ص 31
طالب بالكلام فقال: الحمد لرب هذا البيت الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل
وأنزلنا حرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، ثم إن
ابن أخي هذا يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ممن لا يوزن برجل من قريش
إلا رجح به ولا يقاس به رجل إلا عظم عنه ولا عدل له في الخلق وإن كام مقلا في المال
فإن المال رفد جار وظل زائل وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة وقد جئناك لنخطبها
إليك برضاها وأمرها، والمهر علي في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله، وله ورب هذا
البيت حظ عظيم ودين شائع ورأي كامل. ثم سكت أبو طالب فتكلم عمها وتلجلج وقصر عن
جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر، وكان رجلا من القسيسين. فقالت خديجة مبتدئة: يا
عماه إنك وإن كنت أولى بنفسي مني في الشهود فلست أولى بي من نفسي، قد زوجتك يا محمد
(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسي والمهر علي في مالي فأمر عمك فلينحر ناقة فليولم
بها، وأدخل على أهلك. قال أبو طالب: اشهدوا عليها بقبولها محمدا (صلى الله عليه
وآله وسلم) وضمانها المهر في مالها. فقال بعض قريش: يا عجباه المهر على النساء
للرجال! فغضب أبو طالب غضبا شديدا وقام على قدميه وكان ممن يهابه الرجال ويكره
غضبه.
ص 32
فقال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر وإذا كانوا
أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي. ونحر أبو طالب ناقة ودخل رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) بأهله. فقال رجل من قريش يقال له عبد الله بن غنم:
هنيئا مريئا يا خديجة قد جرت * لك الطير فيما كان منك بأسعد
تزوجت خير البرية كلها * ومن ذا الذي
في الناس مثل محمد
وبشر به البران عيسى بن مريم * وموسى بن عمران فيا قرب موعد
أقرت
به الكتاب قدما بأنه * رسول من البطحاء هاد ومهتد (1)
وذكر شطره الحر العاملي (2)
وكذا ابن أبي جمهور الأحسائي (3) وذكر الخطبة أيضا الإمام شمس الدين بن معد الموسوي
(4)، وابن خلدون (5)،
(هامش)
(1) فروع الكافي 5 / 374، دار الأضواء - بيروت. (2) وسائل الشيعة 14 / 197، دار
إحياء التراث العربي - بيروت. (3) عوالي اللئالي 3 / 298. (4) الحجة على الذاهب إلى
تكفير أبي طالب ص 185، سيد الشهداء - قم. (5) تاريخ ابن خلدون ج 3 قسم الأول ص 712،
دار الكتاب اللبناني. (*)
ص 33
وذكرها الفقيه علي بن يوسف الحلي (1) وذكر الخبر كاملا الفقيه العلامة ابن فهد
الحلي (قدس سره) (2).
أقول:
المستفاد من هذ الرواية أن المزوج لها عمها ورقة بن
نوفل بخلاف الروايات المتقدمة والآتية أن والدها هو المزوج لها ولا منافاة بينهما
لاحتمال وقوع العقد مرتين ويكون وكيلا من أبيها (عليها السلام) كما صرح في الخبر.
ويؤيد وقوعه مرتين ما ذكره الفقيه أسد الله الدزفولي: وتكلم أبو طالب وقال أحببت أن
يشركك عمها فقال عمها اشهدوا علي يا معاشر قريش إني قد أنكحت محمد بن عبد الله
خديجة بنت خويلد (3) وبالجملة لا تنافي بين الإثباتين كما ذكر في محله من الأصول.
وبعبارة أجلى ليس في الأخبار أنه في وقت وزمان واحد وقع هذا العقد حتى لا يعقل في
آن واحد وقوعه مرتين فتحصل المنافاة بين الأخبار فلاحظ. وفي البحار: قال أبو الحسن
البكري في كتاب الأنوار: مر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما بمنزل خديجة بنت
خويلد وهي جالسة في ملأ من نسائها وجواريها وخدمها وكان عندها حبر من أحبار اليهود،
فلما مر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نظر إليه ذلك الحبر وقال: يا خديجة أعلمي
أنه قد مر الآن ببابك شاب حدث السن فأمري من يأتي به، فأرسلت إليه جارية من
جواريها. وقالت: يا سيدي، مولاتي تطلبك. فأقبل ودخل منزل خديجة. فقالت: أيها الحبر
هذا الذي أشرت إليه؟
(هامش)
(1) العدد القوية لدفع المخاوف اليومية ص 144، المرعشي - قم. (2) المهذب البارع 3 /
176، جماعة المدرسين. (3) مقابس الأنوار: ص 269 حجري ط آل البيت، قم. (*)
ص 34
قال: نعم هذا محمد بن عبد الله. قال له الحبر: اكشف لي عن بطنك. فكشف له. فلما رآه
قال: هذا والله خاتم النبوة. فقالت له خديجة: لو رآك عمه وأنت تفتشه لحلت عليك منه
نازلة البلاء وإن أعمامه ليحذرون عليه من أحبار اليهود. فقال الحبر: ومن يقدر على
محمد هذا بسوء. هذا وحق الكليم رسول الملك العظيم في آخر الزمان فطوبى لمن يكون له
بعلا وتكون له زوجة وأهلا فقد حازت شرف الدنيا والآخرة. فتعجبت خديجة وانصرف محمد
(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد اشتغل قلب خديجة بنت خويلد بحبه، (وكانت خديجة ملكة
عظيمة) وكان لها من الأموال والمواشي شيء لا يحصى. فقالت: أيها الحبر بم عرفت محمدا
أنه نبي؟ قال: وجدت صفاته في التوراة أنه المبعوث آخر الزمان يموت أبوه وأمه ويكفله
جده وعمه وسوف يتزوج بامرأة من قريش (سيدة قومها وأميرة عشيرتها)، وأشار بيده إلى
خديجة ثم بعد ذلك. قال لها: احفظي ما أقول لك يا خديجة، وأنشأ يقول: يا خديجة لا
تنسي الآن قولي * وخذي منه غاية المحصول
ص 35
يا خديجة هذا النبي بلا شك * هكذا قد قرأت في الإنجيل سوف يأتي من الإله بوحي * ثم
يجبى من الإله بالتنزيل ويزوجه بالفخار ويحظى * في الورى شامخا على كل جبل فلما
سمعت خديجة ا نطق به الحبر تعلق قلبها بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتمت أمرا
ه. فلما خرج من عندها قال: اجتهدي أن لا يفوتك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو
الشرف في الدنيا والآخرة. وكان لخديجة عم يقال له ورقة وكان قد قرأ الكتب كلها وكان
عالما حبرا، وكان يعرف صفات النبي الخارج في آخر الزمان، وكان عند ورقة أنه يتزوج
بامرأة سيدة من قريش تسود قومها وتنفق عليه مالها وتمكنه من نفسها وتساعده على
كل الأمور. فعلم ورقة أنه ليس بمكة أكثر مالا من خديجة فرجا ورقة أن تكون ابنة أخيه
خديجة. وكان يقول لها: يا خديجة سوف تتصلين برجل يكون أشرف أهل الأرض والسماء. وكان
لخديجة في كل ناحية عبيد ومواشي حتى قيل أن لها أزيد من ثمانين ألف جمل متفرقة في
كل مكان، وكان لها في كل ناحية تجارة وفي كل بلد مال مثل مصر والحبشة وغيرها، وكان
أبو طالب (رضي الله عنه) قد كبر وضعف عن كثرة السفر وترك ذلك من حيث كفل النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)، فدخل عليه
ص 36
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم فوجده مهموما. فقال: ما لي أراك يا عم
مهموما؟ فقال: يا بن أخي أعلم أنه لا مال لنا وقد اشتد الزمان علينا وليس لنا مادة
وأنا قد كبرت وضعف جسمي وقل ما بيدي وأريد أن أنزل إلى ضريحي وأريد أن أرى لك زوجة
تسر قلبي يا ولدي لتسكن إليها ومعيشة يرجع نفعها إليك. فقال له النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم): ما عندك يا عم من الرأي. قال: أعلم يا بن أخي أن هذه خديجة بنت
خويلد قد انتفع بمالها أكثر الناس وهي تعطي مالها سائر من يسألها التجارة ويسافرون
به، فهل لك يا بن أخي أن تمضي معي إليها ونسألها أن تعطيك مالا تتجر فيه. فقال نعم،
قم إليها وافعل ما بدا لك. قال أبو الحسن البكري: لما اجتمع بنو عبد المطلب قال أبو
طالب لإخوته: إمضوا بنا إلى دار خديجة بنت خويلد حتى نسألها أن تعطي محمدا (صلى
الله عليه وآله وسلم) مالا يتجر به، فقاموا من وقتهم وساعتهم وساروا إلى دار خديجة
وكان لخديجة دار واسعة تسع أهل مكة جميعا، وقد جعلت أعلاها قبة من الحرير الأزرق
وقد رقمت في جوانبها صفة الشمس والقمر والنجوم وقد ربطته من حبال الإبريسم وأوتاد
من الفولاذ، وكانت قد تزوجت برجلين أحدهما اسمه أبو شهاب وهو عمرو الكندي والثاني
اسمه عتيق بن عائذ، فلما ماتا خطبها عقبة بن أبي معيط والصلت بن أبي يهاب فكان لكل
واحد
ص 37
منهما أربعمائة عبد وأمة، وخطبها أبو جهل بن هشام وأبو سفيان، وخديجة لا ترغب في
واحد منهم. وكان قد تولع قلبها بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما سمعت من
الأحبار والرهبان والكهان وما يذكرونه من الدلالات وما رأت قريش من الآيات. فكانت
تقول: عدت من تكون لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قرينة فإنه يزين صاحبه. وازداد
بها الوجد ولج بها الشوق فبعثت إلى عمها ورقة ابن نوفل فقالت له: يا عم أريد أن
أتزوج وما أدري بمن يكون وقد أكثر علي الناس وقلبي لا يقبل منهم أحدا. فقال لها
ورقة: يا خديجة ألا أعلمك بحديث غريب وأمر عجيب؟ قالت: وما هو يا عم؟ قال: عندي
كتاب من عهد عيسى (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه طلاسم وعزائم أعزم بها على ماء
وتأخذينه وتغسلين به ثم أكتب كتابا فيه كلمات من الزبور وكلمات من الإنجيل فتضعيه
تحت رأسك عند النوم وأنت على فراشك ملتفة بثيابك فإن الذي يكون زوجك يأتيك في منامك
حتى تعرفيه باسمه وكنيته. فقالت: أفعل يا عم. قال: حبا وكرامة، وكتب الكتاب وأعطاها
إياها، وفعلت ما أمرت به ونامت، فرأت كأن قد جاء إليها رجل لا بالطويل الشاهق ولا
بالقصير اللاذق، أدعج العينين، أزج الحاجبين، أحور المقلتين، عقيقي الشفتين، مورد
الخدين، أزهر اللون، مليح الكون، معتدل القامة، تظله الغمامة، بين كتفيه
ص 38
علامة، راكب على فرس من نور، مزمم بسلسلة من ذهب، على ظهره سرج من العيقان مرصع
بالدر والجوهر، له وجه كوجه الآدميين، منشق الذنب، له أرجل كالبقر، خطوته مد البصر،
وهو يرقل بالراكب، وكان خروجه من دار أبي طالب، فلما رأته خديجة ضمته إلى صدرها
وأجلسته في حجرها ولم تنم باقي ليلتها إلى أن أقبلت إلى عمها ورقة وقالت: أنعمت
صباحا يا عم. قال: وأنت لقيت نجاحا، فلعلك رأيت شيئا في منامك. قالت: رأيت رجلا
صفته كذا وكذا! فعندها قال ورقة: يا خديجة إن صدقت رؤياك تسعدين وترشدين فإن الذي
رأيته متوج بتاج الكرامة الشفيع في العصاة يوم القيامة سيد العرب والعجم محمد بن
عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قالت: وكيف لي بما تقول يا عم وأنا كما يقول
الشاعر:
أسير إليكم قاصدا لأزوركم * وقد قصرت بي عند ذاك رواحلي
وملك الأماني خدعة
غير أنني * أعلل حد الحادثات بباطل
أحمل برق الشرق شوقا إليكم * وأسأل ريح الغرب رد
سائلي
قال: فزاد بها الوجد وكانت إذا خلت بنفسها فاضت عبرتها أسفا
ص 39
وجرت دمعتها لهفا وهي تقول: كم اشتد الوجد والأجفان تهتكه * وأطلق الشوق والأعضاء
تمسكه
جفاني القلب لما أن تملكه * غيري فوا أسفا لو كنت أملكه
ماضر من لم يدع مني
سوى رمقي * لو كان يمسح بالباقي فيتركه
قال الراوي: وأعجب ما رأيت في هذا الأمر
العجيب والحديث الغريب أن خديجة لم تفرغ من شعرها إلا وقد طرق الباب، فقالت
لجاريتها: انزلي وانظري من بالباب لعل هذا خبر من الأحباب، ثم أنشأت تقول:
أيا ريح
الجنوب لعل علم * من الأحباب يطفئ بعض حري
ولم لا حملوك إلي منهم * سلاما أشتريه
ولو بعمري
وحق ودادهم إني كتوم * وإني لا أبوح لهم بسري
أراني الله وصلهم قريبا *
وكم يسر أتى من بعد عسر
فيوم من فراقكم كشهر * وشهر من وصالكم كدهر
قال: ثم نزلت
الجارية وإذا أولاد عبد المطلب بالباب، فرجعت إلى خديجة وقالت: يا سيدتي إن بالباب
سادات العرب ذوي المعالي والرتب أولاد عبد المطلب فرمقت خديجة رمق الهوى ونزل بها
دهش الجوى وقالت: افتحي لهم الباب وأخبري ميسرة يعتد لهم المساند والوسائل وإني
ص 40
لأرجو أن يكونوا قد أتوني بحبيبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قالت شعرا:
ألذ
حياتي وصلكم ولقاكم * ولست ألذ العيش حتى أراكم
وما استحسنت عيني من الناس غيركم *
ولا لذ في قلبي حبيب سواكم
على الرأس والعينين جملة سعيكم * ومن ذا الذي في فعلكم
قد عصاكم
وما غيركم في الحب يسكن مهجتي * وإن شئتم تفتيش قلبي فهاكم
فها أنا محسوب
عليكم بأجمعي * وروحي ومالي يا حبيبي فداكم
قال صاحب الحديث: وبسط لهم ميسرة المجلس
بأنواع الفرش فما استقر بهم الجلوس إلا وقدم لهم أصناف الطعام والفواكه من الطائف
والشام فأكلوا وأخذوا في الحديث. فقالت لهم خديجة من وراء الحجاب بصوت عذب وكلام
رطب: يا سادات مكة أضائت بكم الديار وأشرقت بكم الأنوار فلعل لكم حاجة فتقضى أو
ملمة فتمضى فإن حوائجكم مقضية، وقناديلكم مضيئة. فقال أبو طالب (رضي الله عنه):
جئناك في حاجة يعود نفعها إليك وبركتها عليك. قالت: يا سيدي وما ذلك.
ص 41
قال: جئناك في أمر ابن أخي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). فلما سمعت ذلك غاب
رشدها عن الوجود وأيقنت بحصول المقصود وقالت شعرا: بذكركم يطفئ الفؤاد من الوقد *
ورؤيتكم فيها شفا أعين الرمد
ومن قال إني أشتفي من هواكم * فقد كذبوا لو مت فيه من
الوجد
وما لي لا أملأ سرورا بقربكم * وقد كنت مشتاقا إليكم على البعد
تشابه سري في
هواكم وخاطري * فأبدي الذي أخفى وأخفي الذي أبدي
ثم قالت بعد ذلك: يا سيدي أين محمد
(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نسمع ما يقول. قال العباس (رضي الله عنه): أنا آتيكم
به فنهض وسار يطلبه من الأبطح فلم يجده فالتفت يمينا وشمالا فقالوا: ما تريد. فقال:
أريد ابن أخي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). فقالوا له: في جبل حرى. فسار إليه
فإذا هو فيه نائما في مرقد إبراهيم الخليل (عليه السلام) ملتفا ببرده وعند رأسه
ثعبان عظيم في فمه طاقة ريحان يروحه بها، فلما نظر إليه العباس.
ص 42
قال: خفت عليه من الثعبان فجذبت سيفي وهممت بالثعبان فحمل الثعبان على العباس، فلما
رأى العباس ذلك صاح من وقته: أدركني يا بن أخي، ففتح النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) عينيه فذهب الثعبان كأنه لم يكن. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما
لي أرى سيفك مسلولا. قال: رأيت هذا الثعبان عندك فسللت سيفي وقصدته خوفا عليك منه،
فعرفت في نفسي الغلبة فصحت بك فلما فتحت عينك ذهب كأنه لم يكن. فتبسم النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) وقال: يا عم ليس هذا بثعبان ولكنه ملك من الملائكة ولقد رأيته
مرارا وخاطبته جهارا. وقال لي: يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، إني ملك من عند
ربي موكل بحراستك في الليل والنهار من كيد الأعداء والأشرار. قال: ما ينكر فضلك يا
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال له: سر معي إلى دار خديجة بنت خويلد تكون
أمينا على أموالها تسير بها حيث شئت. قال: أريد الشام. قال: ذلك إليك. فسار النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) والعباس إلى يت خديجة وكان من عادته (صلى الله عليه وآله
وسلم) إذا أراد زيارة قوم سبقه النور إلى بيتهم، فسبقه النور إلى بيت خديجة، فقالت
لعبدها ميسرة: كيف غفلت عن الخيمة حتى عبرت الشمس إلى المجلس.
ص 43
قال: لست بغافل عنها، وخرج فلم يجد تغير وتد ولا طنب ونظر إلى العباس فوجده قد أقبل
هو والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معه، فرجع وقال لها: يا مولاتي هذا الذي رأيته
من أنوار محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). فجاءت خديجة لتنظر إلى محمد (صلى الله
عليه وآله وسلم)، فلما دخل المجلس نهض أعمامه إجلالا له وأجلسوه في أوساطهم، فلما
استقر بهم الجلوس قدمت لهم خديجة الطعام فأكلوا، ثم قالت خديجة: يا سيدي آنست بك
الديار وأضاءت بك الأقدار وأشرقت من طلعتك الأنوار، أترضى أن تكون أمينا على أموالي
تسير بها حيث شئت. قال: نعم رضيت. ثم قال: أريد الشام. قالت: ذلك إليك، وإني قد
جعلت لمن يسير على أموالي مائة وقية من الذهب الأحمر ومائة وقية من الفضة البيضاء
وجملين وراحلتين، فهل أنت راض؟ فقال أبو طالب (رضي الله عنه): رضى ورضينا وأنت يا
خديجة محتاجة إليه لأنه من حيث خلق ما وقف له العرب على صبوة وإنه مكين أمين. قالت
خديجة: تحسن يا سيدي تشد على الجمل وترفع عليه الأحمال؟ قال: نعم. قالت: يا ميسرة
آتني ببعير حتى أنظر كيف يشد عليه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). فخرج ميسرة وأتى
ببعير شديد المراس قوي الباس لم يجسر أحد من
ص 44
الرعاة أن يخرجه من بين الإبل لشدة بأسه، فأدناه ليركبه فهدر وشقشق واحمرت عيناه.
فقال له العباس: ما كان عندك أهون من هذا البعير؟ تريد أن تمتحن به ابن أخينا؟ فعند
ذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): دعه يا عم. فلما سمع البعير كلام البشير
النذير برك على قدمي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعل يمرغ وجهه على قدمي
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونطق بكلام فصيح. وقال: من مثلي وقد لمس ظهري سيد
المرسلين؟ فقلن النسوة اللاتي كن عند خديجة: ما هذا إلا سحر عظيم قد أحكمه هذا
اليتيم. قالت لهم خديجة: ليس هذا ساحرا وإنما هو آيات بينات وكرامات ظاهرات، ثم
قالت:
نطق البعير بفضل أحمد مخبرا * هذا الذي شرفت به أم القرى
هذا محمد (صلى الله
عليه وآله وسلم) خير مبعوث أتى * فهو الشفيع وخير من وطأ الثرى
يا حاسديه تمزقوا من
غيظكم * فهو الحبيب ولا سواه في الورى
قال: وخرج أولا عبد المطلب وأخذوا في أهبة
السفر، فالتفتت خديجة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت: يا سيدي ما معك
غير هذه الثياب فليست هذه تصلح للسفر؟ فقال: لست أملك غيرها.
ص 45
فبكت خديجة وقالت: عندي يا سيدي ما يصلح للسفر غير أنهن طوال فأمهل حتى أقصرها ك.
فقل ا: هلمي بها. وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا لبس القصير يطول وإذا لبس
الطويل يقصر كأنه مفصل عليه، فأخرجت له ثوبين من قباطي مصر وجبة عدنية وبردة يمنية
وعمامة عراقية وخفين من الأديم وقضيب خيزران، فلبس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
الثياب وخرج كأنه البدر في تمامه، فلما نظرت إليه جعلت تقول:
أوتيت من شرف الجمال
فنونا * ولقد فتنت بها القلوب فتونا
قد كونت للحسن فيك جواهر * فيها دعيت الجوهر المكنونا
يا من أعار الظبي في لفتاته * للحسن جيدا ساميا وجفونا
أنظر إلى جسمي
النحيل وكيف قد * أجريت من دمع العيون عيونا
أسهرت عيني في هواك صبابة * وملئت قلبي
لوعة وجنونا
ثم قالت: يا سيدي عندك ما تركب عليه؟ قال: إذا تعبت ركبت أي بعير أردت.
قالت: وما يحملني عن ذلك؟ لا كانت الأموال دونك يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم قالت لعبدها ميسرة: آتني بناقتي الصهباء حتى يركبها سيدي محمد (صلى الله عليه
وآله وسلم)، فأتى بها ميسرة وهي تزيد على الأوصاف لا يلحقها في سيرها تعب ولا
يصيبها نصب كأنها خيمة مضروبة أو قبة منصوبة، ثم التفتت إلى
ص 46
ميسرة وناصح وقالت لهما: أعلما أنني قد أرسلت إليكما أمينا على أموالي وإنه أمير
قريش وسيدها فلا يد على يده فإن باع لا يمنع وإن ترك لا يؤمر وليكن كلامكما له بلطف
وأدب ولا يعلو كلامكما على كلامه. قال عبدها ميسرة: والله يا سيدتي إن لمحمد (صلى
الله عليه وآله وسلم) عندي محبة عظيمة قديمة والآن قد تضاعفت لمحبتك له، ثم إن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودع خديجة وركب راحلته وخرج ميسرة وناصح بين يديه
وعين الله ناظرة إليه، فعندها قالت خديجة شعرا: قلب المحب إلى الأحباب مجذوب *
وجسمه بيد الأسقام منهوب وقائل كيف طعم الحب قلت له * الحب عذب ولكن فيه تعذيب أقذى
(1) الذين على خدي لبعدهم * دمي ودمعي مسفوح ومسكوب ما في الخيام وقد سارت ركابهم *
إلا محب له في القلب محبوب كأنما يوسف في كل ناحية * والحز في كل بيت فيه يعقوب ثم
إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سار مجدا إلى الأبطح فوجد القوم مجتمعين وهم
لقدومه منتظرون، فلما نظروا إلى جمال سيد المرسلين وقد فاق الخلق أجمعين فرح المحب
واغتم الحاسد وظهر الحسد والكمد فيمن سبقت له الشقاوة من المكذبين، وزادت عقيدة من
سبقت له السعادة من المؤمنين. فلما نظر العباس إليهم أنشأ يقول:
(هامش)
(1) أفدي خ ل. (*)
ص 47
يا مخجل الشمس والبدر المنير إذا * تبسم الثغر لمع البرق منه أضا كم معجزات رأينا
منك قد ظهرت * يا سيدا ذكره يشفي به المرضى فلما نظر النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) إلى أموال خديجة على الأرض ولم يحمل منها شيء زعق على العبيد وقال: ما الذي
منعكم عن شد رحالكم؟ قالوا: يا سيدنا لقلة عددنا وكثرة أموالنا، فأبرك راحلته ونزل
ولوى ذيله في دور منطقته وصار يزعق بالبعير فيقول بإذن الله تعالى. فتعجب الناس من
فعله. فنظر العباس إلى لنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد احمرت وجناته من العرق.
فقل ا: كيف أخلي الشمس تقرح هذا الوجه الكريم؟ فعمد إلى خشبة وقال: لأتخذن منها
جحفة تظل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) من حر الشمس، فارتجت الأقطار وتجلى الملك
الجبار وأمر الأمين جبرئيل (عليه السلام) أن يهبط إلى رضوان خازن الجنان وقل له:
يخرج لك الغمامة التي خلقتها لحبيبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن أخلق
آدم بألفي عام وانشرها على رأس حبيبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما رأوها
شخصت نحوها الأبصار وقال العباس: إن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) لكريم على ربه
ولقد استغنى عن جحفتي، ثم أنشأ يقول: وقف الهوى بي حيث كنت فليس لي * متقدم منكم
ولا متأخر
ص 48
ثم سار القوم حتى نزلوا بجحفة الوداع وحطوا رحالهم حتى يلحق بهم المتأخرون. فقال
مطعم بن عدي: يا قوم إنكم سائرون إلى أرض كثيرة المهامة والأوعار وليس لكم مقدم
تستشيرون به وترجعون إلى أمره والرأي عندي أنكم تقدمون عليكم رجلا لتستندوا إلى
رأيه وترجعوا إلى أمره عن المنازع والمخالف. قالوا: نعم ما أشرت به. فقال بنو
مخزوم: نحن نقدم علينا أخانا عمرو بن هشام المخزومي. وقال بنو عدي: نحن نقدم علينا
أميرنا مطعم بن عدي. وقال بنو النضير: نحن نقدم علينا أميرنا النضر بن حارث. وقال
بنو زهرة: نحن نقدم علينا أميرنا أحيمة بن الجلاح. وقال بنو لوي: نحن نقدم علينا
أبا سفيان صخر بن حرب. وقال ميسرة: والله ما نقدم علينا إلا سيدنا محمد بن عبد الله
(صلى الله عليه وآله وسلم). وقال بنو هاشم أيضا: نقدم علينا محمدا (صلى الله عليه
وآله وسلم). فقال أبو جهل: لأن قدمتم علينا محمدا لأضعن هذا السيف في بطني وأخرجه
من ظهري. فقبض حمزة على سيفه. وقال: يا وغد الرجال ويا نذل الأفعال والله ما أريد
إلا أن يقطع الله يديك ورجليك ويعمى عينيك.
ص 49
فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أغمد سيفك يا عماه ولا تستفتحوا سفركم
بالشر، دعوهم يسيرون أول النهار ونحن نسير آخره فإن التقدم لقريش، وكان (صلى الله
عليه وآله وسلم) أول من تكلم بهذه الكلمة، وسار أبو جهل ومن يلوذ به وقد استغنم من
بني هاشم الفرصة، وهو ينشد ويقول:
لقد ضلت حلوم بني قصي * وقد زعموا بتسييد اليتيم
وراموا للخلافة غير كفو * فكيف يكون ذا الأمر العظيم
وإني فيهم ليث حمي * بمصقول
ولي جد كريم
فلو قصدوا عبيدة أو ظليما * وصخر الحرب ذا الشرف القديم
لكنا راضين لهم
وكنا * لهم تبعا على خلف ذميم
فأجابه العباس يقول:
ألا أيها الوغد الذي رام ثلبنا *
أتثلب قرنا في لرجال كريم
أتثلب يا ويك الكريم أخا التقى * حبيب لرب العالمين عظيم
ولولا رجال قد عرفنا محلهم * وهم عندنا في مجدب ومقيم
لدارت سيوف يفلق الهام حدها *
بأيدي رجال كالليوث تقيم
ص 50
حماة كماة الأسود ضراغم * إذا برزوا ردوا لكل زعيم
ثم إن القوم ساروا إلى أن بعدوا
عن مكة فنزلوا بواد يقال له واد الأمواه لأنه مجتمع السيول وأنهار الشام ومنه تنبع
عيون الحجاز فنزل به القوم وحطوا رحالهم وإذا بالسحاب قد اجتمع. فقال النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم): ما أخوفني على أهل هذا الوادي أن يدهمهم السيل فيذهب بجميع
أموالهم والرأي عندي أن نستند إلى هذا الجبل. قال العباس: نعم ما رأيت يا بن أخي،
فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينادي في القافلة أن ينقلوا رحالهم إلى
نحو الجبل مخافة السيل، ففعلوا إلا رجلا من بني جمح يقال له مصعب وكان له مال كثير
فأبى أن يتغير من مكانه. وقال: يا قوم ما أضعف قلوبكم، تنهزمون عن شيء لم تروه ولم
تعاينوه، فما استتم كلامه إلا وقد ترادفت السحاب والبرق ونزل السيل وامتلأ الوادي
من الحافة إلى الحافة وأصبح الجمحي وأمواله كأنه لم يكن. وأقام القوم في ذلك المكان
أربعة أيام والسيل يزداد، فقال ميسرة: يا سيدي هذه السيول لا تنقطع إلى شهر ولا
تقطعه السفار (1) وإن أقمنا هاهنا أضر بنا المقام ويفرغ الزاد والرأي عندي أن نرجع
إلى مكة. فلم يجبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ذلك ثم نام فرأى في منامه
ملكا يقول له: يا
(هامش)
(1) السفن خ ل. (*)
ص 51
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تحزن إذا كان غداة مر قومك بالرحيل وقف على شفير
الوادي فإذا رأيت الطير الأبيض قد خط بجناحه فأتبع الخط وأنت تقول بسم الله وبالله،
وأمر قومك أن يقولوا هذه الكلمة فمن قالها سلم ومن حاد عنها غرق، فاستيقظ النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو فرح مسرور، ثم أمر ميسرة أن ينادي في الناس بالرحيل،
فرحلوا وشد ميسرة رحاله، فقال الناس: يا ميسرة وكيف نسير وهذا الماء لا تقطعه إلا
السفن؟ فقال: أما أنا فإن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرني وأنا لا أخالفه.
فقال القوم: ونحن أيضا لا نخالفه. فبادر القوم وتقدم النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) ووقف على شفير الوادي، وإذا بالطير الأبيض قد أقبل من ذروة الجبل وخط بجناحه
خطا أبيض يلمع ساقه ونادى: أيها الناس لا يدخل أحد منكم الماء حتى يقول هذه الكلمة،
فمن قالها سلم ومن حاد عنها هلك، اقتحم القوم الماء وهم يقولون الكلمة ولم يتأخر من
القوم سوى رجلين أحدهما من بني جمح والآخر من بني عدي، فقال العدوي: بسم الله
وبالله، وقال الجمحي بسم اللات والعزى، فغرق الجمحي وسلم العدوي وأمواله. فقال
القوم للعدوي: ما بال صاحبك غرق؟ قال: إنه قد عوج لسانه وخالف قول النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) فغرق. فاغتم أبو جهل لعنه الله وقومه وقالوا: ما هذا إلا سحر عظيم.
فقال له بعض أصحابه: يا بن هشام ما هذا بسحر ولكن والله ما
ص 52
أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أفضل من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلم يرد
جوابا. وساروا حتى نزلوا على بئر وكان تنزل عليه العرب في طريق الشام، فقال أبو
جهل: والله لأجد في نفسي غبنة عظيمة إن رد محمد من سفره هذا سالما، ولقد عزمت على
قتله وكيف لي بالحيلة في قتله وهو ينظر من ورائه كما ينظر من أمامه ولكن أفعل فسوف
تنظرون، ثم عمد إلى الرمل والحصى وملأ حجره وكبس به البئر. فقال أصحابه: ولم تفعل
ذلك؟ فقال: أريد دفن البئر حتى إذا جاء ركب بني هاشم وقد أجهدهم العطش فيموتوا عن
آخرهم، فبادر القوم بالرمل والحصى ولم يتركوا للبئر أثرا. فقال أبو جهل لعنه الله:
الآن قد بلغت مرادي، ثم التفت إلى عبد له اسمه فلاح وقال له: خذ هذه الراحلة وهذه
القربة والزاد واختف تحت الجبل فإذا جاء ركب بني هاشم يقدمهم محمد وقد أجهدهم العطش
والتعب ولم يجدوا للبئر أثرا فيموتوا فأتني بخبرهم فإذا أتيتني وبشرتني بموتهم
أعتقتك وزوجتك بمن تريد من أهل مكة. فقال: حبا وكرامة. ثم سار أبو جهل وتأخر العبد
كما أمره مولاه وإذا بركب بني هاشم قد أقبل يقدمهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فبادر القوم إلى البئر فلم يجدوا له أثرا فضاقت دورهم وأيقنوا بالهلاك فلاذوا بمحمد
(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لهم: هل هنا موضع يعرف بالماء؟ قالوا: نعم بئر قد
ردمت بالرمل والحجارة، فمشى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ص 53
حتى وقف على شفير البئر فرفع طرفه إلى السماء ونادى: يا عظيم الأسماء يا باسط الأرض
ويا رافع السماء قد أضر بنا الظمأ فاسقنا الماء، فإذا بالحجارة والرمل قد تصلصلت
وعين الماء قد نبعت وتفجرت وجرى الماء من تحت أقدامه فسقى القوم دوابهم وملؤوا
قربهم وساروا. وسار العبد إلى مولاه وقال: ما وراءك يا فلاح؟ وقال: والله ما أفلح
من عادى محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وحدثهم بما عاين منه، فامتلئ أبو جهل غيظا
وقال للعبد: غيب وجهك عني فلا أفلحت أبدا، ثم سار حتى وصل واديا من أودية الشام
يقال له ذبيان وكان كثير الأشجار إذ خرج من ذلك الوادي ثعبان عظيم كأنه النخلة
السحوق ففتح فاه وزفر وخرج من عينيه الشرار فجفلت منه ناقة أبي جهل لعنه الله ولعبت
بيديها ورجليها ورمته فكسرت أضلاعه فغشي عليه، فلما أفاق قال لعبيده: تأخروا إلى
جانب الطريق فإذا جاء ركب بني هاشم قد أقبل يقدمهم محمد قدموه علينا حتى إذا رأت
ناقته الثعبان فعسى أن ترميه إلى الأرض فيموت، ففعل العبيد ما أمرهم به. وإذا بركب
بني هاشم قد أقبل يقدمهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم): يا بن هشام أراكم قد نزلتم وليس هو وقت نزولكم؟ فقال له: يا محمد
والله قد استحييت أن أتقدم عليك وأنت سيد أهل الصفا وأعلا حسبا ونسبا فتقدم فلعن
الله من يبغضك. ففرح العباس بذلك وأراد العباس أن يتقدم فنحاه النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) وقال:
ص 54
أرفق يا عم فما تقديمهم لنا إلا لمكيدة لنا، ثم إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تقدم
أمامهم ودخل إلى ذلك الشعب وإذا بالثعبان قد ظهر، فجفلت منه ناقة النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) فزعق بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: ويحك كيف تخافين
وعليك خاتم الرسل وإمام البشر؟ ثم التفت إلى الثعبان وقال له: أرجع من حيث أتيت
وإياك أن تتعرض لأحد من الركب، فنطق الثعبان بقدرة الله تعالى وقال: السلام عليك يا
محمد، السلام عليك يا أحمد. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): السلام على من
اتبع الهدى وخشي عواقب الردى وأطاع الملك الأعلى. فعندها قال: يا محمد (صلى الله
عليه وآله وسلم) ما أنا من هوام الأرض وإنما أنا ملك من ملوك الجن واسمي الهام بن الهيم وقد آمنت على يد أبيك إبراهيم الخليل وسألته الشفاعة فقال: هي لولد يظهر من
نسلي يقال له محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ووعدني أن أجتمع بك في هذا المكان وقد
طال بي الانتظار وقد شاهدت المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) ليلة عرج به إلى
السماء وهو يوصي الحواريين باتباعك والدخول في ملتك والآن قد جمع شملي بك فلا تنسني
من الشفاعة يا سيد المرسلين. فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لك ذلك علي
فعد من حيث جئت ولا تتعرض لأحد من الركب، فغاب الثعبان، فلما نظر القوم إلى كلامه
عجبوا من ذلك وازداد أعمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقينا وفرحا وازداد
الجنود (1) غيظا
(هامش)
(1) الحسود خ ل. (*)
ص 55
وحسدا، فأنشأ العباس يقول:
يا قاصدا نحو الحطيم وزمزم * بلغ فضائل أحمد المتكرم
واشرح لهم ما عاينت عيناك من * فضل لأحمد والسحاب الأركم
قل وأت بالآيات في السيل
الذي * ملأ الفجاج بسيله المتراكم
ونجى الذي لم يخط قول محمد * وهو الذي أخطا بوسط
جهنم
والبئر لما أن أضر بنا الظمأ * فدعا الحبيب إلى الإله المنعم
فاضت عيونا ثم
سالت أنهرا * وغدا الحسود بحسرة وتغمغم
والهام بن الهيم لما أن رأى * خير البرية
جاء كالمستسلم
ناداه أحمد فاستجاب ملبيا * وشكى المحبة كالحبيب المغرم
من عهد
إبراهيم ظل مكانه * يرجو الشفاعة خوف جسر جهنم
من ذا يقاس أحمد في الفضل من * كل
البرية من فصيح وأعجم
وبه توسل في الخطيئة آدم * فليعلم الأخبار من لم يعلم
ولما
فرغ العباس من شعره أجابه الزبير يقول شعرا:
يا للرجال ذوي البصائر والنظر * قوموا
انظروا أمرا مهولا قد خطر
هذا بيان صادق في عصرنا * من سيد عالي المراتب مفتخر
آياته قد أعجزت كل الورى * من ذا يقائس عدها أو يختصر
ص 56
منها الغمام تظله مهما مشى * أنى بسير تظله وإذا خطر
وكذلك الوادي أتى مترادفا *
بالسيل يسحب للحجارة والشجر
ونجى الذي قد أطاع قول محمد * وهوى المخالف مستقرا في سقر
وأزال عنا الضيم من حر الظمأ * من بعد ما بان التقلقل والضجر
والبئر فاضت
بالمياه وأقبلت * تجري على الأراض أشباه النهر والهام فيه عبارة ودلالة * لذوي
العقول ذوي البصائر والفكر كاد الحسود يذوب مما عاينت * عيناه من فضل لأحمد قد ظهر
يا للرجال ألا تنظروا أنواره * تعلو على نور الغزالة والقمر الله فضل أحمدا واختاره
* ولقد أذل عدوه ثم احتقر فأجابه حمزة (رضي الله عنه) يقول:
ص 57
ما نالت الحساد فيك مرادهم * طلبوا نقوص الحال منك فزادا كادوا وما خافوا عواقب
كيدهم * والكيد مرجعه على من كادا ما كل من طلب السعادة نالها * بمكيدة أو أن يروم
عنادا يا حاسدين محمدا يا ويلكم * حسدا تمزق منكم الأكبادا الله فضل أحمدا واختاره
* ولسوف يملكه الورى وبلادا وليملأن الأرض من إيمانه * وليهدين عن الغوى من حادا
قال: فشكرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك وساروا جميعا ونزلوا واديا
كانوا يتعاهدون فيه الماء قديما فلم يجدوا فيه شيئا من الماء، فشمر النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) عن ذراعيه وغمس كفيه في الرمل ورمق السماء وهو يحرك شفتيه، فنبع
الماء من بين أصابعه تيارا وجرى على وجه الأرض أنهارا، فقال العباس: أمسك يا بن أخي
حذرا من الماء أن يفرق أموالنا، ثم شربوا وملؤا قربهم وسقوا دوابهم، فقال النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) لميسرة: لعل عندك شيئا من التمر فأحضره، وكان يأكل التمر
ويغرس النوى في الأرض.
ص 58
فقال له العباس: لم تفعل ذلك يا بن أخي؟ قال: يا عم أريد أن أغرسها نخلا. قال: ومتى
تطعم؟ قال: الساعة، نأكل منها ونتزود إن شاء الله تعالى. فقال له العباس: يا بن أخي
النخلة إذا غرست تثمر في خمس سنين! قال: يا عم سوف ترى من آيات ربي الكبرى، ثم
ساروا حتى تواروا عن الوادي. فقال: يا عم ارجع إلى الموضع الذي فيه النخلات واجمع
لنا ما نأكله، فمضى العباس فرأى النخلات قد كبرت وتمايلت أثمارها وأزهرت فأوقر منها
راحلته والتحق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان يأكل من التمر ويطعم القوم
فصاروا متعجبين من ذلك. فقال أبو جهل لعنه الله: لا تأكلوا يا قوم مما يصنعه محمد
الساحر، فأجابه قومه وقالوا: يا بن هشام أقصر عن الكلام فما هذا بسحر. ثم سار القوم
حتى وصلوا عقبة أيله وكان بها دير وكان مملوكا رهبانا وكان فيهم راهب يرجعون إلى
رأيه وعقله يقال له الفيلق بن اليونان عببن الصليب وكان يكنى أبا خبير، وقد قرأ
الكتب وعنده سفر فيه صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من عهد عيسى بن مريم
(عليه السلام)، وكان إذا قرأ الإنجيل على الرهبان ووصل إلى صفات النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) بكى وقال: يا أولادي متى تبشروني بقدوم البشير النذير الذي يبعثه
الله من تهامة متوجا بتاج الكرامة تظله الغمامة
ص 59
يشفع في العصاة يوم القيامة. فقال له الرهبان: لقد قتلت نفسك بالبكاء والأسف على
هذا الذي تذكره وعسى أن يكون قد قرب أوانه. فقال: إي والله إنه قد ظهر بالبيت
الحرام ودينه عند الله الإسلام فمتى تبشروني بقدومه من أرض الحجاز وهو تظله
الغمامة، وأنشأ يقول شعرا: لأن نظرت عيني جمال أحبتي * وهبت لبشرى الوصل ما ملكت
يدي وملكته روحي وما لي غيرها * وهذا قليل في محبة أحمد سألت إلهي أن يمن بقربه *
ويجمع شملي بالنبي محمد قال: وما زال الراهب كلما ذكر الحبيب أكثر النحيب إلى أن
حال منه النظر وزاد به الفكر فعند ذلك أشرف بعض الرهبان وقد أشرقت الأنوار من جبين
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المختار فنظر الرهبان وقد تلألأت من الركب وقد
أقبل من الفلا وأشرق وعلا تقدمهم سيد الأمم وقد نشرت على رأسه الغمامة فقالوا: يا
أبا الرهبان هذا ركب قد أقبل من الحجاز. فقال: يا أولادي وكم ركب قد أقبل وأتى وأنا
أعلل نفسي بلعل وعسى؟ قالوا: يا أبانا قد رأينا نورا قد علا.
ص 60
فقال: الآن قد زال الشقاء وذهب العناء ثم رفع طرفه نحو السماء وقال: إلهي وسيدي
ومولاي بجاه هذا المحبوب الذي زاد فيه تفكري إلا ما رددت علي بصري، فما استتم كلامه
حتى رد الله عليه بصره. فقال الراهب للرهبان: كيف رأيتم جاه هذا المحبوب عند علام
الغيوب؟ ثم أنشأ يقول: بدا النور من وجه النبي فأشرقا * وأحيا محبا بالصبابة محرقا
وابرأ عيونا قد عمين من البكاء * وأصبح من سوء المكاره مطلقا ترى هل ترى عيناي طلعة
وجهه * وأصبح من الضلالة معتقا ثم قال: يا أولادي إن كان هذا النبي المبعوث في هذا
الركب ينزل تحت هذه الشجرة فإنها تخضر وتثمر، فقد جلس تحتها عده من الأنبياء، وهي
من عهد عيسى بن مريم (عليه السلام) يابسة، وهذه البئر لم تر فيها ماء فإنه يأتي
إليها ويشرب منها، فما كان إلا قليلا وإذا الركب قد أقبل وحول البئر قد نزلوا وحطوا
الأحمال عن الجمال. وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحب الخلوة بنفسه، فأقبل
تحت الشجرة فاخضرت وأثمرت من وقتها وساعتها، فما استقر بهم الجلوس حتى قام النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) فمشى إلى البئر فنظر إليها واستحسن عمارتها وتفل فيها
فتفجرت منها عيون كثيرة ونبع منها ماء معين. فلما رأى الراهب ذلك قال: يا أولادي
هذا هو المطلوب فبادروا بصنع الولائم من أحسن الطعام لنتشرف بسيد بني هاشم فإنه سيد
الأنام