الصفحة السابقة الصفحة التالية

أصول السرخسي

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 3

مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 الحمد لله حمد الشاكرين. والصلاة والسلام على رسوله النبي الامين. وعلى اله وصحبه وسائر الصالحين وبعد فان علم الاصول من اشرف العلوم وانفعها حيث يتعرف به طرق استنباط الاحكام العملية من ادلتها التفصيلة على صعوبة مداركها، ودقة الاستنباط. واما اول من صنف في علم الاصول - فيما نعلم - فهو امام الائمة، وسراج الامة أبو حنيفة النعمان رضى الله عنه حيث بين طرق الاستنباط في (كتاب الراى) له، وتلاه صاحباه القاضي الامام أبو يوسف يعقوب بن ابراهيم الأنصاري، والامام الربانى محمد بن الحسن الشيباني رحمهما الله، ثم الامام محمد بن ادريس الشافعي رحمه الله صنف رسالته، والف بعدهم امام الهدى أبو منصور الماتريدى كتابه (ماخذ الشرائع) ثم صنف الامام أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي، ثم صنف تلميذه أبو بكر احمد بن على الجصاص الرازي كتابه المعروف (باصول الجصاص) ثم تتابع الناس وصنفوا كثيرا، كالامام ابى عبيدالله بن عمر بن عيسى الدبوسي فانه صنف (تقويم الادلة) و(تأسيس النظر) ثم بعده صنف فخر الإسلام البزدوي، وشمس الائمة السرخسي) كتابيهما الجليلين، فهذبا هذا الفن ونقهاه فيهما فصارا معول الفقهاء بعدهما حتى إذا اتفقا على شيء يقولون اتفق الشيخان على هذا القول، وبهما شرحت كتب الامام محمد بن الحسن، صرح بذلك الامام السرخسى في اول كتابه هذا. وان لجنة احياء المعارف كانت ادخلت اصول السرخسى في قائمة الكتب التى تريد نشرها، لكن لم تظفر به في خزانات الهند فتأخر نشره إلى كتب إلى الفاضل الجليل والعلامة النبيل مولانا الشيخ محمد راغب الطباخ اغدق الله جدثه من حلب الشهباء بان عندنا نسختين منه، احداها في المكتبة الاحمدية والاخرى بالمدرسة

ص 4

العثمانية، وانا نؤثركم على انفسنا ان اردتم نشره واشاعته، وانا اتولى لكم نسخه على الاصل ومقابلته بالنسخة الثانية، فلبينا دعوته وكتبت إليه ان ينسخ لنا الكتاب حتى نسخ وقوبل على الاصلين ثم ارسله الينا جزاه الله عنا جزاء الابرار المحسنين وغفر له ورفع درجاته عنده في اعلى عليين امين. وكان على هامش النسخة العثمانية فوائد فكلف الناسخ ان ينسخها ايضا عند المقابلة، ثم وجدنا له نسخة اخرى هنا في حيدر آباد في مكتبة الفاضل العلام مولانا المفتى محمد سعيد المدرسي رحمه الله فقابلناه عليها ايضا فوجدتها توافق كثيرا النسخة العثمانية الا انها ناقصة من الاول وفي مواضع منها، فصححه حين مقابلتي له بمقدار الوسع وكتبت على الهامش اختلاف النسختين العثمانية الهندية، وزدت الفوائد التى كانت على هامش الهندية ايضا، وزدت ما بدالى من الفائد في بعض المواضع وليس لها رمز. واما اسم الكتاب فلم يذكر في اصل الاحمدية وكذا في الهندية بل وجدنا زيادة في العثمانية هكذا: وسميته بلوغ السوال في الاصول، وذكر المصنف في المجلد الرابع من شرح السير الكبير في اخر باب ما يبتلى به الاسير ص 225 طبع دائرة المعارف (وقد استقصينا هذا في تمهيد الفصول في الاصول) وهذا يرشد إلى ان اسم الكتاب تمهيد الفصول دون بلوغ السوال، فيظهر ان تسميته باسم بلوغ السوال في الاصول من تصرف بعض ناسخى الكتاب، وحيث لم يشتهر الكتاب بين جمهور اهل العلم على توالى القرون الا باسم (اصول السرخسى) جعلناه عنوان الكتاب دون الاسمين السالف ذكرهما. وللكتاب نسخ عدة في دار الكتب المصرية وخزانات الاستانة لكن لم يتيسر لنا - بكل اسف - ان نقابل نسختنا بتلك النسخ، بيد انا راجعنا نسخ دار الكتب المصرية في مواضع بقينا في حاجة إلى المراجعة فيها. واما المصنف فهو: الامام الكبير الفقيه الاصولي النظار شمس الائمة أبو بكر محمد بن احمد بن ابى سهل السرخسى رحمه الله، نسبه إلى سرخس بفتح السين والراء بلد عظيم بخراسان كما يقوله المجد في قاموسه، ولم يضبطها السمعاني في الانساب ولا ابن الاثير في اللباب. وقال القرشي في انساب الجواهر: رايت بخط الشيخ تاج الدين بن مكتوم: والاعرف فيها فتح الراء واسكان الخاء، ويقال ايضا باسكان الراء وفتح الخاء المعجمة، وفى خط ابن مكتوم قال ابن الصلاح: ولما دخلتها سمعت شيخها ومفتيها يذكر

ص 5

انها بفتح الراء فارسية وباسكانها معربة، وقال: سمعت ذلك من المعتمدين الثقات، والسين على كل حال مفتوحة. وقال أبو سعد السمعاني: سرخس اسم رجل من الدعار في زمن كيكاوس سكن هذا الموضع وعمره واتم بناءه ذو القرنين، وقد ذكرت قصته وسبب بنائه في كتاب النزوع إلى الاوطان وفتحها عبد الله بن حازم السلمى الامير من جهة عبد الله بن عامر ابن كريز زمن عثمان بن عفان رضى الله عنه دخلتها غيره مرة وكتبت بها عن جماعة. وقال الشهاب بن فضل الله العمرى في مسالك الابصار في ترجمة السرخسى: استمد من شمس الائمة (أي الحلواني) حتى كان بدرا تماما، وصدرا اماما، تفقه على شمس الائمة ابى محمد عبد العزيز بن احمد الحلواني ولقب بلقبه، وكان اماما فاضلا متكلما فقيها اصوليا مناظرا يتوقد ذكاء، لزم شمس الائمة وتخرج به حتى صار في النظر فرد زمانه، وواحد اقرانه، واخذ في التصنيف والتعليق، وناظر وشاع ذكره، وصنف كتاب (المبسوط) في الفقه في اربعة عشر مجلدا املاء من غير مطالعة كتاب ولا مراجعة تعليق، بل كان محبوسا في الجب بسبب كلمة نصح بها، وكان يملى على الطلبة من الجب وهم على اعلى الجب يكتبون ما يلى عليهم، وحكى عنه انه كان جالسا في حلقة الاشتغال فقيل له: حكى عن الشافعي رحمه الله انه كان يحفظ ثلاثمائة كراس. فقال: حفظ الشافعي زكاة ما احفظ، فحسب ما حفظه فكان اثنى عشر الف كراس، وله عدة مصنفات كلها معتمد عليها، وحكى عنه انه لما خرج من السجن كان امير البلد قد زوج امهات اولاده من خدامه الاحرار، فسأل العلماء الحاضرين عن ذلك فكلمهم قال نعم ما فعلت. فقال شمس الائمة: اخطأت لان تحت كل خادم حرة فكان هذا تزويج الامة على الحرة. فقال الامير أعتقهن، فجددوا العقد فسأل العلماء فكلمهم قال نعم ما فعلت. فقال شمس الائمة اخطأت لان العدة تجب على امهات الاولاد بعد الاعتاق فكان تزويج المعتدة في العدة ولا يجوز، فألبس الله جواب هذه المسألة على العلماء في موضعين من مسألة واحدة ليظهر فضل شمس الائمة على غيره.

ص 6

فماذا يطلب من شاهد على سعة وتوقد ذكائه اصدق من املائه (المبسوط) ذلك الكتاب الضخم المطبوع في ثلاثين جزءا من الجب عن ظهر القلب كما أطبقت على ذلك كلمات المترجمين لهذا الامام العظيم الذى هو من مفاخر السلف علما وورعا. وقال الحافظ عبد القادر القرشى في الجواهر المضية عن صاحب الترجمة: أحد الفحول الائمة الكبار اصحاب الفنون، كان إماما علامة حجة متكلما فقيها أصوليا مناظرا، لزم الامام شمس الائمة ابا محمد عبد العزيز الحلواني حتى تخرج به وصار انظر اهل زمانه، واخذ في التصنيف، وناظر الاقران فظهر اسمه وشاع خبره، ثم ذكر كيف أملى المبسوط في خمسة عشر مجلدا وهو محبوس في أوزجند بسبب كلمة كان فيها من الناصحين، ثم سرد ما قاله السرخسى في آخر العبادات والطلاق والعتاق والاقرار من المبسوط من كلمات تدل على التوجع من حبسه في محبس الاشرار. ثم قال: تفقه عليه أبو بكر محمد بن ابراهيم الحصيرى، وابو عمرو عثمان بن على بن محمد البيكندى، وابو حفص عمر بن حبيب جد صاحب الهداية لامه، وتقدم كل واحد في بابه، مات في حدود التسعين واربعمائة. وقال الشهاب المقريزى في تذكرته: تخرج بعبد العزيز الحلواني، واملى المبسوط وهو في السجن، تفقه عليه أبو بكر محمد بن ابراهيم الحصيرى وغيره، مات في حدود الخمسمائة وكان عالما اصوليا مناظرا. وترجم له العلامة قاسم بن قطلوبغا في تاج التراجم ونقل من المسالك بعض ما سبق نقله، وذكر كلمة المقريزى ثم قال: ورايت له كتابا في اصول الفقه جزءان ضمخان وهو هذا الكتاب، وشرح السير الكبير في جزأين ضخمين أملاهما وهو في الجب فلما وصل إلى باب الشروط حصل الفرج فأطلق فخرج في اخر عمره إلى فرغانة فانزله الامير حسن بمنزله فوصل إليه الطلبة فأكمل الاملاء في دهليز الامير، وهو مطبوع في دائر المعارف، وشرح مختصر الطحاوي ورأيت قطعة منه، وشرح كتاب الكسب

ص 7

لمحمد بن الحسن جزء لطيف وهو محفوظ بخزانة شيخ الإسلام بالمدينة المنورة. وقال الكفوى في الكتائب: كان إماما علامة حجة متكلما مناظرا اصوليا مجتهدا، عده ابن كمال باشا من المجتهدين في المسائل، وذكر بعض ما سبق. وترجم له التميمي في طبقات الحنفية ونقل نص ما ذكره القرشى وزاد من ابن مكتوم قوله: رايت بخط من يعتمد عليه: شمس الائمة أبو بكر محمد بن احمد ابى بكر سهل السرخسى، والمشهور في كتب اصحابنا انه ابن ابى سهل وزاد اشعارا في مدح المبسوط ومؤلفه أضربنا عنها هنا. وترجم له العلامة الشيخ عبد الحى اللكنوى ايضا في الفوائد البهية ولخص ما في الكتائب ومدينة العلوم ثم قال: وفي طبقات القارى: املى المبسوط نحو خمسة عشر مجلداو هو في السجن باوزجند محبوس بسبب كلمة كان فيها من الناصحين، وهو من كبار علمائنا بما وراء النهر صاحب الاصول والفروع، ومات سنة ثمان وثلاثين واربعمائة. ولعل فيما ذكره القارى من تاريخ وفاته سبق قلم صوابه ثلاث وثمانين واربعمائة فلا يبعد هذا كل البعد مما ذكر القرشى، ولا تاخر وفاته إلى ما ذكر المقريزى وهو كثير الاغلاط في الوفيات. وله من المصنفات سوى ما تقدم شرح الجامع الصغير للامام محمد، وشرح الجامع الكبير له ايضا، والمجلد الرابع من الثاني موجود بدار الكتب المصرية، وشرح الزيادات له، وشرح زيادات الزيادات له ايضا، والثانى موجود في بعض مكاتب الاستانة وقد طلبنا تصويره الشمسي لان اللجنة تريد نشره ومبسوطه المطبوع بمصر شرح لكتاب الكافي تأليف الحاكم الشهيد ابى الفضل محمد بن محمد المرزى وهو يقول في اوله (اودعت كتابي هذ معاني محمد بن الحسن في كتبه المبسوطه، ومعانى جوامعه المؤلفة مع اختصار كلامه وحذف المكررات من كلامه) وللسرخسي

ص 8

ايضا شرح كتاب النفقات للخصاف، وشرح ادب القاضى للخصاف ذكرهما الصدر السهيد في شرحي الكتابين، وله ايضا اشرط الساعة، والفوائد الفقهية، وكتاب الحيض، وذكر هذه الكتب الثلاثة صاحب كشف الظنون. هذا وان اكثر ما في ترجمة هذا الامام الجليل هو بقلم العلامة المحقق المدقق الفقيه الكبير والمحدث الشهير مولانا محمد زاهد الكوثري رحمه الله ورضى عنه ورضا الابرار المحسنين. والحمد لله اولا واخرا كثيرا، وصلاته على نبيه الكريم بكرة وأصيلا.

 ربيع الاول سنة 1372

أبو الوفاء الافغاني

 رئيس اللجنة العلمية لاحياء المعارف النعمانية

 بجلال كوچه بحيدر آباد الدكن (الهند)

ص 9

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي إملاء في يوم السبت سلخ شوال سنة تسع وسبعين وأربعمائة في زاوية من حصار أوزجند: الحمد لله الحميد المجيد، المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، ذي البطش الشديد، والامر الحميد، والحكم الرشيد، والوعد والوعيد. نحمده على ما أكرمنا به من ميراث النبوة، ونشكره على ما هدانا إليه بما هو أصل في الدين والمروة، وهو العلم الذي هو أنفس الاعلاق، وأجل مكتسب في الآفاق. فهو أعز عند الكريم من الكبريت الاحمر، والزمرد الاخضر، ونثارة الدر والعنبر، ونفيس الياقوت والجوهر، من جمعه فقد جمع العز والشرف، ومن عدمه فقد عدم مجامع الخير واللطف، يقوي الضعيف، ويزيد عز الشريف، يرفع الخامل الحقير، ويمول العائل الفقير، به يطلب رضا الرحمن، وتستفتح أبواب الجنان، وينال العز في الدين والدنيا، والمحمدة في البدء والعقبى، لاجله بعث الله النبيين، وختمهم بسيد المرسلين، وإمام المتقين: محمد (ص) وعلى آله الطيبين. وبعد فإن من أفضل الامور، وأشرفها عند الجمهور، بعد معرفة أصل الدين، الاقتداء بالائمة المتقدمين، في بذل المجهود لمعرفة الاحكام، فبها يتأتى الفصل بين الحلال والحرام، وقد سمي الله تعالى ذلك في محكم تنزيله الخير الكثير فقال: *(ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا)* فسر ابن عباس رضي الله عنهما وغيره الحكمة بعلم الفقه، وهو المراد بقوله عز وجل: *(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)* أي ببيان الفقه ومحاسن الشريعة، فقال (ص) برواية ابن عباس رضي الله عنهما: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وقال عليه السلام: خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا تفقهوا وإلى ذلك دعا الله الصحابة الذين هم

ص 10

أعلام الدين، وقدوة المتأخرين فقال: *(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)* وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (ص): ما عبد الله بشيء أفضل من الفقه في الدين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد وقال (ص) قليل من الفقه خير من كثير من العمل. غير أن تمام الفقه لا يكون إلا باجتماع ثلاثة أشياء: العلم بالمشروبات، والاتقان في معرفة ذلك بالوقوف على النصوص بمعانيها وضبط الاصول بفروعها، ثم العمل بذلك. فتمام المقصود لا يكون إلا بعد العمل بالعلم، ومن كان حافظا للمشروبات من غير إتقان في المعرفة فهو من جملة الرواة، وبعد الاتقان إذا لم يكن عاملا بما يعلم فهو فقيه من وجه دون وجه، فأما إذا كان عاملا بما يعلم فهو الفقيه المطلق الذي أراده رسول الله (ص) وقال: هو أشد على الشيطان من ألف عابد وهو صفة المقدمين من أئمتنا: أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رضي الله عنهم، ولا يخفى ذلك على من يتأمل في أقوالهم وأحوالهم عن إنصاف. فذلك الذي دعاني إلى إملاء شرح في الكتب التي صنفها محمد بن الحسن رحمه الله، بآكد إشارة وأسهل عبارة. ولما انتهى المقصود من ذلك رأيت من الصواب أن أبين للمقتسبين أصول ما بنيت عليها شرح الكتب، ليكون الوقوف على الاصول معينا لهم على فهم ما هو الحقيقة في الفروع، ومرشدا لهم إلى ما وقع الاخلال به في بيان الفروع. فالاصول معدودة، والحوادث ممدودة، والمجموعات في هذا الباب كثيرة للمتقدمين والمتأخرين، وإنا فيما قصدته بهم من المقتدين، رجاء أن أكون من الاشباه فخير الامور الاتباع، وشرها الابتداع.

ص 11

وما توفيقي إلا بالله عليه أتكل، وإليه أبتهل، وبه أعتصم، وله أستسلم، وبحوله أعتضد، وإياه أعتمد، فمن اعتصم به فاز بالخيرات سهمه، ولاح في الصعود نجمه. فأحق ما يبدأ به في البيان الامر والنهى، لان معظم الابتلاء بهما، وبمعرفتهما تتم معرفة الاحكام، ويتميز الحلال من الحرام.

 

 باب الامر

 قال رضي الله عنه: اعلم أن الامر أحد أقسام الكلام بمنزلة الخبر والاستخبار، وهو عند أهل اللسان قول المرء لغيره افعل، ولكن الفقهاء قالوا هذه الكلمة إذا خاطب المرء بها من هو مثله أو دونه فهو أمر، وإذا خاطب بها من هو فوقه لا يكون أمرا، لان الامر يتعلق بالمأمور. فإن كان المخاطب ممن يجوز أن يكون مأمور المخاطب كان أمرا، وإن كان ممن لا يجوز أن يكون مأموره لا يكون أمرا، كقول الداعي: اللهم اغفر لي وارحمني، يكون سؤالا ودعاء لا أمرا. ثم المراد بالامر يعرف بهذه الصيغة فقط ولا يعرف حقيقة الامر بدون هذه الصيغة في قول الجمهور من الفقهاء. وقال بعض أصحاب مالك والشافعي يعرف حقيقة المراد بالامر بدون هذه الصيغة. وعلى هذا يبتني الخلاف في أفعال رسول الله (ص) أنها موجبة أم لا؟ واحتجوا في ذلك بقوله تعالى: *(فليحذر الذين يخالفون عن أمره)*: أي عن سمته وطريقته في أفعاله، وقال تعالى: *(وما أمر فرعون برشيد)* والمراد فعله وطريقته، وقال تعالى: *(وأمرهم شورى بينهم)*: أي أفعالهم، وقال تعالى: *(وتنازعتم في الامر)*: أي فيما تقدمون عليه من الفعل، وقال تعالى: *(قل إن الامر كله لله)*

ص 12

المراد الشأن والفعل، والعرب تقول: أمر فلان سديد مستقيم: أي حاله وأفعاله، وإذا ثبت أن الامر يعبر به عن الفعل كان حقيقة فيه، يوضحه أن العرب تفرق بين جمع الامر الذي هو القول فقالوا فيه: أوامر، والامر الذي هو الفعل فقالوا في جمعه: أمور، ففي التفريق بين الجمعين دلالة على أن كل واحد منه حقيقة، ومن يقول إن استعمال الامر في الفعل بطريق المجاز والاتساع، فلا بد له من بيان الوجه الذي اتسع فيه لاجله، لان الاتساع والمجاز لا يكون إلا بطريق معلوم يستعار اللفظ بذلك الطريق لغير حقيقته مجازا. وفي قوله (ص): خذوا عني مناسككم وصلوا كما رأيتموني أصلي تنصيص على وجوب اتباعه في أفعاله. وحجتنا في ذلك أن المراد بالامر من أعظم المقاصد فلا بد من أن يكون له لفظ موضوع هو حقيقة يعرف به اعتبارا بسائر المقاصد من الماضي والمستقبل والحال، وهذا لان العبارات لا تقصر عن المقاصد، ولا يتحقق انتفاء القصور إلا بعد أن يكون لكل مقصود عبارة هو مخصوص بها، ثم قد تستعمل تلك العبارة لغيره مجازا بمنزلة أسماء الاعيان، فكل عين مختص باسم هو موضوع له وقد يستعمل في غيره مجازا نحو أسد فهو في الحقيقة اسم لعين وإن كان يستعمل في غيره مجازا، يوضحه أن قولنا أمر مصدر والمصادر لا بد أن توجد عن فعل أو يوجد عنها فعل على حسب اختلاف أهل اللسان في ذلك، ثم لا تجد أحدا من أهل اللسان يسمي الفاعل للشئ آمرا، ألا ترى أنهم لا يقولون للآكل والشارب آمرا، فبهذا تبين أن اسم الامر لا يتناول الفعل حقيقة، ولا يقال الامر اسم عام يدخل تحته المشتق وغيره، لان الامر مشتق في الاصل، فإنه يقال: أمر يأمر أمرا فهو آمر، وما كان مشتقا في الاصل لا يقال إنه يتناول المشتق وغيره حقيقة، وإنما يقال ذلك فيما هو غير مشتق في الاصل

ص 13

كاللسان ونحوه، وفي قول القائل: رأيت فلانا يأمر بكذا ويفعل بخلافه دليل ظاهر على أن الفعل غير الامر حقيقة. فأما ما تلوا من الآيات فنحن لا ننكر استعمال الامر في غير ما هو حقيقة فيه، لان ذلك في القرآن على وجوه: منها القضاء قال الله تعالى: *(يدبر الامر من السماء إلى الارض)* وقال تعالى: *(ألا له الخلق والامر)* ومنها الدين قال الله تعالى: *(حتى جاء الحق وظهر أمر الله)* ومنها القول قال الله تعالى: *(يتنازعون بينهم أمرهم)* ومنها الوحي قال الله تعالى: *(يتنزل الامر بينهن)* ومنها القيامة قال تعالى: *(أتى أمر الله)* ومنها العذاب قال الله تعالى: *(فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب)* ومنها الذنب قال الله تعالى: *(فذاقت وبال أمرها)* فإما أن نقول: كل ذلك يرجع إلى شيء واحد وهو أن تمام ذلك كله بالله تعالى كما قال تعالى: *(قل إن الامر كله لله)* ثم فهمنا ذلك بما هو صيغة الامر حقيقة فقال: *(إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون)* وكما قال تعالى: *(إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)* أو نقول ما كان حقيقة لشيء لا يجوز نفيه عنه بحال، وما كان مستعملا بطريق المجاز لشيء يجوز نفيه عنه كاسم الاب فهو حقيقة للاب الادنى فلا يجوز نفيه عنه، ومجاز للجد فيجوز نفيه عنه بإثبات غيره، ثم يجوز نفي هذه العبارة عن الفعل وغيره مما لا يوجد فيه هذه الصيغة، فإن الانسان إذا قال ما أمرت اليوم بشيء كان صادقا وإن كان قد فعل أفعالا، فعرفنا أن الاستعمال فيه مجاز، وطريق هذا المجاز أنهم في قولهم: أمر فلان سديد مستقيم أجروا اسم المصدر على المفعول به كقولهم: هذا الدرهم ضرب الامير، وهذا الثوب نسج اليمن، وأيد ما قلنا ما روي أن النبي (ص) لما خلع نعليه في الصلاة خلع الناس نعالهم، فلما فرغ قال عليه السلام: ما حملكم على ما صنعتم؟ ولو كان فعله يوجب الاتباع مطلقا لم يكن لهذا السؤال منه معنى. ولما واصل (ص) واصل أصحابه فأنكر عليهم وقال: إني لست

ص 14

كأحدكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني وفي استعمال صيغة الامر في قوله: خذوا عني مناسككم وصلوا كما رأيتموني أصلي بيان أن نفس الفعل لا يوجب الاتباع لا محالة فقد كانوا مشاهدين لذلك، ولو ثبت به وجوب الاتباع خلا هذا اللفظ عن فائدة وذلك لا يجوز اعتقاده في كلام صاحب الشرع فيما يرجع إلى إحكام البيان.

 فصل: في بيان موجب الامر الذي يذكر في مقدمة هذا الفصل

 اعلم أن صيغة الامر تستعمل على سبعة أوجه: على الالزام كما قال الله تعالى: *(آمنوا بالله ورسوله)* وقال تعالى: *(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)* وعلى الندب كقوله تعالى: *(وافعلوا الخير)* وقوله تعالى: *(وأحسنوا)* وعلى الاباحة كقوله تعالى: *(فكلوا مما أمسكن عليكم)* وعلى الارشاد إلى ما هو الاوثق كقوله تعالى: *(وأشهدوا إذا تبايعتم)* وعلى التقريع كقوله تعالى: *(فأتوا بسورة من مثله)* وعلى التوبيخ كقوله تعالى: *(واستفزز من استطعت منهم بصوتك)* وعلى السؤال كقوله تعالى: *(ربنا تقبل منا)*. ولا خلاف أن السؤال والتوبيخ والتقريع لا يتناوله اسم الامر وإن كان في صورة الامر، ولا خلاف أن اسم الامر يتناول ما هو للالزام حقيقة، ويختلفون فيما هو للاباحة أو الارشاد أو الندب فذكر الكرخي والجصاص رحمهما الله أن هذا لا يسمى أمرا حقيقة وإن كان الاسم يتناوله مجازا، واختلف فيه أصحاب الشافعي فمنهم من يقول: اسم الامر يتناول ذلك كله حقيقة، ومنهم من يقول: ما كان للندب يتناوله اسم الامر حقيقة لانه يثاب على فعله ونيل الثواب يكون بالطاعة والطاعة في الائتمار بالامر، وهذا ليس بقوي فإن نيل الثواب بفعل النوافل من الصوم

ص 15

والصلاة لانه عمل بخلاف هوى النفس الامارة بالسوء على قصد ابتغاء مرضاة الله تعالى كما قال تعالى: *(وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى)* وليس من ضرورة هذا كون العمل مأمورا به. والفريق الثاني يقولون: ما يفيد الاباحة والندب فموجبه بعض موجب ما هو الايجاب لان بالايجاب هذا وزيادة، فيكون هذا قاصرا لا مغايرا، والمجاز ما جاوز أصله وتعداه. وبهذا يتبين أن الاسم فيه حقيقة، وهذا ضعيف أيضا، فإن موجب الامر حقيقة الايجاب وقطع التخيير، لان ذلك من ضرورة الايجاب وبالاباحة والندب لا ينقطع التخيير. عرفنا أن موجبه غير موجب الامر حقيقة وإنما يتناوله اسم الامر مجازا. والدليل عليه أن العرب تسمي تارك الامر عاصيا وبه ورد الكتاب قال الله تعالى: *(أفعصيت أمري؟)* وقال القائل: أمرتك أمرا جازما فعصيتني وكان من التوفيق قتل ابن هاشم وقال دريد بن الصمة: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد فلما عصوني كنت فيهم وقد أرى غوايتهم في أنني غير مهتدي وتارك المباح والمندوب إليه لا يكون عاصبا، فعرفنا أن الاسم لا يتناوله حقيقة، ثم حد الحقيقة في الاسامي ما لا يجوز نفيه عما هو حقيقة فيه، ورأينا أن الانسان لو قال: ما أمرني الله بصوم ستة من شوال كان صادقا، ولو قال: ما أمرني الله بصوم رمضان كان كاذبا، ولو قال: ما أمرني الله بصلاة الضحى كان صادقا، ولو قال: ما أمرني الله بصلاة الظهر كان كاذبا. ففي تجويز نفي صيغة الامر عن المندوب دليل ظاهر على أن الاسم يتناوله مجازا لا حقيقة. فأما الكلام في موجب الامر، فالمذهب عند جمهور الفقهاء أن موجب مطلقه الالزام إلا بدليل. وزعم ابن سريج من أصحاب الشافعي أن موجبه الوقف حتى يتبين المراد بالدليل وادعى أن هذا مذهب الشافعي، فقد ذكر في أحكام القرآن في قوله: *(فانكحوا ما طاب لكم من النساء)* أنه يحتمل أمرين. وأنكر هذا أكثر أصحابه وقالوا مراده أنه يحتمل أن يكون بخلاف الاطلاق، وهكذا قال في العموم إنه يحتمل الخصوص بأن يرد دليل يخصه وإن كان الظاهر عنده العموم،

ص 16

وزعموا أنه جزم على أن الامر للوجوب في سائر كتبه. وقال بعض أصحاب مالك: إن موجب مطلقه الاباحة، وقال بعضهم: موجبه الندب. أما الواقفون فيقولون قد صح استعمال هذه الصيغة لمعان مختلفة كما بينا فلا يتعين شيء منها إلا بدليل لتحقق المعارضة في الاحتمال، وهذا فاسد جدا فإن الصحابة امتثلوا أمر رسول الله (ص) كما سمعوا منه صيغة الامر من غير أن اشتغلوا بطلب دليل آخر للعمل، ولو لم يكن موجب هذه الصيغة معلوما بها لاشتغلوا بطلب دليل آخر للعمل، ولا يقال إنما عرفوا ذلك بما شاهدوا من الاحوال لا بصيغة الامر لان من كان غائبا منهم عن مجلسه اشتغل به كما بلغه صيغة الامر حسب ما اشتغل به من كان حاضرا، ومشاهدة الحال لا توجد في حق من كان غائبا، وحين دعا رسول الله (ص) أبي بن كعب رضي الله عنه فأخر المجئ لكونه في الصلاة فقال له: أما سمعت الله يقول: *(استجيبوا لله وللرسول)* فاستدل عليه بصيغة الامر فقط، وعرف الناس كلهم دليل على ما قلنا، فإن من أمر من تلزمه طاعته بهذه الصيغة فامتنع كان ملاما معاتبا، ولو كان المقصود لا يصير معلوما بها للاحتمال لم يكن معاتبا. ثم كما أن العبارات لا تقصر عن المعاني فكذلك كل عبارة تكون لمعنى خاص باعتبار أصل الوضع، ولا يثبت الاشتراك فيه إلا بعارض، وصيغة الامر أحد تصاريف الكلام، فلا بد من أن يكون لمعنى خاص في أصل الوضع، ولا يثبت الاشتراك فيه إلا بعارض مغير له بمنزلة دليل الخصوص في العام. ومن يقول بأن موجب مطلق الامر الوقف لا يجد بدا من أن يقول موجب مطلق النهي الوقف أيضا للاحتمال، فيكون هذا قولا باتحاد موجبهما وهو باطل، وفي القول بأن موجب الامر الوقف إبطال حقائق الاشياء ولا وجه للمصير إليه، والاحتمال الذي ذكروه نعتبره في أن لا نجعله محكما بمجرد الصيغة لا في أن لا يثبت موجبه أصلا، ألا ترى أن من يقول لغيره: إن شئت فافعل كذا وإن شئت فافعل كذا كان موجب كلامه التخيير عند العقلاء، واحتمال غيره وهو الزجر قائم كما قال الله تعالى: *(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)*.

ص 17

وأما الذين قالوا موجبه الاباحة اعتبروا الاحتمال لكنهم قالوا من ضرورة الامر ثبوت صفة الحسن للمأمور به، فإن الحكيم لا يأمر بالقبيح فيثبت بمطلقه ما هو من ضرورة هذه الصيغة وهو التمكين من الاقدام عليه والاباحة، وهذا فاسد أيضا، فصفة الحسن بمجرده تثبت بالاذن والاباحة، وهذه الصيغة موضوعة لمعنى خاص، فلا بد أن تثبت بمطلقها حسنا بصفة، ويعتبر الامر بالنهي، فكما أن مطلق النهي يوجب قبح المنهي عنه على وجه يجب الانتهاء عنه فكذلك مطلق الامر يقتضي حسن المأمور به على وجه يجب الائتمار. والذين قالوا بالندب ذهبوا إلى أن الامر لطلب المأمور به من المخاطب وذلك يرجح جانب الاقدام عليه ضرورة. وهذا الترجيح قد يكون بالالزام وقد يكون بالندب فيثبت أقل الامرين لانه المتيقن به حتى يقوم الدليل على الزيادة، وهذا ضعيف فإن الامر لما كان لطلب المأمور به اقتضى مطلقه الكامل من الطلب، إذ لا قصور في الصيغة ولا في ولاية المتكلم، فإنه مفترض الطاعة بملك الالزام. ثم إما أن يكون الامر حقيقة في الايجاب خاصة فعند الاطلاق يحمل على حقيقة، أو يكون حقيقة في الايجاب والندب جميعا فيثبت بمطلقه الايجاب لتضمنه الندب والزيادة، لا يجوز أن يقال: هو للندب حقيقة وللايجاب مجازا، لان هذا يؤدي إلى تصويب قول من قال: إن الله لم يأمر بالايمان ولا بالصلاة، وبطلان هذا لا يخفى على ذي لب. وما قالوا يبطل بلفظ العام فإنه يتناول الثلاثة فما فوق ذلك، ثم عند الاطلاق لا يحمل على المتيقن وهو الاقل وإنما يحمل على الجنس لتكثير الفائدة به. وكذا صيغة الامر، ولو لم يكن في القول بما قالوا إلا ترك الاخذ بالاحتياط لكان ذلك كافيا في وجوب المصير إلى ما قلنا، فإن المندوب بفعله يستحق الثواب ولا يستحق بتركه العقاب، والواجب يستحق بفعله الثواب ويستحق بتركه العقاب، فالقول بأن مقتضى مطلق الامر الايجاب وفيه معنى الاحتياط من كل وجه، أولى.

ص 18

ثم الدليل على صحة قولنا من الكتاب قوله تعالى: *(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)* ففي نفي التخيير بيان أن موجب الامر الالزام، ثم قال تعالى: *(ومن يعص الله ورسوله)* ولا يكون عاصيا بترك الامتثال إلا أن يكون موجبه الالزام، وقال: *(ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك)*: أي أن تسجد، فقد ذمه على الامتناع من الامتثال والذم بترك الواجب، وقال تعالى: *(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة)* وخوف العقوبة في ترك الواجب، ولا معنى لقول من يقول ترك الائتمار لا يكون خلافا فإن المأمور في الصوم هو الامساك ولا شك في أن ترك الائتمار بالفطر من غير عذر يكون خلافا فيما هو المأمور به. ثم الامر يطلب المأمور بآكد الوجوه، يشهد به الكتاب والاجماع والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى: *(ومن آياته أن تقوم السماء والارض بأمره)* فإضافة الوجود والقيام إلى الامر ظاهره يدل على أن الايجاد يتصل بالامر، وكذلك قوله: *(إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون)* فالمراد حقيقة هذه الكلمة عندنا لا أن يكون مجازا عن التكوين كما زعم بعضهم فإنا نستدل به على أن كلام الله غير محدث ولا مخلوق، لانه سابق على المحدثات أجمع، وحرف الفاء للتعقيب. فبهذا يتبين أن هذه الصيغة لطلب المأمور بآكد الوجوه، والاجماع دليل عليه، فإن من أراد أن يطلب عملا من غيره لا يجد لفظا موضوعا لاظهار مقصوده سوى قوله افعل، وبهذا يثبت أن هذه الصيغة موضوعة لهذا المعنى خاصة كما أن اللفظ الماضي موضوع للمضي، والمستقبل للاستقبال، وكذلك الحال. ثم سائر المعاني التي وضعت

ص 19

الالفاظ لها كانت لازمة لمطلقها إلا أن يقوم الدليل بخلافه، فكذلك معنى طلب المأمور بهذه الصيغة، ولان قولنا أمر فعل متعد لازمه ائتمر والمتعدي لا يتحقق بدون اللازم، فهذا يقتضي أن لا يكون أمرا بدون الائتمار، كما لا يكون كسرا بدون الانكسار، وحقيقة الائتمار بوجود المأمور به إلا أن الوجود لو اتصل بالامر ولا صنع للمخاطب فيه سقط التكليف، وهذا لا وجه له، لان في الائتمار للمخاطب ضرب اختيار بقدر ما ينتفي به الجبر ويستحق الثواب بالاقدام على الائتمار، وذلك لا يتحقق إذا اتصل الوجود بصيغة الامر، فلم تثبت حقيقة الوجود بهذه الصيغة تحرزا عن القول بالجبر، فأثبتنا به آكد ما يكون من وجوه الطلب وهو الالزام، ألا ترى أن بمطلق النهي يثبت آكد ما يكون من طلب الاعدام وهو وجوب الانتهاء، ولا يثبت الانعدام بمطلق النهي، وكذلك بالامر، لان إحدى الصيغتين لطلب الايجاد والاخرى لطلب الاعدام. ومن فروع هذا الفصل الامر بعد الحظر، فالصحيح عندنا أن مطلقه للايجاب أيضا لما قررنا أن الالزام مقتضى هذه الصيغة عند الامكان إلا أن يقوم دليل مانع. وبعض أصحاب الشافعي يقولون: مقتضاه الاباحة لانه لازالة الحظر ومن ضرورته الاباحة فقط فكأن الآمر قال: كنت منعتك عن هذا فرفعت ذلك المنع وأذنت لك فيه. فاستدلوا على هذا بقوله تعالى: *(فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله)*. وبقوله تعالى: *(وإذا حللتم فاصطادوا)* ولكنا نقول: إباحة الاصطياد للحلال بقوله: *(أحل لكم الطيبات)* الآية لا بصيغة الامر مقصودا به، وكذلك إباحة البيع بعد الفراغ من الجمعة بقوله: *(وأحل الله البيع)* لا بصيغة الامر، ثم صيغة الامر ليست لازالة الحظر ولا لرفع المنع، بل لطلب المأمور به، وارتفاع الحظر وزوال المنع من ضرورة هذا الطلب فإنما يعمل مطلق اللفظ فيما يكون موضوعا له حقيقة.

ص 20

فصل في بيان مقتضى مطلق الامر في حكم التكرار

 الصحيح من مذهب علمائنا أن صيغة الامر لا توجب التكرار ولا تحتمله، ولكن الامر بالفعل يقتضي أدنى ما يكون من جنسه على احتمال الكل ولا يكون موجبا للكل إلا بدليل. وقال بعض مشايخنا هذا إذا لم يكن معلقا بشرط ولا مقيدا بوصف فإن كان فمقتضاه التكرار بتكرر ما قيد به. وقال الشافعي مطلقه لا يوجب التكرار ولكن يحتمله والعدد أيضا إذا اقترن به دليل. وقال بعضهم مطلقه يوجب التكرار إلا أن يقوم دليل يمنع منه، ويحكى هذا عن المزني، واحتج صاحب هذا المذهب بحديث أقرع بن حابس رضي الله عنه حيث سأل رسول الله (ص) عن الحج أفي كل عام أم مرة؟ فقال: بل مرة ولو قلت في كل عام لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها فلو لم تكن صيغة الامر في قوله حجوا محتملا التكرار أو موجبا له لما أشكل عليه ذلك فقد كان من أهل اللسان ولكان ينكر عليه رسول الله (ص) سؤاله عما ليس من محتملات اللفظ، فحين اشتغل ببيان معنى دفع الحرج في الاكتفاء بمرة واحدة عرفنا أن موجب هذه الصيغة التكرار. ثم المرة من التكرار بمنزلة الخاص من العام وموجب العام العموم حتى يقوم دليل الخصوص. وبيان هذا أن قول القائل افعل طلب الفعل بما هو مختصر من المصدر الذي هو نسبة الاسم وهو الفعل، وحكم المختصر ما هو حكم المطول، والاسم يوجب إطلاقه العموم حتى يقوم دليل الخصوص فكذلك الفعل، لان للفعل كلا وبعضا كما للمفعول، فمطلقه يوجب الكل ويحتمله، ثم الكل لا يتحقق إلا بالتكرار. واعتبروا الامر بالنهي فكما أن النهي يوجب إعدام المنهي عنه عاما فكذلك الامر يوجب إيجاده تماما حتى يقوم دليل الخصوص وذلك يوجب التكرار لا محالة.

ص 21

وأما الشافعي رحمه الله فاحتج بنحو هذا أيضا ولكن على وجه يتبين به الفرق بين الامر والنهي ويثبت به الاحتمال دون الايجاب، وذلك أن قوله افعل يقتضي مصدرا على سبيل التنكير أي افعل فعلا. بيانه في قوله طلق: أي طلق طلاقا، وإنما أثبتناه على سبيل التنكير لان ثبوته بطريق الاقتضاء للحاجة إلى تصحيح الكلام وبالمنكر يحصل هذا المقصود فيكون الثابت بمقتضى هذه الصيغة ما هو نكرة في الاثبات والنكرة في الاثبات تخص كقوله تعالى: *(فتحرير رقبة)* ولكن احتمال التكرار والعدد فيه لا يشكل، لان ذلك المنكر متعدد في نفسه. ألا ترى أنه يستقيم أن يقرن به على وجه التفسير، وتقول طلقها اثنتين أو مرتين أو ثلاثا ويكون ذلك نصبا على التفسير، ولو لم يكن اللفظ محتملا له لم يستقم تفسيره به بخلاف النهي فصيغة النهي عن الفعل تقتضي أيضا مصدرا على سبيل التنكير أي لا تفعل فعلا ولكن النكرة في النفي تعم. قال الله تعالى: *(ولا تطع منهم آثما أو كفورا)* ومن قال لغيره لا تتصدق من مالي يتناول النهي كل درهم من ماله، بخلاف قوله تصدق من مالي فإنه لا يتناول الامر إلا الاقل على احتمال أن يكون مراده كل ماله، ولهذا قال إن مطلق الصيغة لا توجب التكرار لان ثبوت المصدر فيه بطريق الاقتضاء ولا عموم للمقتضى، يوضحه أن هذه الصيغة أحد أقسام الكلام فتعتبر بسائر الاقسام. وقول القائل: دخل فلان الدار إخبار عن دخوله على احتمال أن يكون دخل مرة أو مرتين أو مرارا، فكذلك قوله ادخل يكون طلب الدخول منه على احتمال أن يكون المراد مرة أو مرارا، ثم الموجب ما هو المتيقن به دون المحتمل. وأما الذين قالوا في المعلق بالشرط أو المقيد بالوصف إنه يتكرر بتكرر الشرط والوصف، استدلوا بالعبادات التي أمر الشرع بها مقيدا بوقت أو حال وبالعقوبات التي أمر الشرع بإقامتها مقيدا بوصف أن ذلك يتكرر بتكرر ما قيد به. قال رضي الله عنه: والصحيح عندي أن هذا ليس بمذهب علمائنا رحمهم الله، فإن من قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق لم تطلق بهذا اللفظ إلا مرة وإن تكرر منها الدخول

ص 22

ولم تطلق إلا واحدة وإن نوى أكثر من ذلك، وهذا لان المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز، وهذه الصيغة لا تحتمل العدد والتكرار عند التنجيز فكذلك عند التعليق بالشرط إذا وجد الشرط، وإنما يحكى هذا الكلام عن الشافعي رحمه الله فإنه أوجب التيمم لكل صلاة واستدل عليه بقوله تعالى: *(إذا قمتم إلى الصلاة)* إلى قوله: *(فتيمموا)* وقال ظاهر هذا الشرط يوجب الطهارة عند القيام إلى كل صلاة غير أن النبي (ص) لما صلى صلوات بوضوء واحد ترك هذا في الطهارة بالماء لقيام الدليل فبقي حكم التيمم على ما اقتضاه أصل الكلام. وهذا سهو، فالمراد بقوله: *(إذا قمتم إلى الصلاة)*: أي وأنتم محدثون، عليه اتفق أهل التفسير، وباعتبار إضمار هذا السبب يستوي حكم الطهارة بالماء والتيمم، وهذا هو الجواب عما يستدلون به من العبادات والعقوبات، فإن تكررها ليس بصيغة مطلق الامر ولا بتكرر الشرط بل بتجدد السبب الذي جعله الشرع سببا موجبا له، ففي قوله تعالى: *(أقم الصلاة لدلوك الشمس)* أمر بالاداء وبيان للسبب الموجب وهو دلوك الشمس، فقد جعل الشرع ذلك الوقت سببا موجبا للصلاة إظهارا لفضيلة ذلك الوقت بمنزلة قول القائل: أد الثمن للشراء والنفقة للنكاح يفهم منه الامر بالاداء والاشارة إلى السبب الموجب لما طولب بأدائه. ولما أشكل على الاقرع بن حابس رضي الله عنه حكم الحج حتى سأل فقد كان من المحتمل أن يكون وقت الحج هو السبب الموجب له بجعل الشرع إياه لذلك بمنزلة الصوم والصلاة، ومن المحتمل أن يكون السبب ما هو غير متكرر وهو البيت والوقت شرط الاداء والنبي عليه السلام بين له بقوله: بل مرة، أن السبب هو البيت وفي قوله عليه السلام: ولو قلت في كل عام لوجبت دليل على أن مطلق الامر لا يوجب التكرار، لانه لو كان موجبا له كان الوجوب في كل عام بصيغة الامر لا بهذا القول منه، وقد نص على أنها كانت تجب بقوله لو قلت في كل عام... ثم الحجة لنا في أن هذه الصيغة لا توجب التكرار ولا تحتمله أن قوله افعل

ص 23

لطلب فعل معلوم بحركات توجد منه وتنقضي، وتلك الحركات لا تبقى ولا يتصور عودها إنما المتصور تجدد مثلها، ولهذا يسمى تكرارا مجازا من غير أن يشكل على أحد أن الثاني غير الاول. وبهذا تبين أنه ليس في هذه الصيغة احتمال العدد ولا احتمال التكرار، ألا ترى أن من يقول لغيره اشتر لي عبدا لا يتناول هذا أكثر من عبد واحد، ولا يحتمل الشراء مرة بعد مرة أيضا؟ وكذلك قوله زوجني امرأة لا يحتمل إلا امرأة واحدة، ولا يحتمل تزويجا بعد تزويج إلا أن ما به يتم فعله عند الحركات التي توجد منه له كل وبعض فيثبت بالصيغة اليقين الذي هو الاقل للتيقن به، ويحتمل الكل حتى إذا نواه عملت نيته فيه، وليس فيه احتمال العدد أصلا فلا تعمل نيته في العدد، وعلى هذا قلنا إذا قال لامرأته طلقي نفسك أو لاجنبي طلقها إنه يتناول الواحد إلا أن ينوي الثلاث فتعمل نيته، لان ذلك كل فيما يتم به فعل الطلاق، ولو نوى اثنتين لم تعمل نيته لانه مجرد نية العدد إلا أن تكون المرأة أمة فتكون نيته الثنتين في حقها نية كل الطلاق، وكذلك لو قال لعبده تزوج يتناول امرأة واحدة إلا أن ينوي اثنتين فتعمل نيته لانه كل النكاح في حق العبد لا لانه نوى العدد، ولا معنى لما قالوا: إن صحة اقتران العدد والمرات بهذه الصيغة على سبيل التفسير لها دليل على أن الصيغة تحتمل ذلك، لان هذا القران عمله في تغيير مقتضى الصيغة لا في التفسير لما هو من محتملات تلك الصيغة بمنزلة اقتران الشرط والبدل بهذه الصيغة. ألا ترى أن قول القائل لامرأته أنت طالق ثلاثا لا يحتمل وقوع الثنتين به مع قيام الثلاث في ملكه، ولا التأخير إلى مدة، ولو قرن به إلا واحدة إلى شهر أو اثنتين كان صحيحا وكان عاملا في تغيير مقتضى الصيغة لا أن يكون مفسرا لها؟ ولهذا قلنا إذا قرن بالصيغة ذكر العدد في الايقاع يكون الوقوع بلفظ العدد لا بأصل الصيغة حتى لو قال لامرأته طلقتك ثلاثا أو قال واحدة فماتت المرأة قبل ذكر العدد لم يقع شيء.

ص 24

فبهذا تبين أن عمل هذا القران في التغيير والتفسير يكون مقررا للحكم المفسر لا مغيرا، يحقق ما ذكرناه أن قول القائل اضرب أي اكتسب ضربا، وقوله طلق أي أوقع طلاقا، وهذه صيغة فرد فلا تحتمل الجمع ولا توجبه، وفي التكرار والعدد جمع لا محالة والمغايرة بين الجمع والفرد على سبيل المضادة، فكما أن صيغة الجمع لا تحتمل الفرد حقيقة، فكذا صيغة الفرد لا تحتمل الجمع حقيقة بمنزلة الاسم الفرد نحو قولنا زيد لا يحتمل الجمع والعدد، فالبعض مما تتناوله هذه الصيغة فرد صورة ومعنى، وكل فرد من حيث الجنس معنى، فإنك إذا قابلت هذا الجنس بسائر الاجناس كان جنسا واحدا وهو جمع صورة فعند عدم النية لا يتناول إلا الفرد صورة ومعنى، ولكن فيه احتمال الكل لكون ذلك فردا معنى بمنزلة الانسان فإنه فرد له أجزاء وأبعاض، والطلاق أيضا فرد جنسا وله أجزاء وأبعاض فتعمل نية الكل في الايقاع ولا تعمل نية الثنتين أصلا، لانه ليس فيه معنى الفردية صورة ولا معنى فلم يكن من محتملات الكلام أصلا، وعلى هذا الاصل تخرج أسماء الاجناس ما يكون منها فردا صورة أو حكما. أما الصورة فكالماء والطعام إذا حلف لا يشرب ماء أو لا يأكل طعاما يحنث بأدنى ما يتناوله الاسم على احتمال الكل حتى إذا نوى ذلك لم يحنث أصلا. ولو نوى مقدارا من ذلك لم تعمل نيته لخلو المنوي عن صيغة الفردية صورة ومعنى، والفرد حكما كاسم النساء إذا حلف لا يتزوج النساء فهذه صيغة الجمع ولكن جعلت عبارة عن الجنس مجازا، لانا لو جعلناها جمعا لم يبق لحرف اللام الذي هو للمعهود فيه فائدة، ولو جعلناه جنسا كان حرف العهد فيه معتبرا فإنه يتناول المعهود من ذلك الجنس ويبقى معنى الجمع معتبرا فيه أيضا باعتبار الجنس، فيتناول أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس على احتمال الكل حتى إذا نواه لم يحنث قط، وعلى هذا لو حلف لا يشتري العبيد، أو لا يكلم بني آدم، أو وكل وكيلا بأن يشتري له الثياب فإن التوكيل صحيح بخلاف ما لو وكله بأن يشتري له أثوابا على ما بيناه في الزيادات.

ص 25

وحكي عن عيسى بن أبان رحمه الله أنه كان يقول: صيغة مطلق الامر فيما له نهاية معلومة تحتمل التكرار وإن كان لا يوجه إلا بالدليل، وفيما ليست له نهاية معلومة لا تحتمل التكرار لان فيما لا نهاية له يعلم يقينا أن المخاطب لم يرد الكل فإن ذلك ليس في وسع المخاطب ولا طريق له إلى معرفته، وهذا نحو قوله: صم وصل، فليس لهذا الجنس من الفعل نهاية معلومة وإنما يعجز العبد عن إقامته بموته، فعرفنا يقينا أن المراد بهذا الخطاب الفرد منه خاصة، وأما فيما له نهاية معلومة كالطلاق والعدة فالكل من محتملات الخطاب، وذلك تارة يكون بتكرار التطليق، وتارة يكون بالجمع بين التطليقات في اللفظ فيكون صيغة الكلام محتملا له كله. وخرج على هذا الاصل قول الرجل لامرأته: أنت طالق للسنة أو للعدة فإنه يحتمل نية الثلاث في الايقاع جملة واحدة، ونية التكرار في أن ينوي وقوع كل تطليقة في طهر على حدة. وفيما قررناه من الكلام دليل على ضعف ما ذهب إليه إذا تأملت. والكلام في مقتضى صيغة الفرد دون ما إذا قرن به ما يدل على التغيير من قوله للسنة أو للعدة. واستدل الجصاص رحمه الله على بطلان قول من يقول إن مطلق صيغة الامر تقتضي التكرار فقال: بالامتثال مرة واحدة يستجيز كل أحد أن يقول إنه أتى بالمأمور به، وخرج عن موجب الامر وكان مصيبا في ذلك، فلو كان موجبه التكرار لكان آتيا ببعض المأمور به، ولا معنى لقول من يقول: فإذا أتى به ثانيا وثالثا يقال أيضا في العادة أتى بالمأمور به، لان قائل هذا لا يكون مصيبا في ذلك في الحقيقة، فإن المخاطب في المرة الثانية متطوع من عنده بمثل ما كان مأمورا به لا أن يكون آتيا بالمأمور به، بمنزلة المصلي أربع ركعات في الوقت بعد صلاة الظهر يكون متطوعا بمثل ما كان مأمورا به إلا أن الذي يسميه آتيا بالمأمور به إنما يسميه بذلك توسعا ومجازا، فلهذا لا نسميه كاذبا، والله أعلم.

ص 26

فصل: في بيان موجب الامر في حكم الوقت

 الامر نوعان: مطلق عن الوقت، ومقيد به، فنبدأ ببيان المطلق: قال رضي الله عنه: والذي يصح عندي فيه من مذهب علمائنا رحمهم الله أنه على التراخي فلا يثبت حكم وجوب الاداء على الفور بمطلق الامر، نص عليه في الجامع فقال فيمن نذر أن يعتكف شهرا: يعتكف أي شهر شاء، وكذلك لو نذر أن يصوم شهرا. والوفاء بالنذر واجب بمطلق الامر. وفي كتاب الصوم أشار في قضاء رمضان إلى أنه يقضي متى شاء، وفي الزكاة وصدقة الفطر والعشر المذهب معلوم في أنه لا يصير مفرطا بتأخير الاداء وأن له أن يبعث بها إلى فقراء قرابته في بلدة أخرى. وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول مطلق الامر يوجب الاداء على الفور، وهو الظاهر من مذهب الشافعي رحمه الله فقد ذكر في كتابه: إنا استدللنا بتأخير رسول الله (ص) الحج مع الامكان على أن وقته موسع، وهذا منه إشارة إلى أن موجب مطلق الامر على الفور حتى يقوم الدليل. وبعض أصحاب الشافعي يقول هو موقوف على البيان لانه ليس في الصيغة ما ينبئ عن الوقت فيكون مجملا في حقه، وهذا فاسد جدا فإنهم يوافقونا على ثبوت أصل الواجب بمطلق الامر، وذلك يوجب الاداء عند الامكان ولا إمكان إلا بوقت فثبت بدليل الاشارة إلى الوقت بهذا الطريق. ثم بهذا الكلام يستدل الكرخي فيقول: وقت الاداء ثابت بمقتضى الحال ومقتضى الحال دون مقتضى اللفظ، ولا عموم لمقتضى اللفظ فكذلك لا عموم لما ثبت بمقتضى الحال، وأول أوقات إمكان الاداء مراد بالاتفاق حتى لو أدى فيه كان ممتثلا للامر فلا يثبت ما بعده مرادا إلا بدليل، يوضحه أن التخيير ينتفي بمطلق الامر بين الاداء والترك

ص 27

فيثبت هذا الحكم وهو انتفاء التخيير في أول أوقات إمكان الاداء كما ثبت حكم الوجوب، والتفويت حرام بالاتفاق، وفي هذا التأخير تفويت لانه لا يدري أيقدر على الاداء في الوقت الثاني أو لا يقدر؟ وبالاحتمال الثاني لا يثبت التمكن من الاداء على وجه يكون معارضا للمتيقن به فيكون تأخيره عن أول أوقات الامكان تفويتا، ولهذا استحسن ذمه على ذلك إذا عجز عن الاداء، ولان الامر بالاداء يفيدنا العلم بالمصلحة في الاداء، وتلك المصلحة تختلف باختلاف الاوقات، ولهذا جاز النسخ في الامر والنهي، وبمطلق الامر يثبت العلم بالمصلحة في الاداء في أول أوقات الامكان ولا يثبت المتيقن به فيما بعده. ثم المتعلق بالامر اعتقاد الوجوب وأداء الواجب، وأحدهما وهو الاعتقاد يثبت بمطلق الامر للحال فكذلك الثاني، واعتبر الامر بالنهي، والانتهاء الواجب بالنهي يثبت على الفور فكذلك الائتمار الواجب بالامر. وحجتنا في ذلك أن قول القائل لعبده افعل كذا الساعة يوجب الائتمار على الفور، وهذا أمر مقيد، وقوله افعل مطلق وبين المطلق والمقيد مغايرة على سبيل المنافاة فلا يجوز أن يكون حكم المطلق ما هو حكم المقيد فيما يثبت التقييد به، لان في ذلك إلغاء صفة الاطلاق وإثبات التقييد من غير دليل، فإنه ليس في الصيغة ما يدل على التقييد في وقت الاداء، فإثباته يكون زيادة وهو نظير تقييد المحل، فإن من قال لعبده تصدق بهذا الدرهم على أول فقير يدخل، يلزمه أن يتصدق على أول من يدخل إذا كان فقيرا، ولو قال تصدق بهذا الدرهم لم يلزمه أن يتصدق به على أول فقير يدخل وكان له أن يتصدق به على أي فقير شاء، لان الامر مطلق فتعيين المحل فيه يكون زيادة، والدليل عليه أنه يتحقق الامتثال بالاداء في أي جزء عينه من أوقات الامكان في عمره، ولو تعين للاداء الجزء الاول لم يكن ممتثلا بالاداء بعده، وفي اتفاق الكل

ص 28

على أنه مؤدي الواجب متى أداه إيضاح لما قلنا. وبهذا تبين فساد ما قال إن المصلحة في الاداء غير معلوم إلا في أول أوقات الامكان فإن المطالبة بالاداء وامتثال الامر لا يحصل إلا به، ألا ترى أن بعد الانتساخ لا يبقى ذلك؟ فعرفنا أن بمطلق الامر يصير معنى المصلحة في الاداء معلوما له في أي جزء أداه من عمره ما لم يظهر ناسخه، والتفويت حرام كما قال إلا أن الفوات لا يتحقق إلا بموته وليس في مجرد التأخير تفويت لانه متمكن من الاداء في كل جزء يدركه من الوقت بعد الجزء الاول حسب تمكنه في الجزء الاول، وموت الفجأة نادر، وبناء الاحكام على الظاهر دون النادر. فإن قيل: فوقت الموت غير معلوم له وبالاجماع بعد التمكن من الاداء إذا لم يؤد حتى مات يكون مفرطا مفوتا آثما فيما صنع فبه يتبين أنه لا يسعه التأخير. قلنا الوجوب ثابت بعد الامر، والتأخير في الاداء مباح له بشرط أن لا يكون تفويتا، وتقييد المباح بشرط فيه خطر مستقيم في الشرع كالرمي إلى الصيد مباح بشرط أن لا يصيب آدميا، وهذا لانه متمكن من ترك هذا الترخص بالتأخير ولا ينكر كونه مندوبا للمسارعة إلى الاداء. قال الله تعالى: *(فاستبقوا الخيرات)* فقلنا بأنه يتمكن من البناء على الظاهر من التأخير ما دام يرجو أن يبقى حيا عادة، وإن مات كان مفرطا لتمكنه من ترك الترخص بالتأخير. ثم هذا الحكم إنما يثبت فيما لا يكون مستغرقا لجميع العمر فأما ما يكون مستغرقا له فلا يتحقق فيه هذا المعنى، واعتقاد الوجوب مستغرق جميع العمر، وكذلك الانتهاء الذي هو موجب النهي يستغرق جميع العمر. فأما أداء الواجب فلا يستغرق جميع العمر فلا يتعين للاداء جزء من العمر إلا بدليل، فإن جميع العمر في أداء هذا الواجب كجميع وقت الصلاة لاداء الصلاة وهناك لا يتعين الجزء الاول من الوقت للاداء فيه على وجه لا يسعه التأخير عنه، فكذلك ههنا. ومن أصحابنا من جعل هذا الفصل على الخلاف المشهور بين أصحابنا في الحج

ص 29

أنه على الفور أم على التراخي؟ قال رضي الله عنه: وعندي أن هذا غلط من قائله، فالامر بأداء الحج ليس بمطلق بل هو موقت بأشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وقد بينا أن المطلق غير المقيد بوقت، ولا خلاف أن وقت أداء الحج أشهر الحج. ثم قال أبو يوسف رحمه الله: تتعين أشهر الحج من السنة الاولى للاداء إذا تمكن منه، وقال محمد رحمه الله لا تتعين ويسعه التأخير، وعن أبي حنيفة رضي الله عنه فيه روايتان: ف‍ محمد يقول الحج فرض العمر ووقت أدائه أشهر الحج من سنة من سني العمر وهذا الوقت متكرر في عمر المخاطب فلا يجوز تعيين أشهر الحج من السنة الاولى إلا بدليل، والتأخير عنها لا يكون تفويتا بمنزلة تأخير قضاء رمضان. وتأخير صوم الشهرين في الكفارة، فالايام والشهور تتكرر في العمر ولا يكون مجرد التأخير فيها تفويتا فكذلك الحج، ألا ترى أنه متى أدى كان مؤديا للمأمور. وأبو يوسف يقول أشهر الحج من السنة الاولى بعد الامكان متعين الاداء لانه فرد في هذا الحكم لا مزاحم له، وإنما يتحقق التعارض وينعدم التعيين باعتبار المزاحمة، ولا يدري أنه هل يبقى إلى السنة الثانية ليكون أشهر الحج منها من جملة عمره أم لا؟ ومعلوم أن المحتمل لا يعارض المتحقق، فإذا ثبت انتفاء المزاحمة كانت هذه الاشهر متعينة للاداء فالتأخير عنها يكون تفويتا كتأخيرة الصلاة عن الوقت، والصوم عن الشهر إلا أنه إذا بقي حيا إلى أشهر الحج من السنة الثانية فقد تحققت المزاحمة الآن وتبين أن الاولى لم تكن متعينة فلهذا كان مؤديا في السنة الثانية وقام أشهر الحج من هذه السنة مقام الاولى في التعيين، لانه لا يتصور الاداء في وقت ماض، ولا يدري أيبقى بعد هذا أم لا؟ وهذا بخلاف الامر المطلق فبالتأخير عن أول أوقات الامكان لا يزول تمكنه من الاداء هناك، وههنا يزول تمكنه من الاداء بمضي يوم عرفة إلى أن يدرك هذا اليوم من السنة الثانية ولا يدري أيدركه أم لا؟ وبخلاف قضاء رمضان فتأخيره عن اليوم الاول لا يكون تفويتا أيضا لتمكنه منه في اليوم الثاني، ولا يقال بمجئ الليل يزول تمكنه، ثم لا يدري أيدرك اليوم الثاني أم لا؟ لان الموت في ليلة واحدة قبل

ص 30

ظهور علاماته يكون فجأة وهو نادر ولا يبنى الحكم عليه، وإنما يبنى على الظاهر، بمنزلة موت المفقود، فإنه إذا لم يبق أحد من أقرانه حيا يحكم بموته باعتبار الظاهر، لان بقاءه بعد موت أقرانه نادر، فأما موته في سنة لا يكون نادرا، فيثبت احتمال الموت والحياة في هذه المدة على السواء، فلهذا كان التأخير تفويتا، وعلى هذا صوم الكفارة، والتأخير هناك لا يكون تفويتا لان تمكنه من الاداء لا يزول بمضي بعض الشهور. فأما النوع الثاني وهو الموقت فإنه ينقسم على ثلاثة أقسام: فالاول ما يكون الوقت ظرفا للواجب بالامر ولا يكون معيارا، والثاني ما يكون الوقت معيارا له، والثالث ما هو مشكل مشتبه. فنبدأ ببيان القسم الاول وذلك وقت الصلاة فإن الله تعالى قال: *(إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا)* ثم الوقت يكون ظرفا للاداء وشرطا له وسببا للوجوب، وبيانه أنه ظرف للاداء لصحته في أي جزء من أجزاء الوقت أدى، وهذا لان الصلاة عبادة معلومة بأركانها، فإذا لم يطول أركانها يصير مؤديا في جزء قليل من الوقت، فإذا طول منها ركنا يخرج الوقت قبل أن يصير مؤديا لها، فعرفنا أن الوقت ليس بمعيار ولكنه ظرف للاداء وهو شرط أيضا. فالاداء إنما يتحقق في الوقت والتأخير عنه يكون تفويتا، ومعلوم أن الاداء بأركان يتحقق من المؤدي قبل خروج الوقت، فعرفنا أن خروج الوقت مفوت باعتبار أنه يفوت به شرط الاداء. وبيان أنه سبب للوجوب أنه لا يجوز تعجيلها قبله، وأن الواجب تختلف صفته باختلاف الاوقات، فهذا علامة كون الوقت سببا لوجوبها، فأما ما هو الدليل على ذلك نذكره في بيان أسباب الشرائع في موضعه، ثم لا يمكن جعل جميع الوقت سببا للوجوب، لانه ظرف للاداء، فلو جعل جميع الوقت سببا لحصل الاداء قبل وجود السبب أولا يتحقق الاداء فيما هو ظرف للاداء، فإن شهود جميع الوقت لا يكون إلا بعد مضي الوقت، فلا بد أن يجعل جزء من الوقت سببا للوجوب، لانه ليس بين الكل والجزء الذي هو أدنى  

الصفحة السابقة الصفحة التالية

أصول السرخسي

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب