الشافي في الإمامة (ج3)

الصفحة السابقة الصفحة التالية

الشافي في الإمامة (ج3)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 91

كان يجب أن لا يعدل عنه وعن رأيه إلى ما يجري هذا المجرى، فأما ادعاء غير ذلك فبعيد، لأن النص غير مذكور عنهم على الوجه الذي يدعون، وبين أنهم إن رضوا لأنفسهم في إثبات النص أن يعتمدوا على مثل هذه الأخبار، فالمروي من الأخبار الدالة على أنه صلى الله عليه وآله لم يستخلف أظهر من ذلك، لأنه قد روي عن أبي وائل (1) والحكم عن علي ابن أبي طالب عليه السلام أنه قيل له: ألا توصي؟ قال: ما أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله فأوصي، ولكن إن أراد الله بالناس خيرا فسيجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم (2)، وروى صعصعة بن صوحان (3) أن ابن ملجم لعنه الله لما ضربه عليه السلام (4) دخلنا إليه فقلنا يا أمير المؤمنين استخلف علينا قال: لا فإنا دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وآله حين ثقل، فقلنا يا رسول الله صلى الله عليه وآله استخلف علينا، فقال: (لا إني أخاف أن تتفرقوا عنه كما تفرقت بنوا إسرائيل عن هارون، ولكن إن يعلم الله في قلوبكم خيرا اختار لكم) والمروي عن العباس أنه خاطب أمير المؤمنين عليه السلام في مرض النبي صلى الله عليه وآله أن يسأله عن القائم بالأمر بعده، وأنه امتنع من ذلك خوفا أن يصرفه عن أهل بيته، فلا يعود إليهم أبدا، ظاهر فلم صاروا بأن يتعلقوا بتلك

(هامش)

(1) أبو وائل هو شقيق بن سلمة، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شهد صفين مع علي عليه السلام وروي عن أبي بكر وعثمان وعلي وسعد وابن عباس وابن مسعود وغيرهم وروى عنه الشعبي والسبيعي والأعمش وغيرهم توفي سنة 99 (انظر أسد الغابة ج 2 ص 1). (2) رواه الحاكم في المستدرك 3 / 79. (3) صعصعة بن صوحان العبدي أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يره، وكان من سادات قومه بني عبد القيس فصيحا لسنا دينا فاضلا من أصحاب علي عليه السلام توفي في أيام معاوية (انظر أسد الغابة: 3 / 20). (4) غ لما ضرب عليا عليه السلام . (*)

ص 92

الأخبار بأولى ممن يخالفهم بأن يتعلق بهذه الأخبار * في أنه صلى الله عليه وآله لم يستخلف *(1) قال: وأحد ما يعارضون به ما روي عنه في استخلاف أبي بكر، فقد روي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمره عند إقبال أبي بكر أن يبشره بالجنة وبالخلافة بعده، وأن يبشر عمر بالجنة وبالخلافة بعد أبي بكر، وروي عن جبير بن مطعم (2) أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وآله فكلمته في شيء من أمرها فأمرها أن ترجع إليه فقالت: يا رسول الله أرأيت إن رجعت فلم أجدك، تعني الموت قال صلى الله عليه وآله: (إن لم تجديني فائتي أبا بكر) وروى أبو مالك الأشجعي (3) عن أبي عريض (4) وكان رجلا من أهل خيبر وكان يعطيه النبي صلى الله عليه وآله في كل سنة مائة راحلة تمرا فأعطاه سنة، وقال إني أخاف أن لا أعطى بعدك، فقال صلى الله عليه وآله تعطاها، قال فمررت بعلي عليه السلام فأخبرته، فقال فارجع إليه فقل: يا رسول الله صلى الله عليه وآله من يعطينيها بعدك، فرجعت فقلت: فقال عليه السلام: (أبو بكر) وقد روي عن الشعبي عن بني المصطلق أنهم بعثوا رجلا إلى النبي صلى الله عليه وآله فقالوا له سله من يلي صدقاتنا من بعده، فانطلق فلقي عليا عليه السلام وسأله فقال لا أدري، انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله: فاسأله، ثم ائتني فسأله، فقال (أبو بكر)

(هامش)

(1) ما بين النجمتين ساقط من المغني. (2) جبير بن مطعم القرشي النوفلي صحابي من أكابر قريش مات في آخر أيام معاوية. (3) أبو مالك الأشجعي ذكره أحمد بن حنبل في الصحابة وروى عن أبي عريض المذكور بعده (انظر أسد الغابة 3 ص 253 و287). (4) أبو عريض ذكره أبو عمر في الاستيعاب في الكنى وابن الأثير في أسد الغابة 5 / 253 ولم يصرحا باسمه وقالا: كان دليل رسول الله صلى الله عليه وآله من أهل خيبر روي عنه من قبله. (*)

ص 93

فرجع إلى علي عليه السلام فأخبره، ثم كذلك حتى ذكر عمر بعده، وفي حديث سفينة (1) مولى رسول الله صلى الله عليه وآله (إن الخلافة بعدي ثلاثون سنة) وإنه صلى الله عليه وآله ذكر أبا بكر وعمر وعثمان بالخلافة، وقد روى أن أبا بكر قال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله رأيت كأن علي برد حبرة وكأن فيه رقمين (2) فقال صلى الله عليه وآله (تلي الخلافة بعدي سنتين إن صدقت رؤياك) وقال: وقد روي أنه قال صلى الله عليه وآله في أبي بكر وعمر (هذان سيدا كهول أهل الجنة) والمراد بذلك أنهما سيدا من يدخل الجنة من كهول الدنيا كما قال صلى الله عليه وآله في الحسن والحسين عليهما السلام (أنهما سيدا شباب أهل الجنة) يعني سيدا من يدخل الجنة من شباب الدنيا، وروي أنه قال صلى الله عليه وآله في أبي بكر (ادعوا لي أخي وصاحبي صدقني حيث كذبني الناس) وقال: (اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر) وروى جعفر بن محمد عن أبيه أن رجلا من قريش جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال سمعتك تقول في الخطبة آنفا: (اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين) فمن هم، قال: (حبيباي وعماي أبو بكر وعمر إماما الهدى وشيخا الإسلام ورجلا قريش، والمقتدى بهما بعد رسول الله صلى الله عليه وآله من اقتدى بهما عصم،

(هامش)

(1) سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله اختلفوا في اسمه على واحد وعشرين قولا أصله من فارس اشترته أم سلمة وأعتقته واشترطت عليه خدمة رسول الله صلى الله عليه وآله، وعن سفينة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فكان بعض القوم إذا أعيا ألقى علي ثوبه حتى حملت من ذلك شيئا كثيرا فقال: (ما أنت إلا سفينة) وقد جاء لسفينة ذكر في حديث لفضة أمة الزهراء عليها السلام مع زينب العقيلة يوم عاشوراء (انظر الكافي 1 / 465). (2) الرقم بالثوب الكتابة فيه، يقال رقم الثوب والكتاب رقما وترقيما أيضا، وفي خ رقمتين . (*)

ص 94

ومن اتبع آثارهما هدي إلى صراط مستقيم). وروى أبو جحيفة (1) ومحمد بن علي (2) وعبد خير (3) وسويد بن غفلة (4) وأبو حكيمة (5) وغيرهم وقد قيل إنهم أربعة عشر رجلا إن عليا عليه السلام قال في خطبة (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر) وفي بعض الأخبار (ولو أشاء أن أسمي الثالث لفعلت) وفي بعض الأخبار أنه عليه السلام خطب بذلك بعد ما أنهي إليه أن رجلا تناول أبا بكر وعمر بالشتيمة فدعا به وتقدم لعقوبته بعد أن شهدوا عليه بذلك * وروى جعفر ابن محمد عن أبيه عن جده عليه السلام قال لما استخلف أبو بكر جاء أبو سفيان فاستأذن على علي عليه السلام وقال: أبسط يدك أبايعك، فوالله لأملأها على أبي فصيل (6) خيلا ورجلا فانزوى عنه عليه السلام فقال:

(هامش)

(1) أبو جحيفة: وهب بن عبد الله السوائي ويقال له: وهب الخير، كان من صغار الصحابة، جعله علي بن أبي طالب على بيت المال بالكوفة، وشهد معه مشاهده كلها، وكان يحبه ويثق إليه، ويسميه: وهب الخير، ووهب الله، وروى عنه ابنه عون أنه أكل ثريدة بلحم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجشأ، فقال: (اكفف عليك جشاءك أبا جحيفة فإن أكثرهم شيعا أكثرهم جوعا يوم القيامة) فما أكل أبو جحيفة ملء بطنه حتى فارق الدنيا توفي سنة 72. (2) يريد الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام أو محمد بن الحنفية. (3) عبد خير هو عبد خير بن يزيد الهمداني يكنى أبا عمارة أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم وهو من أكابر أصحاب علي رضي الله عنه وسكن الكوفة وهو ثقة مأمون (أسد الغابة 3 / 277). (4) سويد بن غفلة - بالغين المعجمة والفاء مفتوحتين وقيل بالعين المهملة وهو خلاف المشهور - الجعفي مخضرم من كبار التابعين، قدم المدينة يوم دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان مسلما في حياته توفي بالكوفة سنة 1 أو 2 أو 83. (5) أبو حكيمة أحد الرواة عن علي عليه السلام (انظر الكنى والأسماء للدولابي ص 155). (6) انظر شرح نهج البلاغة 1 / 222. (*)

ص 95

ويحك يا أبا سفيان هذه من دواهيك، وقد اجتمع الناس على أبي بكر ما زلت تبغي للاسلام العوج في الجاهلية والإسلام، ووالله ما ضر الإسلام ذلك شيئا حتى ما زلت صاحب فتنة (1)*. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال لما غسل عمر وكفن دخل علي عليه السلام فقال ما على الأرض أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى بين أظهركم، وروي مثل ذلك عن ابن عباس وابن عمر وقال صلى الله عليه وآله (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا) إلى غير ذلك مما يطول ذكره قال: فإذا كانت هذه الأخبار وغيرها مما يطول ذكرها منقولة ظاهرة فلم صرتم بأن تستدلوا بما ذكرتموه على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وفضله بأولى ممن خالفكم، وادعى النص لأبي بكر والفضل له، ونبه بذلك على أن الواجب فيما هذا حاله العدول عن أخبار الآحاد إلى طريقة العلم، وإنما نذكر هذه الأخبار لنبين لهم الفضل، وإنهم أهل الإمامة لأنه لا يرجع في ذلك إلى ما طريقه القطع، فأما الاعتماد على ذلك في باب النص (2) فبعيد، قال: على أن هذه الأخبار لا تقتضي النص بل هي مختلفة (3) لأن قوله صلى الله عليه وآله (إمام المتقين) أراد به في التقوى والصلاح، ولو أراد به الإمامة لم يكن إماما بأن يكون للمتقين بأولى من أن يكون إماما للفاسقين، وعلى هذا الوجه خبر عز وجل عن الصالحين (4) أنهم سألوا الله عز وجل في الدعاء (واجعلنا للمتقين

(هامش)

(1) ما بين النجمتين ساقط من المغني. (2) غ في باب النقل . (3) غ لا يقتضي الرضا فهي محتملة . (4) في حاشية المخطوطة الصادقين . (*)

ص 96

إماما) (1) وإنما أرادوا أن يبلغوا في الصلاح والتقوى المبلغ الذي يتأسى بهم (2) قال: ولو كان المراد الإمامة لكان إماما في الوقت لأنه صلى الله عليه وآله أثبته كذلك في الحال فأما سيد المسلمين وقائد الغر المحجلين فلا شبهة في أنه لا يدل على الإمامة، وقد بينا أن وصف علي بأنه: (ولي كل مؤمن) لا يدل على الإمامة، فأما قوله صلى الله عليه وآله (إن عليا مني وأنا منه) فإنما يدل (3) على الاختصاص والقرب ولا مدخل له في الإمامة، فأما ادعاؤهم أنه صلى الله عليه وآله تقدم بأن يسلم عليه بإمرة المؤمنين فمما لا أصل له، ولو ثبت لدل على أنه الإمام في الحال لا في الثاني على ما تقدم القول فيه،... (4). يقال له: قد بينا فيما تقدم أن الخبر الذي يتضمن الأمر بالتسليم على أمير المؤمنين عليه السلام بإمرة المؤمنين تتواتر الشيعة بنقله، وأنه أحد ألفاظ النص الجلي الذي دللنا على حصول شرائط التواتر فيه وقوله عليه السلام: (إنه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين) (5) وقوله فيه: (هذا ولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي) (6) جار مجرى الخبر الأول

(هامش)

(1) الفرقان 74. (2) غ يتأتي بهم وما في المتن أرجح. (3) ع فإنما يدخل . (4) المغني 20 ق 1 / 190 و191. (5) أخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 137 وقال: هذا حديث صحيح الاسناد، والمتقي في كنز العمال 6 / 157 وقال: أخرجه البارودي وابن قانع والبزاز والحاكم وأبو نعيم، والهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 121 وقال: رواه الطبراني في الصغير. (6) في مسند أبي داود الطيالسي 3 / 111 إن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي فيه 11 / 360 أنت ولي كل مؤمن بعدي وروي بهذا المضمون في مسند أحمد 4 / 437 و5 / 356 وحلية الأولياء 6 / 294، وخصائص النسائي ص 19 و23 وكنز العمال 6 / 159 و396. (*)

ص 97

في اقتضاء النص وتواتر الشيعة بنقله، وإن كانت هذه الأخبار مع إن الشيعة بنقلها قد نقلها أكثر رواة العامة من طرق مختلفة وصححوها، ولم نجد أحدا من رواة العامة ولا علماءهم طعن فيها ولا دفعها، وإن كان خبر التسليم بإمرة المؤمنين نقل في روايتهم ولا يجري في التظاهر بينهم مجرى باقي الأخبار التي ذكرناها، وإن كان الكل من طريق العامة، لا يبلغ التواتر بل يجري مجرى الآحاد ولا معتبر بادعاء أبي علي أن للتواتر شروطا لم تحصل في هذه الأخبار، لأنا قد بينا فيما تقدم من هذا الكتاب أن الشروط المطلوبة في التواتر حاصلة في ذلك. فأما قوله: (إن الخبر لا يصير داخلا في التواتر بأن يقولوا إن الشيعة طبقت البلاد عصرا بعد عصر، فروايتها يجب أن تبلغ حد التواتر دون أن نبين حصول النقل على شروط التواتر) فليت شعرنا بأي شيء يعلم التواتر أهو أكثر من أن نجد كثرة لا يجوز عليهم التواطؤ والتعارف (1) ينقلون ويدعون أنهم نقلوا خبرا ما عمن هو بمثل صفتهم، ونعلم أن أولهم في الصفة كآخرهم إلى سائر الشروط التي تقدم ذكرها، ودلالتنا على ثبوتها في نقل الشيعة ومتى شك شاك فيما ذكرنا فليتعاط الإشارة إلى خبر متواتر حتى نعلمه أن خبر الشيعة يوازنه إن لم يزد عليه، ولولا أنا حكمنا هذا فيما تقدم وبسطناه وفرغنا منه لما اقتصرنا فيه على هذه الجملة، وقد بينا أيضا أنه ليس من شرط صحة التواتر حصول العلم الضروري، فليس له أن يجعل الدلالة على أن هذه الأخبار غير متواترة فقد العلم الضروري بمخبرها، وكل هذا قد تقدم.

(هامش)

(1) في المخطوطة التفارق وله وجه وما في المتن أوجه. (*)

ص 98

فأما معارضته ما تذهب إليه من النص بما يدعي من النص على أبي بكر فقد مضى فيه أيضا ما لا يحتاج إلى تكراره، وبينا بطلان هذه الدعوى، وأنها لا تعادل مذهب الشيعة في النص على أمير المؤمنين عليه السلام ولا تقاربه، ولا يجوز أن يذكر في مقابلته، وذكرنا في ذلك وجوها تزيل الشبهة في هذا الباب وبينا أيضا فيما مضى من الكتاب أن للشيعة سلفا فيهم صفة الحجة كما أنها ثابتة في الخلف، وأن النص ليس مما حدث ادعاؤه بعد أن لم يكن يدعي فبطل قول من قد ظن خلاف ذلك فأما خطبه (1) وجمعه من الأخبار التي أوردها على سبيل المعارضة لأخبارنا كالذي رواه في أنه صلى الله عليه وآله لم يستخلف أو أنه استخلف أبا بكر وأشار إلى إمامته، فأول ما نقوله في ذلك أن المعارضة متى لم يوف حقها من المماثلة والموازنة ظهرت عصبية مدعيها، وقد علم كل أحد ضرورة الفصل بين الأخبار التي أوردها معارضا بها وبين الأخبار التي حكى اعتمادنا عليها لأن أخبارنا أولا مما يشاركنا في نقل جميعها أو أكثرها خصومنا، وقد صححها رواتهم، وأوردوها في كتبهم ومصنفاتهم مورد الصحيح، والأخبار التي ادعاها لم تنقل إلا من جهة واحدة، وجميع شيعة أمير المؤمنين عليه السلام على اختلاف مذاهبهم يدفعها وينكرها، ويكذب رواتها، فضلا عن أن ينقلها ولا شيء منها، إلا ومتى فتشت عن ناقله وأصله وجدته صادرا عن متعصب مشهور بالانحراف عن أهل البيت عليهم السلام، والإعراض عنهم، فليس مع ذلك شياعها وتظاهرها في خصوم الشيعة كشياع الأخبار التي اعتمدنا عليها في رواية الشيعة، ونقل الجميع لها، ورضى الكل بها فكيف يجوز أن يجعل هذه الأخبار مع ما

(هامش)

(1) خطب - هنا - الأمر والشأن كأنه أراد وأما الأمر الذي ذكره والروايات التي جمعها، أو لعلها خبطة من الخبط، وهو المشي في الظلام بلا مصباح يهتدي عليه، والمراد ركوب الأمر بجهالة. (*)

ص 99

وصفناه في مقابلة أخبارنا لولا العصبية التي لا تليق بالعلماء، وهذه جملة تسقط المعارضة بهذه الأخبار من أصلها. ثم نرجع إلى التفصيل فنقول: قد دللنا على ثبوت النص على أمير المؤمنين عليه السلام بأخبار مجمع على صحتها متفق عليها، وإن كان الاختلاف واقعا في تأويلها وبينا أنها تفيد النص عليه عليه السلام بغير احتمال ولا إشكال كقوله صلى الله عليه وآله (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) و(من كنت مولاه فعلي مولاه) إلى غير ذلك مما دللنا على أن القرآن يشهد به كقوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) (1) فلا بد من أن نطرح كل خبر ناف ما دلت عليه هذه الأدلة القاطعة إن كان غير محتمل للتأويل، ونحمله بالتأويل على ما يوافقها ويطابقها إذا ساغ ذلك فيه كما يفعل في كل ما دلت الأدلة القاطعة عليه وورد سمع ينافيه، ويقتضي خلافه، وهذه الجملة تسقط كل خبر يروى في أنه عليه السلام لم يستخلف، على أن الخبر الذي رواه عن أمير المؤمنين، لما قيل له ألا توصي (2) فقال: ما أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله فأوصي، ولكن إن أراد الله تعالى بالناس خيرا فسيجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم ، فمتضمن لما يكاد يعلم بطلانه ضرورة، لأن فيه التصريح القوي بفضل أبي بكر عليه، وأنه خير منه، والظاهر من أحوال أمير المؤمنين، والمشهور من أقواله وأفعاله جملة وتفصيلا يقتضي أنه كان يقدم نفسه على أبي بكر وغيره من الصحابة، وأنه كان لا يعترف لأحدهم بالتقدم عليه، ومن تصفح الأخبار والسير، ولم تمل به العصبية والهوى، يعلم هذا من حاله على وجه لا يدخل فيه شك، ولا اعتبار بمن دفع هذا ممن يفضل عليه لأنه بين أمرين إما أن يكون عاميا أو مقلدا لم يتصفح

(هامش)

(1) المائدة 55. (2) في المخطوطة (ألا ترضى) وهو تصحيف قطعا. (*)

ص 100

الأخبار والسير، وما روي من أقواله وأفعاله ولم يختلط بأهل النقل، فلا يعلم ذلك أو يكون متأملا متصفحا (1) إلا أن العصبية قد استولت عليه، والهوى قد ملكه واسترقه، فهو يدفع ذلك عنادا، وإلا فالشبهة مع الانصاف زائلة في هذا الموضع، على أنه لا يجوز أن يقول هذا من قال رسول الله صلى الله عليه وآله فيه باتفاق (اللهم إئتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر) (2) فجاء عليه السلام من بين الجماعة فأكل معه، ولا من يقول النبي صلى الله عليه وآله لابنته فاطمة عليها السلام (إن الله عز وجل اطلع على أهل الأرض اطلاعة فاختار منها رجلين جعل أحدهما أباك والآخر بعلك) (3) وقال صلى الله ليه وآله فيه (علي سيد العرب) (4) و(خير أمتي) (5) و(خير من أخلف بعدي) (6) و(علي خير البشر من أبى فقد كفر) (7) ولا يجوز أن يقول هذا من تظاهر الخبر عنه بقوله صلوات الله عليه وقد جرى بينه وبين عثمان كلام فقال له: أبو بكر وعمر

(هامش)

(1) تص الشيء نظر في صاته. (2) حديث الطير رواه جماعة من العلماء كالترمذي ج 2 / 299 والنسائي في خصائصه ص 5 والحاكم في مستدركه 3 / 130 و131 وأبو نعيم في حليته 6 / 339، والخطيب في تاريخه 3 / 171، والمتقي في كنزه 6 / 406 والهيثمي في مجمعه 9 / 125 و126. (3) انظر كنز العمال 6 / 153 ومستدرك الحاكم 3 / 129، وفي مسند أحمد 5 / 26 أما ترضين أن زوجتك خير أمتي . (4) مستدرك الحاكم 3 / 124، حلية الأولياء 1 / 63 و5 / 38 وفيهما فقالت عائشة ألست سيد العرب؟ قال: أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب . (5) تقدم آنفا عن مسند الإمام أحمد. (6) كنز العمال 6 / 154. (7) في تاريخ بغداد للخطيب 3 / 19 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يقل علي خير البشر فقد كفر) وفي ج 7 / 421 علي خير البشر فمن امترى فقد كفر وانظر تقريب التهذيب لابن حجر 9 / 419. (*)

ص 101

خير منك، فقال (أنا خير منك ومنهما عبدت الله قبلهما وعبدته بعدهما) (1) ومن قال: (نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد) (2). وروي عن عائشة في قصة الخوارج لما سألها مسروق فقال لها بالله يا أمه لا يمنعك ما بينك وبين علي أن تقولي ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله فيه وفيهم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة) (3) إلى غير ذلك من أقواله صلى الله عليه وآله فيه التي لو ذكرناها أجمع لاحتجنا إلى مثل جميع كتابنا إن لم يزد على ذلك وكل هذه الأخبار التي ذكرناها فهي مشهورة معروفة، قد رواها الخاصة والعامة بخلاف ما ادعاه مما يتفرد به بعض الأمة ويدفعه باقيها. فأما الخبر الذي رواه عن العباس رضي الله عنه من أنه قال لأمير المؤمنين عليه السلام لو سألت النبي صلى الله عليه وآله عن القائم بالأمر بعده، فقد تقدم في كتابنا الكلام عليه وبينا أنه لو كان صحيحا لم يدل على بطلان النص فلا وجه لإعادة ما قلناه فيه.

وصية الامام امير المؤمنين(ع) الى ابنه الحسن

 وبعد، فبإزاء هذين الخبرين الشاذين اللذين رواهما في أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يوص كما لم يوص رسول الله صلى الله عليه وآله الأخبار التي ترويها الشيعة من جهات عدة، وطرق مختلفة المتضمنة لأنه عليه السلام وصى إلى الحسن ابنه، وأشار إليه واستخلفه، وأرشد إلى طاعته من بعده، وهي أكثر من أن نعدها ونوردها. فمنها، ما رواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام أن أمير المؤمنين لما أن حضره الذي حضره قال لابنه الحسن عليه السلام: ادن

(هامش)

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20 / 262. (2) كنز العمال 6 / 218. (3) سنتعرض لهذا الحديث بعد قليل. (*)

ص 102

مني حتى أسر إليك ما أسر إلي رسول الله صلى الله عليه وآله، وأئتمنك على ما ائتمنني عليه . وروى حماد بن عيسى عن عمر بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: أوصى أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحسن عليه السلام وأشهد على وصيته الحسين ومحمدا عليهما السلام وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ثم دفع إليه الكتب والسلاح في خبر طويل يتضمن الأمر بالوصية في واحد بعد واحد إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام وأخبار وصية أمير المؤمنين عليه السلام إلى ابنه الحسن عليه السلام واستخلافه له ظاهرة مشهورة بين الشيعة وأقل أحوالها واخفض مراتبها أن يعارض ما رواه ويخلص ما استدللنا به. فأما ما حكاه من معارضة أبي علي لنا بما يروى من الأخبار في استخلاف أبي بكر وذكره من ذلك شيئا بعد شيء فقد تقدم من كلامنا في إفساد النص على أبي بكر واستخلاف الرسول له صلى الله عليه وآله ما يبطل كل شيء يدعى في هذا الباب على سبيل الجملة والتفصيل لأنا قد بينا أنه لو كان هناك نص عليه لوجب أن يحتج به على الأنصار في السقيفة عند نزاعهم له في الأمر، ولا يعدل عن الاحتجاج بذلك إلى روايته (إن الأئمة من قريش) وشرحنا ذلك وأوضحناه وأزلنا كل شبهة تعرض فيه، وإنه لو كان أيضا منصوصا عليه لم يجز أن يشير إلى أبي عبيدة وعمر في يوم السقيفة، ويقول بايعوا أي الرجلين شئتم ولا أن يستقبل المسلمين الذين لم يثبت إمامته بعقدهم ومن جهتهم، ولا أن يقول: وددت أني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن هذا الأمر فيمن هو فكنا لا ننازعه أهله، ولما جاز أن يقول عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة ولا أن يقول: أن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر وإن أترك فقد ترك

ص 103

من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وشرحنا هذه الوجوه أتم شرح، وذكرنا غيرها وكل ذلك يبطل المعارضة بالنص على أبي بكر. ومما يفيد كل خبر رواه متضمنا للإشارة إلى استخلاف الرسول صلى الله عليه وآله لعمر مضافا إلى استخلاف أبي بكر إن هذا الاستخلاف لو كان حقا لكان أبو بكر به أعرف وله أذكر، فقد كان يجب لما أنكر طلحة عليه نصه على عمر وإشارته إلى بالإمامة حتى قال له: ما تقول لربك إذا سئلت وقد وليت علينا فظا غليظا فقال: أقول يا رب وليت عليهم خير أهلك، أن يقول بدلا من ذلك أقول وليت عليهم من نص عليه الرسول صلى الله عليه وآله واستخلفه، واختاره وقال فيه: بشروه بالجنة والخلافة، وقال فيه كذا وكذا، مما روي وادعي أنه نص بالخلافة وإشارة إلى الإمامة فلما لم يكن ذلك علمنا أنه لا أصل لما يدعى في هذا الباب، على أن الخبر الذي يتضمن البشارة بالجنة والخلافة يرويه أنس بن مالك ومذهب أنس بن مالك في الإعراض عن أمير المؤمنين عليه السلام، والانحراف عن جهته معروف، وهو الذي كتم فضيلته (2) ورده في يوم الطائر عن الدخول إلى النبي صلى الله عليه وآله والقصة في ذلك مشهورة، وبدون هذا يتهم روايته، ويسقط عدالته.

(هامش)

(1) وذلك أن عليا عليه السلام ناشد الناس الله في الرحبة بالكوفة فقال: أنشدكم الله رجلا سمع رسول الله يقول لي وهو منصرف من حجة الوداع من كنت مولاه فهذا علي مولاه، الحديث فقام رجال فشهدوا بذلك، فقال عليه السلام لأنس بن مالك: لقد حضرتها فما بالك! فقال: يا أمير المؤمنين كبرت سني وصار ما أنساه أكثر مما أذكره، فقال له: إن كنت كاذبا فضربك الله بها بيضاء لا تواريها العمامة، فما مات حتى أصابه البرص، روى ذلك جماعة منهم ابن قتيبة في المعارف ص 351 وأبو نعيم في الحلية 5 / 26 والثعالبي في لطائف المعارف ص 105 وإذا أردت المزيد من ذلك فعليك بالغدير لشيخنا الأميني ج 1 ص 166 - 194. (*)

ص 104

فأما الخبر الذي رواه عن جبير بن مطعم في المرأة التي أتت رسول الله صلى الله عليه وآله فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: أرأيت إن رجعت فلم أجدك فقال: (إن لم تجديني فائتي أبا بكر) فإنه قد دس فيه من عند نفسه (1) شيئا لو لم نرده لم يكن في ظاهره دلالة، لأنه فسر قولها فلم أجدك بأن قال: يعني الموت، وهذا غير معلوم من الخبر ولا مستفاد من لفظه، وقد يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله أمرها بأنها متى لم تجده في الموضع الذي كان فيه أن تلقى أبا بكر لتصيب منه حاجتها، أو لأنه كان تقدم إليه في معناها بما تحتاج إليه ويكون ذلك في حال الحياة لا حال الموت، فمن أين يدعي الاستخلاف بعد الوفاة، والخبر الذي يلي هذا الخبر يجري في خلو ظاهره من شبهة في الاستخلاف (2) مجرى الأول لأن قوله للذي كان يعطيه التمر في كل سنة إن أبا بكر يعطيكه لا يدل على استخلافه، وإنما يدل على وقوع العطية كما خبر، فأما أن تكون العطية صدرت عن ولاية مستحقة أو إمامة منصوص عليها، فليس في الخبر، وليس يدل هذا الخبر على أكثر من الأخبار بغيب لا بد أن يقع وقد خبر النبي صلى الله عليه وآله عن حوادث كثيرة مستقبلة على وجوه لا يدل على أن الذي خبر عن وقوعه، مما لفاعله أن يفعله، وأنه من حيث خبر عن كونه حسن خارج عن باب القبح، وهذا مثل إخباره لعائشة بأنها تقاتل أمير المؤمنين وتنبحها كلاب الحوأب (3) وإخباره عن الخوارج وقتالهم له

(هامش)

(1) الدس: الاخفاء ودفن الشيء، والضمير في نفسه للقاضي. (2) من الاستخلاف أو شبهته، خ ل. (3) الحوأب: منزل بين الكوفة والبصرة روى ابن عبد البر في الاستيعاب 2 / 745 بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب يقتل حولها قتل كثير وتنجو بعد ما كادت قال: وهذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وفي تاريخ الطبري 3 / 485 إنها لما = (*)

ص 105

عليه السلام (1)، وغير ذلك مما يطول ذكره والخبر الذي ذكره عقيب الخبرين اللذين تكلمنا عليهما يجري مجراهما في هذه القضية لأنه ليس في أخباره بأن فلانا أو فلانا، يلي صدقاتهم بعده ما يدل على استحقاق هذه الولاية، لأنهم لم يسألوه من يولى صدقاتنا بعدك، أو من يستحق هذه الولاية، وإنما قالوا من يلي الصدقات، فقال فلان وقد يلي الشيء من يستحقه ومن لا يستحقه، فلا دلالة في الخبر. فأما حديث سفينة فالذي يبطله ويبطل الأخبار التي ذكرناها آنفا وتكلمنا عليها وكل خبر يدعى في النص على أبي بكر وعمر على سبيل التفصيل ما تقدم من كلامنا، وأدلتنا على فساد النص عليهما على سبيل الجملة، ويبطل هذا الخبر زائدا على ذلك أنا وجدنا سني خلافة هؤلاء الأربعة تزيد على ثلاثين سنة شهورا لأن النبي صلى الله عليه وآله قبض لاثني عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة عشر وقبض أمير المؤمنين

(هامش)

= سمعت نباح الكلاب قالت: أي ماء هذا فقالوا: الحوأب، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إني لهيه قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب فأرادت الرجوع فأتاها عبد الله بن الزبير فزعم أنه قال: كذب من قال إن هذا الحوأب ولم يزل بها حتى مضت فقدموا البصرة، وقال العسقلاني في فتح الباري 16 / 165 أخرج هذا أحمد وأبو يعلى والبزاز وصححه ابن حبان والحاكم وسنده على شرط الصحيحين، ا ه‍ أقول: والأدبب: طويل الوبر، ورواه بعضهم الأذنب أي طويل الذنب. (1) أخباره صلى الله عليه وآله عن الخوارج رواه البخاري في صحيحه 4 / 189 كتاب بدء الخلق باب علامات النبوة في الإسلام، ومسلم في صحيحه 1 / 750 كتاب الزكاة باب الخوارج شر الخلق، والحاكم في المستدرك 2 ص 145 و147 و148 و154، وفي رواية ابن أبي الحديد 2 / 267 والبداية والنهاية 7 / 297 و303 هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم عند الله وسيلة ، وفي رواية ابن كثير 7 / 304 (شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي). (*)

ص 106

لتسع ليال بقيت من شهر رمضان سنة أربعين فهاهنا زيادة على ثلاثين سنة بينه ولا يجوز أن يدخل مثل ذلك فيما يخبر به صلى الله عليه وآله لأن وجود الزيادة كوجود النقصان في إخراج الخبر من أن يكون صدقا على أن توزيع السنين لم يسنده سفينة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وإنما هو شيء من جهته، وما لم يسنده لا يلتفت إليه، ولا حجة فيه، ويمكن على هذا إن كان الخبر صحيحا أن يكون المراد به استمرار الخلافة بعدي بخليفة واحد يكون مدة ثلاثين سنة، وهكذا كان فإن أمير المؤمنين عليه السلام كان وحده الخليفة في هذه المدة عندنا، وقد دللنا على ذلك، فمن أين لهم أن الخلافة في هذه المدة كانت لجماعة؟ وليس لهم أن يتعلقوا بما يوجد في الخبر من توزيع السنين على الخلفاء، لأن ذلك معلوم أن سفينة لم يسنده، وأنه من قبله. فأما خبر الرقمين والرؤيا فالكلام عليه كالكلام على سائر ما تقدم من الأخبار، وليس في أخباره أنه يلي الخلافة دلالة على الاستحقاق، ولا على حسن الولاية، على ما تقدم فأما الخبر الذي يتضمن (أنهما سيدا كهول أهل الجنة) فمن تأمل أصل هذا الخبر بعين إنصاف علم أنه موضوع في أيام بني أمية معارضة لما روي من قوله صلى الله عليه وآله في الحسن والحسين عليهما السلام: (أنهما سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما) (1) وهذا الخبر الذي ادعوه يروونه عن عبيد الله بن عمر وحال عبيد الله ابن عمر في الانحراف عن أهل البيت معروفة، وهو أيضا كالجار إلى نفسه، على أنه لا يخلو من أن يريد بقوله: (سيدا كهول أهل الجنة) أنهما سيدا الكهول في الجنة) أو يريد أنهما سيدا من يدخل الجنة من كهول الدنيا،

(هامش)

(1) صحيح الترمذي 2 / 306 سنن ابن ماجة 1 / 44 مسند أحمد 3 / 62 / 64 / 82 و5 / 391 و392. (*)

ص 107

فإن كان الأول فذلك باطل لأن رسول الله صلى الله عليه وآله قد وقفنا وأجمعت الأمة على أن أهل الجنة جرد مرد، وأن لا يدخلها كهل وإن كان الثاني فذلك دافع ومناقض للحديث المجمع على روايته من قوله صلى الله عليه وآله في الحسن والحسين عليهما السلام: (أنهما سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما) لأن هذا الخبر يقتضي أنهما سيدا كل من يدخل الجنة إذا كان لا يدخلها إلا شباب وأبو بكر وعمر وكل كهل في الدنيا داخلون في جملة من يكونان عليهما السلام سيديه، والخبر الذي رووه يقتضي أن أبا بكر وعمر سيداهما من حيث كانا سيدي الكهول في الدنيا، وهما من جملة من كان كهلا في الدنيا. فإن قيل: لم يرد بقوله: (سيدا شباب أهل الجنة) ما ظننتم، وإنما أراد أنهما سيدا من يدخل الجنة من شباب الدنيا كما قلنا في قوله: (سيدا كهول أهل الجنة). قلنا: المناقضة بين الخبرين بعد ثابتة لأنه إذا أراد أنهما سيدا كل شباب في الدنيا من أهل الجنة فقد عم بذلك جميع من كان في الدنيا من أهل الجنة من الشباب والكهول والشيوخ لأن الكل كانوا شبابا فقد تناولهم القول، وإذا قال في غيرهما أنهما سيدا الكهول فقد جعلهما بهذا القول سيدين لمن جعلهما بالقول الأول سيديهما لأن أبا بكر وعمر إذا كانا شابين فقد دخلا فيمن يسودهما الحسن والحسين عليهما السلام إذا بلغا سنا من التكهيل (1) فقد دخلا فيمن يسودهما أبو بكر وعمر بالخبر الذي رووه وإذا كانت هذه صورة الخبرين وجب العمل على الظاهر في الرواية المنقولة المتفق عليها عنه عليه السلام واطراح الآخر وذلك موجب لفضل الحسن

(هامش)

(1) في المخطوطة سن التكهل . (*)

ص 108

والحسين وأبيهما عليهم السلام على جميع الخلق. فإن قيل: إنما أراد بقوله: (سيدا كهول أهل الجنة)، من كان في الحال كذلك دون من يأتي من بعد فكأنه قال: هما سيدا كهول أهل الجنة في وقتهما وزمانهما، وكذلك القول في الخبر الآخر الذي رويتموه فلا تعارض بين الخبرين على هذا. قلنا: لو كان معنى الخبر الذي رويتموه ما ذكرتموه لم يكن فيه كثير فضيلة، ولا ساغ أن يدعى به فضل الرجلين على سائر الصحابة، وأن يستدل به على فضلهما على أمير المؤمنين وعلى غيره ممن لم يكن كهلا في حال تكهلهما، على أنه إذا حمل الخبر على هذا الضرب من التخصيص ساغ أيضا لغيرهم حمله على ما هو أخص من ذلك، ويجعله متناولا لكهول قبيلة من القبائل أو جماعة من الجماعات، كما جعلوه متناولا للكهول في حال من الأحوال دون غيرها، وهذا يخرجه من معنى الفضيلة جملة، على أنهم قد رووا عن النبي صلى الله عليه وآله ما يخالف فائدة هذا الخبر ويناقضها، لأنهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (بنو عبد المطلب سادة أهل الجنة أنا وعلي وجعفر ابنا أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، والحسن والحسين، والمهدي) (1) ولا شبهة في أن هذا الخبر يعارض في الفائدة الخبر الذي ذكروه، وإذا كان العمل بالمتفق عليه أولى وجب العمل بهذا واطراح خبرهم.

(هامش)

(1) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 9 / 434، والحاكم في المستدرك 3 / 211، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، والمحب في الرياض 2 / 209، وقال: أخرجه ابن السري، وابن حجر في الصواعق ص 160، وقال: أخرجه الديلمي وفي ص 235 وقال: أخرجه ابن السري والديلمي. (*)

ص 109

وبعد، ففي ضمن هذا الخبر ما يدل على فساده، لأن في الخبر أن أمير المؤمنين عليه السلام كان عند الرسول صلى الله عليه وآله إذ أقبل أبو بكر وعمر فقال: (يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين، لا تخبرهما بذلك يا علي) (1) وما رأينا النبي صلى الله عليه وآله قط أمر بكتمان فضل أحد من أصحابه ولا نهى عن إذاعة ما تشرف وتفضل به أصحابه، وقد روي من فضائل هؤلاء القوم ما هو أعلى وأظهر من فضيلة هذا الخبر من غير أن يأمر صلى الله عليه وآله أحدا بكتمانه، بل أمر بإذاعته ونشره كروايتهم أن أبا بكر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال (إئذن له وبشره بالجنة) واستأذن عمر، فقال: (إئذن له وبشره بالجنة) واستأذن عثمان، فقال: (إيذن له وبشره بالجنة) (2) فما بال هذه الفضيلة من بين سائر الفضائل تكتم وتطوى عنهما!. فأما ما روي عنه من قوله: (ادعوا لي أخي وصاحبي) (3) فالذي يبطله المتظاهر من قول أمير المؤمنين عليه السلام في مقام بعد آخر (أنا عبد الله وأخو رسوله لا يقولها بعدي إلا كذاب مفتري) (4) وإن أحدا لم

(هامش)

(1) أخرجه الخطيب في التاريخ 7 / 118 من طريق بشار بن موسى الشيباني الخفاف وفي تهذيب التهذيب 1 / 441 قال ابن معين: ليس بثقة - يعني بشارا - إنه من الدجالين، وقال البخاري: منكر الحديث قد رأيته، وكتبت عنه، وتركت حديثه، وكذلك في ميزان الاعتدال 1 / 310. (2) في تاريخ بغداد 9 / 339: عن عبد الله بن علي المديني إنه سئل عن هذا الحديث فقال: كذب موضوع وروى الخطيب في هذا الحديث، وبشره بالجنة والخلافة وعلق ابن حجر في لسان الميزان 3 / 193 على ذلك بقوله: لو صح هذا لما جعل عمر الخلافة في أهل الشورى، وكان يعهد إلى عثمان بلا نزاع . (3) يعني أبا بكر (رض) وفي بعض الروايات دعوا لي . (4) تقدم تخريجه. (*)

ص 110

يقل له: وأبو بكر أيضا أخو رسول الله صلى الله عليه وآله، ولأن المشهور المعروف هو مؤاخاته لأمير المؤمنين عليه السلام بنفسه، ومؤاخاة أبي بكر لعمر. فأما روايتهم (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) (1) فقد تقدم في كتابنا هذا الكلام عليه مستقصى عند اعتراضه بهذا الخبر ما يستدل به من خبر الغدير على النص وأشبعنا الكلام فيه فلا طائل في إعادته. فأما الخبر الذي يروونه عن جعفر بن محمد عليه السلام عن أبيه أن أمير المؤمنين عليه السلام قال ما حكاه، فمن العجائب أن يروى مثل ذلك من مثل هذا الطريق الذي ما عهد منه قط إلا ما يضاد هذه الرواية، وليس يجوز أن يقول ذلك من كان يتظلم تظلما ظاهرا في مقام بعد آخر، وبتصريح بعد تلويح، ويقول فيما قد رواه ثقات الرواة، ولم يرد من خاص الطرق دون عامها: (اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم ظلموني الحجر والمدر) ويقول: (لم أزل مظلوما منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله) (2) ويقول فيما رواه زيد بن علي بن الحسين، قال كان علي عليه السلام يقول: (بايع الناس أبا بكر وأنا أولى بهم مني بقميصي هذا فكظمت غيظي، وانتظرت أمري وألزقت كلكلي بالأرض ثم إن أبا بكر هلك واستخلف عمر وقد والله علم أني أولى بالناس مني بقميصي هذا، فكظمت غيظي، وانتظرت أمري، ثم إن عمر هلك وجعلها شورى، وجعلني فيها في سادس ستة كسهم الجدة فقال اقتلوا الأقل فكظمت غيظي وانتظرت أمري، وألزقت كلكلي بالأرض حتى ما وجدت إلا القتال أو

(هامش)

(1) تقدم الكلام عليه. (2) انظر ص 226 من هذا الجزء. (*)

ص 111

الكفر بالله) (1) وهذا باب تغني فيه الإشارة فإنا لو شئنا أن نذكر ما يروى في هذا الباب عنه عليه السلام، وعن جعفر بن محمد وأبيه اللذين أسند إليهما الخبر الذي رواه عنهما عليهما السلام، وعن جماعة أهل البيت لأوردنا من ذلك ما لا يضبط كثرة، وكنا لا نذكر إلا ما يرويه الثقات المشهورون بصحبة هؤلاء القوم، والانقطاع إليهم، والأخذ عنهم، بخلاف الخبر الذي ادعاه لأنه متى فتش عن أصله وناقله لم يوجد إلا منحرفا متعصبا غير مشهور بالصحبة (2) لمن رواه عنه من أهل البيت عليهم السلام، ومن أراد استقصاء النظر في ذلك فعليه بالكتب المصنفات فيه، فإنه يجد فيها ما يشفي الغليل وينقع الصدى (3) ومن البديع أن يقول في مثل ما روي من قوله صلى الله عليه وآله: (علي ولي كل مؤمن بعدي) و(إنه سيد المسلمين وإمام المتقين) (4) إنه لا يعرف ويرميه بالشذوذ، وقد روي من طرق العامة والخاصة، وورد من جهات مختلفة ثم يورد في معارضته مثل هذه الأخبار. فأما ما روي عنه صلوات الله عليه من قوله: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ولو شئت أن اسمي الثالث لفعلت) فقد تقدم الكلام عليه على سبيل الجملة، وأفسدنا ما رواه عنه صلوات الله عليه من قوله: (إن أراد الله بالناس خيرا فسيجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم) بما يفسد به هذا الخبر وكل ما جرى

(هامش)

(1) المنقول هنا عن ابن هلال الثقفي ورواه ابن عساكر 3 / 174 باختلاف في بعض الألفاظ. (2) في المخطوطة بالصحة وما في المتن أرجح. (3) نقع الماء العطش نقعا ونقوعا: سكنه، والصدى: العطش (4) الترمذي 2 / 297 ومسند أحمد 3 / 111 و4 / 447 و5 / 356، ومستدرك الحاكم 3 / 137 وتاريخ بغداد 3 / 123. (*)

ص 112

مجراه، على أن هذا الخبر قد روي على خلاف هذا الوجه وأوردت له مقدمة أسقطت عنه ليتم الاحتجاج به وذاك أن معاذ بن الحرث الافطس (1) حدث عن جعفر بن عبد الرحمان البلخي (2) وكان عثمانيا يفضل عثمان على أمير المؤمنين عليه السلام قال: أخبرنا أبو خباب الكلبي (3) - وكان أيضا عثمانيا - عن الشعبي ورأيه في الانحراف عن أهل البيت عليهم السلام معروف قال سمعت وهب بن أبي جحيفة (4) وعمرو بن شرحبيل (5) وسويد بن غفلة (6) وعبد الرحمان الهمداني (7) وأبا جعفر الأشجعي (8) كلهم يقولون سمعنا عليا عليه السلام على المنبر

(هامش)

(1) معاذ بن الحارث الافطس لم اهتد لمعرفته وهو غير معاذ بن الحارث الأنصاري المعروف بابن عفراء، وغير معاذ بن الحارث الأنصاري النجاري الذي هو أحد من أقامه عمر بمصلى التراويح، المقتول يوم الحرة. (2) حفص بن عبد الرحمن خ ل. (3) في الأصل أبو حباب بالحاء المهملة وتشديد الموحدة التحتية، والصحيح أبو جناب بالجيم والنون - وهو أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي، قال الذهبي في ميزان الاعتدال 4 / 371 روى عن الشعبي وطبقته ثم نقل ضعفه عن علماء الرجال وتدليسه وعدم استحلال بعضهم لروايته وتركهم لها. (4) وهب بن أبي جحيفة: هو وهب بن عبد الله السوائي المسمى وهب الخير قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: مات النبي صلى الله عليه وآله قبل أن يبلغ الحلم، كان على شرطة علي، ويقال: إن عليا هو الذي سماه وهب الخير توفي سنة 74. (5) عمرو بن شرحبيل أبو ميسرة الهمداني تابعي توفي بالكوفة سنة 63 (تهذيب التهذيب 8 / 47). (6) سويد بن غفلة تقدم ذكره. (7) هو عبد الرحمن بن عوسجة النهمي قتل يوم الزاوية مع ابن الأشعث سنة 82 (تهذيب التهذيب 6 / 244). (8) أبو جعفر الأشجعي هو ميسرة بن عمار، ويقال: ابن تمام الكوفي (تهذيب التهذيب 10 / 386 والجرح والتعديل 1 / 252). (*)

ص 113

يقول: (ما هذا الكذب الذي يقولون، ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر) فإذا كانت هذه المقدمة قد رواها من روى الخبر ممن ذكرناه مع انحرافه وعصبيته فلا يلتفت إلى قول من يسقطها، فالمقدمة إذا ذكرت لم يكن في الخبر احتجاج لهم، بل يكون فيه حجة عليهم من حيث ينقل الحكم الذي ظنوه إلى ضده. وقد قال قوم من أصحابنا: لو كان هذا الخبر صحيحا لجاز أن يحمل على أنه عليه السلام أراد به ذم الجماعة أي خاطبها بذلك، والازراء (1) على اعتقادها فكأنه قال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها في اعتقاداتها وعلى ما تذهب إليه فلان وفلان، ولهذا نظائر في الكتاب والاستعمال، قال الله تعالى: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا) (2) ولم يكن إلهه على الحقيقة، بل كان كذلك في اعتقاده، وقال تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) (3) أي أنت كذلك عند نفسك وبين قومك، ويقول أحدنا: فلان بقية هذه الأمة، وزيد شاعر هذا العصر، وهو لا يريد إلا أنه كذلك في اعتقاد أهل العصر دون أن يكون على الحقيقة بهذه الصفة. فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه وإن جاز فالظاهر بخلافه والكلام على ظاهره إلى أن يقوم دليل. قلنا: لو كان الأمر في الظاهر على ما ادعيتم لوجب العدول عنه للأدلة القاهرة الموجبة لفضله عليه السلام على جميع الأمة على أنه قد روي ما يقتضي العدول بهذا القول عن ظاهره، وأنه خارج مخرج

(هامش)

(1) الازراء: النقص. (2) طه 97. (3) الدخان 49. (*)

ص 114

التعريض، فروى عون بن أبي جحيفة قال سمعت عليا عليه السلام يقول (إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله فلئن أخر من السماء فتخطفني (1) الطير أحب إلي من أن أقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يقل، وإذا حدثتكم عن نفسي فإني محارب مكايد إن الله قضى على لسان نبيكم إن الحرب خدعة (2) ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر، ولو شئت لسميت الثالث). وهذا الكلام يدل على أنه على سبيل التعريض وقد يحتاج صلوات الله عليه إلى التعريض فيحسن منه بعد أن تكون الأدلة المؤمنة من اللبس (3) واشتباه الشبهة بالحجة متقدمة، ومعلوم أن جمهور أصحابه وجلهم كانوا ممن يعتقد إمامة من تقدم عليه، عليه السلام، وفيهم من يفضلهم على جميع الأمة. وقد قيل إن معاوية بث الرجال في الشام يخبرون عنه عليه السلام بأنه يتبرأ من المتقدمين عليه، وأنه شرك في دم عثمان لينفر الناس عنه، ويصرف وجوه أكثر أصحابه عن نصرته، فلا ينكر أن يكون قال ذلك إطفاء لهذه النائرة، ومراده بالقول ما تقدم مما لا يخالف الحق. وقال أيضا بعض أصحابنا: مما يدل على فساد هذا الخبر ما يتضمنه

(هامش)

(1) خطف الشيء استلبه، وخطف من باب سمع وضرب والثاني قليل الاستعمال أو رديه. (2) قال ابن الأثير في النهاية 2 / 14 مادة خدع : الحرب خدعة، يروى بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال، فالأول معناه: أن الحرب ينقضي أمرها بخدعة واحدة، من الخداع أي أن المقاتل إذا خدع مرة واحدة لم تكن لها إقالة وهي أفصح الروايات وأصحها، ومعنى الثاني هو الاسم من الخداع، ومعنى الثالث أي إن الحرب تخدع الرجال وتمنيهم ولا تفي لهم، كما يقال: فلان لعبة وضحكة أي كثير اللعب والضحك . (3) اللبس - بفتح فسكون -: الخلط، يقال: ليس الأمر أي خلط بعضه ببعض. (*)

ص 115

لفظه من الخلل لأن قوله: (ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها) يقتضي دخول النبي صلى الله عليه وآله في الكلام الأول وتحت لفظ الأمة، لأن الأمة مضافة إليه فكيف يكون منها، وهذا يقتضي أنه من أمة نفسه، وقد دفع أيضا أصحابنا احتجاج من احتج بهذا الخبر في التفضيل بأن قالوا: قد يتكلم المتكلم بما جرى هذا المجرى وهو خارج من جملة كلامه، وغير داخل فيه، واستشهدوا بما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله من قوله: (لا ينبغي لأحد أن يقول أني خير من يونس بن متى) (1) مع قوله: ( أنا سيد الأولين والآخرين) ومع قوله: (أنا سيد ولد آدم) (2) وإجماع الأمة على أنه أفضل الأنبياء فلولا أنه خارج من قوله: (لا ينبغي لأحد) لكان القول منه فاسدا، وكذلك روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: (أبو سفيان بن الحارث خير أهلي) (3) وقال: (ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر) (4) وهو صلى الله عليه وآله خارج من ذلك، وقد يحلف الرجل أيضا ألا يدخل داره أحدا من الناس، وهو خارج من يمينه، وإذا كان صلى الله عليه وآله خارجا من الخبر من حيث كان المخاطب به لم يدل على التفضيل عليه.

(هامش)

(1) أخرجه المناوي في كنوز الحقائق 1 / 184 عن الطبراني بلفظ (لا ينبغي لنبي أن يقول الخ). (2) رواه وما بعده بهذا المضمون السيوطي في الجامع الصغير 1 / 107. (3) في صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله رجلان بهذه الكنية هما أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضيع رسول الله صلى الله عليه وآله وابن عمه، والثاني أبو سفيان بن الحارث بن قيس الأنصاري الأوسي والظاهر أن المقصود الأول منهما، كما لم اهتد للحديث رغم طلبي له من مظانه. (4) أخرجه الترمذي 2 / 221 والحاكم 3 / 242 وابن ماجة 1 / 68 وأحمد في مسنده 2 / 163 و175 و223 و5 / 197 و6 / 442 وغير هؤلاء. (*)

ص 116

ومن ظريف الأمور أن يستشهد القوم بهذا الخبر على التفضيل وهم يروون أن أبا بكر قال: (وليتكم ولست بخيركم) فصرح باللفظ الخاص بأنه ليس بالأفضل، ثم يتأولون ذلك على أنه خرج مخرج التخاشع والتخاضع، فألا استعملوا هذا الضرب من التأويل فيما يدعونه من قوله: (ألا إن خير هذه الأمة) ولكن الانصاف عندهم مفقود. فأما ما رواه عن جعفر بن محمد عليه السلام من قول أمير المؤمنين علي عليه السلام لأبي سفيان عند استخلاف أبي بكر، وقد قال له: أبسط يدك أبايعك، فوالله لأملأنها على أبي فصيل خيلا ورجلا: (إن هذا من دواهيك، وما زلت تبغي للاسلام العوج في الجاهلية والإسلام) فهو خبر متى صح لم يكن فيه دلالة على أكثر من تهمة أمير المؤمنين لأبي سفيان وقطعه على خبث باطنه، وقلة دينه، وبعده عن النصح فيما يشير به، ولا حجة فيه ولا دلالة على إمامة أبي بكر، ولا تفضيله لأن أمير المؤمنين عليه السلام لم يعدل عن محارجة (1) القوم والتصريح بادعاء النص والمجاذبة عليه (2) إلا لما اقتضته الحال من حفظ أصل الدين، ولعلمه بأن المخاصمة والمغالبة فيه تؤديان إلى فساد لا يتلافى فلا بد من مخالفته في هذا الباب لكل مشير لا سيما إذا كان متهما منافقا، غير نقي السريرة، فليس في رده عليه السلام على أبي سفيان ما رآه من إظهار البيعة والمحاربة أكثر مما ذكرناه من أن الرأي كان عنده في خلافه، وليس لأحد أن يقول: لولا استحقاق متولي الأمر له لما جاز أن ينهى أمير المؤمنين عن الإجلاب عليه، والمحاربة له، ولا أن يمتنع من مبايعة أبي سفيان له بالإمامة، لأنا قد بينا أن ذلك أجمع لا يدل على استحقاق الأمر، وأن المصلحة إذا اقتضت

(هامش)

(1) مفاعلة من الخروج. (2) والمحاربة خ ل. (*)

ص 117

الامساك وجب وإن لم يكن هناك استحقاق من التلبس بالأمر، وأن هذا إن جعل دلالة في هذا الموضع لزم أن يكون الامساك عن الظلمة والمتغلبين على أمور المسلمين من بني أمية وغيرهم دلالة على استحقاقهم لما كان في أيديهم، ونحن نعلم أن الحسن عليه السلام لو أشار عليه مشير بعد صلح معاوية بمحاربته وبمخارجته لعصاه وخالفه، بل قد عصى جماعة أشاروا عليه بخلاف ما رآه من الامساك والتسليم، وبين لهم أن الدين والرأي يقتضيان ما فعله عليه السلام. فأما ما رواه عن أمير المؤمنين عليه السلام من التمني لأن يلقى الله بصحيفة عمر، فهذا لا يقوله من فضله النبي صلى الله عليه وآله على الخلق بالأقوال والأفعال المجمع عليها، الظاهرة في الرواية، وقد تقدم طرف منها ولا يصدر عمن كان يصرح بتفضيل نفسه على جميع الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وآله ولا يقدر (1) أن يصرح بذلك أيضا، وقد تقدم الكلام على نظائر هذا الخبر على أن قوله: (وددت أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى) أو (ما على الأرض أحد أحب إلي من أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى) لا يجوز أن يكون محمولا على ظاهره، لأن الصحيفة إنما يشار بها إلى صحيفة الأعمال، وأعمال زيد لا يجوز أن يكون بعينها لعمرو، وتمني ذلك مما لا يصح على مثله عليه السلام فلا بد من أن يقال: إنه أراد بمثل صحيفته، وبنظير أعماله، وإذا جاز أن يضمروا شيئا في صريح اللفظ جاز لخصومهم أن يضمروا خلافه، ويجعلوا بدلا من اضمار المثل الخلاف، وإذا تكافأت الدعويان لم يكن في ظاهر الخبر حجة لهم، على أن في متقدمي أصحابنا من قال: إنما تمنى أن يلقى الله بصحيفته ليخاصمه بما فيها، ويحاكمه بما تضمنته، وقالوا أيضا في

(هامش)

(1) في حاشية المخطوطة: ولا يقدر أحد غيره خ ل. (*)

ص 118

ذلك وجها غير هذا معروفا، وكل ذلك يسقط تعلقهم بالخبر. فأما ما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: لو كنت متخذا خليلا فقد تقدم الكلام عليه فيما مضى من الكتاب فلا وجه لإعادته، وقد تقدم أيضا في أول هذا الفصل الكلام على أن جميع ما رواه من الأخبار لا يعارض في الثبوت والصحة أخبارنا، وإن لأخبارنا في باب الحجة المزية الظاهرة، والرجحان القوي. فأما قوله عن أبي علي: وعلى أن هذه الأخبار لا تقتضي النص بل هي محتملة لأن قوله صلى الله عليه وآله إمام المتقين أراد به في التقوى، ولو أراد به الإمامة لم يكن بأن يكون إماما للمتقين بأولى من أن يكون إماما للفاسقين فتأويل باطل لأن حمل ذلك على أنه إمام في شيء دون شيء تخصيص ومذهبه الأخذ بالعموم، إلا أن يقوم دليل، على إنا قد بينا فيما مضى إن معنى الإمامة، وحقيقة هذه اللفظة والصفة تتضمن الاقتداء بمن كان إماما من حيث قال وفعل، فإذا ثبت أنه إمام لبعض الأمة في بعض الأمور فلا بد من أن يكون مقتدى به في ذلك الأمر على الوجه الذي ذكرناه، وذلك يقتضي عصمته، وإذا ثبتت عصمته وجبت إمامته لأن كل من أثبت له العصمة وقطع عليها أوجب له الإمامة بعد الرسول صلى الله عليه وآله بلا فصل. فأما تخصيص المتقين باللفظ دون الفاسقين فلا يمتنع وإن كان إماما للكل، كما قال تعالى: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) (1) وإن كان هدى للكل فإن حمل ذلك على أن المتقين لما انتفعوا (2) بهدايته، ولم ينتفع بها الفاسقون جاز هذا القول، وكان لنا أن نقول مثل ذلك في

(هامش)

(1) البقرة 2. (2) في المخطوطة إن المنافقين ما انتفعوا . (*)

ص 119

قوله: (إمام المتقين) ولا وجه يذكر في اختصاص لفظ الآية مع عموم معناها إلا وهو قائم في الخبر. فأما دعاء الصالحين بأن يجعلهم الله للمتقين إماما، فقد يجوز أن يحمل على أنهم دعوا بأن يكونوا أئمة يقتدى بهم الاقتداء الحقيقي الذي بيناه فهذا غير ممتنع، ولو صرنا إلى ما يريده من أنهم دعوا بخلاف ذلك لكنا إنما صرنا إليه بدلالة وإن كانت حقيقة الإمامة تتضمن ما قدمناه من معنى الاقتداء المخصوص وليس العدول عن بعض الظواهر لدلالة تقتضي العدول عن كل ظاهر بغير دلالة. فأما قوله: ويجب أن يكون إماما في الوقت فقد تقدم الكلام على هذا المعنى في جملة كلامنا في خبر الغدير، واستقصينا القول فيه. فأما قوله: وسيد المسلمين فإن معنى السيادة يرجع إلى معنى الإمامة والرئاسة وكذلك قوله: وقائد الغر المحجلين لأن القائد للقوم هو الرئيس المطاع فيهم، لا سيما إذا كان ذلك عقيب قوله: إمام المتقين ولا شبهة في أن معنى هذه الألفاظ يتقارب، ويفهم منها ما ذكرناه. فأما قوله صلى الله عليه وآله: إنه ولي كل مؤمن ومؤمنة من بعدي فقد بينا عند الكلام في قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله) (1) الكلام في اقتضاء هذه اللفظة لمعنى الإمامة، وشرحناه واستقصيناه فسقط ادعاؤه أنها لا تفيد الإمامة. فأما قوله صلى الله عليه وآله فيه عليه السلام: إنه مني وأنا منه فإنه يدل على الاختصاص والتفضيل، والقرب على ما ذكره ولا يدل بلفظه على الإمامة، لكن يدل عليها من الوجه الذي ذكرناه، وبينا كل قول

(هامش)

(1) المائدة 55. (*)

ص 120

أو فعل يقتضي التفضيل به يدل عليه بضرب من الترتيب قد تقدم، فلم يبق مع ما أوردناه شبهة في جميع الفصل الذي حكيناه عنه والمنة لله.

حديث الثقلين

 قال صاحب الكتاب: دليل لهم آخر، وربما تعلقوا بما روي عنه صلى الله عليه وآله من قوله: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض) (1) وإن ذلك يدل على أن الإمامة فيهم، وكذلك العصمة، وربما قووا ذلك بما روي عنه صلى الله عليه وآله: إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق) (2) وإن ذلك يدل على عصمتهم، ووجوب طاعتهم، وحظر العدول عنهم، قالوا: وذلك يقتضي النص على أمير المؤمنين ثم قال: وهذا إنما يدل على أن إجماع العترة لا يكون إلا حقا لأنه لا يخلوا من أن يريد صلى الله عليه وآله بذلك جملتهم أو كل واحد منهم،

(هامش)

(1) حديث الثقلين متواتر، وطرقه صحيحة عن أكثر من عشرين صحابيا فقد أخرجه الترمذي 2 / 308 عن جابر وزيد بن أرقم والنسائي / 21 عن جابر أيضا، والإمام أحمد في المسند ج 3 / 17 و26 عن أبي سعيد الخدري وج 5 / 182 و189 عن زيد بن ثابت، والحاكم في المستدرك ج 3 / 109 و148 و533، وعلق عليه بأن على شرط الشيخين، وكذلك في تلخيص المستدرك وقال ابن حجر في الصواعق ص 150: إعلم أن لحديث التمسك بهما طرقا كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا وأنت إذا تصت طرق هذا الحديث يظهر لك بكل وضوح أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال ذلك في غير موضع، وفي أكثر من مناسبة. (2) حديث السفينة أخرجه غير واحد من علماء الحديث نذكر منهم الحاكم في المستدرك 2 / 343 و3 / 151 عن أبي ذر، وأبو نعيم في الحلية 4 / 306 وقال ابن حجر في الصواعق 153 ووجه تشبيههم في السفينة أن من أحبهم وعظمهم شكرا لنعمة مشرفهم صلى الله عليه وسلم، وأخذ بهدى علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومن تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم وهلك في مفاوز الطغيان . (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

الشافي في الإمامة (ج3)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب