألني عن أهله رجلا رجلا، وامرأة امرأة،
وصبيا صبيا، وأنا أشرح له أخبارهم وهو يبكي، ثم قال: يا بني أنا أستقي على هذا
الجمل الماء، فأصرف ما أكتسب - يعني من أجرة الجمل إلى صاحبه وأتقوت باقيه، وربما
عاقني عائق عن استقاء الماء فأخرج إلى البرية - يعني بظهر الكوفة - فألتقط ما يرمي
الناس به من البقول فأتقوته! وقد تزوجت إلى هذا الرجل ابنته وهو لا يعلم من أنا إلى
وقتي هذا! فولدت مني بنتا، فنشأت وبلغت وهي أيضا لا تعرفني ولا تدري من أنا، فقالت
لي أمها: زوج ابنتك بابن فلان السقاء - لرجل من جيراننا يسقي الماء - فإنه أيسر منا
وقد خطبها، وألحت علي، فلم أقدر على إخبارها بأن ذلك غير جائز، ولا هو بكف ء لها،
فيشيع خبري فجعلت تلح علي فلم أزل أستكفي الله أمرها حتى ماتت بعد أيام، فما أجدني
آسى على شيء من الدنيا أساي على أنها ماتت ولم تعلم
ص 384
بموضعها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! قال: ثم أقسم علي أن أنصرف ولا أعود إليه وودعني. فلما
كان بعد ذلك صرت إلى الموضع الذي انتظرته فيه لأراه فلم أره، وكان آخر عهدي به (1).
نعم، إن وضع الطالبيين كان هكذا، بل أسوأ حالا، نكتفي منه بهذا العرض التاريخي
الموجز، وننتقل إلى حديث الوضوء ودور الطالبيين في ترسيخ ما سمعوه عن آبائهم من
وضوء رسول الله.
المنصور والوضوء
جاء في كتاب الرجال للكشي عن حمدويه وإبراهيم ابني
نصير، عن محمد ابن إسماعيل الرازي، عن أحمد بن سليمان، عن داود الرقي قال: دخلت على
أبي عبد الله - أي الصادق - فقلت له: جعلت فداك، كم عدة الطهارة؟ فقال: (ما أوجبه
الله فواحدة، وأضاف إليها رسول الله واحدة لضعف الناس، ومن توضأ ثلاثا ثلاثا فلا
صلاة له)، أنا معه في ذا حتى جاءه داود بن زربي، فسأله عن عدة الطهارة؟ فقال له:
(ثلاثا ثلاثا، من نقص عنه فلا صلاة)! قال: فارتعدت فرائصي، وكاد أن يدخلني الشيطان،
فأبصر أبو عبد الله إلي وقد تغير لوني، فقال: (اسكن يا داود، هذا هو الكفر أو ضرب
الأعناق). قال: فخرجنا من عنده، وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور،
وكان قد ألقى إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي، وأنه رافضي يختلف إلى جعفر بن محمد.
فقال أبو جعفر: اني مطلع إلى طهارته، فإن توضأ وضوء جعفر بن محمد - فإني لأعرف
طهارته - حققت عليه القول وقتلته. فاطلع وداود يتهيأ للصلاة من حيث لا يراه، فأسبغ
داود بن زربي الوضوء
(هامش)
(1) مقاتل الطالبيين: ص 409 - 410. (*)
ص 385
ثلاثا ثلاثا كما أمره أبو عبد الله، فما تم وضوءه حتى بعث إليه أبو جعفر المنصور
فدعاه. قال: فقال داود: فلما أن دخلت عليه رحب بي وقال: يا داود قيل فيك شيء باطل،
وما أنت كذلك، قد اطلعت على طهارتك وليس طهارتك طهارة الرافضة، فاجعلني في حل، وأمر
له بمائة ألف درهم! قال: فقال داود الرقي: التقيت أنا وداود بن زربي عند أبي عبد
الله، فقال له داود بن زربي: جعلت فداك، حقنت دماءنا في دار الدنيا، ونرجو أن ندخل
بيمنك وبركتك الجنة. فقال: (فعل الله ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين). فقال أبو
عبد الله لداود بن زربي: (حدث داود الرقي بما مر عليكم حتى تسكن روعته). قال: فقال
أبو عبد الله: (لهذا أفتيته، لأنه كان أشرف على القتل من يد هذا العدو) ثم قال: (يا
داود بن زربي توضأ مثنى مثنى ولا تزيدن عليه، فإنك إن زدت عليه فلا صلاة لك) (1).
فالحكومة والحكام بتقويتهم للخلافات الفقهية السابقة بين الصحابة وتبنيهم لاراء
المخالفين لعلي وولده، كانوا يسعون إلى إثارة الرأي العام ضد أتباع علي والاخذين
بفقه جعفر بن محمد الصادق بحجة انهم قد خرجوا عن إرادة الأمة وأتوا بالذي لا تأنسه
العامة، وان الخروج عن الجماعة فسق!! والأمام الصادق كان لا يريد إعطاء المبرر بيد
الحكام للنيل من شيعته ومواليه. ومن خلال انتهاجه التقية كان يريد الحفاظ على
المؤمنين من شيعته وصونهم من بطش السلطة، وقد نقل عنه بأنه مسح أذنيه (2) وعنقه (3)
وأخذ ماء
(هامش)
(1) رجال الكشي ص 312 رقم 564، التهذيب 1: 82 / 214، الاستبصار 1: 71 / 219،
الوسائل 1: 443. (2) وسائل الشيعة 1: 405 ح 1052. (3) وسائل الشيعة 1: 411 ح 1070
و1072. (*)
ص 386
جديدا لمسح الرأس (1) بل مسح جميع رأسه (2) وغسل رجليه (3)، فتحمل جميع هذه
الروايات على التقية لما علم من مذهبه في الوضوء ولما ثبت صدوره عنه. هذا وان ضغط
الحكام على الصادق وغيره من أئمة أهل البيت لم يقتصر على الوضوء بل كانوا يريدون
توحيد المسلمين على فقه مالك بن أنس وفي جميع أبواب الفقه لقول المنصور له: (لنحمل
الناس على علمك) أو قوله: (لنجعل العلم علما واحدا). وقد ثبت في التاريخ أن السلطة
حصرت الأفتاء أيام الموسم بمالك، وكان مناديها يهتف: لا يفتي الناس إلا مالك؟!. وقد
جاء في وسائل الشيعة بأن الصادق كان يقول بناقضية القبلة للوضوء وكذا مس باطن الدبر
والأحليل (4) وغيرها. وقد حمل فقهاء الشيعة تلك الأخبار على التقية، وبرهنوا على ان
تلك الأخبار - كغيرها من أخبار التقية - تدل بنفسها على نفسها بأنها صدرت تقية
لمخالفتها للنصوص القرآنية والثابت الصحيح من مروياتهم. فقد جاء في التهذيب
والاستبصار عن سماعة أنه سأل الصادق عن الرجل لمس ذكره أو فرجه أو أسفل من ذلك وهو
قائم يصلي، يعيد وضوءه؟ فقال: (لا بأس بذلك، إنما هو من جسده) (5). وجاء في تفسير
العياشي عن قيس بن رمانة أنه سأل الصادق: أتوضأ ثم أدعو الجارية فتمسك بيدي فأقوم
فأصلي، أعلي وضوء؟
(هامش)
(1) وسائل الشيعة 1: 408 ح 1060 و1061 و1062. (2) وسائل الشيعة 1: 412 ح 1071. (3)
مستدرك الوسائل 1: 327. (4) وسائل الشيعة 1: 272 ح 712 عن التهذيب 1: 22 / 56 و45 /
127، الاستبصار 1: 88 / 280 و284. (5) التهذيب 1: 346 / 1015، الاستبصار 1: 88 /
283. (*)
ص 387
قال: (لا). قال: يزعمون أنه اللمس؟ قال: (لا والله، ما اللمس إلا الوقاع) - يعني
الجماع - ثم قال: (كان أبو جعفر - أي الباقر - بعدما كبر يتوضأ ثم يدعو الجارية
فتأخذ بيده فيقوم فيصلي) (1). نعم ان صدور مثل هذه الروايات عن الصادق تدلل على ان
الوضع الديني لم يكن عاديا، بل نرجح - على فرض صدور الروايات عنه - أن صدورها كان
في السنين الثلاث الأخيرة من عمره الشريف، أي بعد الأطاحة بثورتي النفس الزكية في
المدينة وأخيه إبراهيم الأمام بالبصرة. وان الواقف على مجريات الأحداث في العهد
العباسي وخصوصا في النصف الثاني من عهد المنصور إلى أواخر عهد الرشيد، والعارف
بأساليب الحكام والأرهاب ضد أولاد علي وشيعته.. يدرك مدى الظلم الواقع على أهل
البيت آنذاك. وقد مر عليك سابقا خبر ريطة وجثث الهاشميين وتسليم تلك الخزانة للمهدي
العباسي، وخبر يحيى بن عبد الله بن الحسن وأنه لم يكن قادرا أن يصرح بأن بنته هي
بنت رسول الله وليس له أن يزوجها لذلك السقاء. وقرأت قبلها عن بني الحسن وكيف سامهم
المنصور إذلالا وأودعهم بطون السجون المظلمة بحيث كانوا لا يعرف وقت الصلاة فيها
إلا بتلاوة علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن (2). إن من يقف على هذه الأمور يدرك أن
التقية كانت هي السبيل الأوحد لبقاء فقه العلويين ونهجهم، علما بأن التقية لم تكن
نفاقا كما يطرحه البعض، إذ ان النفاق هو إظهار الأيمان مع كتمان الكفر. أما التقية
فهي إظهار المسايرة والموافقة والعمل بخلاف الواقع لحفظ الدماء والأعراض وما شابه
ذلك، وكتمان الأيمان.. ضمانا لاستمرار مسيرة الخط الإسلامي الأصيل. بعبارة أخرى:
الكافرون هم الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، مثل
(هامش)
(1) تفسير العياشي 1: 243 / 142. (2) مقاتل الطالبيين، ص 192 و194. (*)
ص 388
قوله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم
إنما نحن مستهزؤن). فهذا.. إيمان ظاهر + كفر باطن = نفاق. أما أهل التقية فمثلهم
مثل مؤمن آل فرعون، فإنه كان يكتم في الباطن إيمانه ولا يعلم به إلا الله، ويتظاهر
لفرعون وللناس جميعا على انه على دين فرعون، خوفا على نفسه من القتل. وقد عظم الله
تعالى مبادرته هذه وأشاد بذكره في محكم كتابه: وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم
إيمانه. وقد ذهب إلى العمل بالتقية أكثر العلماء وقد ثبت عن الأمام أبي حنيفة أنه
أباح قذف المحصنات وترك الصلاة والأفطار في شهر رمضان تقية وحيث كان مكرها، وهكذا
الحال بالنسبة إلى مالك فإنه اتقى الأمويين والعباسيين واستدل بقوله تعالى إلا أن
تتقوا منهم تقاة على جواز التقية في معرض حديثه عن طلاق المكره، اما الأمام الشافعي
فلا يرى كفارة على الأنسان الذي حلف بالله كذبا تحت الأكراه، والنووي الشافعي لا
يرى القطع بحق السارق كرها وهكذا الحال بالنسبة إلى الأحناف والظاهري والطبري
والزيدي (1)، وقال الأمام الغزالي في إحياء علوم الدين: (إن عصمة دم المسلم واجبة،
فمهما كان القصد سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب). وأخرج جلال الدين
السيوطي في كتاب الأشباه والنظائر: قال: (ويجوز أكل الميتة في المخمصة، وإساغة
اللقمة في الخمر، والتلفظ بكلمة الكفر. ولو عم الحرام قطرا بحيث لا يوجد فيه حلال
إلا نادرا فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه). وأخرج أبو بكر الرازي الجصاص في كتابه
أحكام القرآن في تفسير قوله تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقاة (2).
(هامش)
(1) نقل الأستاذ ثامر العميدي آراء علماء أهل السنة في التقية في كتابه (دفاع عن
الكافي) 1: 627 - 656. فراجع. (2) آل عمران: 28. (*)
ص 389
قال: يعني أن تخافوا تلف التفس أو بعض الأعضاء فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير
اعتقاد لها، وهذا هو ظاهر اللفظ، وعليه الجمهور من أهل العلم، كما جاء عن قتادة في
قوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. قال: لا يحل لمؤمن
أن يتخذ كافرا وليا في دينه، وقوله تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقاة يقتضي جواز إظهار
الكفر عند التقية (1). وأخرج البخاري في صحيحه عن قتيبة بن سعيد عن سفيان عن ابن
المكندر، حدثه عن عروة بن الزبير ان عائشة أخبرته: انه استأذن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل،
فقال: (إئذنوا له فبئس ابن العشيرة) أو (بئس أخو العشيرة) فلما دخل ألان له الكلام،
فقلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له في القول؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (اي عائشة، إن
شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه) (2). فعليه ان مشروعية
التقية ثابتة في التاريخ، وقد عمل بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع المشركين. وان قضية عمار
مشهورة قد أنزل الله فيها آية، وقد مر عليك خبر مؤمن آل فرعون، ونحن على اطمئنان
بأن المسلم الذي لا يقر بالتقية سيمارسها حتما لو نزل به الظلم والأرهاب وعاش ظروف
الشيعة، وان التقية حقيقة فطرية يتمسك بها الأنسان في المهمات والملمات.
المهدي العباسيي والوضوء

تولى المهدي العباسي الخلافة عام 158 بعدما امتنع عيسى بن موسى
ولي عهده عن التنازل إلى ابنه محمد المهدي، فبدأ سياسته بالنظر في المظالم، والكف
عن القتل وإطلاق سراح السجناء السياسيين، حتى نرى الحسن بن زيد
(هامش)
(1) أحكام القرآن، للجصاص 2: 9 - 10. (2) صحيح البخاري 8: 20 - 21 كتاب الاداب -
باب 40 ما يجوز من اغتياب أهل الفسا د والريب. (*)
ص 390
يبايع المهدي بصدر منشرح ونفس طيبة. ورأى المهدي ان الحجاز، وخصوصا بعد مقتل محمد
النفس الزكية، أصبحت مركزا رئيسيا من مراكز الحركة الشيعية، فرحل إليها عام 160
ليستميل إليه أهلها حتى لا يشاركوا العلويين في حركاتهم، فأعلن المهدي في الحجاز
بداية سياسة جديدة والعفو العام، وبالغ في التقرب إليهم، حتى قيل بأن عدد الثياب
المهداة إلى أهالي مكة مائة وخمسون ألف ثوب، وصرف عليهم أموالا طائلة واهتم
بالأماكن المقدسة فيها. والشيعة كانوا على حيطة من سياسة المهدي وتعاملوا معها
بحذر. والمعروف عن المهدي انه كان يتخوف من ثلاثة أشخاص: 1 - عيسى بن موسى، ولي عهد
المنصور سابقا. 2 - عيسى بن زيد، أخو الحسن الذي بايع المهدي أولا. 3 - علي بن
العباس بن الحسن. وقد نصح المنصور المهدي بقوله: (يا بني اني قد جمعت لك من الأموال
ما لم يجمعه خليفة قبلي وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام قبلها، ولست أخاف عليك
إلا أحد رجلين: عيسى بن موسى، وعيسى بن زيد، فأما عيسى بن موسى فقد أعطاني من
العهود والمواثيق ما قبلته، ووالله لو لم يكن إلا أن يقول قولا لما خفته عليك،
فاخرجه من قلبك. وأما عيسى بن زيد فانفق هذه الأموال واقبل هؤلاء الموالي واهدم
المدينة حتى تظفر به ثم لا ألومك). علما بأن عيسى كان قد اتخذ الكوفة مركزا لنشاطه
السياسي بعد أن كان في البصرة يقاتل العباسيين مع إبراهيم حتى قتل، فالعباسيون
كانوا يراقبون تحركات الشيعة للوقوف على مكان عيسى وغيره من المجاهدين. وكانوا
يسعون للعثور عليهم على ضوء ما يمارسونه من عبادات. وقد مرت عليك النصوص السابقة
وكيف تعرفوا على يحيى، وان سليمان بن جرير جاء إلى إدريس وقال: ان السلطان طلبني
لما يعلمه من مذهبي. ومن المستحسن أن نذكر خبرا آخر عن عيسى بن زيد حتى نقف على
ظلامة الطالبيين، ثم نعرج على رواية الوضوء في هذا العهد.
ص 391
جاء في مقاتل الطالبيين عن المنذر بن جعفر العبدي عن ابنه، قال: خرجت أنا والحسن
وعلي بن صالح ابنا حي، وعبد ربه بن علقمة، وجناب بن نسطاس مع عيسى بن زيد حجاجا بعد
مقتل إبراهيم، وعيسى بيننا يستر نفسه في زي الجمالين، فاجتمعنا بمكة ذات ليلة في
المسجد الحرام، فجعل عيسى بن زيد والحسن بن صالح يتذاكران أشياء من السيرة، فاختلف
هو وعيسى في مسألة منها - وغالبا ما كانوا يختلفون - فلما كان من الغد دخل علينا
عبد ربه بن علقمة فقال: قدم عليكم الشفاء فيما اختلفتم فيه، هذا سفيان الثوري قد
قدم، فقاموا بأجمعهم فخرجوا إليه، فجاءوه وهو في المسجد جالس، فسلموا عليه. ثم سأله
عيسى بن زيد عن تلك المسألة، فقال: هذه مسألة لا أقدر على الجواب عنها لأن فيها
شيئا على السلطان (مع العلم ان الثوري كان من المخالفين للسلطان وكان متواريا عن
الأنظار). فقال له الحسن: انه عيسى بن زيد، فنظر إلى خباب بن نسطاس مستثبتا. فقال
له جناب: نعم، هو عيسى بن زيد، فوثب سفيان فجلس بين يدي عيسى وعانقه وبكى بكاء
شديدا واعتذر إليه مما خاطب به من الرد، ثم أجابه عن المسألة وهو يبكي. وأقبل علينا
فقال: ان حب بني فاطمة والجزع لهم مما هم عليه من الخوف والقتل والتشريد ليبكي من
في قلبه شيء من الأيمان. ثم قال لعيسى: قم بأبي أنت، فاخف شخصك لا يصيبك من هؤلاء
شيء نخافه، فقمنا فتفرقنا (1). هذا والمعروف عن المهدي انه كان يراقب حركات الشيعة،
وكان قد أمر واليه على الكوفة أن يخبره عن مكان اختفاء عيسى. ولما اجتمع بعض زعماء
الزيدية في بيت عيسى هجم عليهم الوالي مع عدد من جيشه، وألقى القبض على المجتمعين
وبعثهم إلى المهدي، فأمر بسجنهم، وظل عيسى في السجن حتى مات. وبذلك تتأكد لنا وحدة
كلمة الطالبيين - حسنيين وحسينيين - وأن فقههم كان
(هامش)
(1) مقاتل الطالبيين: ص 415 - 416. (*)
ص 392
غير فقه الحكام، وأن الحكام كانوا يستخدمون الشريعة للتعرف على الطالبيين. وقد
قدمنا شواهد وإليك نصا آخر: أخرج الشيخ الطوسي بسنده إلى داود بن زربي قال: سألت
الصادق عن الوضوء؟ فقال لي: (توضأ ثلاثا ثلاثا) ثم قال لي: (أليس تشهد بغداد
وعساكرهم؟!). قلت: بلى قال [داود]: فكنت يوما أتوضأ في دار المهدي، فرآني بعضهم
وأنا لا أعلم به، فقال: كذب من زعم أنك رافضي وأنت تتوضأ هذا الوضوء. قال: فقلت:
لهذا والله أمرني (1). وقد نقل الطبري لنا نصا يكفينا تعريفا بالمهدي وشدة بغضه
لعلي، فقد جاء في الطبري أن القاسم بن مجاشع التميمي عرض على المهدي وصيته - وكان
فيها بعد الشهادة بالوحدانية ونبوة محمد (وان علي بن أبي طالب وصي رسول الله ووارث
الأمامة من بعده) - فلما بلغ المهدي إلى هذا الموضع رمى بالوصية ولم ينظر فيها (2).
الرشيد والوضوء

جاء في الأرشاد للمفيد: عن محمد بن الفضل قال: اختلفت الرواية من
بين أصحابنا في مسح الرجلين في الوضوء، أهو من الأصابع إلى الكعبين أم من الكعبين
إلى الأصابع؟ فكتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن موسى بن جعفر: جعلت فداك، إن أصحابنا
قد اختلفوا في مسح الرجلين، فان رأيت أن تكتب إلي بخطك ما يكون
(هامش)
(1) التهذيب 1: 82 / 214، الاستبصار 1: 71 / 219، وسائل الشيعة 1: 443. (2) انظر:
تاريخ الطبري 8: 176 حوادث 169. (*)
ص 393
بحسبه، فعلت إن شاء الله. فكتب إليه أبو الحسن: (فهمت ما ذكرت من الاختلاف في
الوضوء، والذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثا وتستنشق ثلاثا، وتغسل وجهك ثلاثا،
وتخلل شعر لحيتك وتغسل يدك إلى المرفقين ثلاثا، وتمسح رأسك كله، وتمسح ظاهر أذنيك
وباطنهما، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثا، ولا تخالف ذلك إلى غيره). فلما وصل
الكتاب إلى علي بن يقطين، تعجب مما رسم له مما أجمع العصابة على خلافه، ثم قال:
مولاي أعلم بما قال، وأنا ممتثل أمره، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد، ويخالف ما
عليه جميع الشيعة، امتثالا لأمر أبي الحسن. وسعي بعلي بن يقطين إلى الرشيد، وقيل
له: انه رافضي مخالف لك. فقال الرشيد لبعض خاصته: قد كثر عندي القول في علي بن
يقطين، والقرف - أي الاتهام - له بخلافنا، وميله إلى الرفض، ولست أرى في خدمته لي
تقصيرا، وقد امتحنته مرارا، فما ظهر منه علي ما يقرف به، وأحب أن استبري أمره من
حيث لا يشعر بذلك فيتحرز مني فقيل له: ان الرافضة يا أمير المؤمنين تخالف الجماعة
في الوضوء فتخففه، ولا ترى غسل الرجلين، فامتحنه من حيث لا يعلم بالوقوف على وضوئه.
فقال: أجل، إن هذا الوجه يظهر به أمره. ثم تركه مدة وناطه بشيء من الشغل في الدار
حتى دخل وقت الصلاة، وكان علي بن يقطين يخلو في حجرة في الدار لوضوئه وصلاته، فلما
دخل وقت الصلاة وقف الرشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يرى علي بن يقطين ولا يراه هو،
فدعا بالماء للوضوء، فتمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه، وخلل شعر لحيته وغسل
يديه إلى المرفقين ثلاثا، ومسح رأسه وأذنيه، وغسل رجليه، والرشيد ينظر إليه، فلما
رآه الرشيد فعل ذلك لم يملك نفسه حتى أشرف عليه بحيث يراه، ثم ناداه: كذب [يا علي
بن يقطين] من زعم انك من الرافضة، وصلحت حاله عنده.
ص 394
وبعد ذلك ورد عليه كتاب من أبي الحسن: (ابتدئ من الان يا علي بن يقطين، توضأ كما
أمر الله، اغسل وجهك مرة فريضة وأخرى إسباغا، واغسل يديك من المرفقين كذلك، وامسح
بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كان يخاف عليك، والسلام)
(1).
العباسيون وتأصيل المذاهب الأربعة
قدمنا سابقا عناية الحكومة العباسية بالفقه
المخالف لال البيت واحتواء العباسيين لخطي الأثر والرأي. لما في انتشار مذهب آل
البيت من تضعيف لخط الحكومة وتقوية لمنافسيهم على منصب الخلافة. وان احتواءهم لخطي
الأثر والرأي هو تعضيد لحكمها وتمسك بالصفة شرعيتها، لأن رواد الخط الأول لا يرتؤون
شرعية الخلافة العباسية خلافا لرواد الخط الثاني، فانهم انخرطوا في سلك الدولة
وترعرعوا في أحضانها وتولوا منصب القضاء، واستغلت الدولة قدراتهم وطاقاتهم العلمية
في صالحها، ولذلك ترى الحكومة العباسية تؤكد على رفض آراء الخط الأول، وإن كان عبد
الله بن عباس - جدهم الأعلى - من روادها والدعاة إليها. بعد كل ذلك نحاول المرور
سريعا بالمذاهب الأربعة التي أصلت آنذاك قبال مذهب علي وعبد الله بن عباس وأهل
البيت، لنأخذ فكرة إجمالية عنها، وكيف أن هذه المذاهب جعلت الوضوء الثلاثي الغسلي
الذي ركزت عليه الحكومة العباسية كنقطة من نقاط الاختلاف التي يمكن من خلالها معرفة
مخالفيها العقائديين والفقهيين.
(هامش)
(1) الأرشاد 2: 227، المناقب، لابن شهرآشوب 4: 288، الخرائج والجرائح 1: 335 / 26،
أعلام الورى: ص 293، البحار 48: 38 / 14، وسائل الشيعة 1: 444 / 1173، جامع أحاديث
الشيعة 2: 291. (*)
ص 395
مذهب الأمام أبي حنيفة وأول مذهب يطالعنا في ذلك العصر وأقدمه هو مذهب الأمام أبي
حنيفة، فإن الأمام كان من أوائل الذين تقدموا لمبايعة أبي العباس السفاح في جملة من
بايعه من الفقهاء، حيث أن الناس كانوا يتشوقون لحكم وعدهم بإقامة العدل والسنة
لينقذهم من جور الأمويين. لكن أبا حنيفة سرعان ما أدرك انحراف العباسيين وشراءهم
لضمائر بعض الفقهاء والعلماء، فابتعد عن السلطة ورفض أن يتولى القضاء للمنصور
العباسي رغم كل السبل التي اقتفاها لاحتوائه، فكلما ازدادوا إلحاحا عليه ازداد
ابتعادا عنهم ورفضا لتولي القضاء، حتى وصل الأمر إلى سجنه وتعذيبه، وقيل: انه مات
مسموما على أيدي العباسيين. وعلى كل حال فإنه لم يدون فقهه للسلطان ولا لغيره،
اللهم إلا وريقات باسم (الفقه الأكبر) في العقائد نسبت إليه، ولم يصح ذلك على وجه
القطع واليقين. ثم أن السلطات بعد وفاة الأمام أبي حنيفة استطاعت أن تحتوي اثنين من
أكبر تلامذته، هما: أبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن الشيباني اللذين كانا ينسبان
كل ما وصلا إليه من رأي إلى أبي حنيفة! وكان أبو يوسف قد انضم إلى السلطة العباسية
أيام المهدي العباسي سنة 158 وظل على ولائه أيام الهادي والرشيد، ودون من كتب
الفقه: الصلاة، الزكاة، الصيام، الاثار، الفرائض، البيوع، الحدود، الوكالة، الوصايا
والصيد، الذباحة، وكتاب اختلاف الأمصار، وكتاب الرد على مالك بن أنس. وأهم كتبه:
كتاب الخراج، الذي ألفه بناء على طلب من الخليفة هارون الرشيد في جباية الخراج،
فالمؤلف خرج عن حدود تلك الدائرة إلى موضوع الأمامة والخلافة وشؤون القضاء والحرب!
وقد ذكر المؤرخون سبب اتصال أبي يوسف بالرشيد وتوثيق علاقاته معه: ان بعض القواد
حنث في يمين، فطلب فقيها يستفتيه فيها، فجئ بأبي يوسف، فأفتاه انه لم يحنث، فوهب له
دنانير وأخذ له دارا بالقرب منه واتصل به.
ص 396
فدخل القائد يوما على الرشيد فوجده مغموما، فسأله عن سبب غمه، فقال: شيء من أمر
الدين قد حزبني، فاطلب لي فقيها أستفتيه، فجاءه بأبي يوسف. قال أبو يوسف: فلما دخلت
إلى ممر بين الدور، رأيت فتى حسنا أثر الملك عليه { الظاهر انه الامين بن الرشيد }
وهو في حجرة في الممر محبوس، في الممر محبوس، فأومأ إلى بإصبعه مستغيثا، فلم أفهم
عنه إرادته، وأدخلت إلى الرشيد، فلما مثلت بين يديه، سلمت، ووقفت. فقال لي: ما
اسمك؟ قلت: يعقوب، أصلح الله أمير المؤمنين. قال: ما تقول في إمام شاهد رجلا يزني،
هل يحده؟ قلت: لا يجب ذلك. قال: فحين قلتها سجد الرشيد، فوقع لي أنه قد رأى بعض
أولاده الذكور على ذلك، وأن الذي أشار إلي بالاستغاثة هو الابن الزاني! قال: ثم رفع
رأسه وقال: ومن أين قلت هذا؟ قلت: لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال (ادرؤوا الحدود بالشبهات)،
وهذه شبهة يسقط الحد معها. فقال: وأي شبهة مع المعاينة؟ قلت: ليس توجب المعاينة
لذلك أكثر من العلم بما جرى، والحكم في الحدود لا يكون بالعلم. قال: ولم؟ قلت: لأن
الحد حق الله تعالى، والأمام مأمور بإقامة الحد، فكأنه قد صار حقا له، وليس لأحد
أخذ حقه بعلمه، ولا تناوله بيده، وقد أجمع المسلمون على وقوع الحد بالأقرار
والبينة، ولم يجمعوا على إيقاعه بالعلم. قال: فسجد مرة أخرى، وأمر لي بمال جليل،
ورزق في الفقهاء في كل شهر، وأن ألزم الدار. قال: فما خرجت حتى جاءتني هدية الفتى
وهدية أمه وأسبابه، فحصل لي
ص 397
من ذلك ما صار أصلا للنعمة، وانضاف رزق الخليفة إلى ما كان يجريه علي ذلك القائد.
ولزمت الدار، فكان هذا الخادم يستفتيني، وهذا يشاورني، فأفتي وأشير، فصارت لي مكنة
فيهم، وحرمة بهم، وصلاتهم تصل إلي وحالتي تقوى. ثم استدعاني الخليفة وطاولني
واستفتاني في خواص أمره وأنس بي، فلم حالي تزل تقوى معه حتى قلدني قضاء القضاة (1).
هذا حال أشهر تلامذة الأمام أبي حنيفة الناشر لفقهه والمدون لارائه. وقد وقفت على
دور الدولة في الأخذ بفتواه والعمل برأيه وجعله قاضيا للقضاة، وجلوسه في البيت
لأفتاء الناس!! أما محمد بن الحسن الشيباني، فهو ثاني أبرز تلامذة أبي حنيفة، وقد
درس عليه وناظر وسمع الحديث، لكن غلب عليه الرأي. قدم بغداد ودرس فيها، ثم خرج إلى
الرقة وفيها هارون الرشيد، فولاه قضاء الرقة، وأخرجه هارون معه إلى الري فمات بها.
كان ملازما للسلطة العباسية وألف في الفقه الكثير. قال أبو علي الحسن بن داود: فخر
أهل البصرة بأربعة كتب، منها: كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب الحيوان له،
وكتاب سيبويه، وكتاب الخليل في العين، ونحن نفخر بسبعة وعشرين ألف مسألة في الحلال
والحرام عملها رجل من أهل الكوفة يقال له محمد بن الحسن الشيباني قياسية عقلية لا
يسع الناس جهلها (2). وقد ألف كتاب (الجامع الصغير) عن أبي يوسف عن أبي حنيفة،
و(الجامع الكبير)، وله مؤلفات فقهية أخرى، منها: (المبسوط في فروع الفقه)
و(الزيادات) و(المخارج من الحيل) و(الأصل) و(الحجة على أهل المدينة) وغيرها من
(هامش)
(1) نقلنا النص عن نشوار المحاضرة 1: 252، وانظر: وفيات الأعيان ذلك. (2) تاريخ
بغداد 2: 177. (*)
ص 398
الكتب (1). فهذا حال التدوين عند أصحاب أبي حنيفة والمسائل التي سار عليها طائفة
كبيرة من المسلمين. وبذلك اتضح لك دور السلطة في انتشار مذهب أو التعتيم على آخر،
وأن مهنة القضاء وتوجه الحكام إلى البعض من العلماء كان له الدور الأكبر في تعرف
الناس على ذلك المذهب أو الفقيه. وقد عرفت بأن ازدياد عدد أتباع هذا المذهب أو ذاك
يرجع إلى العوامل الجانبية والسياسية لا المقومات الأساسية وقوة دليل المذهب، بل
لمسايرته الساسة جنبا إلى جنب. ولأجل تولي مهنة القضاء والتقرب إلى السلطان وغيره
ترى الكثير من العلماء يتحولون من مذهب إلى آخر طلبا لرفد السلطان. فهذا الأمير
يلبغا بن عبد الله الخاصكي الناصري كان يتعصب لمذهب أبي حنيفة، ويعطي لمن تحول إليه
العطاء الجزيل (2). وقيل عن أبي البركات الحنفي: انه تحول إلى المذهب الحنبلي (3).
وأبو بكر البغدادي: انه تحول إلى الشافعي وولي القضاء. وكان أبو المظفر يوسف بن
فرغلي سبط ابن الجوزي حنبليا، نقله الملك المعظم إلى مذهب أبي حنيفة (4)، وغيرهم.
إذن، فمهنة القضاء كانت من المناصب التي يمكن اعتبارها إحدى أسباب التحول من مذهب
إلى آخر. مذهب الأمام مالك بعد يأس المنصور من احتواء الأمام أبي حنيفة، توجه إلى
الأمام مالك
(هامش)
(1) الأعلام، للزركلي 6: 80. (2) شذرات الذهب 6: 213 - 214. (3) انظر أخباره في كتب
التراجم. (4) شذرات الذهب 5: 267. (*)
ص 399
ليكتب له (الموطأ)، وقال له: انه سيحمل الناس على ذلك، ويجعل العلم علما واحدا!
وبعد وفاة المنصور تمكن المهدي العباسي من احتواء كلا الخطين، إذ أناط إلى أبي يوسف
مهنة القضاء وقربه إليه، في حين كان المنصور قبله قد كسب الأمام مالكا، وقد قرأت
ذلك سابقا وعرفت تفانيه في خدمة المنصور. وقد نقل عن الأمام مالك انه قال للمنصور:
(لو لم يرك الله أهلا لذلك ما قدر لك ملك أمر الأمة، وأزال عنهم الملك من بعد نبيهم
ولقرب هذا الأمر إلى أهل بيته. أعانك الله على ما ولاك وألهمك الشكر على ما خولك،
وأعانك على ما استرعاك) واتخاذ هذا الموقف من قبل مالك لصالح الحكام جعل أستاذه
ربيعة الرأي يبتعد عنه ويكرهه، لأنه كان لا يداهن السلطان ولا يرتضي التعامل معهم،
فلذلك هجر الناس - تبعا للحكومة - ربيعة الرأي، والتفوا حول مالك. وعلى أي حال، فقد
اعتذر المنصور من مالك في سنة 150 أو 151 لما أصابه من الضرب على يد والي المدينة،
فقربه ولاطفه وطلب منه أن يؤلف له كتابا في الفقه ليكون المعول عليه عند المسلمين.
فقال: (يا عبد الله، ضع هذا العلم ودونه، وتجنب فيه شواذ عبد الله بن مسعود ورخص
ابن عباس وشدائد ابن عمر، واقصد إلى أوسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة،
لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثها في الأمصار، ونعهد إليهم ألا
يخالفوها ولا يقضوا بسواها) (1). فاستجاب مالك لطلب المنصور، وألف (الموطأ) مع علمه
بأن أهل العراق لا يستجيبون لما كتبه، لكن المنصور طمأنه بأنه سيحملهم عليها بالقوة
والسلطان!! فصار (الموطأ) دستور الحكومة، وأول كتاب دون في الحديث للدولة العباسية.
وقد روي أن أبا يحيى معن بن عيسى القزاز قرأ الموطأ على مالك للرشيد
(هامش)
(1) الأمامة والسياسة 2: 150. (*)
ص 400
وبينه، وكان القزاز هذا قد أخذ أربعين ألف مسألة عن مالك (1). وأمر الرشيد عامله
على المدينة بأن لا يقطع أمرا دون مالك، واشتهر عن الرشيد أنه كان يجلس على الأرض
أمامه لاستماع حديثه. قال ابن حزم: مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة
والسلطان، مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي أبو يوسف القضاء كان لا يولي قاضيا إلا من
أصحابه والمنتسبين إلى مذهبه، والثاني مذهب مالك... (2). فلاحظ كيف صار فقه رسول
الله يدون من قبل الحكام الذين لا يهمهم إلا الحكم!! وكيف استغلوا الفقهاء لترجيح
الاراء المخالفة لفقه الطالبيين وأنصار التعبد المحض، ليكون نهجا في الحياة دون فقه
أهل البيت. وقد طمأن مالك المنصور بأن الفقه سيبقى في أيديهم وليس لأهل البيت نصيب
فيه، فجاء فيما قاله: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، أما هذا الصقع فقد كفيتكه، وأما
الشام ففيه الرجل الذي علمته - يعني الأوزاعي. وأما أهل العراق فهم أهل العراق!!
وأن جملة (وأما الشام ففيه الرجل الذي علمته) تعني عداءه وبغضه لأهل البيت، وأنها
هي المطلوبة، أي أنك قد حصلت على النتيجة دون مقدمات. وقد عرف عن المنصور أنه كان
يعظمه ويراسله لما عرف عنه من الانحراف عن آل محمد. قال الدهلوي في حجة الله
البالغة: (فأي مذهب كان أصحابه مشهورين وأسند إليهم القضاء والأفتاء واشتهرت
تصانيفهم في الناس، ودرسوا درسا ظاهرا انتشر في أقطار الأرض، لم يزل ينتشر كل حين.
وأي مذهب كان أصحابه خاملين، ولم يولوا القضاء والافتاء، ولم يرغب فيهم الناس اندرس
بعد حين) (3).
(هامش)
(1) طبقات الفقهاء، لأبي إسحاق الشيرازي: 148. (2) وفيات الأعيان 6: 144. (3)
الأمام الصادق والمذاهب الأربعة 2: 11، عن حجة الله البالغة 1: 151. (*)
ص 401
هذا بالنسبة إلى المذاهب الحكومية، أما مذهب أهل البيت فلم يكن يسمح بتداوله، بل إن
اتباع هذا المذهب، بممارساتهم الطقوس الدينية والعبادات الشرعية، يعرفون أنهم من
المخالفين لنظام السلطة. هذا وان أشهر كتب المذهب المالكي هي: المدونة، الواضحة،
العتيبة، الموازنة. لنرجع قليلا وندرس هدف المنصور من توحيد الفقه وجعله فقها واحدا
وهنا آراء عدة: أولها: حرص المنصور على الإسلام والدين حدا به أن يسعى لردم هوة
الخلاف وتوحيد المذاهب في مذهب واحد!! إلا أن هذا الرأي منقوض بما عرف عن عدم تدين
المنصور وشدة ولعه بالدماء، وعدم رعايته لما أوجبه الله، بل تهتكه وإهانته للعلماء.
ولو سلمنا جد لا بسلامة نيته، فلماذا يكون مذهب مالك هو المختار دون غيره؟ ولم يكون
مذهبه دون غيره مجزيا ومبرئا للذمة، مع وجود فقهاء آخرين كربيعة الرأي مثلا؟ ولماذا
نراه يعلم الأمام مالكا ويرسم له طريق التدوين (تجنب شدائد ابن عمر، وشواذ ابن
مسعود، ورخص ابن عباس) إن كان مالك مختارا؟!! ولماذا يقول له: (خذ بكلام ابن عمر
وإن خالف عليا وابن عباس)؟! وغيرها. ثانيها: المعروف أن المنصور طلب من مالك أن
يدون الفقه لما علم من رسالة ابن المقفع إلى جمع من الصحابة ذاكرا فيها نقائص وعيوب
نظام القضاء - في عهد المنصور بالقياس إلى ما كان في عهد الدولة الأموية -. وهذا
الرأي أيضا لا يصمد للتحقيق والنقد، إذ نراه يواجه نفس الأشكال السابق وهو فقدان
المرجح الذي يرجح مذهب مالك على سائر المذاهب، واختصاص كتابه (الموطأ) به مع وجود
علماء كبار يشهد مالك بأنهم أفضل منه وأعلم. ثم إن خلل نظام القضاء يزعزع كيان
الدولة، فلو كان ذلك هو الباعث على
ص 402
طلب المنصور من مالك توحيد الفقه لكان الوقت أهم ما يراد اختزاله وعدم التفريط به،
إذ كان بإمكان المنصور جمع عدد كبير من الفقهاء لتعيين دستور فقهي موحد للدولة
بأسرع وقت، لا أن يستغرق مالك عشر سنين أو أكثر لتدوين كتاب واحد، والناس أحوج ما
يكونون إليه. فقد بدأ مالك بتأليف الموطأ سنة 148 ه وانتهى منه سنة 159 ه، فلا
يعقل أن يتعطل قضاء أكبر دولة ويبقى مختلا كل هذه المدة المديدة. ثالثها: هو ما
يوصلنا إليه البحث الموضوعي، ويعضده ما نعرف من دهاء المنصور ومسلكه في التضليل،
وهو: ان المنصور خاف من انتشار مذهب أهل البيت بعد أن اجتمع بباب جعفر بن محمد
الصادق نحو أربعة آلاف راو يأخذون عنه العلم، فخشي المنصور من ميل الناس إليه،
خصوصا وأن آراءه وأفكاره مما يرتضيه المنطق والعقل وتستند إلى التقوى والورع، وتؤكد
على عدم التعاون مع الحكام، بل رفض كل مبدأ فاسد، وتدعو إلى العدل والصلاح. وأن ذلك
مما حدا بالحكام أن يرجحوا كفة أبي حنيفة ومالك ويتخذوهما أئمة دون غيرهم من
الفقهاء ويؤكدوا على الأخذ برأيهم، واعتزال مذهب الصادق والباقر من أهل البيت، لأن
تقوية مدرسة أهل البيت يشكل خطرا على الدولة ويخرج الأمر من يد الحكام، إذ عرفوا أن
حبس الصادق أو قتله لا يجدي نفعا بعد شيوع فقهه في الناس، فرأوا محاربة الفكر
بالفكر والفقه بالفقه هي الخط وة الناجحة، وبالفعل حققت هذه العملية أهدافها بعد
حين، خصوصا مع ما عرف عن عامة الناس بأنهم على دين ملوكهم! ولا يسعني هنا إلا أن
أنقل كلاما للدهلوي في حجة الله البالغة، مضمونه: إن أبا يوسف ومحمد بن الحسن صارا
يكبران في العيدين تكبير ابن عباس، لأن هارون الرشيد كان يحب تكبيرة جده (1)! وقد
ذكر الشاطبي - في القسم الخامس من الموافقات (كتاب الاجتهاد) - ما صار إليه كثير من
مقلدة الفقهاء بحيث صار أحدهم يفتي قريبه أو صديقه بما لا
(هامش)
(1) الأمام الصادق والمذاهب الأربعة 2: 166، عن حجة الله البالغة 1: 158. (*)
ص 403
يفتي به غيره من الأقوال (1) اتباعا لغرضه وشهوته، ثم ساق أحاديث في ذلك. وقال
الأستاذ السيد محمد رشيد رضا في الاعتصام معلقا على كلام الشاطبي: (ومن فروع هذه
البدعة أن بعضهم يستحل أن يجعل المرجح لأحد القولين في الفتوى ما يعطيه المستفتون
من الدراهم، فإذا جاء مستفتيان في مسألة واحدة فيها خلاف، يطلب أحدهما الفتوى
بالجواز أو الحل، والاخر يطلب الفتوى بالمنع أو الحرمة، يفتي من كان منهما أكثر
بذلا للمفتي، فهو تارة يفتي بالحل وتارة يفتي بالحرمة. والقاعدة في ذلك ما صرح به
بعض الفقهاء في بعض الكتب التي تدرس في الأزهر (نحن مع الدراهم قلة وكثرة)! فإذا
كان القولان المتناقضان صحيحين في المذهب، جاز أن يكون السحت هو المرجح في الفتوى،
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (2). وقال الشيخ محمد بن عبد الله دراز
شارح الموافقات: (بل أخرجوا الأمر عن كونه قانونا شرعيا وعدوه متجرا، حتى كتب بعض
المؤلفين في الشافعية ما نصه: (نحن مع الدراهم قلة أو كثرة))! مذهب الأمام الشافعي
أما الأمام الشافعي، فإنه ارتبط بالفقه المالكي وحفظ الموطأ منذ صباه، وأحب أن يتصل
بمالك فأخذ كتابا من والي مكة إلى والي المدينة ليدخله على مالك، فلما وصل إلى
المدينة وقدم إلى واليها الكتاب، قال الوالي: إن المشي، من جوف المدينة إلى جوف مكة
حافيا راجلا أهون علي من المشي إلى باب مالك، فلست أرى الذل حتى أقف على بابه. يبدو
من هذا الكلام أن الشافعي أراد الاتصال بمالك بعد سطوع نجمه وارتقاء محله عند
العباسيين، بحيث أن والي المدينة يشعر بالذلة والتصاغر أمام مالك والوقوف ببابه!
(هامش)
(1) الموافقات 4: 98. (2) الأمام الصادق والمذاهب الأربعة، عن الاعتصام 3: 268. (*)
ص 404
وقيل عن مالك أنه لما قرأ الكتاب، قال: (سبحان الله، أو صار علم رسول الله يؤخذ
بالوسائل). فتهيبه الوالي أن يكلمه، ثم كلمه الشافعي، فرق له ووعده أن يأتي من بعد
ليدرس عنده (1). وقد طالت تلمذة الشافعي على يد مالك ما يقارب تسع سنين، ثم إن
الشافعي أملق أشد الأملاق بعد موت مالك فرجع إلى مكة، وصادف ذلك أن قدم إلى الحجاز
والي اليمن، فكلمه بعض القرشيين، فأخذه الوالي معه، وأعطاه عملا من أعماله، وهي
ولاية نجران. ثم وشي به عند الرشيد بتهمة كونه ذا ميول علوية ويحاول الخروج على
الحكم، فأرسلوه إلى بغداد مكبلا بالحديد، فتبرأ من تهمة انخراطه مع العلويين، وأكد
إخلاصه للسلطة وشهد له صديقه محمد بن الحسن الشيباني - الذي كان قد تعرف عليه عندما
كان يدرس عند مالك ثلاث سنين، - بأنه ثقة ومن أتباع الدولة، فخلى سبيله. وبعد هذا
توطدت علاقته وصلاته بالشيباني، فأخذ يدرس عليه آراء أبي حنيفة في الرأي والقياس.
لكن الخطيب البغدادي يحدثنا عن اختلافهما في أهل البيت، فقال: قال الشافعي: لم يزل
محمد بن الحسن عندي عظيما جليلا، أنفقت على كتبه ستين دينارا حتى جمعني وإياه مجلس
عند الرشيد، فابتدأ محمد بن الحسن فقال: يا أمير المؤمنين، إن أهل المدينة خالفوا
كتاب الله نصا، وأحكام رسول الل ه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإجماع المسلمين. فأخذني ما قدم وما حدث،
فقلت: ألا أراك قد قصدت لأهل بيت النبوة ومن نزل القرآن فيهم وأحكمت الأحكام فيهم،
وقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين ظهرانيهم، عمدت تهجوهم، أرأيتك أنت بأي شيء قضيت بشهادة
امرأة واحدة قابلة حتى تورث ابن خليفة ملك الدنيا ومالا عظيما؟
(هامش)
(1) معجم الأدباء 17: 287، مناقب الفخر الرازي: 10. (*)
ص 405
قال: بعلي بن أبي طالب. قلت: إنما رواه عن على رجل مجهول يقال له عبد الله بن
نجي... إلى آخر الخبر (1). إذن فالشافعي أخذ من كلا المدرستين (1 - مدرسة الرأي
والقياس، بواسطة محمد بن الحسن، 2 - مدرسة الأثر، من مالك بن أنس)، فكان نتاجه
مدرسة جديدة خاصة به أشاعها في مصر بعدما عاد إليها من بغداد عام 199 ه مع أميرها
العباس بن عبد الله بن العباس. والمعروف عن الأمام الشافعي أنه قدم بغداد ثلاث
مرات: الأولى: سنة 184، وكانت من اليمن بسبب اتهامه بالميول العلوية. والثانية: سنة
195، بعد أن مات الرشيد. والثالثة: سنة 198، ومنها خرج بصحبة والي مصر العباس بن
عبد الله بن العباس إلى مصر. فنزل ضيفا على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم - وكان
من أكبر أنصار مذهب مالك - وكانت له مكانة ورياسة، فأكرم مثوى الشافعي وآزره. قال
ابن حجر: (إن الرشيد سأل الشافعي أن يوليه القضاء، فامتنع. فقال: سل حاجتك. قال:
حاجتي أن أعطى من سهم ذوي القربى بمصر، وأخرج إليها. ففعل ذلك وكتب له إلى أميرها
(2)). وأنه بدأ في تقوية بناء مدرسته، فهاجم مالكا لتركه الأحاديث الصحيحة لقول
واحد من الصحابة أو التابعين أو لرأي نفسه، وهاجم أبا حنيفة وأصحابه لأنهم يشترطون
في الحديث أن يكون مشهورا ويقدمون القياس على خبر الاحاد وإن صح سنده، وأنكر عليهم
تركهم بعض الأخبار لأنها غير مشهورة وعملهم بأحاديث لم تصح لأنها مشهورة، فاستاء
منه المالكيون وأخذوا يبتعدون عنه، لأنه أخذ يغير أراءه القديمة التي كان يقول بها
سابقا والتي كانت موافقة لرأي مالك في الغالب - ويرسم مكانها رأيه الجديد
(هامش)
(1) تاريخ بغداد 2: 178. (2) الأمام الصادق والمذاهب الأربعة 2: 229، عن توالي
التأسيس: 77. (*)