ص 283
أطرف الأشياء وذلك إنهم يعتقدون تفسيق إنس بل تكفيره، فيقولون: إنه كتم الشهادة في
النص حتى دعا عليه أمير المؤمنين - عليه السلام - ببلاء لا يواريه الثياب، فبرص (1)
على كبر السن ومات وهو أبرص، فكيف يستشهد برواية الكافرين؟ (2) فقالت المعتزلة: قد
أسقط هذا الكلام الرجل ولم يجعل الحجة في الرواية أنسا، وإنما جعلها الإجماع، فهذا
الذي أوردته هذيان وقد تقدم إبطاله. فقال السائل: هب أنا سلمنا صحة الخبر ما أنكرت
أن لا يفيد ما ادعيت من فضل أمير المؤمنين - عليه السلام - على الجماعة؟ وذلك أن
(هامش)
(1) راجع: المعارف لابن قتيبة (في باب البرص) ص 194 وص 391، بحار الأنوار ج 34 ص
287 وج 37 ص 197 وج 42 ص 148 وج 38 ص 351، سفينة البحار للقمي ج 1 ص 47، عبقات
الأنوار (حديث الثقلين) ج 2 ص 309، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 19ج ص 217 -
218، وقال في ج 4 ص 74 (فصل في ذكر المنحرفين عن علي - عليه السلام -): وذكر جماعة
من شيوخنا البغداديين أن عدة من الصحابة والتابعين والمحدثين كانوا منحرفين عن علي
- عليه السلام -، قائلين فيه السوء، ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه ميلا مع
الدنيا، وإيثارا للعاجلة، فمنهم أنس بن مالك، ناشد علي - عليه السلام - الناس في
رحبة القصر - أو قال: رحبة الجامع بالكوفة -: أيكم سمع رسول الله - صلى الله عليه
وآله - يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه. فقام اثنا عشر رجلا فشهدوا بها، وأنس بن
مالك في القوم لم يقم، فقال له: يا أنس، ما يمنعك أن تقوم فتشهد، ولقد حضرتها؟
فقال: يا أمير المؤمنين، كبرت ونسيت، فقال: اللهم إن كان كاذبا فارمه بها بيضاء لا
تواريها العمامة. قال طلحة بن عمير: فوالله لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض بين
عينيه. وروى عثمان بن مطرف أن رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن علي بن أبي طالب
- عليه السلام -، فقال: إني آليت ألا أكتم حديثا سئلت عنه في علي - عليه السلام -
بعد يوم الرحبة، ذاك رأس المتقين يوم القيامة، سمعته والله من نبيكم. (2) بل
الاعتراض من أطرف الأشياء، لأن المسلم في محله صحة استدلال الخصم في الحجاج بما
يراه المستدل عليه صحيحا، ولا يلزم أن يكون هو عند المستدل أيضا صحيحا. (*)
ص 284
ادعيت من فضل أمير المؤمنين - عليه السلام - على الجماعة؟ وذلك أن المعنى فيه:
اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي، يريد أحب الخلق إلى الله عز وجل في الأكل
معه، دون أن يكون أراد أحب الخلق إليه في نفسه لكثرة أعماله، إذ قد يجوز أن يكون
الله سبحانه يحب أن يأكل مع نبيه من غيره أفضل منه، ويكون ذلك أحب إليه للمصلحة.
فقال الشيخ - أدام الله عزه -: هذا الذي اعترضت به ساقط، وذلك أن محبة الله تعالى
ليست ميل الطباع، وإنما هي الثواب، كما أن بغضه وغضبه ليسا باهتياج الطباع، وإنما
هما العقاب ولفظ أفعل في أحب وابغض لا يتوجه إلا إلى معناهما من الثواب والعقاب،
ولا معنى على هذا الأصل لقول من زعم أن أحب الخلق إلى الله عز وجل يأكل مع رسول
الله - صلى الله عليه وآله - توجه إلى محبة الأكل والمبالغة في ذلك بلفظ أفعل، لأنه
يخرج اللفظ عما ذكرناه من الثواب إلى ميل الطباع، وذلك محال في صفة الله سبحانه.
وشيء آخر: وهو أن ظاهر الخطاب يدل على ما ذكرناه دون ما عارضت به أن لو كانت المحبة
على غير معنى الثواب، لأنه - صلى الله عليه وآله - قال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك
يأكل معي من هذا الطائر، وقوله: بأحب خلقك إليك كلام تام، وبعده: يأكل معي من هذا
الطائر كلام مستأنف ولا يفتقر الأول إليه، ولو كان أراد ما ذكرت لقال: اللهم ائتني
بأحب خلقك إليك في الأكل معي، فلما كان اللفظ على خلاف هذا وكان على ما ذكرناه لم
يجز العدول عن الظاهر إلى محتمل على المجاز. وشيء آخر: وهو أنه لو تساوى المعنيان
في ظاهر الكلام لكان الواجب عليك تحميلهما اللفظ معا دون الاقتصار على أحدهما إلا
بدليل،
ص 285
لأنه لا يتنافى الجمع بينهما فيكون أراد بقوله: (أحب خلقك إليك) في نفسه وللأكل
معي، وإذا كان الأمر على ما بيناه سقط اعتراضك. فقال رجل من الزيدية - كان حاضرا -
للسائل: هذا الاعتراض ساقط على أصلك وأصلنا، لأنا نقول جميعا إن الله تعالى لا يريد
المباح، والأكل مع النبي - صلى الله عليه وآله - مباح وليس بفرض ولا نفل، فيكون
الله يحبه فضلا عن أن يكون بعضه أحب إليه من بعض، وهذا السائل من أصحاب أبي هاشم
فلذلك أسقط الزيدي كلامه على أصله، إذ كان يوافقه الأصولفي على مذهب أبي هاشم. فخلط
السائل هنيئة ثم قال للشيخ - أدام الله عزه -: فأنا أعترض باعتراض آخر وهو: أن أقول
ما أنكرت أن يكون هذا القول إنما أفاد أن عليا - عليه السلام - كان أفضل الخلق في
يوم الطائر، ولكن بم تدفع أن يكون قد فضله قوم من الصحابة عند الله تعالى بكثرة
الأعمال والمعارف بعد ذلك؟ وهذا الأمر لا يعلم بالعقل، وليس معك سمع في نفس الخبر
يمنع من ذلك، فدل على أنه - عليه السلام - أفضل من الصحابة كلهم إلى وقتنا هذا،
فإنا لم نسألك عن فضله عليهم وقتا بعينه. فقال الشيخ - أدام الله عزه -: هذا السؤال
أوهن مما تقدم، والجواب عنه أيسر، وذلك أن الأمة مجمعة على إبطال قول من زعم أن
أحدا اكتسب أعمالا زادت على الفضل الذي حصل لأمير المؤمنين - عليه السلام - على
الجماعة، من قبل أنهم بين قائلين: فقائل يقول: إن أمير المؤمنين - عليه السلام -
كان أفضل من الكل في وقت الرسول - صلى الله عليه وآله - لم يساوه أحد بعد ذلك، وهم:
الشيعة الإمامية، والزيدية، وجماعة من شيوخ المعتزلة، وجماعة من أصحاب
ص 286
الحديث. وقائل يقول: إنه لم يبن لأمير المؤمنين - عليه السلام - في وقت من الأوقات
فضل على سائر الصحابة يقطع به على الله تعالى ويجزم الشهادة بصحته، ولا بان لأحد
منهم فضل عليه، وهم: الواقفة في الأربعة من المعتزلة، منهم: أبو علي وأبو هاشم
وأتباعهما. وقائل يقول: إن أبا بكر كان أفضل من أمير المؤمنين - عليه والسلام - في
وقت الرسول - صلى الله عليه وآله - وبعده، وهم: جماعة من المعتزلة، وبعض المرجئة،
وطوائف من أصحاب الحديث. وقائل يقول: إن أمير المؤمنين - عليه السلام - خرج عن فضله
بحوادث منه فساواه غيره، وفضل عليه من أجل ذلك من لم يكن له فضل عليه، وهم: الخوارج
وجماعة من المعتزلة، منهم: الأصم والجاحظ وجماعة من أصحاب الحديث أنكروا قتال أهل
القبلة، ولم يقل أحد من الأمة إن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان أفضل عند الله
سبحانه من الصحابة كلهم ولم يخرج عن ولاية الله عز وجل ولا أحدث معصية الله تعالى
ثم فضل عليه غيره بعمل زاد به ثوابه على ثوابه، ولا جوز ذلك فيكون معتبرا، فإذا بطل
الاعتبار به للاتفاق على خلافه سقط، وكان الإجماع حجة يقوم مقام قول الله تعالى في
صحة ما ذهبنا إليه، فلم يأت بشيء. وذاكرني الشيخ - أدام الله عزه - هذه المسألة بعد
ذلك فزادني فيها زيادة ألحقتها، وهي أن قال: إن الذي يسقط ما اعترض به السائل من
تأويل ول قكانت النبي - صلى الله عليه وآله - (اللهم ائتني بأحب خلقك إليك) على
المحبة للأكل معه دون محبته في نفسه بإعظام ثوابه بعد الذي ذكرناه في
ص 287
إسقاطه: أن الرواية جاءت عن أنس بن مالك أنه قال: لما دعا رسول الله - صلى الله
عليه وآله - أن يأتيه الله تعالى بأحب الخلق إليه، قلت: اللهم اجعله رجلا من
الأنصار ليكون لي الفضل بذلك، فجاء علي - عليه السلام - فرددته، وقلت له: رسول الله
على شغل، فمضى ثم عاد ثانية فقال لي: استأذن على رسول الله - صلى الله عليه وآله -،
فقلت له: إنه على شغل، فجاء ثالثة فاستأذنت له ودخل، فقال له النبي - صلى الله عليه
وآله -: قد كنت سألت الله تعالى أن يأتيني بك دفعتين، ولو أبطأت علي الثالثة لأقسمت
على الله عز وجل أن يأتيني بك. فلولا أن النبي - صلى الله عليه وآله - سأل الله عز
وجل أن يأتيه بأحب خلقه إليه في نفسه وأعظمهم ثوابا عنده، وكانت هذه من أجل الفضائل
لما آثر أنس أن يختص بها قومه، ولولا أن أنسا فهم ذلك من معنى كلام الرسول - صلى
الله عليه وآله - لما دافع أمير المؤمنين - عليه السلام - عن الدخول، ليكون ذلك
الفضل لرجل من الأنصار فيحصل له جزء منه. وشيء آخر: وهو أنه لو احتمل معنى لا يقتضي
الفضيلة لأمير المؤمنين - عليه السلام - لما احتج به أمير المؤمنين - عليه السلام -
يوم الدار، ولا جعله شاهدا على أنه أفضل من الجماعة، وذلك أنه لو لم يكن الأمر على
ما وصفناه وكان محتملا لما ظنه المخالفون من أنه سأل ربه تعالى أن يأتيه بأحب الخلق
إليه في الأكل معه لما أمن أمير المؤمنين - عليه السلام - من أن يتعلق بذلك بعض
خصومه في الحال، أو يشتبه ذلك على إنسان، فلما احتج به - عليه السلام - على القوم
واعتمده في البرهان دل على أنه لم يك مفهوما منه إلا فضله، وكان إعراض الجماعة أيضا
عن دفاعه عن ذلك بتسليم ما ادعى دليلا على صحة ما ذكرناه، وهذا بعينه
ص 288
يسقط قول من زعم أنه يجوز مع إطلاق النبي - صلى الله عليه وآله - في أمير المؤمنين
- عليه السلام - ما يقتضي فضله عند الله تعالى على الكافة وجود من هو أفضل منه في
المستقبل، لأنه لو جاز ذلك لما عدل القوم عن الاعتماد عليه، ولجعلوه شبهة في منعه
مما ادعاه من القطع على نقصانهم عنه في الفضل، وفي عدول القوم عن ذلك دليل على أن
القول مفيد بإطلاقه فضله - عليه السلام -، ومؤمن من بلوغ أحد منزلته في الثواب بشيء
من الأعمال، وهذا بين لمن تدبره (1).
(هامش)
(1) الفصول المختارة ج 1 ص 64 - 69، بحار الأنوار ج 10 ص 431 ح 12. (*) /
ص 289
/ المناظرة الثامنة والأربعون مناظرة الشيخ المفيد مع أبي بكر بن صراما
حضر الشيخ
المفيد مجلس أبي منصور بن المرزبان وكان بالحضرة جماعة من متكلمي المعتزلة، فجرى
كلام وخوض في شجاعة الإمام - عليه السلام -. فقال أبو بكر بن صراما: عندي أن أبا
بكر الصديق كان من شجعان العرب ومتقدميهم في الشجاعة! فقال الشيخ - أدام الله عزه
-: من أين حصل ذلك عندك؟ وبأي وجه عرفته؟ فقال: الدليل على ذلك أنه رأى قتال أهل
الردة وحده في نفر معه، وخالفه على رأيه في ذلك جمهور الصحابة وتقاعدوا عن نصرته.
فقال: أما والله لو منعوني عقالا لقاتلتهم، ولم يستوحش من اعتزال القوم له، ولا ضعف
ذلك نفسه، ولا منعه من التصميم على حربهم، فلولا أنه كان من الشجاعة على حد يقصر
الشجعان عنه لما أظهر هذا القول عند خذلان القوم له! فقال الشيخ - أدام الله عزه -:
ما أنكرت على من قال لك: إنك لم تلجأ إلى معتمد عليه في هذا الباب، وذلك أن الشجاعة
لا تعرف بالحس لصاحبها فقط ولا بادعائها، وإنما هي شيء في الطبع يمده الاكتساب،
والطريق إليها أحد الأمرين: إما الخبر عنها من جهة علام الغيوب المطلع
ص 290
على الضمائر جلت عظمته، فيعلم خلقه حال الشجاع وإن لم يبد منه فعل يستدل به عليها.
والوجه الآخر: أن يظهر منه أفعال يعلم بها حاله كمبارزة الأقران، ومقاومة الشجعان،
ومنازلة الأبطال، والصبر عند اللقاء، وترك الفرار عند تحقق القتال، ولا يعلم ذلك
أيضا بأول وهلة (1)، ولا بواحدة من الفعل حتى يتكرر ذلك على حد يتميز به صاحبه ممن
حصل له ذلك اتفاقا، أو على سبيل الهوج (2) والجهل بالتدبير، وإذا كان الخبر عن الله
سبحانه بشجاعة أبي بكر معدوما وكان هذا الفعل الدال على الشجاعة غير موجود للرجل
فكيف يجوز لعاقل أن يدعي له الشجاعة بقول قاله ليس من دلالتها في شيء عند أحد من
أهل النظر والتحصيل؟ لا سيما ودلائل جبنه وهلعه (3) وخوفه وضعفه أظهر من أن يحتاج
فيها إلى التأمل، وذلك أنه لم يبارز قط قرنا (4) ولا قاوم بطلا ولا سفك بيده دما،
وقد شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وآله - هامشاهده، فكان لكل أحد من الصحابة
أثر في الجهاد إلا له، وفر في يوم أحد، وانهزم في يوم خيبر، وولى الدبر يوم التقى
الجمعان، وأسلم رسول الله - صلى الله عليه وآله - في هذه المواطن مع ما كتب الله عز
وجل عليه من الجهاد! فكيف تجتمع دلائل الجبن ودلائل الشجاعة لرجل واحد في وقت واحد
لولا أن العصبية تميل بالعبد إلى الهوى؟
(هامش)
(1) يقال: لقيته أول وهلة أو واهلة أي أول شيء. (2) الهوج محركة: الطيش والتسرع.
(3) الهلع: الجبن عند اللقاء. (4) القرن بالكسر: نظيرك في الشجاعة أو العلم. (*)
ص 291
وقال رجل من طياب الشيعة كان حاضرا: عافاك الله أي دليل هذا؟ وكيف يعتمد عليه وأنت
تعلم أن الإنسان قد يغضب فيقول: لو سامني السلطان هذا الأمر ما قبلته، وإن لشيخا
ضعيف الجسم، ظاهر الجبن، يصلي بنا في مسجدنا فما يحدث أمر يضجره وينكره إلا قال:
والله لأصبرن على هذا أو لأجاهدن فيه ولو اجتمعت فيه ربيعة ومضر!. فقال: ليس الدليل
على الشجاعة ما ذكرت دون غيره، والذي اعتمدنا عليه يدل كما يدل الفعل والخبر، ووجه
الدلالة فيه أن أبا بكر باتفاق لم يكن مؤوف العقل، ولا غبيا ناقصا، بل كان بالإجماع
من العقلاء، وكان بالاتفاق جيد الآراء، فلولا أنه كان واثقا من نفسه عالما بصبره
وشجاعته لما قال هذا القول بحضرة المهاجرين والأنصار وهو لا يأمن أن يقيم القوم على
خلافه فيخذلونه، ويتأخرون عنه ويعجز هو لجبنه أن لو كان الأمر على ما ادعيتموه عليه
فيظهر منه الخلف في قوله، وليس يقع هذا من عاقل حكيم، فلما ثبتت حكمة أبي بكر دل
مقاله الذي حكيناه على شجاعته كما وصفناه. ال فقعندنا الشيخ - أدام الله عزه -: ليس
تسليمنا لعقل أبي بكر وجودة رأيه تسليما لما ادعيت من شجاعته بما رويت عنه من
القول، ولا يوجب ذلك في عرف ولا عقل ولا سنة ولا كتاب، وذلك أنه وإن كان ما ذكرت من
الحكمة فليس يمنع أن يأتي بهذا القول من جبنه وخوفه وهلعه ليشجع أصحابه، ويحض (1)
المتأخرين عنه على نصرته، ويحثهم على جهاد عدوه، ويقوي عزمهم في معونته، ويصرفهم عن
رأيهم خذلانه،
(هامش)
(1) حضه على الأمر: حمله عليه وأغراه به. (*)
ص 292
وهكذا تصنع الحكماء في تدبيراتهم، فيظهرون من الصبر ما ليس عندهم، ومن الشجاعة ما
ليس في طبائعهم حتى يمتحنوا الأمر وينظروا عواقبه، فإن استجاب المتأخرون عنهم
ونصرهم الخاذلون لهم وكلوا الحرب إليهم وعقلوا الكلفة بهم، وإن أقاموا على الخذلان
واتفقوا على ترك النصرة لهم والعدول عن معونتهم أظهروا من الرأي خلاف ما سلف،
وقالوا: قد كانت الحال موجبة للقتال، وكان عزمنا على ذلك تاما فلما رأينا أشياعنا
وعامة أتباعنا يكرهون ذلك أوجبت الضرورة إعفاءهم مما يكرهون، والتدبير لهم بما
يؤثرون، وهذا أمر قد جرت به عادة الرؤساء في كل زمان، ولم يك تنقلهم من رأي إلى رأي
مسقطا لأقدارهم عند الأنام، فلا ينكر أن يكون أبو بكر إنما أظهر التصميم على الحرب
لحث القوم على موافقته في ذلك، ولم يبد لهم جزعه لئلا يزيد ذلك في فشلهم، ويقوي به
رأيهم، واعتمد على أنهم إن صاروا إلى أمره ونجع هذا التدبير في تمام غرضه فقد بلغ
المراد، وإن لم ينجع ذلك عدل عن الرأي الأول! كما وصفناه من حال الرؤساء في
تدبيراتهم، على أن أبا بكر لم يقسم بالله تعالى في قتال أهل الردة بنفسه، وإنما
أقسم بأنصاره الذين اتبعوه على رأيه، وليس في يمينه بالله سبحانه لينفذن خالدا
وأصحابه ليصلوا بالحرب دليل على شجاعته في نفسه. وشيء آخر: وهو أن أبا بكر قال هذا
القول عند غضبه لمباينة القوم له، ولا خلاف بين ذوي العقول أن الغضبان يعتريه عند
غضبه من هيجان الطباع ما يفسد عليه رأيه حتى يقدم من القول على ما لا يفي به عند
سكون نفسه، ويعمل من الأعمال ما يندم عليه عند زوال الغضب عنه، ولا يكون وقوع ذلك
منه دليلا على فساد عقله، ووجوب إخراجه عن جملة أهل
ص 293
التدبير، وقد صرح بذلك الرجل في خطبة الهامشهورة عنه التي لا يختلف اثنان فيها،
وأصحابه خاصة يصولون بها، ويجعلونها من مفاخره، حيث يقول: إن رسول الله - صلى الله
عليه وآله - خرج من الدنيا وليس أحد يطالبه بضربة سوط فما فوقها وكان - صلى الله
عليه وآله - معصوما من الخطأ، يأتيه الملائكة بالوحي، فلا تكلفوني ما كنتم تكلفونه
فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبي، فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني، لا أوثر في
أشعاركم وأبشاركم (1) فقد أعذر هذا الرجل إلى القوم فيما يأتيه عند غضبه من قول
وفعل، ودلهم على الحال فيه، فلذلك أمن من نكير المهاجرين والأنصار عليه مقاله عند
غضبه مع إحاطة العلم منهم بما لحقه في الحال من خلاف المخالفين عليه حتى بعثه على
ذلك المقال، فلم يأت بشيء (2).
(هامش)
(1) تقدمت تخريجاته. (2) الفصول المختارة ج 1 ص 85 - 89، البحار ج 10 ص 436 ح 13.
(*)
ص 294
المناظرة التاسعة والأربعون مناظرة الشيخ المفيد مع بعضهم ردا على الحشوية
والمعتزلة
سأله بعض أصحابه فقال له: إن المعتزلة والحشوية يدعون أن جلوس أبي بكر
وعمر مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في العريش كان أفضل من جهاد أمير
المؤمنين - عليه السلام - (1) بالسيف
(هامش)
(1) وادعى ذلك أيضا الجاحظ أبو عثمان وقال: إن فضل أبي بكر بمقامه في العريش مع
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم بدر أعظم من جهاد علي - عليه السلام -
ذلك اليوم وقتله أبطال قريش. وقد تصدى للرد عليه أبو جعفر الإسكافي كما ذكر ذلك ابن
أبي الحديد في شرح النهج ج 13 ص 281 وإليك جوابه نصا: وكيف يقول الجاحظ: لا فضيلة
لمباشرة الحرب، ولقاء الأقران، وقتل أبطال الشر ك! وهل قامت عمد الإسلام إلا على
ذلك! وهل ثبت الدين واستقر إلا بذلك! أتراه لم يسمع قول الله تعالى: (إن الله يحب
الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) سورة الصف: الآية 4، والمحبة من
الله تعالى هي إرادة الثواب، فكل من كان أشد ثبوتا في هذا الصف، وأعظم قتالا، كان
أحب إلى الله، ومعنى الأفضل هو الأكثر ثوابا، فعلي - عليه السلام - إذا هو أحب
المسلمين إلى الله، لأنه أثبتهم قدما في الصف المرصوص، لم يفر قط بإجماع الأمة، ولا
بارزه قرن إلا قتله. أتراه لم يسمع قول الله تعالى: (وفضل الله المجاهدين على
القاعدين أجرا عظيما)، سورة النساء: الآية 95 وقوله: (إن الله اشترى من المؤمنين
أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا
في التوراة والأنجيل والقرآن)، ثم قال سبحانه مؤكدا لهذا البيع والشراء: (ومن أوفى
بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) سورة التوبة
الآية 111، وقال الله تعالى: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل
الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا = (*)
ص 295
لأنهما كانا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في مستقره يدبران الأمر معه
ولولا أنهما أفضل الخلق عنده لما اختصهما بالجلوس معه، فبأي شيء يدفع هذا؟ فقال له
الشيخ - أدام الله عزه -: سبيل هذا القول أن يعكس وهذه القصة أن تقلب وذلك أن النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم - لو علم أنهما لو كانا في جملة المجاهدين بأنفسهما
يبارزان الأقران ويقتلان الأبطال ويحصل لهما جهاد يستحقان به الثواب، لما حال
بينهما وبين هذه المنزلة التي هي أجل وأشرف وأعلى وأسنى من القعود على كل حال بنص
الكتاب حيث يقول الله سبحانه: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر
والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على
القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما)
(1). فلما رأينا الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قد منعهما هذه *
(هامش)
* = إلا كتب لهم به عمل صالح) سورة التوبة: الآية 120. فمواقف الناس في الجهاد على
أحوال، وبعضهم في ذلك أفضل من بعض، فمن دلف إلى الأقران، واستقبل السيوف والأسنة،
كان أثقل على أكتاف الأعداء، لشدة نكايته فيهم، ممن وقف في المعركة، وأعان ولم
يقدم، وكذلك من وقف في المعركة، وأعان ولم يقدم، إلا أنه بحيث تناله السهام والنبل
أعظم عناء، وأفضل ممن وقف حيث لا يناله ذلك، ولو كان الضعيف والجبان يستحقان
الرياسة بقلة بسط الكف وترك الحرب، وأن ذلك يشاكل فعل النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم -، لكان أوفر الناس حظا في الرياسة، وأشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت، وإن
بطل فضل علي - عليه السلام - في الجهاد، لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان
أقلهم قتالا، كما زعم الجاحظ ليبطلن على هذا القياس فضل أبي بكر في الأنفاق، لأن
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان أقلهم مالا!... الخ. (1) سورة النساء:
الآية 95. (*)
ص 296
الفضيلة وأجلسهما معه، علمنا أن ذلك لعلمه بأنهما لو تعرضا للقتال أو عرضا له
لأفسدا، إما بأن ينهزما أو يوليا الدبر، كما صنعا في يوم أحد (1)، وخيبر (2)، وحنين
(3)، فكان يكون في ذلك عظيم الضرر على المسلمين ولا يؤمن وقوع الوهن فيهم بهزيمة
شيخين من جملتهم، أو كانا لفرط ما
(هامش)
(1) فرار أبي بكر يوم أحد: راجع: شرح نهج البلاغة ج 13 ص 293، طبقات ابن سعد ج 2 ص
46 - 47، السيرة النبوية لابن كثير ج 3 ص 58، تاريخ الخميس ج 1 ص 431، البداية
والنهاية ج 4 ص 29، كنز العمال ج 10 ص 268 وص 269. فرار عمر يوم أحد: راجع: شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد ج 15 ص 20 وص 23 وص 24، حياة محمد لهيكل ص 265، كنز العمال
ج 2 ص 242، حياة الصحابة ج 3 ص 497، المغازي للواقدي ج 1 ص 199، الكامل في التاريخ
ج 2 ص 148. وقال الفخر الرازي في تفسيره ج 9 ص 50 في ذيل تفسير قوله تعالى: (إن
الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) سورة آل
عمران: الآية 155، قال: ومن المنهزمين - يعني يوم أحد - عمر، إلا أنه لم يكن في
أوائل المنهزمين... ومنهم: عثمان، انهزم مع رجلين من الأنصار يقال لهما: سعد وعقبة،
انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا، ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام، فقال لهم النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم -: لقد ذهبتم فيها عريضة. (2) فرار أبي بكر وعمر يوم خيبر:
راجع: أسد الغابة ج 4 ص 21، مسند أحمد ج 6 ص 353، البداية والنهاية ج 4 ص 186، مجمع
الزوائد ج 9 ص 122 وص 124، الكامل لابن الأثير ج 2 ص 216، المستدرك للحاكم ج 3 ص
37. (3) فرار أبي بكر يوم حنين: راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 13 ص 293،
الصحيح من سيرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ج 3 ص 282. فرار عمر يوم حنين:
راجع: صحيح البخاري ج 6 ص 80، كتاب التفسير باب قوله تعالى: (ويوم حنين إذ أعجبتكم
كثرتكم) سورة التوبة: الآية 25، سيرة المصطفى لهاشم معروف الحسيني ص 618. (*)
ص 297
يلحقهما من الخوف والجزع يصيران إلى أهل الشرك مستأمنين أو غير ذلك من الفساد الذي
يعلمه الله تعالى، ولعله لطف للأمة بأن أمر نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم -
بحبسهما عن القتال. فأما ما توهموه من أنه حبسهما للاستعانة برأيهما فقد ثبت أنه
كان كاملا وأنهما كانا ناقصين عن كماله، وكان معصوما وكانا غير معصومين، وكان مؤيدا
بالملائكة وكانا غير مؤيدين، وكان يوحى إليه وينزل القرآن عليه ولم يكونا كذلك، فأي
فقر يحصل له مع ما وصفناه إليهما لولا عمى القلوب وضعف الرأي وقلة الدين، والذي
يكشف لك عن صحة ما ذكرناه آنفا في وجه إجلاسهما معه في العريش قول الله سبحانه: (إن
الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله
فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والأنجيل والقرآن) (1). فلا يخلو الرجلان
من أن يكونا مؤمنين أو غير مؤمنين، فإن كانا مؤمنين، فقد اشترى الله أنفسهما منهما
بالجنة، على شرط القتال المؤدي إلى القتل منهما لغيرهما أو قتل غيرهما لهما، ولو
كانا كذلك لما حال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بينهما وبين الوفاء بشرط الله
عليهما من القتل، وفي منعهما من ذلك دليل على أنهما بغير الصفة التي يعتقدها فيهما
الجاهلون، فقد وضح بما بيناه أن العريش وبال عليهما ودليل على نقصهما وأنه بالضد
مما توهموه لهما والمنة لله (2).
(هامش)
(1) سورة التوبة: الآية 111. (2) الفصول المختارة ص 14 - 16، بحار الأنوار ج 10 ص
417 ح 7. (*)
ص 298
المناظرة الخمسون مناظرة المفيد (ره) مع شيخ من المعتزلة
وذكرت بحضرة الشيخ أبي عبد
الله - أدام الله عزه - ما ذكره أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي - رحمه
الله - في كتاب (الأنصاف) حيث ذكر أن شيخا من المعتزلة أنكر أن تكون العرب تعرف
المولى سيدا وإماما، قال: فأنشدته قول الأخطل (1): فما وجدت فيها قريش لأمرها * أعف
وأولى من أبيك وأمجدا وأورى بزنديه ولو كان غيره * غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا
فأصبحت مولاها من الناس كلهم * وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا قال أبو جعفر: فأسكت
الشيخ كأنما ألقم حجرا، وجعلت أستحسن ذلك. فقال لي الشيخ أبو عبد الله - أدام الله
عزه -: قد قال لي أيضا شيخ من المعتزلة: إن الذي تدعونه من النص الجلي على أمير
المؤمنين - عليه السلام - شيء حادث، ولم يك معروفا عند متقدمي الشيعة ولا اعتمده
أحد منهم وإنما بدأ به وادعاه ابن الراوندي في كتابه في الإمامة، وناضل عليه ولم
يسبقه إليه أحد، ولو كان معروفا فيما سلف لما أخل السيد إسماعيل بن محمد (2) - رحمه
الله - به في شعره ولا ترك ذكره في نظمه مع
(هامش)
(1) هو أبو مالك غياث بن غوث التغلبي، من شعراء الدولة الأموية البارزين مات سنة 92
ه. (2) هو السيد الحميري، الشاعر الطائر الصيت المولود سنة 105 والمتوفى سنة 17 3
أو = (*)
ص 299
إغراقه في ذكر فضائل أمير المؤمنين - عليه السلام - ومناقبه حتى تعلق بشاذ الحديث
وأورد من الفضائل ما لا نسمع به إلا منه، فما باله إن كنتم صادقين لم يذكر النص
الجلي ولا اعتمده في شيء من مقاله وهو الأصل المعول عليه لو ثبت. فقلت له: قد ذهب
عنك أيها الشيخ مواضع مقاله في ذلك لعدولك عن العناية برواية شعر هذا الرجل، ولو
كنت ممن صرف همته إلى تص قصائده لعرفت ما ذهب عليك من ذلك، وأسكنتك المعرفة به عن
الاعتماد على ما اعتمدته من خلو شعره على ما وصفت في استدلالك بذلك، وقد قال السيد
إسماعيل بن محمد - رحمه الله - في قصيدته الرائية التي يقول في أولها: ألا الحمد
لله حمدا كثيرا * ولي المحامد ربا غفورا حتى انتهى إلى قوله: وفيهم علي وصي النبي *
بمحضرهم قد دعاه أميرا وكان الخصيص به في الحياة * وصاهره واجتباه عشيرا (1).
(هامش)
= سنة 179. صاحب القصيدة الهامشهورة: لأم عمرو باللوى مربع * طامسة أعلامها بلقع من
أصحاب الصادق - عليه السلام -، ومن شعراء أهل البيت - عليهم السلام - المجاهرين،
حاله في الجلالة ظاهر، ومجده باهر، قال العلامة في حقه: ثقة جليل القدر عظيم الشأن
والمنزلة، وكان في بدء الأمر كيسانيا ثم إماميا، وقيل له كيف تشيعت وأنت شامي حميري
فقال: صبت علي الرحمة صبا فكنت كمؤمن آل فرعون، وروي أن الصادق - عليه السلام -
لقاه، فقال: سمتك أمك سيدا ووفقت في ذلك أنت سيد الشعراء، وقيل إن له في أهل البيت
- عليهم السلام - نحو الفين وثلاثمائة قصيدة. انظر ترجمته في تنقيح المقال
للمامقاني ج 1 ص 142 - 144، سفينة البحار ج 1 ص 335 - 337. (1) ديوان السيد الحميري
ص 224، رقم القصيدة: 78 باختلاف في البيت الثاني والمذكور = (*)
ص 300
أفلا ترى أنه قد أخبر في نظمه أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا عليا -
عليه السلام - في حياته بإمرة المؤمنين واحتج بذلك فيما ذكره من مناقبه - عليه
السلام - فسكت الشيخ وكان منصفا (1).
(هامش)
= هكذا. علي إمام وصي النبي * بمحضره قد دعاه أميرا والبيت الأول قد ذكر في ص 210
قصيدة رقم: 75، راجع: مناقب ابن شهر آشوب ج 3 ص 56، أعيان الشيعة ج 3 ص 423. (1)
الفصول المختارة ص 4 - 5. (*)
ص 301
المناظرة الحادية والخمسون مناظرة الشيخ المفيد (ره) مع الرماني (1)
يروى: أنه حضر
لأول مرة درس أستاذه علي بن عيسى الرماني، فقام رجل من البصرة وسأل الرماني عن خبر
الغدير والغار. فقال له الرماني: إن حديث الغار دراية، وخبر الغدير رواية، والرواية
لا توجب ما توجبه الدراية، فسكت البصري ولم يكن عنده شيء. فلما خف المجلس تقدم
المفيد إلى الرماني، ولم يكن يعرفه قبل هذا، وسأله عمن قاتل الإمام العادل. فقال
الرماني: إنه كافر (2)، ثم استدرك، فقال: إنه فاسق.
(هامش)
(1) هو: أبو الحسن علي بن عيسى الرماني من شيوخ المعتزلة البارزين ولد سنة 29 6، عد
من هامشايخ الشيخ المفيد (ره)، كان من أهل المعرفة، مفننا في علوم كثيرة، من الفقه
والقرآن، والنحو واللغة والكلام على مذهب المعتزلة، قال عنه الذهبي: وكان يتشيع
ويقول علي أفضل الصحابة، وأصله من سر من رأى، مات ببغداد سنة 384. انظر ترجمته في:
تاريخ بغداد ج 12 ص 16 - 17 ترجمة رقم: 6377، سير أعلام النبلاء للذهبي ج 16 ص 533
- 534، لسان الميزان ج 4 ص 248. (2) وقد وردت أحاديث كثيرة في من قاتل عليا عليه
السلام منها: عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -:
من ناصب عليا الخلافة بعدي فهو كافر وقد حارب الله ورسوله، ومن شك في علي فهو كافر.
المناقب لابن المغازلي ص 46 ح 68. وروي عنه - صلى الله عليه وآله وسلم -: من قاتل
عليا على الخلافة فاقتلوه كائنا من كان. ينابيع المودة للقندوزي ص 181. (*)
ص 302
فقال المفيد: ما تقول في علي بن أبي طالب - عليه السلام - ويوم الجمل وطلحة
والزبير؟ فقال الرماني: إنهما تابا. فقال: أما خبر الجمل فدراية، وخبر التوبة
فرواية، فأفحم الرماني، ولم يأت بشيء، غير أنه قال له: كنت حاضرا عند سؤال البصري؟
قال: نعم. ثم دخل الرماني المنزل، وجاء برقعة مختومة، وقال له: أوصلها إلى من اتصلت
به، وهو أبو عبد البصري المعروف (بجعل) فلما وقف عليها جعل يبتسم، وسأل المفيد عما
جرى بينهما فأعاد ليه القصة، فقال: إنه كتب إلي بذلك وقد لقبك بالمفيد (1).الله
(هامش)
(1) مجموعة الشيخ ورام ص 456 وج 2 ص 302 ط طهران، منتهى المقال ص 292. (*)
ص 303
المناظرة الثانية والخمسون مناظرة الشيخ المفيد (ره) مع بعض مشايخ العباسيين في
سامراء (1)
حضر الشيخ أبو عبد الله المفيد - أيده الله - بسر من رأى، واحتج عليه من
العباسيين وغيرهم جمع كثير. فقال له بعض هامشايخ العباسيين: أخبرني من كان الإمام
بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ فقال له: كان الإمام من دعاه العباس
إلى أن يمد يده لبيعته على حرب من حارب وسلم من سالم. فقال له العباسي: ومن هذا
الذي دعاه العباس إلى ذلك؟ فقال له الشيخ: هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه
السلام -
(هامش)
(1) سامراء: جاء في الراصد: وهي المدينة التي أنشأها المعتصم - بين بغداد وتكريت -
وهو على دجلة من شرقيها - تحت تكريت - وحين انتقل المعتضد عتها وسكن بغداد خربت،
ولم يبقى منها الآن إلا يسير، ولها أخبار طويلة، والباقي منها الآن موضع يسمى
بالعسكر، كان - الإمام - علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر - عليهم السلام -
وابنه - الإمام - الحسن بن علي - عليه السلام - وهما المعسكران يسكنان به فنسبا
إليه وبه دفنا، وعليهما هامشهد يزار فيه. وروي في أمالي الطوسي: عن الإمام الهادي -
عليه السلام - قال: أخرجت إلى سر من رأى كرها ولو أخرجت منها أخرجت كرها، قيل ولم
يا سيدي؟ قال: لطيب هوائها وعذوبة مائها وقلة دائها. وروي في سبب تسميتها سر من
رأى: أنه لما شرع في بنائها المعتصم ثقل ذلك على عسكره فلما انتقل بهم إليها سر كل
منهم برؤيتها فلزمها هذا الاسم أي سر من رأى، وسامراء: لغة في سر من رأى. أنظر:
مراصد الاطلاع ج 2 ص 684 - 685، سفينة البحار ج 1 ص 614 - 615. (*)
ص 304
حيث قال له العباس في اليوم الذي قبض فيه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
بما اتفق عليه أهل النقل: أبسط يدك يا بن أخ أبايعك فيقول الناس: عم رسول الله بايع
ابن أخيه فلا يختلف عليك اثنان (1). فقال له شيخ من فقهاء أهل البلد: فما كان
الجواب من علي؟ فقال: كان الجواب أن قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
عهد إلي أن لا أدعو أحدا حتى يأتوني، ولا أجرد سيفا حتى يبايعوني، ومع هذا فلي
برسول الله شغل. فقال العباسي: فقد كان العباس - رحمه الله - إذن على خطأ في دعائه
له إلى البيعة. فقال له الشيخ: لم يخطئ العباس فيما قصد لأنه عمل على الظاهر وكان
عمل أمير المؤمنين - عليه السلام - على الباطن وكلاهما أصاب الحق ولم يخطئه والحمد
لله رب العالمين. فقال له العباسي: فإن كان علي بن أبي طالب هو الإمام بعد النبي -
صلى الله عليه وآله وسلم - فقد أخطأ أبو بكر وعمر ومن اتبعهما وهذا أعظم في الدين.
فقال له الشيخ: لست أنشط الساعة للفتيا بتخطئة أحد، وإنما أجبتك عن شيء سألت عنه،
فإن كان صوابا وضمن تخطئة إنسان فلا تستوحش من اتباع الصواب، وإن كان باطلا فتكلم
على إبطاله فهو أولى من التشنيع بما لا يجدي نفعا، مع أنه إن استعظمت تخطئة من ذكرت
فلا بد لك من تخطئة علي والعباس من قبل أنهما قد تأخرا عن بيعة أبي بكر ولم يرضيا
(هامش)
(1) راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 10 ص 253، الإمامة والسياسة لابن
قتيبة ج 1 ص 12. (*)
ص 305
بتقدمه عليهما، ولا عملا له ولصاحبه عملا ولا تقلدا لهما ولاية ولا رآهما أبو بكر
ولا عمر أهلا أن يشركاهما في شيء من أمورهما، وخاصة ما صنعه عمر بن الخطاب فإنه ذكر
من يصلح للإمامة في الشورى ومن يصلح للنظر في الاختيار فلم يذكر العباس من إحدى
الطائفتين، ولما ذكر عليا - عليه السلام - عابه ووصفه بالدعابة تارة وبالحرص على
الدنيا أخرى وأمر بقتله إن خالف عبد الرحمن بن عوف وجعل الحق، في حين عبد الرحمن
دونه وفضله عليه. هذا وقد أخذ منه ومن العباس ومن جميع بني هاشم الخمس الذي جعله
الله تعالى لهم وأرغمهم فيه وحال بينهم وبينه، وجعله في السلاح والكراع، فإن كنت
أيها الشريف تنشط للطعن على علي والعباس بخلافهما الشيخين بكراهتهما لإمامتهما
وتأخرهما عن بيعتهما وترى من العقد فيهما ما سنه الشيخان من أمرهما في التأخير لهما
عن شريف المنازل والغض منهما والحط من أقدارهما فصر إلى ذلك فإنه الضلال بغير شبهة،
وإن كنت ترى ولايتهما والتعظيم لهما والاقتداء بهما فاسلك سبيلهما ولا تستوحش من
تخطئة من خالفهما، وليس ها هنا منزلة ثالثة. فقال العباسي عند سماع هذا الكلام:
اللهم أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون (1).
(هامش)
(1) الفصول المختارة: ص 277 - 279، بحار الأنوار ج 10 ص 451 ح 18. (*)
ص 306
. المناظرة الثالثة والخمسون مناظرة الكراجكي مع رجل من العامة
قال الشيخ الكراجكي
(1) - أعلى الله مقامه -: سألني رجل من أهل الخلاف فقال: إنا نراكم معشر الشيعة
تكثرون القول بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - أفضل من أبي بكر
وعمر وعثمان، وتناظرون على ذلك، وترددون هذا الكلام، وإطلاق هذا اللفظ منكم يضاد
مذهبكم، ويناقض معتقدكم، ولستم تعلمون أن التفضيل بين الشيئين لا يكون إلا وقد شمل
الفضل لهما، ثم زاد في الفضل أحدهما على صاحبه، وأن ذلك لا يجوز مع تعري أحدهما من
خلال الفضل على كل حال، لم جهلتم ذلك من معنى الكلام؟ فإن زعمتم أن لأبي
(هامش)
(1) هو: أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان المعروف بالكراجكي، من أجلاء علماء وفقهاء
ورؤساء الشيعة في حلب، له عدة كتب منها عدة المصير في صحيح الغدير، التلقين لأولاد
المؤمنين، ردع الحاصل وتنبيه الغافل، نهج البيان في مناسك النسوان، روضة العابدين،
كنز الفوائد، وغيرها، وكان جوالا بين دهامشق وبغداد وحلب وطبرية وصيدا وصور
وطرابلس، ومن شيوخه: الشيخ المفيد والشريف المرتضى وغيرهم من أجلة العلماء، ومن
تلاميذه: المفيد النيسابوري، وعبد العزيز الطرابلسي وغيرهما. والكراجكي من أئمة
عصره في الفقه والكلام والفلسفة والطب والفلك والرياضيات وغيرها من العلوم، قال عنه
العماد الحنبلي: كان نحويا لغويا، منجما طبيبا متكلما متقنا، من كبار أصحاب الشريف
المرتضى، وتوفي في حوادث سنة 499 ه. راجع ترجمته في: شذرات الذهب ج 3 ص 283 في
حوادث سنة 499 ه، سير أعلام النبلاء ج 18 ص 121، لسان الميزان ج 5 ص 300، مرآة
الجنان ج 3 ص 69 - 70. (*)
ص 307
بكر وعمر وعثمان قسطا من الفضل يشملهم به، يصح به القول أن أمير المؤمنين - عليه
السلام - أفضلهم، تركتم مذهبكم وخالفتم سلفكم، وإن مضيتم على أصلكم ونفيتم عنهم
جميع خلال الفضل على ما عهد من قولكم لم يصح القول بأن أمير المؤمنين - عليه السلام
- أفضل منهم. فقلت له: ليس في إطلاق القول بأن أمير المؤمنين - عليه السلام - أفضل
من أبي بكر وعمر وعثمان ما يوجب على قائله ما ذكرتم في السؤال. والشيعة أعرف من
خصومهم بمواقع الألفاظ ومعاني الكلام، وذلك: أن التفضيل، وإن كان كما وصفت يكون بين
الشيئين إذا اشتركا في الفضل وزاد أحدهما على الآخر فيه، فقد يصح أيضا فيهما إذا
اختص بالفضل أحدهما، وعرى الآخر منه، ويكون معنى قول القائل: هذا أفضل من هذا، أنه
الفاضل دونه، وأن الآخر لا فضل له، وليس في هذا خروج عن لسان العرب، ولا مخالفة
لكلامها، وكتاب الله تعالى يشهد به، وأن أشعار المتقدمين يتضمنه، قال الله جل اسمه:
(أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) (1). يعني أنهم خير من أصحاب النار،
وقد علم أن أصحاب النار أصحاب شر، ولا خير فيهم. ووصف النار في آية أخرى فقال: (بل
كذبوا بالساعة واعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا، إذا رأتهم من كان بعيد سمعوا لها
تغيظا وزفيرا) إلى قوله (وادعوا ثبورا) (2) ثم قال: (قل أذلك خير أم جنة الخلد التي
وعد المتقون، كانت لهم جزاء ومصيرا) (3). فذكر سبحانه أن الجنة وما أعد فيها خير من
النار، ونحن
(هامش)
(1) سورة الفرقان: الآية 24. (2) سورة الفرقان: الآية 11 - 14. (3) سورة الفرقان:
الآية 15. (*)
ص 308
ومصيرا) (1) فذكر سبحانه أن الجنة وما أعد فيها خير من النار، ونحن نعلم أنه لا خير
في النار. وقال تعالى في آية أخرى: (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله
الذين كفروا، وبئس المصير) (2). وقال: (وهو أهون عليه) (3). والمعنى في ذلك هين،
لأن شيئا لا يكون أهون على الله من شيء، فكذلك قولنا: هذا أفضل، يكون المراد به هذا
الفاضل. وليس بعد إيراد هذه الآيات لبس في السؤال يعترض العاقل، وقد قال حسان بن
ثابت في رجل هجا سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من الهامشركين: هجوت
محمدا برا تقيا * وعند الله في ذاك الجزاء أتهجوه ولست له بكفؤ * فشركما لخيركما
فداء (4). وقد علمنا أنه لا شر في النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا خير فيمن
هجاه. وقال غيره من الجاهلية: خالي بنو أنس وخال سراتهم * أوس، فأيهما أدق وألأم
يريد فأيهما الدقيق واللئيم، وليس المعنى فيه أن الدقة واللؤم قد اشتملا عليهما ثم
زاد أحدهما على صاحبه فيهما.
(هامش)
(1) سورة الفرقان: الآية 15. (2) سورة الحج: الآية 72. (3) سورة الروم: الآية 27.
(4) ديوان حسان بن ثابت ص 9، من قصيدة يمدح فيها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
قبل فتح مكة ويهجو أبا سفيان. (*)
ص 309
وعلى هذا المعنى فسر عثمان بن الجني (1) قول المتنبي: أعق خليليه الصفيين لائمه.
وأنهما لم يشتركا في العقوق ثم زاد أحدهما على الآخر صاحبه فيه، مع كونهما خليلين
صفيين، وإنما المراد إن الذي يستحيل منهما عن الصفا، فيصير عاقا لائمه. والشواهد في
ذلك كثيرة، وفيما أوردته منها كفاية في إبطال ما ألزمت، ودلالة على أن الشيعة في
قولها إن أمير المؤمنين - عليه السلام - أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان، لم تناقض لها
مذهبا، ولا خالفت معتقدا، وإن المراد بذلك أنه الفاضل دونهم، والمختص بهذا الوصف
عنهم، فتأمل ذلك تجده صحيحا، والحمد لله. على أن من الشيعة من امتنع من إطلاق هذا
المقال عند تحقيق الكلام، ويقول في الجملة: إنه - عليه السلام - بعد رسول الله -
صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل الناس، فسؤالك ساقط عنه، إذ كان لا يلفظ بما ذكرته
إلا على المجاز. فلما سمع السائل الجواب اعترف بأنه الصواب، ولم يزد حرفا في هذا
الباب، والحمد لله على خيرته من خلقه سيدنا محمد رسوله وآله الطيبين الطاهرين
وسلامه وبركاته (2).
(هامش)
أبو الفتح عثمان بن جني ولد ونشأ في الموصل وسكن وتوفي ببغداد عام (392 ه)، من
أكابر علماء النحو والصرف والأدب وهو من أساتذة الشريفين الرضي والمرتضى، وله
مؤلفات عديدة ومنها شرح ديوان المتنبي (2) كنز الفوائد للكراجكي ج 2 ص 57.
ص 310
المناظرة الرابعة والخمسون مناظرة ابن أبي الحديد المعتزلي (1) مع أبي جعفر يحيى بن
محمد العلوي
قال بن أبي الحديد: سألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة،
وقت قراءتي عليه، عن هذا الكلام، وكان - رحمه الله - على ما يذهب إليه من مذهب
العلوية منصفا وافر العقل، فقلت له: من يعني - عليه السلام - بقوله:
(هامش)
(1) هو: عبد الحميد أبو حامد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد
عز الدين المدائني، أحد جهابذة العلماء، وإثبات المؤرخين، كان فقهيا أصوليا،
ومتكلما جدليا نظارا، وكان مذهبه الاعتزال كما شهد لنفسه في إحدى قصائده في مدح
أمير المؤمنين - عليه السلام -: ورأيت دين الاعتزال وأنني * أهوى لأجلك كل من يتشيع
وعلى أساسه جادل وناظر، وحاج وناقش، وله مع الأشعري والغزالي والرازي كتب ومواقف،
وكان أديبا ناقدا، ثاقب النظر خبيرا بمحاسن الكلام ومساوئه، متضلعا في فنون الأدب،
متقنا لعلوم اللسان، عارفا بأخبار العرب، مطلعا على لغاتها، جامعا لخطبها
ومنافراتها، راويا لأشعارها وأمثالها، قارئا مستوعبا لكل ما حوته الكتب والأسفار في
زمانه، ولد بالمدائن سنة 586 ه، ونشأ بها وتلقى عن شيوخها، ودرس المذاهب الكلامية
فيها، ثم مال إلى مذهب الاعتزال منها، ثم ارتحل إلى بغداد، واختلط بالعلماء من
أصحاب المذاهب، وكان أحد الكتاب والشعراء بالديوان الخليفتي وكان حظيا عند الوزير
ابن العلقمي وكما فوض إليه أمر خزائن الكتب، وله عدة مصنفات منها: شرح نهج البلاغة،
الاعتبار، ديوان شعر، العبقري الحسان، القصائد السبع العلويات، المستنصريات، الوشاح
الذهبي في العلم الأبي، وغيرها، توفي سنة 655 ه، وقيل سنة 656 ه. راجع ترجمته في:
مقدمة شرح نهج البلاغة تحقيق محمد أبو الفضل، وفيات الأعيان ج 5 ص 391 - 392،
البداية والنهاية ج 13 ص 199، سفينة البحار ج 1 ص 233. (*)
ص 311
كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين)؟ (1) ومن القوم الذين عناهم
الأسدي بقوله: (كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به)؟ هل المراد يوم
السقيفة أو يوم الشورى؟ فقال: يوم السقيفة. فقلت: إن نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى
الصحابة عصيان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ودفع النص. فقال: وأنا فلا
تسامحني أيضا نفسي أن أنسب الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى إهمال أمر
الإمامة، وأن يترك الناس فوضى سدى مهملين، وقد كان لا يغيب عن المدينة إلا ويؤمر
عليها أميرا وهو حي ليس بالبعيد عنها، فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك ما
يحدث! ثم قال: ليس يشك أحد من الناس أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان
عاقلا كامل العقل، أما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم، وأما اليهود والنصارى
والفلاسفة فيزعمون أنه حكيم تام الحكمة (2)، سديد الرأي، أقام ملة، وشرع شريعة،
فاستجد ملكا عظيما بعقله وتدبيره، وهذا
(هامش)
(1) نهج البلاغة للإمام علي - عليه السلام - من كلام له برقم: 161، شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد ج 9 ص 241. (2) تنصيب الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لأمير
المؤمنين علي - عليه السلام - في نظر الإمامية وحي من الله تعالى، فإن الرسول - صلى
الله عليه وآله وسلم - كما قال تعالى عنه: (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى)
سورة النجم: الآية 3 و4، وأما هذا الجواب الذي ذكره العلوي فهو جواب لمن لا يعتقد
بعصمته، أو لا يعتقد بنبوته كاليهود والنصارى الذين يرونه حكيما من الحكماء، أو
ملكا من الملوك، فالمناظر هنا يريد أن يثبت في استدلاله أنه حتى لو لم يكن نبيا بل
كان ملكا أو حكيما فإنه لا بد أن ينصب علي بن أبي طالب - عليه السلام - للأمور
المذكورة وغيرها، فإذا تم هذا فمن باب أولى بالنسبة لمن يعتقد بنبوته وعصمته أن
يعتقد بوجوب النص على أمير المؤمنين - عليه السلام -. (*)
ص 312
الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم وطلبهم بالثارات والذحول ولو بعد
الأزمان المتطاولة، ويقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر، فلا يزال أهل ذلك
المقتول وأقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه، حتى يدركوا ثأرهم منه، فإن لم يظفروا به
قتلوا بعض أقاربه وأهله، فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة
به وإن لم يكونوا رهطه الأدنين، والإسلام لم يحل طبائعهم، ولا غير هذه السجية
المركوزة في أخلاقهم، والغرائز بحالها، فكيف يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل وتر
العرب، وعلى الخصوص قريشا، وساعده على سفك الدماء وإزهاق الأنفس وتقلد الضغائن ابن
عمه الأدنى وصهره، وهو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس، ويتركه بعده وعنده ابنته،
وله منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما، ومحبة لهما، ويعدل عنه
في الأمر بعده، ولا ينص عليه ولا يستخلفه، فيحقن دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه! ألا
يعلم هذا العاقل الكامل، أنه إذا تركه وترك بنيه وأهله سوقة ورعية، فقد عرض دماءهم
للإراقة بعده، بل يكون هو - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الذي قتله، وأشاط (1)
بدمائهم، لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم، وإنما يكونون مضغة للأكل، وفريسة
للمفترس، يتخطفهم الناس، وتبلغ فيهم الأغراض! فأما إذا جعل السلطان فيهم، والأمر
إليهم، فإنه يكون قد عصمهم وحقن دماءهم بالرياسة التي يصولون بها، ويرتدع الناس
عنهم لأجلها ومثل هذا معلوم بالتجربة، ألا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو
قتل الناس ووترهم، وأبقي في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه، ثم أهمل
(هامش)
(1) أشاط بدمائهم: أهدرها أو عمل على هلاكها. (*)
ص 313
أمر ولده وذريته من بعده، وفسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم، وواحدا منهم، وجعل
بنيه سوقة كبعض العامة، لكان بنوه بعده قليلا بقاؤهم، سريعا هلاكهم، ولوثب عليهم
الناس ذوو الأحقاد والترات من كل جهة، يقتلونهم ويشردونهم كل هامشرد، ولو أنه عين
ولدا من أولاده للملك، وقام خواصه وخدمه وخوله بأمره بعده، لحقنت دماء أهل بيته،
ولم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك، وأبهة السلطنة، وقوة الرئاسة، وحرمة
الأمارة! أفترى ذهب عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هذا المعنى، أم أحب
أن يستأصل أهله وذريته من بعده! وأين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده، الحبيبة
إلى قلبه! أتقول: إنه أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة، تتكفف الناس، وأن
يجعل عليا، المكرم المعظم عنده، الذي كانت حاله معه معلومة، كأبي هريرة الدوسي،
وأنس ابن مالك الأنصاري، يحكم الأمراء في دمه وعرضه ونفسه وولده، فلا يستطيع
الامتناع، وعلى رأسه مائة ألف سيف مسلول، تتلظى أكباد أصحابها عليه، ويودون أن
يشربوا دمه بأفواههم، ويأكلوا لحمه بأسنانهم، قد قتل أبناءهم وإخوانهم وآباءهم
وأعمامهم، والعهد لم يطل، والقروح لم تتقرف (1)، والجروح لم تندمل (2)!
(هامش)
(1) تقرف الجرح: طلعت فوقه قشرة، أي شارف البرء. (2) وهذا ما حصل بالفعل فإنه بعد
ما غصبوهم الخلافة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أغاروا على
ذريته وعترته وأول ما لحق الأذى بفاطمة الزهراء - عليها السلام - بضعته وروحه التي
بين جنبيه حتى كسروا ضلعها وأسقطوا جنينها بين الحائط والباب وغصبوها نحلتها، حتى
فارقت الدنيا وملوء قلبها الحزن والأسى، ودفنت ليلا لئلا يشهد جنازتها من = (*)
ص 314
فقلت له: لقد أحسنت فيما قلت، إلا أن لفظه - عليه السلام - يدل على أنه لم يكن نص
عليه، ألا تراه يقول: (ونحن الأعلون نسبا، والأشدون بالرسول نوطا)، فجعل الاحتجاج
بالنسب وشدة القرب، فلو
(هامش)
= ظلمها وآذاها، وأعفي قبرها، وأغاروا كذلك على أمير المؤمنين - عليه السلام -
وقادوه للبيعة وفي عنقه الحبل، وقد قال وهو يشير إلى قبر رسول الله - صلى الله عليه
وآله -: (يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) انظر شرح النهج لابن أبي
الحديد ج 11 ص 111. وأصبح جليس داره خمس وعشرين سنة صابرا محتسبا يرى تراثه نهبا
حتى قاسى الدواهي العظام والمحن الجسام ومن ذلك حرب الجمل وصفين والنهروان، كل ذلك
حسدا وبغضا وكراهية له، وما فعله بصناديدهم يوم بدر وحنين، كما صرح بذلك أعداؤه
ومبغضوه، إلى أن مضى قتيلا على يد بن ملجم المرادي، ومن بعده ابنه الحسن - عليه
السلام - غدروا به حتى جرعوه السموم، ومنعوا دفنه عند جده المصطفى - صلى الله عليه
وآله - ثم جرت أعظم الدواهي والمصائب على ذريته فقتلوا سبطه الحسين وأهل بيته -
عليهم السلام - وسبوا نسائه وأولاده من بلد إلى بلد. فراحت ذريته تقاسي ألوان
العذاب والتشريد والقتل من بني أمية وبني العباس وغيرهم. فكل ما جرى على أهل البيت
- عليهم السلام - هو بسبب غصبهم الخلافة وتنحيتهم عنها، ولو كانت الخلافة في يد
أهلها لما جرى عليهم ما جرى ولم يجري على الأمة ما جرى من الفرقة والاختلاف والنزاع
والفتن وليس هذا فحسب بل كل ما ابتليت به الأمة من محن وفقر وبلاء وذل وغير ذلك هو
بسبب تركهم من اختاره الله ونصبه خليفة لرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال
تعالى: (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) الجن: الآية 16، وقال
تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن
كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) الأعراف: الآية 96، ولهذا المعنى يشير سلمان
الفارسي في قوله: ولكن أبيتم فوليتموها - أي الخلافة - غيره فأبشروا بالبلايا
واقنطوا من الرخاء (الاحتجاج ج 1 ص 111) وأشار إلى هذا المعنى أيضا أبو ذر في قوله:
أما لو قدمتم من قدم الله وأخرتم من أخر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت
نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولما عال ولي الله ولا طاش سهم من
فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله إلا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله
وسنة نبيه، فأما إذا فعلتم ما فعلتم فذوقوا وبال أمركم (وسيعلم الذين ظلموا أي
منقلب ينقلبون). راجع: تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 171 عند ذكر ما نقم على أبي ذر. (*)
ص 315
كان عليه نص، لقال عوض ذلك: (وأنا المنصوص علي، المخطوب باسمي). فقال - رحمه الله
-: إنما أتاه من حيث يعلم، لا من حيث يجهل، ألا ترى أنه سأله، فقال: كيف دفعكم
قومكم عن هذا المقام، وأنتم أحق به؟ فهو إنما سأل عن دفعهم عنه، وهم أحق به من جهة
اللحمة والعترة، ولم يكن الأسدي يتصور النص ولا يعتقده، ولا يخطر بباله، لأنه لو
كان هذا في نفسه، لقال له: لم دفعك الناس عن هذا المقام، وقد نص عليك رسول الله -
صلى الله عليه وآله وسلم -؟ ولم يقل له هذا، وإنما قال كلاما عاما لبني هاشم كافة:
كيف دفعكم قومكم عن هذا وأنتم أحق به! أي باعتبار الهاشمية والقربى. فأجابه بجواب
أعاد قبله المعنى الذي تعلق به الأسدي بعينه، تمهيدا للجواب، فقال: إنما فعلوا ذلك
مع أنا أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله - من غيرنا لأنهم استأثروا علينا،
ولو قال له: أنا المنصوص علي، والمخطوب باسمي في حياة رسول الله - صلى الله عليه
وآله - لما كان قد أجابه، لأنه ما سأله هل أنت منصوص عليك أم لا؟ ولا: هل نص رسول
الله - صلى الله عليه وآله - بالخلافة على أحد أم لا؟ وإنما قال: لم دفعكم قومكم عن
الأمر وأنتم أقرب إلى ينبوعه ومعدنه منهم؟ فأجابه جوابا ينطبق على السؤال ويلائمه
أيضا، فلو أخذ يصرح له بالنص، ويعرفه تفاصيل باطن الأمر لنفر عنه، واتهمه ولم يقبل
قوله، ولم ينجذب إلى تصديقه، فكان أولى الأمور في حكم السياسة وتدبير الناس، أن
يجيب بما لا نفرة منه، ولا مطعن عليه فيه (1).
(هامش)
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 9 ص 248 - 251، بحار الأنوار ج 38 ص 163،
سفينة البحار ج 2 ص 308 - 309. (*)
ص 316
المناظرة الخامسة والخمسون مناظرة ابن طاووس (1) مع رجل حنبلي
قال ابن طاووس في
وصاياه لولده: حضرني يا ولدي محمد حفظك الله جل جلاله لصلاح آبائك وأطال في بقائك
نقيبا، وأتى رجلا حنبليا، وقال: هذا صديقنا ويحب أن يكون على مذهبنا فحدثه. فقلت
له: ما تقول إذا حضرت القيامة، وقال لك محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -: لأي حال
تركت كافة علماء الإسلام، واخترت أحمد ابن حنبل إماما من دونهم، هل معك آية من كتاب
بذلك أو خبر عني
(هامش)
(1) هو: رضي الدين أبو القاسم (وأبو الحسن) علي بن السيد سعد الدين بن موسى بن جعفر
بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي عبد الله محمد الطاووس بن إسحاق بن الحسن
بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب -
عليهما السلام - ولد في سنة 589 ه بالحلة ونشأ بها وترعرع، ثم هاجر إلى بغداد
وأقام بها نحوا من خمس عشرة سنة وأسكنه المستنصر العباسي دارا في الجانب الشرقي من
بغداد، ثم رجع إلى الحلة، ثم انتقل إلى النجف ثم كربلاء ثم عاد إلى بغداد. ولي
نقابة الطالبيين وبقي فيها إلى أن توفي سنة 664، نشأ وسط أسرة علمية عريقة، وتتلمذ
على أيدي علماء أعلام منهم: الشيخ ورام والشيخ نجيب الدين محمد بن نما وغيرهم
الكثير، وروى عنه الكثير منهم: الأربلي صاحب كشف الغمة، وسديد الدين والد العلامة
الحلي وغيرهم، ترك ثروة ضخمة من التأليف القيمة منها: أسرار الصلاة، الإقبال،
والتحصين، كشف المحجة، واليقين. انظر ترجمته في: مقدمة اليقين وجمال الأسبوع، أمل
الآمل ج 2 ص 205 ترجمة رقم: 262، معجم رجال الحديث ج 12 ص 188، سفينة البحار ج 2 ص
96. (*)
ص 317
بذلك، فإن كان المسلمون ما كانوا يعرفون الصحيح حتى جاء أحمد ابن حنبل وصار إماما
فعمن روى أحمد بن حنبل عقيدته وعلمه وإن كانوا يعرفون الصحيح وهم أصل عقيدة أحمد بن
حنبل فهلا كان السلف قبله أئمة لك وله. فقال: هذا لا جواب لي عنه لمحمد - صلى الله
عليه وآله وسلم -. فقلت له: إذا كان لا بد لك من عالم من الأمة تقلده فالزم أهل بيت
نبيك - عليهم السلام - فإن أهل كل أحد أعرف بعقيدته وأسراره من الأجانب فتاب ورجع.
وقلت لبعض الحنابلة: أيما أفضل آباؤك وسلفك الذين كانوا قبل أحمد بن حنبل إلى عهد
النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، أو آباؤك وسلفك الذين كانوا بعد أحمد بن حنبل
فإنه لا بد أن يقول إن سلفه المتقدمين على أحمد بن حنبل أفضل لأجل قربهم إلى الصدر
الأول ومن عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. فقلت: إذا كان سلفك الذين كانوا
قبل أحمد بن حنبل أفضل فلأي حال عدلت عن عقائدهم وعوائدهم إلى سلفك المتأخرين عن
أحمد بن حنبل وما كان الأوائل حنابلة لأن أحمد بن حنبل ما كان قد ولد ولا كان
مذكورا عندهم فلزمته الحجة وانكشفت له المحجة والحمد لله رب العالمين (1).
(هامش)
(1) كشف المحجة لابن طاووس: ص 81. (*)
ص 318
المناظرة السادسة والخمسون. مناظرة ابن طاووس مع رجل من الزيدية وآخر من أهل العلم.
قال ابن طاووس في وصاياه لولده: وحضر عندي - يا ولدي محمد رعاك الله جل جلاله
بعنايته الإلهية - بعض الزيدية وقد قال: لي إن جماعة من الإمامية يريدون مني الرجوع
عن مذهبي بغير حجة وأريد أن تكشف لي عن حقيقة الأمر بما يثبت في عقلي. قلت له: أول
ما أقول أنني علوي حسني وحالي معلوم ولو وجدت طريقا إلى ثبوت عقيدة الزيدية كان ذلك
نفعا ورئاسة لي دينية ودنيوية، وأنا أكشف لك بوجه لطيف عن ضعف مذهبك بعض التكشف. هل
يقبل عقل عاقل فاضل أن سلطان العالمين ينفذ رسولا أفضل من الأولين والآخرين إلى
الخلائق في الهامشارق والمغارب ويصدقه بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة ثم يعكس
هذا الاهتمام الهائل والتدبير الكامل ويجعل عيار اعتماد الإسلام والمسلمين على ظن
ضعيف يمكن ظهور فساده وبطلانه للعارفين. فقال: كيف هذا؟ فقلت: لأنكم إذا بنيتم أمر
الإمامة أنتم ومن وافقكم أو وافقتموه على الاختيار من الأمة للإمام على ظاهر عدالته
وشجاعته وأمانته وسيرته وليس معكم في الاختيار له إلا غلبة الظن الذي يمكن أن يظهر
خلافه لكل.
ص 319
من عمل عليه كما جرى للملائكة وهم أفضل اختيارا من بني آدم لما عارضوا الله جل
جلاله في أنه جعل آدم خليفة وقالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن
نسبح بحمدك ونقدس لك) (1)، فلما كشف لهم حال آدم - عليه السلام - رجعوا عن اختيارهم
لعزل آدم، وقالوا: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) (2)، وكما جرى لآدم الأكل من
الشجرة، وكما جرى لموسى في اختياره سبعين رجلا من خيار قومه للميقات، ثم قال عنهم
بعد ذلك: (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) (3)، حيث قالوا: (أرنا الله جهرة) (4).
وكما جرى ليعقوب - عليه السلام - في اختياره أولاده لحفظ ولده يوسف، وغيره من
اختيار الأنبياء والأوصياء والأولياء وظهر لهم بعد ذلك الاختيار ضعف تلك الآراء،
فإذا كان هؤلاء المعصومون قد دخل عليهم في اختيارهم ما قد شهد به القرآن والإجماع
من المسلمين فكيف يكون اختيار غيرهم ممن يعرف من نفسه أنه ما مارس أبدا خلافة ولا
أمارة ولا رياسة حتى يعرف شروطها وتفصيل مباشرتها فيستصلح لها من يقوم لها وما معه
إلا ظن ضعيف بصلاح ظاهر من يختاره. وهل يقبل عقل عاقل وفضل فاضل أن قوما ما يعرفون
مباشرة ولا مكاشفة تفصيل ما يحتاج إليه من يختارونه فيكون اختيارهم لأمر لا يعرفونه
حجة على من حضر وعلى من لم يحضر، أما هذا من الغلط
(هامش)
(1) سورة البقرة: الآية 30. (2) سورة البقرة: الآية 32. (3) سورة الأعراف: الآية
150. (4) سورة النساء: الآية 153. (*)
ص 320
المستنكر؟ ومن أين للذين يختارون إمامهم معرفة بتدبير الجيوش والعساكر وتدبير
البلاد وعمارة الأرضين والإصلاح لاختلاف إرادات العالمين حتى يختاروا واحدا يقوم
بما يجهلونه، إنا لله وإنا إليه راجعون ممن قلدهم في ذلك أو يقلدونه. ومما يقال
لهم: إن هؤلاء الذين يختارون الإمام للمسلمين من الذي يختارهم لهم لتعيين الإمام
ومن أي المذاهب يكونون فإن مذاهب الذين يذهبون إلى اختيار الإمام مختلفة، وكم يكون
مقدار ما بلغوا إليه من العلوم حتى يختاروا عندها الإمام وكم يكون عددهم وهل يكونون
من بلد واحد أو من بلاد متفرقة، وهل يحتاجون قبل اختيارهم للإمام أن يسافروا إلى
البلاد يستعلمون من فيها ممن يصلح للإمامة أو لا يصلح أو هل يحتاجون أن يراسلوا من
بعد عنهم من البلاد ويعرفونهم أنهم يريدون اختيار الإمام للمسلمين فإن كان في بلد
غير بلدهم من يصلح أو يرجح ممن هو في بلادهم يعرفونهم أم يختارون من غير كشف لما في
البلاد ومن غير مراسلة لعلماء بلاد الإسلام فإن كان سؤال من هذه السؤالات يتعذر
قيام الحجة على صحته وعلى لزومه لله جل جلاله ولزومه لرسوله - صلى الله عليه وآله
وسلم - ولزومه لمن لا يكون مختارا لمن يختارونه من علماء الإسلام أفلا ترى تعذر ما
ادعوه من اختيار الإمام؟! ولقد سمع مني بعض هذا الكلام شخص من أهل العلم من علم
الكلام. فقال: إن الناس ما زالوا يعملون في مصالحهم على الظنون. فقلت له: هب أنهم
يعملون في مصالحهم في نفوسهم بظنونهم