تدوين الحديث وتأريخ الفقه الشيعي

الصفحة السابقة الصفحة التالية

تدوين الحديث وتأريخ الفقه الشيعي

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 3

 

تمهيد

 

الهدف من إحياء التراث الإسلامي، وإشاعة العقيدة الحقة لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) في أوساط شبابنا الحائر بين تيارات الثقافات الغربية، الغريبة، المشبعة بسموم أفكار الصهيونية والصليبية والماركسية، بتخطيط من الماسونية العالمية. وكذلك غزو الآراء الشاذة الضالة، من بعض المذاهب التي تدعي الإسلام زورا وبهتانا، بدفع من الاستعمار والماسونية العالمية، بهدف التخريب والتفرقة وقطع الجسور الممتدة بين المسلمين كافة، وتكفير مذهب شيعة أهل البيت (عليهم السلام) خاصة. والغرض من تسليح شبابنا الناهض للوقوف بوجه

ص 4

تلكم التيارات المنحرفة الضالة، ليدافع عن مبادئه وعقيدته كما دافع عنها سلفنا الصالح وتحمل العنت والعذاب في سبيل ذلك، لا سيما شبابنا الذين قهرتهم الظروف العصيبة والالتجاء إلى أحضان دول الكفر، لسد حاجاتهم البايولوجية، كالمستجير من الرمضاء بالنار. والله أسأل أن يسدد خطانا ويهدينا إلى سواء السبيل. حسين الشاكري

ص 5

 

 

 تدوين الحديث عند شيعة أهل البيت... وأهل السنة

 

 

مند أن التحق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرفيق الأعلى وتسنم الشيخان أبو بكر وعمر سدة الحكم منعا تدوين الحديث وشددا في منعه، حتى أصبح كبار الصحابة ومن دونهم محذورا عليهم لا تدوين الحديث فحسب بل حتى منع عليهم ذكر الحديث والاستشهاد به في مناظراتهم وغيرها. وحرم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بصورة خاصة تدوين الحديث إبان تسنمه سدة الحكم، بقولة قالها حسبنا كتاب الله استدراكا لما فعله الخليفة الأول أبو بكر بن أبي قحافة حينما أحرق الأحاديث التي كانت عنده والتي سمعها ودونها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي تربو على الخمسمائة حديث.

ص 6

في حين بقيت الأمة حائرة وهي بأمس الحاجة إلى تدوين الحديث لمعرفة أحكامها الفقهية من الحلال والحرام والحدود في الدماء والفروج والأموال، ومسائلها العقائدية، وأمورها الحياتية، إلى أن أجاز عمر بن عبد العزيز تدوين الحديث بعد القرن الأول من الهجرة. غير أن شيعة أهل البيت رفضت القرار المزبور، ودونت الحديث رغم الحظر الشديد، وذلك ابتداء من عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرورا بعصر الإمام علي (عليه السلام) فما بعد، واهتمت بحفظ هذه الثروة العظيمة وهذا التراث المجيد الذي أخذته من باب مدينة علم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده أخذت شيعة أهل البيت عن أبنائه الأئمة الطاهرين (عليهم السلام). وأول من دون الحديث سلمان المحمدي الفارسي وأبو ذر الغفاري، ومن بعدهم أبو رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وابنه علي وعبيد الله، وكانا كاتبين لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)، والأصبغ بن نباتة، وسليم ابن قيس الهلالي وكثير غيرهم، وكلهم من شيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وخواصه. وعلى أي حال، فإن اهتمام شيعة أهل البيت (عليهم السلام)

ص 7

بحفظ الحديث وتدوينه كانوا الرواد له والسابقين إلى ضبطه. ويقول الأستاذ مصطفى عبد الرازق، عند ذكره لأول من دون الحديث، وعلى أي حال فإن ذلك لا يخلو من دلالة على أن النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة، لأن اعتقادهم العصمة في أئمتهم أو ما يشبه العصمة، كان حريا أن يسوقهم إلى الحث على تدوين [الحديث] في أقضيتهم وفتاواهم (1). والواقع التأريخي يقر بأن الحكام الأمويين منعوا الناس عن التحدث بعلم علي (عليه السلام) خاصة أو نقل فتاواه وأقواله للناس (2). فقد كان للاضطهاد الأموي لأهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم أثره العميق في منع الناس عن رواية الحديث عنهم، فالتجأ إلى التورية بقولهم: قال أبو زينب، أو قال الشيخ، بدلا من ذكر الرواة والمحدثين اسم علي.

(هامش)

(1) تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية: 252. (2) ابن عساكر، تهذيب التأريخ 407. (*)

ص 8

وكيف يستطيع أحد أن يذكره بخبر أو يسند عنه حديثا ومنابرهم تعج بسبه، وألسنة مشايخهم تلهج بذمه، وقصاصوهم يختمون أحاديثهم بلعنه (1)، إلى غير ذلك من الوسائل التي حاول الأمويون القضاء على مآثره (عليه السلام). ويستدل في كثير من الأعمال الدبلوماسية التي قام بها معاوية في عهده الطويل الأمد، أنه كان قد قرر التوفر على حملة واسعة النطاق لتحطيم المبادئ العلوية، أو قل تحطيم جوهرية الإسلام متمثلة في دعوة علي وأولاده المطهرين (عليهم السلام). ويظهر أنه كان ثمة أربعة أهداف تكمن وراء هذه الحملة. 1 - شل الكتلة الشيعية - وهي الكتلة الحرة - والقضاء تدريجيا على كل منتم إلى التشيع وتمزيق جامعتهم. 2 - خلق الاضطرابات المقصودة في المناطق المنتمية لأهل البيت والمعروفة بتشيعها لهم، ثم التنكيل

(هامش)

(1) ابن عساكر، تهذيب التأريخ 407. (*)

ص 9

بهؤلاء الآمنين بحجة تسبيب الشغب. 3 - عزل أهل البيت عن العالم الإسلامي، وفرض نسيانهم على المسلمين إلا بالذكر السئ، والحؤول - بكل الوسائل - دون تيسر النفوذ لهم، ثم العمل على إبادتهم من طريق الغيلة. 4 - تشديد حرب الأعصاب. ولمعاوية في الميدان الأخير جولات ظالمة سيطول حسابها عند الله عز وجل كما طال حسابها في التأريخ، وسيجرنا البحث إلى عرض نماذج منها عند الكلام على مخالفاته لشروط الصلح. وكان من أبرز هذه الجولات في سبيل مناوأته لعلي وأولاده ولمبادئهم وأهدافهم، أنه فرض لعنهم في جميع البلدان الخاضعة لنفوذه، بما ينطوي تحت مفاد اللعن من إنكار حقهم، ومنع رواية الحديث في فضلهم، وأخذ الناس بالبراءة منهم، فكان - بهذا - أول من فتح باب اللعن في الصحابة، وهي السابقة التي لا يحسده عليها مسلم يغار على دينه، وتوصل إلى استنزال الرأي العام على إرادته في هذه الأحدوثة المنكرة، بتدابير محبوكة، تبتعد

ص 10

عن مبادئ الله عز وجل، بمقدار ما تلتحم بمبادئ معاوية. وإن من شذوذ أحوال المجتمع، أنه سريع التأثر بالدعاوات الجارفة القوية - مهما كان لونها - ولا سيما إذا كانت مشفوعة بمطامع المال ومطامع الجاه من جهة، والإرهاب والتنكيل من جهة أخرى. وما يدرينا بم رضي الناس من معاوية، فلعنوا معه عليا وحسنا وحسينا (عليهم السلام)؟ وما يدرينا بماذا نقم الناس على أهل البيت فنالوا منهم كما شاء معاوية أن ينالوا؟! ربما يكون قد أقنعهم بأن عليا وأولاده، هم الذين حاربوا النبي (صلى الله عليه وآله) إبان دعوته، وإنهم هم الذين حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله، وهم الذين ألحقوا العهار بالنسب، وهم الذين نقضوا المواثيق وحنثوا بالأيمان، وقتلوا كبار المسلمين صبرا، ودفنوا الأبرياء أحياء، وصلوا الجمعة يوم الأربعاء (1).

(هامش)

(1) يراجع عن هذا: مروج الذهب 72، وعن غيره مما ذكر قبله. (*)

ص 11

وربما يكون قد أطمعهم دون أن يقنعهم، وربما يكون قد أخافهم دون أن يطمعهم، فكان ما أراد وارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن علي سنة ينشأ عليها الصغير ويهلك الكبير (1). والمرجح أن معاوية هو الذي فضل تسمية هذه البدعة ب‍ (السنة)، فسماها معه المغرورون بزعامته والمأخوذون بطاعته كما أحب، وظل الناس بعده على بدعته، إلى أن ألغاها عمر بن عبد العزيز وأخذ خطيب جامع (حران) يخطب ثم ختم خطبته ولم يقل شيئا من سب أبي تراب كعادته، فتصايح الناس من كل جانب: ويحك ويحك السنة السنة، تركت السنة . ثم كانت (سنة معاوية) هي الأصل التأريخي لتكوين هذه الكلمة تكوينا اصطلاحيا آخر، تناسل مع الأجيال، وتنوسيت معه مناسباته السياسية الأولى. ولنتذكر هنا، أن عليا (عليه السلام) سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين، فنهاهم، وقال لهم: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم

(هامش)

(1) مروج الذهب 72. (*)

ص 12

أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودمائهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به (1). وظل سب علي (عليه السلام) وشتمه من على المنابر طيلة ألف شهر، وفرض البراءة منه ومن دينه الذي هو دين الإسلام، واللعن على شيعته ومحبيه، حتى نشأت عليه أجيال، وغرس جذور العداء بين المسلمين، وحتى هرم الكبير وشاب الصغير، وكأنهم بذلك يدفعون به إلى عنان السماء ويرفعونه عاليا حتى أصبحت أقدامه فوق رؤوسهم. قال الشافعي لما سأله أحد أصحابه عن علي ابن أبي طالب (عليه السلام)، قال (2): ما أقول في رجل أسر أولياءه مناقبه تقية، وكتمها أعداؤه حنقا وعداوة، ومع

(هامش)

(1) النهج 420 - 421. (2) الكنى والألقاب، ترجمة الشافعي. (*)

ص 13

ذلك فقد شاع ما بين الكتمانين ما ملأ الخافقين؟!! وسئل الخليل بن أحمد الفراهيدي (1): لم هجر الناس عليا (عليه السلام) وقرباه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: ما أقول في امرئ كتمت مناقبه أولياؤه خوفا، وأعداؤه حسدا، ثم ظهر ما بين الكتمانين ما ملأ الخافقين؟!! وسئل: ما الدليل على أن عليا (عليه السلام) إمام الكل في الكل؟ قال: احتياج الكل إليه واستغنائه عن الكل، دليل على أنه إمام الكل. وعلى رغم تلكم المعارضات والحواجز التي وضعها الأمويون أمام نشر الرسالة الإسلامية، وإثارة الشكوك في اتهام شيعة أهل البيت (عليهم السلام) بأمور ما أنزل الله بها من سلطان، وخلاف المنطق والمعقول، مثل قولهم: مبتدع، أو زائغ عن الحق، أو سئ المذهب، وغير ذلك من الكلام الذي يلقونه على عواهنه دون أي دليل أو إثبات، كل ذلك القصد منهم تشويه سمعتهم بإلقاء

(هامش)

(1) سفينة البحار، مادة خلل . (*)

ص 14

الشبهات عليهم من الوجهة الدينية، لأنهم أنصار العلويين في مقاومة الحكم الأموي. وإذا أردنا أن نسأل عن المصداقية الموجبة لهذه التهم والبهتان، فلا نجد جوابا شافيا إلا الخضوع لحكم السلطات المعادية لأهل البيت وشيعتهم. قال علي بن المديني: لو تركت أهل الكوفة لذلك الرأي - أي التشيع - خربت الكتب. وقال الخطيب البغدادي: قوله: خربت الكتب، يعني لذهب الحديث (1). وروى الخطيب عن محمد بن أحمد، عن محمد بن نعيم الضبي، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب - وسئل عن الفضل بن محمد الشعراني؟ - قال: صدوق في الرواية، إلا أنه من الغالين في التشيع، وقيل له: فقد حدثت عنه في الصحيح؟ فقال: لأن كتاب أستاذي ملآن من حديث الشيعة، يعني مسلم ابن الحجاج (2).

(هامش)

(1) الخطيب البغدادي، كفاية الأصول: 129. (2) نفس المصدر: 131. (*)

ص 15

وقد وضعوا على ألسنة أئمة المذاهب أقوالا مؤداها الامتناع عن قبول رواية الشيعة كذبا وبهتانا. في حين كان أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس من تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام)، والشافعي تلميذ مالك، وأحمد بن حنبل تلميذ الشافعي، والكل قد رووا عن رجال الشيعة وخرجوا أحاديثهم، وهؤلاء لم يرد عنهم حول روايات الشيعة ما يدل على الطعن. ثم نأتي إلى رواة الحديث وأهل الصحاح فنجد كتبهم ملأى بروايات الشيعة وأحاديثهم، فهذا البخاري كان شيوخه من الشيعة يربون على العشرين شيخا، وكذلك مسلم، والترمذي وغيرهم من رواة الحديث. ومن المؤسف حقا أنك تجد في عصرنا الحاضر كتابا في علوم الحديث أو التأريخ يتغافلون عن الحقائق الراهنة، ويلبسونها أبرادا من التمويه، ليغذوا عقول الناشئة بأباطيل عصور التطاحن، فينالون بأقلامهم المسمومة الحديث عن شيعة أهل البيت (عليهم السلام) كل ما توحيه إليهم عاطفتهم، فيصفون الشيعة بما يروق لهم من الأوصاف التي لا يصلح وصفهم بها، ولكن التعصب

ص 16

الأعمى يوجد من لا شيء أشياء. ولا بد أن نلفت انتباه القراء الكرام إلى تعبير بعضهم عندما يترجمون لرجل من ثقاة الشيعة، فيقولون مثلا: صدوق ولكن مذهبه مذهب الشيعة، أو أنه صدوق ولكنما نقموا عليه التشيع، أو أنه سئ المذهب، أو مبتدع، أو غير ذلك. وربما يتساءل المنصف فيقول: ما هو الموجب لهذه التهم؟ وهل التشيع لعلي (عليه السلام) وأهل بيته بدعة في الإسلام؟ ولمصلحة من كل هذه الضجة والنقمة على من يتشيع لعلي وآله؟ ولا نجد جوابا إلا الاتهامات التي تكمن ورائها أغراض الخصومة لأهل البيت (عليهم السلام)، وهي من مخلفات العهد الجاهلي، ويرمون أتباع أهل البيت بكل موبقة وحتى الزندقة وهم براء منها. وليس من العسير أن يقف المتتبع على بواعث تلك الاتهامات المفتعلة فهي لا تعدو أن تكون لأغراض سياسية تخدم مصالح الحاكمين الذين أسرفوا في التنكيل بشيعة أهل البيت (عليهم السلام). وسيأتي ترجمة بعض الثقاة من أصحاب الإمام

ص 17

الصادق (عليه السلام). أعود من حيث انقطعت، فأقول: وجاء دور الحكم الأموي بعدهما بأكثر نكيرا وتشديدا بذكر الحديث فضلا عن تدوينه، حتى انتهى القرن الأول والمنع لا زال قائما. وفي عهد عمر بن عبد العزيز أطلق هذا القيد نسبيا، ولكن شبح رعب الحذر والمنع كان كامنا في نفوس البقية الباقية من حملة الحديث، إلا أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لم يبالوا بهذا المنع وكانوا مستمرين ببث ما دونوه من الأحاديث. وبعد انقراض الحكم الأموي واستيلاء بني العباس على الحكم سنة 132 وبعد صراع مرير دار بين حكام بني أمية الذين عاثوا في الأرض فسادا وأبادوا الحرث والنسل، وبين بني العباس ودعاتهم في بادئ نهضتهم الذين رفعوا شعار الرضا من آل محمد كذبا وبهتانا، ليستغلوا نفوس الموالين والمحبين لأهل البيت (عليهم السلام). وكان أبو العباس السفاح أول حكامهم ثم خلفه أبو جعفر المنصور الدوانيقي، وبقي في الحكم اثنين وعشرين سنة (136 - 158 ه‍)، وطد فيها أركان الدولة

ص 18

العباسية وثبت دعائم حكمها، وأخضع الخارجين عليها في كل أرجاء (الامبراطورية) بالحديد والنار والنفي والتعذيب وملأ السجون، وقد كشرت عن أنيابها، وكشفت قناعها الحقيقي، ولم تعد دولة دينية كما دعت إليها في بدء نهضتها في صراعها مع الحكم الأموي البغيض. وغصبت هذه الدولة حق أبناء علي (عليه السلام) والتي قامت باسمهم، ورفعت شعارهم الرضا من أهل البيت ، وكان أحق بها منهم الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وكان الإمام (عليه السلام) عازفا عنها لمعرفته بحقيقة أمر بني العباس وزيف دعواهم، وعزوفه ورفضه فكرة التعاون الإيجابي بصراحة مع القوى المعارضة للحكم الأموي، والاكتفاء بالوقوف قريبا من الأحداث، والتطلع بحذر إلى ما يجري في الساحة وما ستتكشف عنه الوقائع بين الطرفين المتنازعين، لا يعني هذا عدم استجابة الإمام لنداء الأمة الصامت بالتخلص من مأسي الحكم الأموي البغيض وتجاوزاته التي أغفلت دور الرسالة في صنع الحياة الكريمة المعطاء للإنسان المسلم. ولم تكن دوافع الإمام في اعتزاله وعزوفه عن

ص 19

العمل السياسي التأثر بدوافع زهدية، أو لأن ذلك لا يعنيه، بل باعتبار أن تقلبات الأحداث فرضت وضعا سياسيا معينا، ولعدم ثقته بالقوى التي يفترض فيها أن تكسب الجولة الأخيرة في الصراع، أدى إلى أن يفقد الإمام دوره الطليعي الطبيعي في وسط الصراع، فهو حين لا يملك مبررات التحرك الثوري ونتائجه الإيجابية لنفسه، فمن البديهي أن لا يملك المبرر لتحمل مسؤولية التغيير، الذي لا يتحرك من منطلقات رسالية مخلصة، بل من منطلقات غريزية وذاتية، ظهرت آثارها على تصرفات الحكم وسلوكه فيما بعد، فكرس حياته كوالده (عليهما السلام)، واشتغل في تعليم المسلمين وبث معارف الدين ومعالم الرسالة المحمدية السمحاء، وبث علوم آل محمد، ومنهاج السماء الذي ورثه عن آبائه كابرا عن كابر. جرت الأمور مجراها الطبيعي للغالبين على الحكم، يطوون أضلاعهم على الخوف، والحقد والحذر من الذين رفعوا شعارهم، ويشهرون أسلحتهم في كل مكان على الشبهة والظنة للمحافظة على دولتهم وعروشهم المزيفة وبقائها، وكان ذوو القربى في طليعة

ص 20

أولئك الذين اتخذوا الحذر منهم، وجعلوهم هدفا لسهامهم، لأنهم يدركون أحقيتهم بالخلافة وشعور المسلمين اتجاههم، فأسعر العباسيون الشحناء عليهم دون هوادة وسالت الدماء بينهم. والإمام جعفر الصادق (عليه السلام) لعلمه المسبق بنفسية الغاصبين وتصميمهم على البقاء في الحكم مهما كانت النتائج، وترفع الإمام وعزوفه واستعلائه عن هذا الصراع المرير جنبه تلك المذابح، ولكن بعده عنها لا يقيه بطش الحاكم الجبار الحذر المتنمر الذي تدعوه نفسه الشريرة إلى المواجهة الشرسة، وما توسوس له هواجسه الخبيثة، مخافة أهل البيت وشيعتهم. وكان توفيق السماء حليف الإمام (عليه السلام) في مواجهاته مع الجبابرة، وإن بقيت الدولة على حذرها، تنزل بأهل البيت العذاب والتنكيل والقتل والتمثيل وتجعلهم في اسطوانات البناء وهم أحياء للتخلص منهم وإبادتهم، والسعي فيهم بشتى الوسائل حتى تقطع أثرهم. انتهز الإمامان الصادقان أبو جعفر الباقر وابنه أبو عبد الله الصادق (عليهما السلام) فرصة اضمحلال الحكم

ص 21

الأموي وانشغال بني العباس بتأسيس دولتهم وتثبيت أركان حكمهم، فشيدا البناء على الأسس التي ركز دعائمها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأبنائه الكرام، ثم بنى على أساسها الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) وأظهر مدرسته الفقهية فقه آل محمد في المدينة المنورة، وتعاظمت مدرسته يوما بعد يوم وكثر عدد أفرادها على رغم اشتداد الرقابة عليه من قبل الأمويين بصورة لا مجال لأحد أن يتظاهر بالانتماء لتلك المدرسة، إلا عن طريق المخاطرة بحياته، ومع هذه الشدة وتلك الرقابة، فقد كانت سيرة مدرسة أهل البيت محسوسة وكفاحها متواصلا، وقد خرجت عددا كبيرا من أساطين علماء الأمة الذين أصبحوا مصدرا للحديث ومرجعا للأحكام والفتوى، ثم جاء دور الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) وبنى على أساس ذلك الصرح العظيم وتوسع، وفي عهد الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وصلت النهضة العلمية أوجها، حيث تتلمذ عليه ما يزيد على الأربعة آلاف طالب، فكانوا المثل الأعلى في العزوف عن الحكم والسلطان والانصراف إلى بث العلم وتعليم

ص 22

الناس العلم الصحيح والعمل الصالح والأسوة الحسنة لأخلافهم. وممن تتلمذ على الإمام الصادق: أبو حنيفة ومالك، وهما من أئمة مذاهب أهل السنة، وتأثرا كثيرا به، في الفقه أو في الطريقة، ومالك شيخ الشافعي، والشافعي يدلي إلى أبناء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأسباب العلم والمحبة، وقد تتلمذ عليه أحمد بن حنبل سنوات عشرة، فهؤلاء أئمة أهل السنة الأربعة تلاميذ مباشرون وغير مباشرين للإمام الصادق (عليه السلام). والإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يقف شامخا في فقه أهل البيت، فهو في الفقه إمام، وفي حياته للمسلمين إمام، والمسلمون ليومنا هذا يلتمسون في كنوزهم الذاتية المصادر الأصيلة للنهضة العلمية الصحيحة غير مختلطة ولا مستوردة. والإمام الصادق هو الإمام الوحيد من أهل البيت الذي أتيحت له الفرصة لبث علومه، وإمامته دامت أكثر من ثلث قرن، تمخض فيها للعلم مجلسه دون منازع، ولم يمد عينه إلى السلطة التي في أيدي الحكام الغاصبين،

ص 23

وبهذا التخصص والتفرغ علم الأجيال الصاعدة وسلم فطاحل علمائها مفاتيح العلم النبوي الشريف، ومنه بدأ التأصيل لمنهج علمي واضح المعالم للفكر الإسلامي، نقلته أمم الغرب بعده فبلغت به مبالغها الحالية. ومن الذين عملوا بين يديه: تلميذه (جابر بن حيان)، أول كيميائي، ثم أخذت منه (أوروبا الحديثة) وتبعت منهجه القويم وهو (منهج التجربة والاستخلاص) وتحكيم العقل مع النزاهة العلمية. فالإمام الصادق هو فاتح العالم الفكري الجديد، بالمنهج العقلائي والتجريبي. والإمام الصادق هو الإمام الوحيد في التأريخ الإسلامي، والعالم الوحيد في التأريخ العالمي، الذي قامت على أسس مبادئه الدينية والفقهية والاجتماعية والاقتصادية دول العالم. ولعلك تذكر أكبر دولة عرفها التأريخ (الدولة الفاطمية) التي قامت في مصر وامتد سلطانها من المحيط الأطلسي إلى برزخ السويس، ولولا هزيمة جيوشها أمام الغازين لخفقت ألويتها على جبال هملايا في وسط آسيا.

ص 24

والعالم كله مدين لها، إن المسلمين يدينون لها بالجامع الأزهر، الذي أسسه (الفاطميون) والذي حفظ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة واللغة العربية وعلومها كافة من الضياع في تلك البلاد، كما يدينون لتعاليم الإمام (عليه السلام) بقيادة دولة إسلامية كبيرة مثل إيران، ومجمع عظيم بالعراق، ومعاهد علمية عريقة يتصدرها النجف الأشرف، وشعوب قوية في الهند وباكستان وأفغانستان واليمن ووسط آسيا وسوريا ولبنان وشعوب كثيرة منتشرة في العالم كافة، يدينون بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) وفي طليعتهم الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) الذي علم بالمواقف التي وقفها قدر ما علم بالمبادئ التي أرساها. المدرسة الكبرى أخذ جمع غفير من فطاحل العلماء من مختلف مذاهبهم ونحلهم، لا سيما الثقات من الشيعة الإمامية، الأصول والفروع عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ورووا

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

تدوين الحديث وتأريخ الفقه الشيعي

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب