ص 156
فالشريعة كانت تستقبح التصريح بالمقززات والمنفرات في مفرداتها الشرعية، فاستخدمت
ما يماثلها في لغة العرب رعاية للأدب وقد كان ذلك من ديدن العرب العرباء، فمثلا
نراهم يعدلون عن لفظ الفقحة إلى لفظ الدبر رعاية للأدب، وكذا لفظ المضاجعة
والمواقعة والجماع للدلالة على العمل الجنسي بين الطرفين، والفرج للأشارة إلى
العضوين. وبذلك يحتمل أن يكون مجئ حدث وأحدث في الشريعة هو رعاية للأدب وأرادوا بها
العدول عن لفظ خرى أو بال أو... وعليه فإن لفظ الحدث وكما قلنا موضوع لكون شيء لم
يكن، ثم استعملوها في الناقضية بنحو من العناية وزيادة المؤونة. وعلى فرض كون
رواية)... من لم يحدث (محتملة للوجهين، فلا يمكن للقائل جعلها وظيفة المتجدد للوضوء
فقط، إذ فيه احتمال آخر، وحيث جاء الاحتمال بطل الاستدلال. وعلى الرغم من كل ذلك..
فرواية (... من لم يحدث) تشير بوضوح إلى الأحداث في الدين، ونؤيد هذا القول بأمرين:
الأول: ورود جملة: (... هذا وضوء من لم يحدث...) في قضايا خارجية تكون بمثابة
المؤيد والمفسر لما نحن فيه، كما لاحظنا في قضية: (شرب فضلة ماء الوضوء واقفا)،
فإنه إنما شرب فضل وضوئه، ليصحح ما وقع فيه أولئك واعتبروه خارجا من الدين. الثاني:
إن جملة: (أرني وضوء رسول الله) في الحديث الأول، وقوله: (... أين السائل عن وضوء
رسول الله...)، تبينان بأن مسح الرجلين هو من السنة، وتشيران إلى أن الأمام كان
بمقام التعليم وبيان الوضوء النبوي للسائل مقابل الأحداث والأبداع في الوضوء،
فهاتان قرينتان صارفتان عن معنى التبول والتغوط معينتان لمعنى الابتداع واحداث ما
لم يكن. وعليه.. فقد أبطلنا قول من ذهب إلى أن) الحدث (في الرواية المبحوثة هو
ص 157
بمعنى الأمر الناقض للطهارة فقط وسعيه في تأويل الخبر.
الثالثة: موقف علي (عليه السلام) القولي من
الوضوء البدعي
نحن لا نستبعد صدور بعض النصوص القولية عن الأمام علي في قضية
الوضوء، وتداولها بين الناس في عهده، لكننا نحتمل أن يكون للأيدي الأموية أو
العباسية دور فعال في طمس أو إضاعة تلك النصوص، وذلك لما بدر منهم من عداء سافر
لعلي بن أبي طالب (1). ومما يؤيد المدعى.. ما جاء في كتاب الأمام علي إلى محمد بن
أبي بكر وأهل مصر والذي رواه الثقفي في) الغارات (. فقد جاء في المطبوع منه:...
واغسل كفيك ثلاث مرات، وتمضمض ثلاث مرات، واستنشق ثلاث مرات، واغسل وجهك ثلاث مرات،
ثم يدك اليمنى ثلاث مرات إلى المرفق، ثم يدك الشمال ثلاث مرات، ثم امسح رأسك، ثم
اغسل رجلك اليمنى ثلاث مرات، ثم اغسل رجلك اليسرى ثلاث مرات، فإني رأيت النبي هكذا
كان يتوضأ (2). وأخرج الشيخ المفيد بسنده عن صاحب الغارات: (... تمضمض ثلاث مرات،
واستنشق ثلاثا، واغسل وجهك، ثم يدك اليمنى، ثم اليسرى، ثم امسح رأسك ورجليك.. فإني
رأيت رسول الله يصنع ذلك (3)...). وقال النوري، في المستدرك - وبعد نقله النص الأول
-: قلت: ورواه الشيخ في أماليه، عن أبي الحسن علي بن محمد بن حبيش الكاتب، عن الحسن
بن علي الزعفراني، عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الثقفي، عن عبد الله بن محمد بن
(هامش)
(1) وستقف على نماذج من ذلك في دراستنا للعهدين الأموي والعباسي. (2) الغارات 1:
244. (3) الأمالي (مصنفات الشيخ المفيد 13): 267. (*)
ص 158
عثمان، عن علي بن محمد بن أبي سعيد، عن فضيل بن الجعد، عن أبي إسحاق الهمداني، عن
أمير المؤمنين.. مثله، إلا أن فيه، وفي أمالي ابن الشيخ (1)، كما في الأصل: (... ثم
امسح رأسك ورجليك...)، فظهر: أن ما في الغارات من تصحيف العامة، فإنهم ينقلون
عنه... (2). وقال المجلسي - وبعد نقله الرواية عن أمالي المفيد -: بيان: استحباب
تثليث المضمضة والاستنشاق مشهور بين المتأخرين، واعترف بعضهم بأنه لا شاهد له، وهذا
الخبر يدل عليه (3). وقال بعدها: قد مر أن هذا سند تثليث المضمضة والاستنشاق، لكن
رأيت في كتاب الغارات هذا الخبر، وفيه تثليث غسل سائر الأعضاء أيضا، وهذا مما يضعف
الاحتجاج (4) [به]. علما، بأن كلمة) ثلاثا (لم ترد بعد غسل الوجه واليدين في أمالي
المفيد، والطوسي عن الغارات! ولا ندري لماذا يضعف المجلسي الاحتجاج بالخبر، معللا
بأن فيه تثليث سائر الأعضاء؟! وهل التثليث هو الجارح، أم غسل الرجلين؟ أم كلاهما
معا؟!! وهل يلزم اعتبار جميع نسخ الغارات صحيحة، مع ما وقفنا على التعارض فيما
بينها؟ بل كيف يطمأن بنص مأخوذ من نسخة مطبوعة متأخرا، وترك ذات النص المنقول عن
نسخة قد مضى عليها ما يقارب ألف سنة أو أكثر؟! وبطريقي المفيد والطوسي (5).
(هامش)
(1) أمالي الطوسي: 29. (2) مستدرك الوسائل 1: 306. (3) البحار 77: 266. (4) البحار
77: 334. (5) توفي الشيخ المفيد في سنة 413 ه، والشيخ الطوسي في سنة 460 ه. (*)
ص 159
أما نحن.. فنشكك في صدور النص الأول عن الأمام علي، للأسباب التالية: 1 - عرف عن
الثقفي بأنه شيعي، بل من متعصبيهم - كما يحلو للبعض أن ينعته بذلك. فإن كان شيعيا..
فكيف يروي خلاف ما يعتقده ويلتزم به دون أدنى إشارة أو تنبيه؟! بل، وهل يصح منه ذلك
النقل مع وقوفه على ما يعارضه ويضعفه من الروايات؟ وقد عده ابن النديم من علماء
الشيعة (1)، وذكره الطوسي في رجاله، في باب: (من لم يرو عن الأئمة) (2)، وقال عنه
في الفهرست: إبراهيم بن محمد ب ن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي
(رضي الله عنه)، أصله كوفي، وسعد بن مسعود أخو أبي عبيد بن مسعود عم المختار ولاه
علي عليه السلام على المدائن، وهو الذي لجأ إليه الحسن (ع) يوم ساباط، وانتقل أبو
إسحاق إبراهيم بن محمد إلى أصفهان وأقام بها وكان زيديا أولا، ثم انتقل إلى القول
بالأمامة (3). وترجم له غالب أصحاب الرجال من الشيعة، مثل: النجاشي، العلامة الحلي،
ابن داود، وغيرهم. هذا وقد تهجم عليه غير واحد من أصحاب الرجال من العامة، لتشيعه:
فقال ابن أبي حاتم الرازي: سمعت أبي يقول: هو مجهول (4). وقال أبو نعيم: كان غاليا
في الرفض، يروي عن إسماعيل بن أبان، وغيره..
(هامش)
(1) الفهرست: ص 313 الفن الخامس، من المقالة السادسة. (2) رجال الطوسي: 451 / 73.
(3) الفهرست، للشيخ الطوسي: 4 / 7. (4) الجرح والتعديل 2: 127 / 394. (*)
ص 160
ترك حديثه (1). وقال السمعاني: قدم أصفهان وأقام بها، وكان يغلو في الترفض، وله
مصنفات في التشيع (2). وقال الذهبي: قال ابن أبي حاتم: هو مجهول، وقال البخاري: لم
يصح حديثه، أي.. فيما رواه عن عائشة في الاسترجاع لتذكر المصيبة (3). فلو صح هذا
عنه.. فهل تصدق صدور الوضوء الثلاثي الغسلي عنه في الغارات مع عدم التنويه به، ومع
ما عرفت من كون الأمامية نقلوا عنه المسح - في رسالة علي بن أبي طالب إلى محمد بن
أبي بكر - كالمفيد والطوسي وغيرهما؟!... وعليه، فإن خبر الغارات المطبوع قد حرف!! 2
- إن كتاب الغارات، من الكتب التي تداولتها أبناء العامة واستفادوا منه، وليس بعيدا
أن يرووا عنه بما يوافق مذهبهم، وقد كان للنساخ والحكام على مر التاريخ الدور
الكبير في تحريف الحقائق! وقد مر عليك سابقا، أن الطبري وابن كثير كانا يتغاضيان عن
نقل بعض النصوص، بحجة إن العامة لا تتحمل سماعها، وأنهما قد بدلا بعض النصوص
بأخرى.. رعاية لحال العامة! فعلى سبيل المثال: نقل الطبري، وتبعه ابن كثير، كلمة
(كذا وكذا) مكان جملة: (ووصيي وخليفتي فيكم من بعدي)! من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حق
الأمام علي، وذلك في تفسيرهما لاية الأنذار (4)! وجاء في هامش كتاب) آراء علماء
المسلمين (للسيد مرتضى الرضوي: قبل نصف قرن تقريبا، قامت دار الكتب المصرية
بالقاهرة - بمديرية الأستاذ علي
(هامش)
(1) ذكر أخبار أصفهان 1: 187. (2) الأنساب 1: 511. (3) ميزان الاعتدال 1: 62. (4)
تفسير الطبري 19: 75، تفسير ابن كثير 3: 581. (*)
ص 161
فكري للدار - بمراجعة الكتب التي يشم منها التأييد للشيعة الأمامية، أو لأهل البيت،
فكانت اللجنة تحذف ذلك الكلام كله، وتختم الكتاب بالعبارة الاتية: (راجعته اللجنة
المغيرة للكتب) بتوقيع رئيس اللجنة علي فكري (1)! بكل جرأة ووقاحة!!! نعم، إن تحريف
النصوص، والتلاعب بالتراث كان وما زال، وليس بعيدا أن ينال المستقبل أيضا بمخالبه
وأنيابه. 3 - إن رواية الغارات) المطبوع (تخالف ما أصلناه في البحوث السابقة،
وتعارض ما سنبينه في البحوث اللاحقة، التي تؤكد على اعتبار الأمام علي هو الرائد
والمعيد لمدرسة الوضوء الثنائي المسحي أصالتها. أما ما رواه المفيد والطوسي في
أماليهما، فهو يوافق مدرسة الأمام علي وأهل بيته، وليس بينها وبينهم أي تعارض، وهذا
التوافق يرجح بأن تكون هي الأصيلة لا غير، إذ أن المفيد والطوسي يتحد سندهما عند
ابن هلال الثقفي، وأن ما نقلاه عن الغارات يرجع تاريخه إلى القرن الرابع أو الخامس
الهجري، إذ أن المفيد قد توفي في سنة 413 ه، والطوسي في سنة 460 ه.. فهما كانا
قريبي عهد بالغارات، واني راجعت نصا من الأمالي يقرب من عهد المؤلف ورأيت فيه أن
الأمام قد كتب إلى محمد بن أبي بكر بالمسح لا الغسل، وبعد هذا لا معنى لكتابته إليه
بالغسل وقد عرفت ما بينهما من التضاد، وكيف يكتب بالغسل ونراه وأهل بيته وخاصته
يمسحون اقتداء برسول الله، وما معنى الكتابة إليه بالغسل بعد ثبوت الأحداث في عهد
عثمان! وستقف على المزيد من الأيضاح لاحقا إن شاء الله تعالى. والمتحصل مما سبق هو:
إن نقل الشيخين - المفيد والطوسي - هو أقرب إلى الصواب بخلاف ما هو الموجود في
الغارات المطبوع والذي تلاعبت فيه أيادي
(هامش)
(1) آراء علماء المسلمين: 246. (*)
ص 162
الأهواء والعصبيات.. وفات على المجلسي إن كلمة (ثلاثا) هذه، هي ليست من أصل الكتاب،
وإنما هي من تلاعب وتحريف النساخ، ولولا نقل المفيد والطوسي لهذا النص من الغارات،
لضاع الصواب والتبس الأمر، ولاءلقيت العهدة على عاتق الثقفي، وهو منها براء!...
وبذلك، فقد وصلنا إلى زيف النص المطبوع، ووقفنا على بعض ملابسات التحريف.
الرابعة:
تدوين الوضوء النبوي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عهد علي (عليه السلام)
ثبت في كتب التراجم أن عبيد الله وعليا ابني أبي
رافع - مولى رسول الله - كانا من الذين دونوا السنة النبوية بأمر الأمام علي بن أبي
طالب. قال النجاشي: وجمع علي بن أبي رافع كتابا في فنون في الفقه: الوضوء، الصلاة،
وسائر الأبواب، ثم ذكر مسنده إلى رواية الكتاب (1). وقد عد الأمام شرف الدين في)
المراجعات (أسماء الذين دونوا السنة النبوية فقال: ومنهم علي بن أبي رافع - وقد ولد
- كما في ترجمته من الأصابة - على عهد النبي فسماه عليا - له كتاب في فنون الفقه
على مذهب أهل البيت، وكانوا عليهم السلام يعلمون هذا الكتاب، ويرجعون شيعتهم إليه،
قال موسى بن عبد الله بن الحسن: سأل أبي رجل عن التشهد، فقال أبي: هات كتاب ابن أبي
رافع، فأخرجه وأملاه علينا (2). فما يعني نقل مثل هذا عن أئمة أهل البيت؟ أو لم يكن
بإمكانهم بيان الأحكام الشرعية من غير مراجعتهم لكتاب ابن أبي
(هامش)
(1) رجال النجاشي: 6 / 2. (2) المراجعات: ص 306 - المراجعة 110 - القسم الثاني منه.
(*)
ص 163
رافع؟ ثم ما دلالة ومفهوم هذا الخبر الذي ينص على ان لابن أبي رافع كتابا في
الوضوء؟ إن أقرب الاحتمالات التي تسبق إلى الذهن، تتلخص في كون أئمة أهل البيت
كانوا يهدفون من ذلك إلى أمور، منها: أولا: إيقاف الناس على الحقيقة، وإشعارهم أن
ما ينقلونه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الثابت صدوره عنه (صلى الله عليه وآله وسلم). ولما كان التدوين محصورا في
فئة معينة ومعدودة، وكتاب ابن أبي رافع من ذلك المعدود، فقد أراد الأئمة -
وبإرجاعهم الشيعة إلى الكتاب المذكور - أن يفهموا الشيعة على: انهم لا يفتون برأي،
ولا قياس، بل هو حديث توارثوه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كابرا عن كابر. كل ذلك، من أجل أن
يحصنوا شيعتهم ويوقفوهم على خلفيات الأمور. ثانيا: بما أن الوضوء من الأمور المدونة
في العهد الأول، فيحتمل أن يكونوا قد قصدوا بذلك إيقاف شيعتهم على أن هذا الوضوء لم
يكن حادثا، كغيره من الأحكام الشرعية التي عهدوها في عهد عثمان وغيره، بل هو وضوء
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما يرونه بخط ابن أبي رافع، أو في صحيفة علي، أو... وعليه.. فقد
عرفنا بأن الوضوء كان مسألة مبحوثة عند القدماء، وأن أئمة أهل البيت قد أرشدوا
شيعتهم لمدارسة تلك الكتب، للضرورة نفسها. وقد نقل عن أبي حنيفة أنه: قد نسب إلى
جعفر بن محمد الصادق بأنه ) صحفي (، أي: يأخذ علمه من الصحف.. وما كان من الصادق
إلا أن أجابه مفتخرا ومصرحا، بأنه لا ينقل حكم الله إلا عما ورثه عن آبائه، عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بقوله: (أنا رجل صحفي، وقد صدق [أي: أبو حنيفة].. قرأت صحف آبائي،
وإبراهيم، وموسى). وأشار الأستاذ محمد عجاج: بأن عند جعفر بن محمد الصادق رسائل،
ص 164
وأحاديث، ونسخ. وإلى هنا.. فقد اتضح لنا بأن قضية الوضوء كانت مطروحة منذ عهد
الأمام علي حتى أواخر عهد الأئمة من ولده، وقد كتب فيها الكثير من أصحاب الأئمة
وعلماء أهل البيت، منهم: علي بن مهزيار الأهوازي.. (1) علي بن الحسن بن فضال.. (2)
علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي.. (3) أحمد بن الحسن بن فضال (4)... وغيرهم.
وكتب: علي بن بلال.. (5) محمد بن مسعود العياشي.. (6) والفضل بن شاذان النيسابوري
(7)... وغيرهم.. في إثبات المسح على القدمين، أو في عدم جواز المسح على الخفين.
وبذلك، فلا معنى لدعوى من قال: ليس هناك نص واحد قد صدر عن علي في هذا الباب! أما
ما يخص، عدم نقل العلامتين الأميني والمجلسي، وغيرهما.. فلا يستوجب تضعيف ما وصلنا
إليه، لأنهم لم يدعوا جمع كل إحداثات الاخرين،
(هامش)
(1) الفهرست للشيخ الطوسي: 88 / 369. (2) الفهرست للشيخ الطوسي: 92 / 381. (3)
الفهرست للشيخ الطوسي: 93 / 382. (4) الفهرست للشيخ الطوسي: 24 / 62. (5) الفهرست
للشيخ الطوسي: 96 / 402. (6) الفهرست للشيخ الطوسي: 136 / 593. (7) الفهرست للشيخ
الطوسي: 124 / 552. (*)
ص 165
وحصرها في كتبهم - وإن أشاروا إلى بعضها، استطرادا. أضف إلى ذلك، أن بحث العلامة
الأميني يختص بالغدير، وكتاب المجلسي يختص بروايات أهل البيت.. هذا أولا. وثانيا:
إن الشيخ الأميني في كتابه الغدير لم يسر على ما انتهجناه - في دراسة قضية الوضوء -
من الأسلوب العلمي التحليلي، المتلخص بجمع المفردات الصغيرة للقضية، وتأليفها
ومتابعتها بالشرح والتفسير ابتداءا لما أخرجه مسلم بن حمران: إن ناسا يتحدثون
وانتهاءا بالحقائق التي سيصلها في آخر الكتاب. نعم، إن الشيخ الأميني قد درس
القضايا بما فيها من النصوص الثابتة والمنقولة في الأحداث والأبداع مما ورد ذكره في
كتب السير والتاريخ، ولا يدعي أكثر من ذلك. ومن هنا، فإننا نهيب بالأخوة الباحثين
انتهاج طريقة التحليل العلمي عند دراستهم لمفردات الخلاف بين المذاهب، لما تؤول
إليه من نتائج باهرة يقبلها كل ذي لب باحث عن الحقيقة. وبهذا نكون قد انتهينا إلى
ما يهمنا من عهد الأمام علي (1).
(هامش)
(1) راجع ص 463 من هذا الكتاب. (*)
ص 166
الباب الثاني الوضوء في العهدين (1) الأموي 40 - 132 هـ (2) العباسي 132 - 232 هـ

ص 175
تنبيه: قبل البحث في مواضيع الباب الثاني، لابد من التنبيه إلى الأسباب الداعية
لفصل العهدين - الأموي والعباسي - عن عهد الخلافة الراشدة... والأسباب هي: أولا:
اضمحلال قدسية الخلافة في هذين العهدين، ولم تعد تضفى على الخليفة كما كانت، في عهد
الخلفاء الراشدين. ثانيا: إن كثيرا من الصحابة الذين عاشوا في العهد الأموي، كانوا
من متأخري الصحبة، وقد انخرط معظمهم في ركب الخلفاء السياسيين!! ثالثا: كان الخليفة
في الخلافة الراشدة يسعى لتحكيم الأحكام الدينية، في حين لا نرى في العهدين
التاليين سوى ما يدعم الحاكم، وما الخلافة عندهما إلا منصب سياسي. رابعا: نتيجة
لقلة عدد الصحابة، غدا احتمال التغيير في الدين غير مستبعد. خامسا: تأصيل أمور لم
تكن أصيلة في شريعة سيد المرسلين في هذين العهدين. إن هذه العوامل مجتمعة، كونت
مجتمعا وأفكارا تختلف اختلافا جوهريا مما كان في عهد الخلافة الراشدة، لأجله عمدنا
إلى فصل هذين العهدين عن العهود التي سبقتهما، لأمكان دراستها بنحو أشمل.
ص 177
العهد الأموي (40 - 132 ه)
تمهيد المعروف عن بني أمية تبنيهم لقضية عثمان،
والمطالبة بدمه، ونشر فضائله، والوقوف أمام مخالفيه والحط منهم، ومن ثم الالتزام
بفقهه ونشر آرائه، رغم مخالفة بعضها لصريح القرآن المجيد والسنة النبوية، فهم
يذيعون في الناس رأي الخليفة الأموي المظلوم وما سنه ولزوم الانتصار والاهتمام
بأفكاره وإشاعة رؤاه، فنرى بعض الأحكام الشرعية - التي صدرت في عهد عثمان - تأخذ
طابعا حكوميا وسياسيا في هذا العهد، وإليك بعضها، وستقف على المزيد منها أيضا في
أواخر هذا القسم. الامويون وتبنيهم لرأي عثمان 1 - الصلاة بمنى: أخرج أحمد بسنده
إلى عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال: لما قدم علينا معاوية حاجا، قدمنا
معه مكة، قال: فصلى بنا الظهر ركعتين ثم انصرف إلى دار الندوة، قال [الراوي]: وكان
عثمان حين أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء الاخرة أربعا
أربعا، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم
الصلاة حتى يخرج من مكة. فلما صلى [معاوية] بنا الظهر ركعتين، نهض إليه مروان بن
الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عبته به.
ص 178
فقال لهما: وما ذاك؟ قالا: ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة؟ قال، فقال لهما: ويحكم!
وهل كان غير ما صنعت، قد صليتهما مع رسول الله، ومع أبي بكر، وعمر (رضي الله
عنهما). قالا: فإن ابن عمك قد كان أتمهما، وان خلافك إياه عيب! قال: فخرج معاوية
إلى منى فصلاها بنا أربعا (1). وقد أخرج المتقي الهندي في كنز العمال عن ابن عباس
انه قال: صلى رسول الله وأبو بكر وعمر ركعتين، ثم فعل ذلك عثمان ثلثي إمارته أو
شطرها ثم صلاها أربعا، ثم أخذ بها بنو أمية (2). فمعاوية لم يكن جاهلا بصلاة عثمان
إلا انه أراد - بدهائه - أن يعرف مدى تأثير رأي عثمان الصلاتي في الناس وخصوصا عند
أقاربه وحاشيته! 2 - الجمع بين الأختين بالملك: أخرج ابن المنذر، عن القاسم بن
محمد: إن حيا سألوا معاوية عن الأختين مما ملكت اليمين يكونان عند الرجل يطؤهما؟
قال: ليس بذلك بأس. فسمع بذلك النعمان بن بشير، فقال: أفتيت بكذا وكذا؟! قال: نعم.
قال: أرأيت لو كان عند الرجل أخت مملوكته، يجوز أن يطأها؟ قال: أما والله لربما
وددتني أدرك، فقل لهم: اجتنبوا ذلك فإنه لا ينبغي لهم؟ فقال: إنما الرحم من العتاقة
وغيرها (3). إن معاوية بإفتائه هذا كان قد اتبع فقه عثمان، إذ أنه كان قد أفتى
بذلك. فقد أخرج مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب: إن رجلا
(هامش)
(1) مسند أحمد 4: 94، فتح الباري 2: 457، نيل الأوطار 3: 259. (2) كنز العمال 8:
238 / 22720. (3) الدر المنثور 2: 137. (*)
ص 179
سأل عثمان بن عفان عن الأختين من ملك اليمين، هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: أحلتهما
آية، وحرمتهما آية، فأما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك. قال: فخرج من عنده فلقي رجلا من
أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فسأله عن ذلك، فقال: لو كان لي من الأمر شيء، ثم وجدت أحدا
فعل ذلك لجعلته نكالا. قال ابن شهاب: أراه علي بن أبي طالب (1). 3 - ترك التكبير
المسنون في الصلاة: أخرج الطبراني، عن أبي هريرة، وابن أبي شيبة، عن سعيد بن
المسيب: إن أول من ترك التكبير معاوية (2). وجاء في الوسائل في مسامرة الأوائل: إن
أول من نقص التكبير معاوية، كان إذا قال: سمع الله لمن حمده، انحط إلى السجود ولم
يكبر (3). وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم، قال: أول من نقص التكبير زياد (4). وقد
جمع ابن حجر العسقلاني في فتح الباري بين الأقوال، فقال: وهذا لا ينافي الذي قبله،
لأن زيادا تركه بترك معاوية، وكان معاوية تركه بترك عثمان (5). وقد جاء عن مطرف بن
عبد الله، قال: صليت خلف علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنا وعمران بن الحصين،
فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما قضى الصلاة
أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: (قد ذكرني هذا صلاة محمد)، أو قال: (لقد صلى بنا
محمد) (6). وفي لفظ آخر عن مطرف بن عمران، قال: صليت خلف علي صلاة ذكرني
(هامش)
(1) الموطأ 2: 538 / 34. (2) انظر: الوسائل في مسامرة الأوائل: 18. (3) الوسائل في
مسامرة الأوائل: 18 - رقم 94. (4) الوسائل في مسامرة الأوائل: 19 - رقم 95. (5) فتح
الباري 2: 215. (6) أخرجه البخاري 1: 209، مسلم 1: 295 / 33، ابن أبي داود 1: 221 /
835، النسائي 2: 204، أحمد 4: 428، 429، 444. (*)
ص 180
صلاة صليتها مع رسول الله والخليفتين، قال: فانطلقت فصليت معه فإذا هو يكبر كلما
سجد وكلما رفع رأسه من الركوع، فقلت: يا أبا نجيد من أول من تركه؟ قال: عثمان بن
عفان (رض) حين كبر وضعف صوته تركه (1). وأخرج الشافعي في كتاب الأم وكذا القزويني
في التدوين من طريق أنس بن مالك، قال: صلى معاوية بالمدينة فجهر فيها بالقراءة،
فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم لاءم القرآن، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها، حتى
قضى تلك القراءة ولم يكبر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة، فلما سلم ناداه من يسمع ذلك
من المهاجرين من كل مكان: يا معاوية! أسرقت الصلاة أم نسيت؟! فلما صلى بعد ذلك قرأ:
بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أم الكتاب وكبر حين يهوي ساجدا (2). وأخرج
الشافعي الحديث كذلك عن طريق عبيد بن رفاعة (3)، وصاحب الانتصار أخرجه عن طريق أنس
بن مالك، كما حكاه في البحر الزخار. وبهذا عرفت بأن معاوية قد تبنى فقه الخليفة في
تركه للتكبير المسنون، والجمع بين الأختين بالملك وعدم الجهر بالقراءة اقتداء
بعثمان! 4 - التلبية: أخرج النسائي والبيهقي في سننهما عن سعيد بن جبير، قال: كان
ابن عباس بعرفة، فقال: يا سعيد، مالي لا أسمع الناس يلبون؟ فقلت: يخافون معاوية..
فخرج ابن عباس من فسطاطه، فقال: لبيك اللهم لبيك، وإن رغم أنف معاوية، اللهم
العنهم، فقد تركوا السنة من بغض علي (4).
(هامش)
(1) مسند أحمد 4: 432، الوسائل في مسامرة الأوائل: 18 / 93. (2) الأم 1: 108،
التدوين في أخبار قزوين 1: 154. (3) الأم 1: 108. (4) سنن النسائي 5: 253، سنن
البيهقي 5: 113، الاعتصام بحبل الله المتين 1: 360. (*)
ص 181
قال السندي في تعليقته على النسائي: (من بغض علي): أي لأجل بغضه، أي: وهو كان يتقيد
بالسنن، فهؤلاء تركوها بغضا له (1). وأخرج ابن حزم في المحلى: أهل رسول الله حتى
رمى الجمرة وأبو بكر وعمر (2).. ولم يذكر عثمان. وعن عبد الرحمن بن يزيد: إن عبد
الله بن مسعود لبى حين أفاض من جمع، فقيل له: عن أي هذا؟ وفي لفظ مسلم: فقيل:
أعرابي هذا؟! فقال: أنسي الناس أم ضلوا؟.. سمعت الذي نزلت عليه سورة البقرة يقول في
هذا المكان: (لبيك اللهم لبيك) (3). وفي النصين الأخيرين دلالة إلى أن الخليفة
عثمان كان لا يرتضي التلبية، وأنه كان قد طبع الناس على تركها، بحيث كانوا
يعتبرونها ليست من الدين، وأن معاوية قد سار على نهج الخليفة كما ظهر ذلك من النص
الأول. وما كانت هذه الأمثلة إلا نموذجا لكثير من النصوص المبثوثة في الكتب والدالة
على التزام معاوية بنهج الخليفة وسعيه لتطبيق فقه عثمان ورأيه. وبعد هذا.. نتساءل:
أيعقل أن يتخطى معاوية وضوء الخليفة، مع ما عرفت عنه من تبنيه لارائه الفقهية؟!
وماذا يجدي نقل كل تلك الفضائل لعثمان، ألم تكن هي مقدمة للأخذ بفقهه والسير على
نهجه؟ وكيف يترك معاوية فقه عثمان، وهو الخليفة الأموي المظلوم!! ويسمح بانتشار فقه
الناس المخالفين له ولعثمان؟! لسنا بصدد البحث في أن عثمان هل هو الذي أثر في
الأمويين، أم هو المتأثر
(هامش)
(1) هامش سنن النسائي 5: 253. (2) انظر المحلى 7:: 135 - 136، فتح الباري 3: 419 -
420. (3) صحيح مسلم 2: 932 / 270. (*)
ص 182
بهم؟ بل الذي نود التأكيد عليه هو وجود الامتزاج والتلاقي في الأفكار، وأن الخليفة
والأمويين يسيران على نهج ويتابعان هدفا واحدا، وقد عرفت بعض الشيء وستقف على
المزيد منه في بحوثنا الاتية أما عوامل التأثير والتأثر فهو ما يجسده واقع الحال
والنصوص التاريخية التي أشرنا إلى بعضها سابقا، وسنشير إليها بالتفصيل إن شاء الله
تعالى في كتابنا عن (الحكام وتأثيراتهم في الأحكام الشرعية).
مخالفة مرجعية علي (عليه السلام)
العلمية
بما أن الأمام عليا أحد الناس الذين يتحدثون عن رسول الله في الوضوء، فمن
الطبيعي أن تواجه الحكومة الأموية أولئك الناس بالشدة، إذ أن سياستها - كما قلنا -
تعتمد على أمرين: 1 - تبني فقه عثمان بن عفان ونشر فضائله. 2 - مخالفة علي في نهجه
وفقهه وآرائه. وإنا قد فصلنا هذا البحث في كتابنا عن الحكام، وقلنا بأن بني أمية
كانوا على طرفي نقيض مع بني هاشم وحتى في صدر الإسلام، حيث التزم بنو أمية جانب
المشركين، أما بنو هاشم فلم يفارقوا الرسول في جاهلية ولا إسلام. جاء في صحيح
البخاري: إن رسول الله وضع سهم ذي القربى في بني هاشم وعبد المطلب - أيام غزوة خيبر
- فاعترض عثمان وجبير بن مطعم على حكم رسول الله، فقال لهما (صلى الله عليه وآله وسلم): (انا بنو هاشم
وبنو عبد المطلب شيء واحد) (1). وفي رواية النسائي: (إنهم لم يفارقوني في جاهلية
ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد)، وشبك بين أصابعه (2).
(هامش)
(1) صحيح البخاري 5: 174، هذا الخبر وما يليه في الأموال، لأبي عبيدة: 341. (2) سنن
النسائي 7: 131، سنن أبي داود 3: 146 / 2980. (*)
ص 183
ففي الجمل السابقة تعريض ببني أمية ومدح لبني هاشم وعبد المطلب، إذ أنهم تحملوا
أتعاب الدعوة وكانوا معه في شعب أبي طالب ودافعوا عنه بكل ما أوتوا من قوة، ولم
يكونوا كغيرهم حيث دخلوا الإسلام مكرهين! وكان هذا التمييز الشرعي لا يرضي
الأمويين، بل تراهم يشعرون بالهوان والضعة أمام الهاشميين، لما يعرفونه من فضل بني
هاشم المنافسين لهم! ومن هنا سعوا - عندما وصلوا إلى الحكم - إلى تغيير بعض تلك
المفاهيم التي طرحها رسول الله، وتأسيس أخرى مكانها، إذ المطلوب إضفاء الشرعية على
ممارساتهم تلك والوقوف أمام علي.. ولذلك أقدم الأمويون على بعض الخطوات لتنفيذ
مخططهم المرسوم:
خطوات أموية
1 - التشكيك في الأحاديث النبوية الواردة في حق علي،
ووضع أحاديث مشابهة في حق بعض الصحابة!! فقد جاء في كتاب معاوية إلى عماله: (... أن
انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبية وأهل بيته والذين يروون فضائله ومناقبه
فادنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا إلي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم
أبيه وعشيرته) (1). ولما فشا ذلك، وكثر الحديث في عثمان.. كتب إليهم: فإذا جاءكم
كتابي هذا.. فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا
تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة،
فإن هذا أحب إلي، وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشد عليهم من مناقب
عثمان وفضله (2).
(هامش)
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 44. (2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
11: 45. (*)
ص 184
2 - السعي إلى طمس كل فضيلة وميزة لعلي بن أبي طالب على غيره من الصحابة، وجعله
كأحد المسلمين.. فقد رووا عن ابن عمر أنه قال: (كنا في زمن النبي لا نعدل بأبي بكر
أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي لا نفاضل بينهم) (1). وما روي عن محمد
بن الحنفية (ابن الأمام علي)، إنه قال: (قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله؟
فقال: أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: عمر وخشيت أن يقول عثمان. قلت: ثم أنت؟ قال: أما
أنا رجل من المسلمين) (2). إن ذكرنا لهذا لا يعني التشكيك أو التعريض بالشيخين، بل
أوردناه لمخالفته للثابت الصحيح في التاريخ، فإن عليا كان لا يرى أحدا أحق بالأمر
منه لما نصبه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع، وجعله وصيا له، وهكذا الأمر بالنسبة لبقية
المسلمين الأوائل، فقد كانت لهم رؤى تخصهم في الخلافة والتفاضل! ولو صح ذلك وعرفه
الجميع ولم يكن بالمفتعل الطائفي، فلماذا يقول أبو بكر لأبي عبيدة: (هلم أبايعك،
فإني سمعت رسول الله يقول إنك أمين هذه الأمة وقدمه على نفسه وعلى عمر)، أو قوله:
(وليت عليكم ولست بخيركم) (3)... ألم تكن هذه فضيلة لأبي عبيدة دالة على رجحانه على
أبي بكر، أو دالة على وجود من هو خير منه كما في النص الثاني! وماذا يعني كلام عمر
- قبل الشورى -: (لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا
(هامش)
(1) البداية والنهاية 7: 216، التاريخ الكبير، للبخاري 1: 49. (2) صحيح البخاري 5:
9. (3) طبقات ابن سعد 3: 182، وفيه: امركم بدل عليكم، شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد 17: 158، تاريخ الطبري 3: 210. (*)
ص 185
استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: انه أمين هذه الأمة. ولو كان سالم
مولى أبي حذيفة حيا استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول:) ان سالما شديد
الحب لله (1)، وأقواله الأخرى في علي وغيره.. ألم تدل هذه النصوص على أن أبا عبيدة
وسالما و... هم أفضل من عثمان؟.. فلو كان كذلك، فما معنى) كنا لا نعدل (؟! وماذا
يعني قول ابن عوف في الشورى:) أيها الناس إني سألتكم سرا وجهرا بأمانيكم، فلم أجدكم
تعدلون بأحد هذين الرجلين: إما علي وإما عثمان (2).. ثم بدأ بعلي للبيعة وقدمه على
عثمان. وما يعني كلام عائشة عندما سئلت عن رسول الله) لو استخلف (؟! فذكرت أبا بكر
وعمر ولم تذكر عثمان، بل رجحت أبا عبيدة عليه (3). ألم تكن هذه المواقف هي امتيازا
لعلي وأبي عبيدة وسالم وأنهم أفضل من عثمان؟ وما معنى جملة لم (نعدل)، أو (نفاضل)
وفي القوم من عد من العشرة المبشرة ومن جاء فيه نص صريح بعلو مكانته وجلالة قدره! 3
- وضع أحاديث في عدالة جميع الصحابة، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):) أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم
اهتديتم (4) و...، ليجعلوا أبا سفيان، ومروان بن الحكم، والحكم بن العاص، ومعاوية،
وعبد الله بن أبي سرح، والوليد بن عقبة
(هامش)
(1) تاريخ الطبري 4: 227. (2) تاريخ الطبري 4: 238. (3) صحيح مسلم 4: 1856 / 9،
مستدرك الحاكم 3: 73، مسند أحمد 6: 63، سنن الترمذي 5: 317 / 3845. (4) سنبحث هذه
الأحاديث وأمثالها سندا ودلالة في الفصل الثالث من هذه الدراسة إ ن شاء الله تعالى.
(*)
ص 186
و... بمنزلة علي، وفاطمة، وابن عباس، وأبي ذر و...! وذلك بعدما عجزوا عن طمس
الإسلام والوقوف أمام أبنائه ومعتقدات الناس، فإنهم بطرحهم هذه الفكرة وغيرها قد
أرادوا نفي ما قيل في بني أمية وما جاء في شأنهم من اللعن على لسان الرسول والقرآن
المجيد، بل جعل أقوالهم من مصادر التشريع الإسلامي ليضاهي كلام المقربين من أصحاب
الرسول وينافسهم في أخذ المسلمين معالم دينهم عنهم. وقد ثبت عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يلعن
أقطاب بني أمية ويدعو عليهم في قنوته، ويقول:) اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن
الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل ابن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية (1).. وتواتر
عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال - لما أقبل أبو سفيان ومعه معاوية -:) اللهم العن التابع والمتبوع
(2). وفى آخر: (اللهم العن القائد والسائق والراكب) (3).. وان يزيد بن معاوية بن
أبي سفيان منهم. وقد اشتهرت مقولة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مروان بن الحكم وأبيه - طريد
رسول الله -:) اللهم العن الوزغ بن الوزغ (4). فالأمويون سعوا لتغيير مفهوم بعض
الأحاديث النبوية الشريفة - ومنها أحاديث اللعن -، ليجعلوا للملعونين منزلة لا
ينالها إلا ذو حظ عظيم، ليشككوا فيما صدر عن رسول الله وأن لعنه قد صدر عنه عصبية
قبلية كأنه لم يكن يلتزم بأصل ثابت في الحياة - والعياذ بالله! فقد روت عائشة عنه
(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:) اللهم أنا بشر، فأي المسلمين لعنته أو
(هامش)
(1) الفردوس 1: 503 / 2060، الأصابة 2: 93. (2) وقعة صفين: 217. (3) وقعة صفين:
220. (4) مستدرك الحاكم 4: 479. (*)
ص 187
سببته.. فاجعله زكاة وأجرا (1). وروى أبو هريرة أيضا:) إنما أنا بشر، فأي المؤمنين
آذيته، شتمته، لعنته، جلدته.. فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم
القيامة (2). ونحن لا نريد أن نناقش هذين الحديثين وأمثالهما - وهي كثير - بل نريد
أن يقف القارئ على دور الأمويين وكيف كانوا يريدون مسخ شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بترسيمهم
شخصية له (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تراعي القيم والأعراف، بل تتعدى على حقوق المسلمين، ثم يطلب الرحمة
من الله لأولئك!! كيف يلعن رسول الله من لا يستحق اللعنة! أو نراه يلعن المؤمنين،
كما جاء في حديث أبي هريرة! أم كيف يمكن أن نوفق بين هذا الحديث وما رواه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):)
اني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة (3) وهل حقا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلب الرحمة لمن لعنه؟!
وكيف يؤكدون إذن على عدالة جميع الصحابة، وما يعني ذلك؟ أليس بين الصحابة مؤمنون
ومنافقون، وأليس بينهم من يحبه الله ورسوله وهناك من يلعنه الله ورسوله؟!، وكيف يصح
لنا أن نساوي بينهم، وما الهدف من ذلك، ومن هو المستفيد، ولم قالوا بهذا؟ قالوا
بذلك ليساووا المجاهد بالقاعد، والطليق بالمهاجر، والمحاصر بالمحاصر، والمشرك
بالمؤمن.. وليجعلوا قول ابن أبي سرح والوليد ومروان يضاهي كلام علي وفاطمة وغيرهما
ممن يمكن الاطمئنان إليهم والأخذ بقولهم، وقد تنبه الأمام علي لمخططهم، فجاء في
رسالته إلى معاوية:)... ولكن ليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان
كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللصيق، ولا المحق كالمبطل، ولا
(هامش)
(1) صحيح مسلم 4: 2007 / 88، مسند أحمد 3: 400. (2) صحيح مسلم 4: 2008 / 90، مسند
أحمد 2: 316 - 317، 449. (3) صحيح مسلم 4: 2006 / 87. (*)
ص 188
المؤمن كالمدغل... (1). وفي قوله لمعاوية:) فسبحان الله! ما أشد لزومك للأهواء
المبتدعة والحيرة المتبعة مع تضييع الحقائق واطراح الوثائق التي هي لله طلبة وعلى
عباده حجة... (إلى آخره. وقد قال الجاحظ وهو في معرض إشارته للذين يعتقدون برأي
الأمويين: وقد أربت عليهم نابتة عصرنا ومبتدعة دهرنا فقالت: لا تسبوه [أي معاوية]
فإن له صحبة، وسب معاوية بدعة (2)، ومن يبغضه فقد خالف السنة، فزعمت ان من السنة
ترك البراءة ممن جحد السنة. ولا نريد التفصيل في هذا البحث، بل مكتفين بالأشارة إلى
أن هذه الفكرة كغيرها إنما هي دسيسة حكومية تخفي وراءها أهدافا سياسية! 4 - إثارة
مسألة عدم اجتماع الخلافة والنبوة في بني هاشم، والتي أثيرت من قبل في اجتماع
السقيفة (3)، مع العلم بأنهم مسلمون وجميع الناس سواسية أمام حكم الله، وصريح قوله
(صلى الله عليه وآله وسلم):) خلفائي إثنا عشر كلهم من قريش (4)، ودلالة القرآن باجتماع ذلك بقوله تعالى:
(وورث سليمان داود) (5). كانت هذه بعض خيوط المخطط الأموي ضد علي وبني هاشم، وهناك
(هامش)
(1) نهج البلاغة 3: 18 / 17. (2) أما سب علي بن أبي طالب فلا! ينظر كلام الجاحظ في
رسالته المطبوعة في آخر النزاع والتخاصم، للمقريزي: 94. (3) في هذا حوار لابن عباس
مع عمر.. راجع: الطبري 4: 223 - 224 وغيره من كتب التاريخ. (4) صحيح مسلم 3: 1453 /
10، سنن الترمذي 3: 340 / 2323. (5) النمل: 16. (*)
ص 189
الكثير لا يمكننا حصره، وقد ثبت أنهم كانوا يأمرون الناس بلعن علي في صلواتهم وعلى
المنابر (1) حتى قيل: بأن مجالس الوعاظ بالشام كانت تختم بشتم علي (2)، وأنهم كانوا
لا يقبلون لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة، وقد أمر معاوية بمحو أسمائهم من
الديوان (3).. وقيل: إن حجر بن عدي صاح بالمغيرة في المسجد قائلا: مر لنا أيها
الأنسان بأرزاقنا، فقد حبستها عنا وليس ذلك لك، وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين.
فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق حجر وبر (4). وقد نقلت كتب السير أن عمر كان
قد قال للمغيرة بن شعبة - وكان أعور -: أما والله ليعورن بنو أمية هذا الدين، كما
أعورت عينك، ثم لتعمينه حتى لا يدري أين يذهب ولا أين يجئ (5)!! قال الدهلوي في
رسالة الأنصاف: (ولما انقرض عهد الخلفاء الراشدين أفضت الخلافة إلى قوم تولوها بغير
بغير استحقاق، ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، فاضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء،
وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم، وكان بقى من العلماء من الطراز الأول، فكانوا إذا
طلبوا هربوا وأعرضوا، فرأى أهل تلك الأعصار - غير العلماء - إقبال الأمة عليهم مع
إعراضهم، فاشتروا طلب العلم توصلا إلى نيل العز، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا
مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالأعراض عن السلاطين أذلة بالأقبال عليهم، إلا
من وفقه الله...). فإذا كانت هذه هي السياسة الحكومية تجاه علي وشيعته، فهل يعقل أن
(هامش)
(1) النصائح الكافية: 86 - 88. (2) النصائح الكافية: 87، وابن عساكر في تاريخه. (3)
النصائح الكافية: 88. (4) تاريخ الطبري 5: 254. (5) شرح النهج عن الموفقيات للزبير
بن بكار. (*)
ص 190
تطبق السنة النبوية كما هي واقعا في مثل هذا العهد (1)؟! وكيف بأولئك الناس الذين
كانوا يتحدثون عن رسول الله، وهل بقي من الصحابة من له جرأة الأقدام والاعتراض؟!!
وماذا سيكون اتجاه الحكومة وموقفها في الوضوء؟ هل ستسمح للناس بممارسة وضوئهم
المنقول عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أم ستواجههم بالعنف وطرق التضليل الأخرى؟! من الواضح -
كما قلنا - أن الحكومة الأموية قد اتبعت فقه الخليفة عثمان وجعلته دستور الدولة،
وأمرت الولاة والقضاة باتباعه، ودعت إلى نشره، فلا يعقل أن تحيد عن سياستها الكلية
في الوضوء بالذات، بالرغم من وجود علي ابن أبي طالب - وهو من الذين لهم معه حساب
خاص - في الجناح المقابل. وعلي رأس المحافظين على سنة النبي في الوضوء.. هذا أولا.
وثانيا: المعروف ان الأمويين - وبعد قتل الحسين - قد ازدادوا تنكيلا بشيعة علي، حتى
وصل الحال بفقهاء الشيعة أن توقفوا عن الافتاء في مستجدات المسائل، لصعوبة الاتصال
بأئمتهم، وتفشي سياسة العنف في البلاد، وقد حد ذلك من ارتباط القيادة مع القاعدة،
وعليه، نرى عمل الناس في الوضوء - بعد مقتل الحسين الشهيد - أخذ يتدرج بالضعف أمام
دعاة نهج الخليفة، حتى انحصر ببعض التابعين وأهل بيت رسول الله، وإنك ستقف على
أسمائهم من قريب.
حال (الناس) في العهد الأموي
أشار الأمام علي بن الحسين إلى حال
المؤمنين في مثل هذا العهد وكيف يرون كتاب الله منبوذا وسنة نبيه متروكة وحكمه
مبدلا، فقال في دعائه:) اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك... (إلى أن يقول:...
حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين
(هامش)
(1) سيتضح للقاري في الفصل الأول من هذه الدراسة أن نهج علي هو السنة الشريفة. (*)
ص 191
مقهورين مبتزين، يرون حكمك مبدلا، وكتابك منبوذا، وفرائضك محرفة عن جهات أشراعك،
وسنن نبيك متروكة و... (1) وقال أيضا وهو يشرح اختلاف الأمة:) وكيف بهم؟ وقد خالفوا
الامرين، وسبقهم زمان الهادين، ووكلوا إلى أنفسهم، يتنسكون في الضلالات في دياجير
الظلمات. وقد انتحلت طوائف من هذه الأمة مفارقة أئمة الدين والشجرة النبوية أخلاص
الديانة، وأخذوا أنفسهم في مخاتل الرهبانية، وتغالوا في العلوم، ووصفوا الإسلام
بأحسن صفاته، وتحلوا بأحسن السنة، حتى إذا طال عليهم الأمد، وبعدت عليهم الشقة،
وامتحنوا بمحن الصادقين: رجعوا على أعقابهم ناكصين سبيل الهدى، وعلم النجاة. وذهب
آخرون إلى التقصير في أمرنا، واحتجوا بمتشابه القرآن، فتأولوه بآرائهم، واتهموا
مأثور الخبر مما استحسنوا، يقتحمون في أغمار الشبهات، ودياجير الظلمات، بغير قبس
نور من الكتاب، ولا أثرة علم من مظان العلم، زعموا أنهم على الرشد من غيهم. والى من
يفزع خلف هذه الأمة؟! وقد درست أعلام الملة والدين بالفرقة والاختلاف، يكفر بعضهم
بعضا، والله تعالى يقول: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما
(هامش)
(1) الصحيفة السجادية: 293 - الدعاء 48. (*)
ص 192
جاءهم البينات) (1). فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة؟ وتأويل الحكمة؟ إلا إلى أهل
الكتاب، وأبناء أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، الذين احتج الله بهم على عباده، ولم يدع
الخلق سدى من غير حجة. هل تعرفونهم؟ أو تجدونهم إلا من فروع الشجرة المباركة،
وبقايا صفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا، وبرأهم من الافات، وافترض
مودتهم في الكتاب (2)؟! وقال عليه السلام لرجل شاجره في مسألة شرعية فقهية:) يا
هذا! لو صرت إلى منازلنا، لأريناك آثار جبرئيل في رحالنا، أفيكون أحد أعلم بالسنة
منا (3). وقال أيضا:) إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة، والاراء الباطلة،
والمقاييس الفاسدة، لا يصاب إلا بالتسليم. فمن سلم لنا سلم، ومن اقتدى بنا هدي، ومن
كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه - مما نقوله، أو نقضي به - حرجا، كفر
بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم، وهو لا يعلم (4). وبين الأمام الباقر سبب
تأكيدهم وسر إرجاع المسلمين إليهم، بأنهم مكلفون
(هامش)
(1) آل عمران: 105. (2) كشف الغمة، للأربلي 2: 98 - 99. (3) نزهة الناظر، للحلواني:
45. (4) إكمال الدين: 324 ب 31 ح 9. (*)
ص 193
ببيان الأحكام للناس، لكن السياسة الظالمة والأهواء الباطلة تمنع الأخذ منهم، أو
تمنعهم من بيانها، فقد قال: (بلية الناس علينا عظيمة، إن دعوناهم لم يستجيبو ا لنا،
وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا (1)). وبهذا فقد عرفت أن الطابع السياسي أخذ يتفشى في
الشريعة شيئا فشيئا، وأن الأحكام صارت تخضع لأهواء الحكام، وأن الفرائض الشرعية
صارت محرفة عن جهات أشراعها، وأن الحكام صاروا يفتون الناس بالدين الذي يريدونه أو
يستخدمون من له نفوذ وعلم لاءن يفتي لهم بما يريدون، وقد مر عليك سابقا كلام ابن
عباس، وانه كان يلعن معاوية وأتباعه لتركهم سنة رسول الله بغضا لعلي) اللهم العنهم
فقد تركوا السنة من بغض علي (2). أو إنه قال:) لعن الله فلانا، إنه كان ينهى عن
التلبية في هذا اليوم - يعني يوم عرفة - لان عليا كان يلبي فيه (3). ونقل الشيخ أبو
زهرة ما جاء عن الحكم الأموي، منها: لابد أن يكون للحكم الأموي أثر في اختفاء كثير
من آثار علي في القضاء والافتاء، لأنه ليس من المعقول أن يلعنوا عليا فوق المنابر،
وأن يتركوا العلماء يتحدثون بعلمه، وينقلون فتاواه وأقواله، وخصوصا ما يتصل بأساس
الحكم الإسلامي (4). ونحن نقول هنا بما مر، كيف بالحكومة تترك الناس يمارسون دورهم،
وهم من مخالفي عثمان، في حين يتصدر علي - الذي يلعنونه - مدرستهم؟! وبهذا فقد عرفنا
بأن لكلا الاتجاهين - الناس والخليفة - أنصارا وأتباعا في الوضوء، يذودون عما
يرتؤونه، وبما أن السلطة قد تبنت فقه عثمان ودعت إلى
(هامش)
(1) الأرشاد 2: 167، مناقب آل أبي طالب 4: 206، وعنه في البحار 46: 288 ح 11. (2)
سنن النسائي 5: 253، سنن البيهقي 5: 113. (3) انظر: النصائح الكافية: 11 عنهما
أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. (4) انظر: تاريخ المذاهب الإسلامية، لأبي زهرة: 285 -
286. (*)
ص 194
فضائله ونشرت آراءه، فمن الطبيعي أن ينساق السواد الأعظم - تبعا للدولة - إلى وضوء
الخليفة عن طيب نية وحسن سريرة. وهناك مؤشرات تدلل على أن الخلاف في الوضوء كان
قائما - في هذا العهد - على قدم وساق، وبذكرنا بعض النصوص لخلاف الناس مع الدولة
سوف يقف القارئ على حقيقة الأمر. علما بأن مدرسة الناس كان يتصدرها بقية من الصحابة
وبعض التابعين، أما عائشة فإنها على الرغم من مخالفتها لسياسة عثمان وفقهه وكونها
من الناس، لكنا نراها تقف في العهد الأموي إلى جانب الحكومة لترسيخ وضوء عثمان،
مستفيدة من جملة (اسبغوا الوضوء) و(أحسنوا الوضوء) وأمثالها، مما أشاعته الحكومة
لتدعيم فكرة الخليفة، بغضا لعلي!!
ص 195
نصوص لخلاف الناس مع الدولة في الوضوء:
1 - عبد الرحمن بن أبي بكر وعائشة:
أخرج
مسلم في صحيحه - باب غسل الرجلين - بسنده إلى سالم مولى شداد، قال: دخلت على عائشة
(رض) زوج النبي يوم توفي سعد بن أبي وقاص، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر فتوضأ عندها
فقالت: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله يقول: (ويل للأعقاب من
النار) (1). وأخرج مالك في الموطأ: إنه بلغه أن عبد الرحمن بن أبي بكر قد دخل على
عائشة زوج النبي يوم مات سعد بن أبي وقاص، فدعا بوضوء، فقالت له عائشة: يا عبد
الرحمن، أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله يقول: (ويل للأعقاب من النار) (2). وأخرج
ابن ماجة بسنده عن أبي سلمة، قال: رأت عائشة عبد الرحمن وهو يتوضأ، فقالت: أسبغ
الوضوء، فإني سمعت رسول الله يقول: (ويل للأعقاب من النار) (3). وفي مسند أحمد:...
فأساء عبد الرحمن، فقالت عائشة: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله
يقول: (ويل للأعقاب يوم القيامة من النار) (4). توقفنا هذه النصوص على ثلاث نقاط:
الأولى: معرفة تاريخ صدور الخبر، وأنه كان في أواخر عهد معاوية، إذ أن
(هامش)
(1) صحيح مسلم 1: 213 / 25. (2) الموطأ 1: 19 / 5، شرح معاني الاثار 1: 38 / 188.
(3) سنن ابن ماجة 1: 154 / 452، المصنف، لعبد الرزاق 1: 23 / 69، والحميدي عن ابن
عيينة. (4) مسند أحمد 6: 112. (*)
ص 196
سعد بن أبي وقاص توفي سنة 55 ه، وكانت وفاة عائشة سنة 58 ه، وعليه فإن صدور هذا
الخبر كان في أواخر عهد عائشة ومعاوية. الثانية: كون وضوء عبد الرحمن يغاير وضوء
عائشة، لقول عائشة له (أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله يقول ويل للأعقاب من
النار)، ولما نقله الراوي (فأساء عبد الرحمن، فقالت عائشة...). ثم أن متن الرواية
لها كمال الدلا لة على اختلاف وضوئهما، إذ لو كان عبد الرحمن يتفق وضوؤه مع وضوء
عائشة لما احتاجت إلى تذكيرها إياه بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ويل للأعقاب من النار) ولما كان
هناك من داع لقولها له: أسبغ الوضوء!! الثالثة: عدم دلالة قول عائشة: (أسبغ الوضوء)
على وجوب غسل الرجلين، إذ أن لكلمة (الأسباغ) و(ويل للأعقاب) معنى أعم، ولا يمكن
الاستدلال بها على المطلوب، فإنها لو أرادت من نقلها الدلالة على الغسل - كما
استفاد منه مسلم والبخاري وغيرهما - للزمها أن تقول: اغسل رجلك، فإني رأيت رسول
الله يغسل رجليه، وحيث لم تر رسول الله يغسل رجليه استدلت على وجوبه بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ويل
للأعقاب من النار لا برؤيتها. وبذلك تبين أن إتيانها بهذه الجملة جاءت مجاراة
للحكومة وأنها كانت تريد الاستفادة منها لترسيخ وضوء الخليفة! وإنك سوف تقف في فصل
(الوضوء في الكتاب واللغة) على دور الحكومة وكيفية تحريفها للحقائق، ومدى استغلالها
المصطلحات الثانوية كأسبغوا الوضوء، وأحسنوا الوضوء.. في ترسيخ وضوء عثمان.
2 - عبد
الله بن عباس والربيع بنت معوذ:
أخرج ابن ماجة بسنده إلى الربيع بنت معوذ أنها
قالت: أتاني ابن عباس فسألني عن هذا الحديث - تعني حديثها الذي ذكرت أن رسول الله
توضأ وغسل رجليه -، فقال ابن عباس: إن الناس أبوا إلا الغسل، ولا أجد في كتاب الله
إلا
ص 197
المسح (1). ونحن نرجح صدور هذا النص في العهد الأموي لأمور: 1 - أوصلتنا البحوث
السابقة إلى أن الخلاف بين المسلمين في الوضوء وقع في عهد عثمان، ولم يكن له ذكر في
عهد الرسول والشيخين، ورجحنا كذلك أن إحداثات عثمان كانت في الست الأواخر من عهده،
وروينا عنه أنه كان يمسح على رجليه في أوائل عهده، وتوصلنا كذلك إلى أن الأمة كانت
لا ترضى عن عثمان ولم تأخذ برأيه، وذكرنا نصوصا كثيرة عن الصحابة ومخالفتهم إياه.
وعليه.. فإن جملة ابن عباس: (... وإن الناس أبوا إلا الغسل) لا يتناسب إلا مع
افتراض صدوره في العصر الأموي، حيث جاء انسياق الناس تبعا لرأي للدولة. 2 - نحتمل
صدور هذا الخبر في أوائل العهد الأموي، أي فيما بين سنة 40 إلى 60، وذلك لسببين:
الأول: حالة الانفتاح واللين التي كان يمارسها معاوية مع بعض الصحابة وإمكان مناقشة
ابن عباس مع الربيع. الثاني: اضطهاد ابن عباس بعد مقتل الحسين وتخليه عن الافتاء،
حتى قيل عنه بأنه لما وقعت الفتنة بين ابن الزبير وعبد الملك بن مروان رحل مع محمد
بن الحنفية إلى مكة، وأن ابن الزبير طلب منهما أن يبايعاه فأبيا، والجميع يعرف ما
يكنه ابن الزبير لبني هاشم، هذا عن ابن الزبير. أما بالنسبة إلى المروانيين، فإن
ابن عباس لم يكن على وفاق مع عبد الملك بن مروان وغيره.. وعليه، فلم تكن له تلك
الحرية في عهد المروانيين حتى يمكنه مناقشة الربيع في رأيها. 3 - يفهم من النص
السابق أن ابن عباس جاء مستنكرا لا مستفهما، إذ لا يعقل أن يأخذ ابن عباس - وهو
الذي عاش في بيت النبوة، والقائل: (نحن أهل البيت، شجرة النبوة، ومختلف الملائكة،
وأهل بيت الرسالة، وأهل بيت الرحمة، ومعدن العلم) (2) - من امرأة ليست من كبار
الصحابة ولا من أجلائهم.
(هامش)
(1) سنن ابن ماجة 1: 156 / 458. (2) أسد الغابة 3: 193. (*)
ص 198
وأن قوله لها (أبى الناس إلا الغسل) يفهم منه أن الحالة في الوضوء أصبحت سلطوية
وليست بشرعية وأن الكيفية التي روتها الربيع ترضي الناس لما فيها من ظاهر النقاء
وكونها أبلغ في النظافة، لا لشرعيتها وورودها في القرآن والسنة الشريفة.
3 - أنس بن
مالك والحجاج بن يوسف الثقفي:
أخرج الطبري وبسنده إلى حميد، قال: قال موسى بن أنس
لأنس ونحن عنده: يا أبا حمزة، إن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه نذكر الطهور،
فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، وأنه ليس من ابن آدم أقرب
إلى خبث قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.. فقال أنس: صدق الله وكذب
الحجاج، قال تعالى: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) (1). وأخرج بلفظ آخر وسند آخر مثله.
وجاء في تفسير القرطبي بسنده عن موسى بن أنس أنه أخبر أباه أن الحجاج أمر الناس
بغسل الرجلين في الوضوء، فقال: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله تعالى: (وامسحوا
برؤوسكم وأرجلكم). أو: إن الحجاج خطب في الأهواز، وأمر الناس بغسل الرجلين في
الوضوء، قال: فسمع ذلك أنس بن مالك، فقال: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله تعالى:
(وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) (2). وذكر القرطبي - بعد أن قال: إن أنس كان إذا مسح
رجليه بلهما - قال: وروي عن أنس أنه قال: نزل القرآن بالمسح (3). وأخرج ابن كثير
بسنده عن عاصم الأحول عن أنس، إنه قال: نزل القرآن
(هامش)
(1) تفسير الطبري 6: 82، تفسير ابن كثير 2: 44. (2) الجامع لأحكام القرآن 6: 92.
(3) الجامع لأحكام القرآن 6: 92. (*)
ص 199
بالمسح.. ثم قال: إسناده صحيح (1). وأخرج السيوطي نحو ما أخرجه الطبري والقرطبي
وابن كثير، قال: وأخرج ابن جرير عن أنس أنه قال: نزل القرآن بالمسح (2). وقال صاحب
تفسير الخازن: يروى عن أنس أنه قال: نزل القرآن بالمسح (3). وقال النيسابوري: اختلف
الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما، فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك:
إن الواجب فيهما المسح، وهو مذهب الأمامية (4).
استنتاج
على ضوء النصوص السابقة نقف
عند ثلاث نقاط: الأولى: استخدام الحجاج الرأي في إلزام الناس بغسل أرجلهم معللا
بأنه أقرب شيء إلى الخبث، وإنا قد ذكرنا سابقا موقف الأمام علي من أصحاب الرأي،
وأنه قال لهم: لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدم أولى من ظاهره، إلا أني رأيت
رسول الله يمسح على ظاهره.. وبهذا تبين لك أن في الوضوء اتجاهين: 1 - اتجاه الخليفة
= الأخذ بالرأي (5).
(هامش)
(1) تفسير ابن كثير 2: 44. (2) الدر المنثور 2: 262. (3) تفسير الخازن 1: 435. (4)
تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان، المطبوع بهامش تفسير الطبري. (5) سنثبت في
الفصل الأول من هذه الدراسة أن وضوء عثمان إنما صدر عن رأيه المحض، وحتى ما نقله من
رؤيته لوضوء رسول الله فإنه كان اجتهادا في مقابل النص، ولأجله لم يلق التأييد من
الصحابة، بل هناك ناس خالفوه فيما حكاه عن رسول الله، وأن المنقول عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) - على
فرض صدوره - لم يكن على نحو التشريع للمسلمين، بل انه من = (*)
ص 200
2 - اتجاه الناس = التعبد المحض بما قاله الله ورسوله. الثانية: نفهم من جملة (إن
الحجاج أمر الناس...) إن الحكومة قد تبنت فقه الخليفة عثمان في الوضوء، ودعت إليه
بوسائلها الخاصة! تلك الحكومة التي سعت في تحريف الحقائق وتغيير مفاهيم بعض
الاحاديث.. وستقف قريبا على المزيد منه إن شاء الله تعالى. الثالثة: امتداد خط
الناس في الوضوء حتى زمن الحجاج بن يوسف الثقفي، لقول موسى بن أنس (ونحن معه نذكر
الطهور) وتصدي كبار الصحابة لذلك الاتجاه، أمثال: أنس بن مالك (خادم رسول الله)،
وابن عباس (حبر الأمة) و... وأن وقوف أمثال هؤلاء أمام خط الدولة - رغم كل
الملابسات وسياسات العنف - ينبئ عن أصالة الخط وصحة فعلهم. فالدولة خروجا لها من
هذا المأزق وغيره ولتصحيح ما تفرضه من اجتهادات وآراء تبنت فكرة تدوين السنة
النبوية الشريفة، ليكون زمام الأمور بيدها وأن لا تواجه مستقبليا مشكلة في نقل
النصوص!! وأناطت لابن شهاب الزهري مهمة ذلك. جاء في كنز العمال عن أنس أنه قال:
رأيت رسول الله يتوضأ ثلاثا ثلاثا، وقال: بهذا أمرني ربي عز وجل (1). ترى كيف يأمره
الله بالثالثة ونحن نعلم أنه فعل الثانية على نحو السنة وأعطى عليه الأجر كفلين،
وتواتر عنه في الصحاح والسنن أنه كان يتوضأ مرتين مرتين؟ وهل بعد السنة فرض، وألم
يحتمل أن يكون هذا الأمر مختصا به دون المؤمنين؟! وإذا صحت هذه الأحاديث عن أنس..
فلماذا لا نراها في الكتب المعول عليها في الفقه - كصحيح البخاري ومسلم والصحاح
الأربعة الأخرى و... -، ولماذا نرى نقل أغلب المتناقضات في الاحاديث إنما كان عن
أنس وابن عباس وعلي
(هامش)
مختصاته (صلى الله عليه وآله وسلم)! (1) كنز العمال 9: 459 / 26965. (*)
ص 201
وجابر ابن عبد الله الأنصاري، فإن كان أنس بن مالك قد خلط في آخر عمره وكان يستفتى
فيفتي من عقله - كما رواه محمد بن الحسن الشيباني عن أبي حنيفة - فكيف بابن عباس
وعلي وجابر بن عبد الله الأنصاري واختلاف النقل عنهما في الأحكام؟ وهل انهم قد
خلطوا في الأحكام أو ان السياسة نسبت إليهما التناقض، بل في بعض الأحيان التضاد؟!
رأي وتنظير
لو دقق الباحث النظر في الأخبار لوقف على دور السياسة في تحريف كثير من
الأمور، فقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره: (في المسائل الفقهية المستنبطة من
الفاتحة) تعارض الروايات المنقولة عن أنس بن مالك في البسملة وأنه تارة يعتبرها جزء
من السورة وأخرى ينفيها وفي ثالثة يتوقف عندها. قال الفخر الرازي: أقول، إن أنسا
وابن المغفل خصصا عدم ذكر بسم الله الرحمن الرحيم بالخلفاء الثلاثة ولم يذكروا
عليا، وذلك يدل على إطباق الكل على أن عليا كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. ثم
ساق بعدها كلام الشيخ أبي حامد الاسفرائيني، وهو: روي عن أنس في الباب ست روايات،
أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات: إحداها قوله: صليت خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلف
أبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين. وثانيها
قوله: إنهم ما كانوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم. وثالثها قوله: لم أسمع أحدا
منهم قال: بسم الله الرحمن الرحيم. فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية. وثلاث
أخرى تناقض قولهم: إحداها: ما ذكرنا من أن أنسا روى أن معاوية لما ترك بسم الله
الرحمن الرحيم في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار. وقد بينا أن هذا يدل على أن
الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم.
ص 202
وثانيها: روى أبو قلابة عن أنس أن رسول الله وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله
الرحمن الرحيم. وثالثها: انه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والأسرار به،
فقال: لاأدري المسألة. فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط
والاضطراب، فبقيت متعارضة، فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل، وأيضا ففيها تهمة أخرى
وهي أن عليا عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما وصلت الدولة إلى بني
أمية بالغوا في المنع من الجهر، سعيا في إبطال آثار علي عليه السلام، فلعل أنسا خاف
منهم، فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه، ونحن وإن شككنا في شيء فانا لا نشك انه مهما
وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل وبين قول علي بن أبي طالب عليه السلام الذي
بقى عليه طول عمره، فإن الأخذ بقول علي أولى، فهذا جواب قاطع في المسألة) (1) وبهذا
اتضح لك ما قلناه أن الأمويين كانوا ينسبون إلى مخالفيهم ما يرتؤون من أفكار، وقد
وقفت سابقا على ما نسب إلى علي وأنه علم ابن عباس (حبر الأمة) وضوء عثمان! أو تقرير
طلحة والزبير وسعد وعلي لوضوء عثمان! وأنه وضوء رسول الله، مع كونهم من مخالفيه
المطردين! أو ما نسب إلى الحسين بن علي من الوضوء الثلاثي الغسلي والدعاء في غسل
الرجلين (2)! وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر أبواب الفقه، فنراهم ينسبون أشياء لا
ترتبط بفقه هؤلاء، فمثلا ينسبون روايات السكوت عن ظلم الحاكم، أو بول رسول الله
قائما إلى حذيفة بن اليمان وغيره، فما يعني ذلك؟! الأجل معرفة حذيفة أسماء
المنافقين، وأن صدور هذه الروايات عنه هي بمثابة المبالغة في السكوت عن ظلم
الحكام؟! وعلى فرض صحة صدور مثل هذه الأخبار عنه.. فهي مختصة به، وهي
(هامش)
(1) تفسير الفخر الرازي 1: 206. (2) انظر سنن النسائي 1: 69 باب صفة الوضوء،
والمعجم الصغير للطبراني. (*)
ص 203
بمنزلة وصية من رسول الله في عدم فضحه للمنافقين (إلا أن ترى كفرا بواحا). أما
تعميم ذلك على جميع المسلمين وأن نستخرج منه أصلا شرعيا، فهو تحريف للسنة الشريفة
والعقيدة الإسلامية الامرة بلزوم مواجهة الظالمين، وأن أعظم الجهاد (كلمة حق عند
سلطان جائر)، و(إن الساكت عن الحق شيطان أخرس). فكيف يسمح الإسلام بتصدر الفاسق
لاءمرة المسلمين، وسبحانه يصرح: (لا ينال عهدي الظالمين) وما تعني وهذه الرؤى؟!
هذا، وان موقف أنس بن مالك يدل على أصالة نهج الوضوء الثنائي المسحي، لأنه على رغم
مخالفته لعلي وعدم شهادته في صدور جملة: (من كنت مولاه) (1) فيه، تراه يدافع وبكل
صلابة عن وضوء الناس، فما معنى ذلك؟! ألم يكن لثبوته عنده، وأنه قد رأى رسول الله
يفعل ذلك، وأن القرآن نزل به؟! وكيف يترك ما شاهده عن الرسول وينساق إلى الحكام؟
خبر مشوه
أما الأمويون - ومن باب الملازمة - فقد سعوا لتضعيف تلك الأخبار، بما رووه
عن أنس وأنه يدعو إلى الوضوء الثلاثي، ليعارضوا ما ثبت عنه في المسح. أخرج الطبراني
في الصغير بسنده عن عمر بن أبان بن مفضل المدني، قال: أراني أنس بن مالك الوضوء..
أخذ ركوة فوضعها على يساره، وصب على يده اليمنى فغسلها ثلاثا، ثم أدار الركوة على
يده اليمنى فتوضأ ثلاثا ثلاثا، ومسح برأسه ثلاثا، وأخذ ماء جديدا لسماخيه، فمسح
سماخيه. فقلت له: قد مسحت أذنيك! فقال: يا غلام، إنها من الرأس، ليس هما من الوجه،
ثم قال: يا غلام، هل رأيت وفهمت، أو أعيد ذلك؟ فقلت: قد كفاني، وقد فهمت.
(هامش)
(1) مسند أحمد 1: 84، 118، الجامع الصغير 2: 642 / 9000، سنن الترمذي 5: 297 /
3797. (*)
ص 204
فقال: هكذا رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوضأ (1). ولنا على هذا النص عدة مؤاخذات: الأولى:
وجود خلط في سند الحديث، إذ فيه حدثنا جعفر بن حميد بن عبد الكريم بن فروخ بن ديرج
بن بلال بن سعد الأنصاري الدمشقي، حدثني جدي لأمي عمر بن أبان بن مفضل. 1 - وهذا
يدل على أن الحديث الذي رواه الطبراني عن أنس يمر بطبقتين، في حين نعلم أنه لا
يمكنه رواية حديث مثل هذا إلا عبر ثلاث طبقات أو أربع (2). 2 - لم يرو عن بلال بن
سعد الدمشقي أحد بتلك الأسماء، ولم يرو هو عن جده لأمه، ولم يعرف أحد بهذا الاسم في
كتب الرجال (3). 3 - يحتمل أن يكون راوي هذا الخبر من أتباع السلطة ومن الذين
يريدون نسبة ما يرتؤونه إلى الفقهاء المتعاملين، قال أبو زرعة الدمشقي: بلال بن سعد
أحد العلماء في خلافة هشام، وكان قاصا حسن القصص، وعليه فالاطمئنان لمثل هذه
الأخبار لا يميل إليه القلب. الثانية: إن راوي الخبر السابق ليس من الرواة
المعروفين برواية الحديث ولا من المهتمين به، ويكفي قول الطبراني عنه (لم يرو عمرو
بن أبان عن أنس حديثا غير هذا). الثالثة: لو سلمنا جدلا صحة الرواية، فنرجح صدورها
في زمن الحجاج بن يوسف الثقفي وعهد عبد الملك بن مروان لمعرفتنا باتجاهه ومواقفه في
الوضوء. وان تنكيله بالصحابة ومعارضته إياهم إنما هو لتحديثهم عن رسول الله وثباتهم
على السنة الشريفة.
(هامش)
(1) المعجم الصغير: 116. (2) وبهذا لا يخرج حديث الطبراني عن المعلق أو المرسل أو
المفصل اصطلاحا، كل بحسب عدد الوسائط الساقطة من الأسناد، فهو ليس بحجة في المقام
اتفاقا. (3) تهذيب الكمال 4: 291 وتراجم الاخرين فيه. (*)
ص 205
فقد أخرج ابن عساكر في تاريخه عن أبي بكر بن عياش، عن الأعمش: كتب أنس بن مالك إلى
عبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين إني قد خدمت محمدا تسع سنين [وفي لفظ آخر:
إني خدمت النبي تسع سنين]، والله لو أن اليهود والنصارى أدركوا رجلا خدم نبيهم
لأكرموه، وأن الحجاج يعرض بي حوكة البصرة.. فكتب عبد الملك إلى الحجاج يأمره
بالاعتذار من أنس، فجاء الحجاج إلى أنس، وما أن سمع بذلك، حتى خرج أنس يمشي حتى دنا
منه، فقال: يا أبا حمزة، غضبت؟ قال الحجاج: أغضب! تعرضني لحوكة البصرة؟ قال أنس: يا
أبا حمزة، إنما مثلي ومثلك كقول الذي قال: إياك أعني واسمعي يا جارة، أردت أن لا
يكون لأحد علي منطق (1). بهذا المنطق كانوا يقابلون الصحابة ويسعون لتطبيق آرائهم،
فهل يمكن لأحد أن يطمئن لأحاديث أنس وغيره التي وقعت تحت الضغط وجور الحكام؟!
الرابعة: إن قول الراوي (فقلت له: قد مسحت أذنيك، فقال: يا غلام...) تفهم أن الراوي
كان لا يستسيغ ولا يرتضي مسح الأذنين، بل نراه قد فوجئ بهذا الفعل من أنس، وأن
تأكيد أنس له (وأنها من الرأس لا من الوجه) وكذا قوله: (هل رأيت وفهمت، أو أعيد
عليك؟ فقلت: قد كفاني، وقد فهمت).. تدلل على أن مسح الأذنين لم تكن من سيرة
المسلمين وأنه قالها بحالة غضب وانفعال، وكذا الحال بالنسبة إلى تثليث الغسلات
وخصوصا في الرأس منه، حيث إن هذا الفعل لم يلحظ في جميع الوضوءات البيانية المنقولة
عنه (صلى الله عليه وآله وسلم). وعليه، فيحتمل أن يكون هذا الخبر - على فرض صحة صدوره - هو مما يستدل به
لنصرة المذهب المالكي، إذ أنهم يؤكدون على مسح جميع الرأس، لقولهم بأن الباء في
السورة جاءت للالصاق، وبهذا فإن هذه الرواية وغيرها تفيد هذا المذهب بالخصوص،
(هامش)
(1) تهذيب الكمال 3: 374، وقريب منه في تهذيب ابن عساكر 4: 77. (*)