ص 31
مقدار معلوم، وإذا تقرر هذا قلنا الجزء الاول من الوقت سبب للوجوب فبإدراكه يثبت
حكم الوجوب وصحة أداء الواجب. هذا معنى ما نقل عن محمد بن شجاع رحمه الله: أن
الصلاة تجب بأول جزء من الوقت وجوبا موسعا وهو الاصح. وأكثر العراقيين من مشايخنا
ينكرون هذا ويقولون الوجوب لا يثبت في أول الوقت وإنما يتعلق الوجوب بآخر الوقت،
ويستدلون على ذلك بما لو حاضت المرأة في آخر الوقت فإنها لا يلزمها قضاء تلك الصلاة
إذا طهرت، والمقيم إذا سافر في آخر الوقت يصلي صلاة المسافرين، ولو ثبت الوجوب بأول
جزء من الوقت لكان المعتبر حاله عند ذلك، وكذلك لو مات في الوقت لقي الله ولا شيء
عليه، ولو ثبت الوجوب في أول الوقت لكانت الرخصة في التأخير بعد ذلك مقيدة بشرط ألا
يفوته كما بينا في الامر المطلق. ثم اختلف هؤلاء في صفة المؤدي في أول الوقت، فمنهم
من يقول هو نفل يمنع لزوم الفرض إياه في آخر الوقت إذا كان على صفة يلزمه الاداء
فيها بحكم الخطاب، قال لانه يتمكن من ترك الاداء في أول الوقت لا إلى بدل، وهذا حد
النفل ولكن بأدائه يحصل ما هو المطلوب وهو إظهار فضيلة الوقت فيمنع لزوم الفرض إياه
في آخر الوقت، أو يغير صفة ذلك المؤدي حين أدرك آخر الوقت، بمنزلة مصلي الظهر في
بيته يوم الجمعة إذا شهد الجمعة مع الامام تتغير صفة المؤدى قبلها فيصير نفلا بعد
أن كان فرضا، وهذا غلط بين، فإنه لا تتأدى له هذه الصلاة إلا بنية الظهر، والظهر
اسم للفرض دون النفل، ولو نوى النفل كان مؤديا للصلاة، ولا يمنع ذلك لزوم الفرض
إياه في آخر الوقت، ولا تتغير صفة المؤدى إلى صفة الفرضية، وهذا لان باعتبار آخر
الوقت يجب الاداء، وليس لوجوب الاداء أثر في المؤدى فكيف يكون مغيرا صفة المؤدى ومن
يقول بهذا القول لا يجد بدا من أن يقول إذا أديت الجمعة في أول الوقت كان المؤدى
نفلا والتنفل بالجمعة غير مشروع، وفي قول النبي (ص):
ص 32
وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس ما يبطل ما قالوا، لان المراد وقت الاداء ووقت
الوجوب، فعلى ما قال هذا القائل لا يكون هذا وقت الوجوب ولا وقت أداء الظهر فهو
مخالف للنص. ومنهم من قال المؤدى في أول الوقت موقوف على ما يظهر من حاله في آخر
الوقت، وهكذا القول في الزكاة إذا عجلها قبل الحول، واستدل عليه بما قال محمد رحمه
الله في الزيادات: إذا عجل شاة أربعين ودفعها إلى الساعي ثم تم الحول وفي يده ثمان
وثلاثون فله أن يسترد المدفوع من الساعي، وإن كان الساعي تصدق به كان تطوعا له، ولو
تم الحول وفي يده تسع وثلاثون وجبت عليه الزكاة إذا كان المؤدى قائما في يد الساعي
بعينه وجاز عن الزكاة، وهذا ضعيف أيضا، فالاداء لا يصح إلا بنية الظهر والظهر اسم
للفرض خاصة، ولو نوى الفرض صحت نيته، ولو نوى النفل لم تصح نيته في حق أداء
الفريضة، فلو كان حكم المؤدى التوقف لاستوت فيه النيتان، ولتأدى بمطلق نية الصلاة،
والقول بالتوقف في فعل قد أمضاه لا يكون قويا في الصلاة والزكاة جميعا، وكان الكرخي
رحمه الله يقول: المؤدى فرض على أن يكون الوجوب متعلقا بآخر الوقت أو بالفعل، لان
الوجوب إنما لا يثبت بأول الوقت لانعدام الدليل المعين لذلك الجزء في كونه سببا
وبفعل الاداء يحصل التعيين، فيكون المؤدى واجبا، بمنزلة ما لو باع قفيزا من صبرة
يتعين البيع في قفيز بالتسليم، ولو أدى شاة من أربعين في الزكاة يتعين المؤدى واجبا
بالاداء، والحانث باليمين إذا كفر بأحد الاشياء يتعين ذلك واجبا بأدائه، وهذا في
الحقيقة رجوع إلى ما قلنا، ففي هذه الفصول الوجوب ثابت بأصل السبب قبل تعين الواجب
بالاداء فكذلك هنا الوجوب ثابت بإدراك الجزء الاول من الوقت والتعيين يحصل بالاداء،
وهذا لانه لا يمكن إثبات حكم الوجوب بعد الاداء مقصورا على الحال، لانه إنما يجب
على المرء ما يفعله لا ما قد فعله، وإذا تقدم الوجوب على الفعل ضرورة يتحقق به ما
قلنا إن الوجوب وصحة الاداء يثبت بالجزء الاول من الوقت. ثم قال الشافعي رحمه الله:
لما تقرر الوجوب لزمه الاداء على وجه لا يتغير بتغير حاله بعد ذلك بعارض من حيض أو
سفر، وقلنا
ص 33
نحن: الاداء إنما يجب بالطلب، ألا ترى أن الريح إذا هبت بثوب إنسان وألقته في حجر
غيره فالثوب ملك لصاحبه ولا يجب على من في حجره أداؤه إليه قبل طلبه، لان حصوله في
حجره كان بغير صنعه؟ فكذلك ههنا الوجوب تسببه كان جبرا إذ لا صنع للعبد فيه فإنما
يلزمه أداء الوجوب عند طلب من له الحق وقد خيره من له الحق في الاداء ما لم يتضيق
الوقت، يقرره أن وجوب الاداء لا يتصل بثبوت حكم الوجوب لا محالة، فإن البيع بثمن
مؤجل يوجب الثمن في الحال، إذ لو كان وجوب الثمن متأخرا إلى مضي الاجل لم يصح
البيع، ثم وجوب الاداء يكون متأخرا إلى حلول الاجل فههنا أيضا وجوب الاداء يتأخر
إلى توجه المطالبة، وذلك باعتبار استطاعة تكون مع الفعل فقبل فعل الاداء لم تثبت
المطالبة على وجه ينقطع به الخيار، والدليل عليه أن النائم والمغمى عليه في جميع
الوقت يثبت حكم الوجوب في حقهما، ثم الخطاب بالاداء يتأخر إلى ما بعد الانتباه
والافاقة. والحاصل أنه يتعين للسببية الجزء الذي يتصل به الاداء من الوقت، فإن اتصل
بالجزء الاول كان هو السبب وإلا تنتقل السببية إلى آخر الجزء الثاني ثم إلى الثالث
هكذا لمعنيين: أحدهما أن في المجاوزة عن الجزء الذي يتصل به الاداء في جعله سببا لا
ضرورة وليس بين الادنى والكل مقدار يمكن الرجوع إليه، والثاني أنه إذا لم يتصل
الاداء بالجزء الذي تتعين به السببية يكون تفويتا، كما إذا لم يتصل الاداء بالجزء
الاخير من الوقت يكون تفويتا حتى يصير دينا في الذمة ولا وجه لجعله مفوتا ما بقي
الوقت، لان الشرع خيره في الاداء، فعرفنا أن هذا المعنى تخيير له في نقل السببية من
جزء إلى جزء ما بقي الوقت واسعا يبقى هذا الخيار له فلا يكون مفرطا، ولهذا لا يلزمه
شيء إذا مات، ولا إذا حاضت المرأة، لان الانتقال يتحقق في حقها لبقاء خيارها،
والجزء الذي تدركه من الوقت بعد الحيض لا يوجب عليها الصلاة، والجزء الذي يدركه
المسافر بعدما صار مسافرا لا يوجب عليه إلا ركعتين.
ص 34
ثم قال زفر رحمه الله: إذا تضيق الوقت على وجه لا يفصل عن الاداء تتعين السببية في
ذلك الجزء، ألا ترى أنه ينقطع خياره ولا يسعه التأخير بعد ذلك فلا يتغير بما يعترض
بعد ذلك من سفر أو مرض؟ وقلنا نحن إنما لا يسعه التأخير كي لا يفوت شرط الاداء وهو
الوقت على ما بينا أن الوقت ظرف للاداء وما بعده من آخر الوقت صالح لانتقال السببية
إليه فيحصل الانتقال بالطريق الذي قلنا إلى آخر جزء من أجزاء الوقت، فتتعين السببية
فيه ضرورة إذا لم يبق بعده ما يحتمل انتقال السببية إليه، فيتحقق التفويت بمضيه
ويعتبر صفة ذلك الجزء وحاله عند ذلك الجزء حتى إذا كانت حائضا لا يلزمها القضاء،
وإذا طهرت عن الحيض عند ذلك الجزء وأيامها عشرة تلزمها الصلاة، نص عليه في نوادر
أبي سليمان، فإذا أسلم الكافر أو أدرك الصبي عند ذلك الجزء يلزمهما الصلاة، وإذا
كان مسافرا عند ذلك الجزء يلزمه صلاة السفر، ولهذا قلنا إنه إذا طلعت الشمس وهو في
خلال الفجر يفسد الفرض، لان الجزء الذي يتصل به طلوع الشمس من الوقت سبب صحيح تام
فثبت الوجوب بصفة الكمال فلا يتأدى في الاداء مع النقصان، بخلاف ما إذا غربت الشمس
وهو في خلال صلاة العصر فإن الجزء الذي يتصل به الغروب من الوقت في المعنى سبب فاسد
للنهي الوارد عن الصلاة بعد ما تحمر الشمس، فيثبت الوجوب مع النقصان بحسب السبب وقد
وجد الاداء بتلك الصفة، ولا يدخل على هذا ما إذا انعدم منه الاداء أصلا ثم أدى في
اليوم الثاني بعدما احمرت الشمس فإنه لا يجوز، لانه إذا لم يشتغل بالاداء حتى مضي
الوقت فحكم السببية يكون مضافا إلى جميع الوقت وهو سبب صحيح تام، وإنما يتأدى بصفة
النقصان عند ضعف السبب إذا لم يصر دينا في الذمة، واشتغاله بالاداء يمنع صيرورته
دينا في ذمته، فأما إذا لم يشتغل بالاداء حتى تحقق التفويت بمضي الوقت صار دينا في
ذمته فيثبت بصفة الكمال، وهذا هو الانفصال عن الاشكال الذي يقال على هذا، وهو ما
إذا أسلم الكافر بعدما احمرت الشمس ولم يصل ثم أداها في اليوم
ص 35
الثاني بعدما احمرت الشمس فإنه لا يجوز لانه مع تمكن النقصان في السببية إذا مضى
الوقت صار الواجب دينا في ذمته بصفة الكمال. وما ذهب إليه زفر ضعيف، فإن من تذكر
صلاة الظهر وقد بقي إلى وقت تغير الشمس مقدار ما يمكنه أن يصلي فيه ركعة أو ركعتين
يمنع من الاشتغال بالاداء وإن كان وقت التذكر وقتا للفائتة بالنص، لانه لا يتمكن من
الاداء قبل تغير الشمس وإذا تغيرت فسدت صلاته، فكذلك عند تضيق الوقت يؤمر بالاداء
ولا يسعه التأخير، لا باعتبار أن السببية تتعين في ذلك الجزء، ولكن ليتمكن من
الاداء فيما هو ظرف للاداء وهو الوقت، وهذا التمكن يفوت بالتأخير بعدها. ومن حكم
هذا الوقت أن التعيين لا يثبت بقوله حتى لو قال عينت هذا الجزء، إن لم يشتغل
بالاداء بعده لا يتعين، لان خياره لم ينقطع وله أن يؤخر الاداء بعد هذا القول،
والتعيين من ضرورة انقطاع خياره في نقل السببية من جزء إلى جزء وذلك لا يتم إلا
بفعل الاداء كالمكفر إذا قال عينت الطعام للتكفير به لا يتعين ما لم يباشر التكفير
به، ولا معنى لقول من يقول إن نقل السببية من جزء إلى جزء تصرف في المشروعات وليس
ذلك إلى العبد، لان الشرع لما خيره فقد جعل له هذه الولاية فيثبت له حق التصرف بهذه
الصفة، لان الشرع قد ولاه ذلك كما ثبت له ولاية الايجاب فيما كان مشروعا غير واجب
بنذره. ومن حكمه أنه لا يمنع صحة أداء صلاة أخرى فيه، لان الوقت ظرف للاداء،
وللواجب أركان معلومة يؤديها بمنافع هي حقه وبعد الوجوب بقيت المنافع حقا له أيضا
فكان له أن يتصرف فيها بالصرف إلى أداء واجب آخر، بمنزلة من دفع ثوبا إلى خياط
ليخيطه في هذا اليوم فإنه يستحق على الخياط إقامة العمل ولا يتعذر عليه خياطة ثوب
آخر في ذلك اليوم، لان منافعه بقيت حقا له بعد ما استحق عليه خياطة الثوب بالاجارة.
ص 36
ومن حكمه أنه لا يتأدى إلا بالنية لان صرف ما هو حقه من المنافع إلى أداء الواجب
عليه لا يكون إلا بالنية. ومن حكمه اشتراط تعيين النية فيه، لان منافعه لما بقيت
على صفة يصلح لاداء فرض الوقت وغيره من الصلوات بها لم يتعين فرض الوقت ما لم يعينه
بالنية، واشتراط تعيين الوقت لاصابة فرض الوقت حكم ثبت شرعا فلا يسقط ذلك بتقصير
يكون من العبد في الاداء حتى إذا تضيق الوقت على وجه لا يسع إلا لاداء الفرض أو لا
يسع له أيضا لا يسقط اعتبار نية التعيين فيه بهذا المعنى. وأما القسم الثاني وهو ما
يكون الوقت معيارا له كصوم رمضان، لان ركن الصوم هو الامساك ومقداره لا يعرف إلا
بوقته فكان الوقت معيارا له بمنزلة الكيل في المكيلات. ومن حكمه أن الامساك الذي
يوجد منه في الايام من شهر رمضان لما تعين لاداء الفرض لم يبق غيره مشروعا فيه، إذ
لا تصور لاداء صومين بإمساك واحد، وما يتصور في هذا الوقت لا يفضل عن المستحق بحال
فلا يكون غيره مشروعا فيه مستحقا ولا متصور الاداء شرعا. ثم قال أبو يوسف ومحمد
رحمهما الله: يستوي في هذا الحكم المسافر والمقيم، لان وجوب صوم الشهر يثبت بشهود
الشهر في حق المسافر ولهذا صح الاداء، إلا أن الشرع مكنه من الترخص بالفطر لدفع
المشقة عنه، فإذا ترك الترخص كان هو والمقيم سواء فيكون صومه عن فرض رمضان فتلغو
نيته لتطوع أو لواجب آخر. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا نوى المسافر واجبا آخر صح
صومه عما نوى، لان انتفاء صوم آخر في هذا الزمان ليس من حكم الوجوب واستحقاق الاداء
بمنافعه فذلك موجود فيما كان الوقت ظرفا له، بل هو من حكم تعينه مستحقا للاداء فيه
ولا تعين في حق المسافر فهو مخير بين الاداء أو التأخير إلى عدة من أيام أخر، فلا
تنفي صحة أداء صوم آخر منه بهذا الامساك، ولان الوجوب وإن ثبت في حقه ولكن الترخص
بتأخير أداء الواجب ثابت في حقه أيضا وهو ما ترك الترخص حين
ص 37
ما صرف الامساك إلى ما هو دين في ذمته فإن ذلك أهم عنده، وإذا كان هو بالفطر مترخصا
لان فيه رفقا ببدنه فلان يكون في صرفه إلى واجب آخر مترخصا لانه نظر منه لدينه كان
أولى، وعلى الطريق الاول إذا نوى النفل كان صائما عن النفل، وعلى الطريق الثاني
يكون صائما عن الفرض لانه في نية النفل لا يكون مترخصا بالصرف إلى ما هو الاهم،
وفيه روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله. فأما المريض إذا صام كان صومه عن صوم رمضان
وإن نوى عن واجب آخر أو نوى النفل، لان الرخصة في حق المريض إنما تثبت إذا تحقق
عجزه عن أداء الصوم، وإذا صام فقد انعدم دليل سبب الرخصة في حقه فكان هو كالصحيح،
وأما الرخصة في حق المسافر، باعتبار سبب ظاهر قام مقام العذر الباطن وهو السفر،
وذلك لا ينعدم بفعل الصوم فيبقى له حق الترخص وهو في نيته واجبا آخر مترخص كما
بيناه. وقال زفر رحمه الله: ولما تعين صوم الفرض مشروعا في هذا الزمان وركن الصوم
هو الامساك فالذي يتصور فيه من الامساك مستحق الصرف إليه فلا يتوقف الصحة على عزيمة
منه، بل على أي وجه أتى به يكون من المستحق، كمن استأجر خياطا ليخيط له ثوبا بعينه
بيده فسواء خاطه على قصده الاعانة أو غيره يكون من الوجه المستحق، ومن عليه الزكاة
في نصاب بعينه إذا وهبه للفقير يكون مؤديا للزكاة وإن لم ينو لهذا المعنى. ولكنا
نقول مع تعين الصوم مشروعا منافعه التي توجد في الوقت باقية حقا له وهو مأمور بأن
يؤدي بما هو حقه ما هو مستحق عليه من العبادة، وذلك بأداء يكون منه على اختيار فلا
يتحقق ذلك بدون العزيمة، لانه ما لم يعزم على الصوم لا يكون صارفا ماله إلى ما هو
مستحق عليه فإن عدم العزم ليس بشيء، وإنما لا يتحقق منه صرف منافعه إلى أداء صوم
آخر لانه غير مشروع في هذا الوقت، كما لا يتحقق منه أداء صوم بالليل لانه غير مشروع
فيه، بخلاف الاجير ففي أجير الواحد المستحق منافعه بعينه وفي الاجير المشترك
المستحق هو الوصف
ص 38
الذي يحدث في الثوب بعمله وذلك لا يتوقف على عزم يكون منه، وبخلاف الزكاة فالمستحق
صرف جزء من المال إلى المحتاج ليكون كفاية له من الله تعالى وقد تحقق ذلك، فالهبة
صارت عبارة عن الصدقة في حقه مجازا، لان المبتغى بها وجه الله تعالى دون العوض من
المصروف إليه. وقال الشافعي: لا يتحقق صرف ماله إلى ما هو مشروع في الوقت مستحقا ما
لم يعينه في عزيمته، لان معنى القربة معتبر في الصفة كما هو معتبر في الاصل، فكما
تشترط عزيمته في أداء أصل الصوم ليتحقق معنى العبادة يشترط ذلك في وصفه ليكون له
اختيار في الصفة كما في الاصل، ومن قال بنية النفل يصير مصيبا للمشروع فقد أبعد،
لانه لو اعتقد هذه الصفة في المشروع في هذا الوقت كفر بربه فكيف يصير بهذه العزيمة
مصيبا للمشروع؟ ولكنا نقول: لما كان المشروع في هذا الوقت من الصوم الذي يتصور
أداؤه منه واحدا عينا كان هو بالقصد إلى الصوم مصيبا له، فالواحد المعين في زمان أو
مكان يصاب باسم جنسه كما يصاب باسم نوعه، وكان هذا في الحقيقة منا قولا بموجب العلة
أن تعيين المستحق في العزيمة لا بد منه، ولكن هذا التعيين يحصل بنية الصوم، لا أن
نقول التعيين غير معتبر ولكن لا يشترط عزيمته في الوصف مقصودا، لان بعد وجود أصل
الصوم منه في هذا الزمان لا اختيار له في صفته، ولهذا لا يتصور أداؤه بصفة أخرى
شرعا، فأما إذا نوى النفل فهذا الوصف من نيته لغو، لان النفل غير مشروع فيه كما
تلغو نية أداء الصوم في الليل لانه غير مشروع فيه، وكما تلغو نية الفرض خارج رمضان
ممن لا فرض عليه، وإنما يعتبر من نيته عزيمة أصل الصوم وهو مأمور بأن يعتقد في صوم
المشروع أنه صوم، فبه يكون مصيبا للمشروع، وعلى هذا نقول فيمن نذر الصوم في وقت
بعينه خارج رمضان إنه يتأدى منه بمطلق النية ونية النفل، لان المشروع في الوقت قبل
نذره عين وهو النفل وقد جعل له الشرع ولاية جعل المشروع واجبا بنذره، فبمطلق النية
يكون مصيبا للمشروع وهو المنذور بعينه، ونية النفل منه بعد النذر لغو،
ص 39
لانه لما صار واجبا بنذره لم يبق نفلا في حقه، فأما إذا نوى واجبا آخر كان عن ذلك
الواجب، لان المشروع في الوقت قبل نذره كان صالحا لاداء واجب آخر به إذا صرفه إليه
بعزمه، وتلك الصلاحية لا تنعدم بنذره، لان تصرف الناذر صحيح في محل حقه، وذلك في
جعل ما كان مشروعا له نفلا واجبا بنذره، فأما نفي الصلاحية فليس من حقه في شيء فلا
يعتبر تصرفه فيه، وإذا بقيت الصلاحية تأدي الواجب الآخر به عند عزمه بخلاف شهر
رمضان فقد انتفى فيه صلاحية الامساك لاداء صوم آخر سوى الفرض شرعا فتلغو نيته لواجب
آخر كما تلغو نية النفل. وقال الشافعي: صرف الامساك الذي يتصور منه في نهار رمضان
إلى صوم الفرض مستحق عليه من أول النهار إلى آخره ولا يتحقق هذا الصرف إلا بعزيمته،
فإذا انعدمت العزيمة في أول النهار لم يكن ذلك الجزء مصروفا إلى الصوم، وهو
بالعزيمة بعد ذلك إنما يكون صارفا لما بقي لا لما مضى، والصوم منه لا يتحقق فيما
مضى، ولهذا لو نوى بعد الزوال لا يصح، ولا صحة لما بقي بدون ما مضى، ألا ترى أن
الاهلية لاداء الفرائض تشرط من أول النهار إلى آخره فرجحت المفسد على المصحح إذا
انعدمت النية في أول النهار أخذا بالاحتياط في العبادة، بخلاف النفل فهو غير مقدر
شرعا، وأداؤه موكول إلى نشاطه فيتأدى بقدر ما يؤديه، مع أن هناك لو رجحنا المفسد
فاته الاداء لا إلى خلف فرجحنا المصحح لكيلا يفوته أصلا وههنا يفوته الاداء إلى
خلف، وهذا بخلاف ما إذا قدم النية فإن ما تقدم منه من العزيمة يكون قائما حكما إذا
جاء وقت الاداء، وفي هذا المعنى أوله وآخره سواء، فتقترن العزيمة بأداء الكل حكما،
ألا ترى أن صوم
ص 40
القضاء به يتأدى ولا يتأدى بالعزيمة قبل الزوال؟ ولكنا نقول ما يتأدى به هذا الصوم
في حكم شيء واحد فإنه لا يحتمل التجزي في الاداء، وبالاتفاق لا يشترط اقتران النية
بأداء جميعه، فإنه لو أغمي عليه بعد الشروع في الصوم يتأدى صومه، ولا يشترط اقترانه
بأول حالة الاداء، فإنه لو قدم النية تأدى صومه وإن كان غافلا عنه عند ابتداء
الاداء بالنوم، فأما أن يكون ابتداء حال الصوم في أنه يسقط اعتبار العزيمة فيه
بمنزلة الدوام في الصلاة أو يكون حال الابتداء معتبرا بحال الدوام وكان ذلك لدفع
الحرج، فوقت الشروع في الاداء ههنا مشتبه بحرج المرء في الانتباه في ذلك الوقت، ثم
لا يندفع هذا الحرج بجواز تقديم النية في جنس الصائمين، ففيهم صبي يبلغ ومجنون يفيق
في آخر الليل، وفي يوم الشك هو ممنوع من نية الفرض قبل أن يتبين، ونية النفل عنده
لا تتأدى إذا تبين، وإذا بقي معنى الحرج قلنا: لما صح الاداء بنية متقدمة وإن لم
تقارن حالة الشروع ولا حالة الاداء فلان تصح بنية متأخرة لاقترانها بما هو ركن
الاداء كان أولى. وتبين بهذا أن الموجود من الامساك في أول النهار لم يتعين للفطر،
لانه بقي متمكنا من جعل الباقي صوما بعزيمته، والواحد الذي لا يتجزى في حكم لا
ينفصل بعضه من بعض، فمن ضرورة بقاء الامكان فيما بقي بقاؤه فيما مضى حكما بأن تستند
العزيمة إليه لتوقف الامساك عليه ولكن هذا إذا وجدت العزيمة في أكثر الركن، لان
الاكثر بمنزلة الكمال من وجه، فكما أنه ما بقي الامكان في صرف جميع الركن إلى ما هو
المستحق بعزيمته يبقى حكم صحة الاداء، فكذلك إذا بقي الامكان في صرف أكثر الركن إلى
ما هو المستحق عليه بعزيمته، لان الكل من وجه يجوز إقامته مقام الكل من جميع الوجوه
حكما، وفيه أداء العبادة في وقتها فيكون
ص 41
المصير إليه أولى من المصير إلى التفويت لانعدام صفة الكمال من جميع الوجوه، وهذا
الترجيح أولى من الترجيح بصفة العبادة، فهي حالة تبتنى على وجود الاصل، والترجيح
بإيجاد أصل الشيء أولى بالمصير إليه من الترجيح بالصفة، والصفة تتبع الاصل ولا يتبع
الاصل الصفة، وعلى هذا نقول في المنذور في وقت بعينه إنه يتأدى بمثل هذه العزيمة،
لانه بهذه العزيمة يكون مؤديا للمشروع قبل نذره، والمشروع في الوقت بعد نذره على ما
كان عليه من قبل فيصير مؤديا له بهذه العزيمة أيضا وفي أدائه وفاء بالمنذور، وكذلك
في صوم القضاء يصير مؤديا للمشروع في الوقت بهذه العزيمة وهو النفل. وأما القضاء
فهو مستحق في ذمته لا اتصال له بالوقت قبل أن يعزم على صرف المشروع في الوقت إليه
فلم يتوقف إمساكه في أول النهار عليه ولم يزل تمكنه من أداء ما في ذمته بعزيمة
تقترن بالجميع من كل وجه، ولهذا لا نصير إلى اعتبار الكل من وجه واحد فيه، ولهذا
شرطنا الاهلية في جميع النهار لان مع انعدام الاهلية في أول النهار لا يثبت استحقاق
الاداء، والمصير إلى طلب الكمال من وجه لتقرر استحقاق الاداء، فإذا لم توجد تلك
الاهلية في أول النهار لم نشتغل بطلب الكمال من وجه، ألا ترى أنه يشترط وجود
الاهلية للعبادة عند النية وإن سبقت وقت الاداء ولم يدل ذلك على اشتراط اقتران
النية بركن الاداء؟ وعلى هذا الاصل قلنا في صوم النفل إنه لا يتأدى بدون العزيمة
قبل الزوال، لان الركن الذي به يتأدى الصوم كما لا يتجزى وجوبا لا يتجزى وجودا ولا
يتصور الاداء إلا بكماله، وصفة الكمال لا تثبت بالنية بعد الزوال حقيقة ولا حكما،
وتثبت بالنية قبل الزوال حكما باعتبار إقامة الاكثر مقام الكل، ولم يرد على ما قلنا
الامساك الذي يندب إليه المرء في يوم الاضحى إلى أن يفرغ من الصلاة فإن ذلك ليس
بصوم، وإنما ندب إليه ليكون أول ما يتناوله في هذا اليوم من القربان والناس أضياف
الله تعالى يتناول
ص 42
القربان في هذا اليوم وإلا حسن أن يكون أول ما يتناول منه الضيف طعام الضيافة،
ولهذا ثبت هذا الحكم في حق أهل الامصار دون أهل السواد فلهم حق التضحية بعد طلوع
الفجر، وليس لاهل المصر أن يضحوا إلا بعد الصلاة. ومن هذا الجنس صوم الكفارة
والقضاء، فالوقت معيار له على معنى أن مقداره يعرف به ولكنه ليس بسبب لوجوبه، بخلاف
صوم رمضان فالوقت هناك معيار وسبب الوجوب على ما نبينه في بابه، ولهذا لا يتحقق
قضاء صوم يومين في يوم واحد، وأداء كفارتين بالصوم في شهرين، لان الوقت معيار
بمنزلة الكيل للمكيل فكما لا يتحقق قفيزان في قفيز واحد في حالة واحدة، لا يتحقق
صوم يومين في يوم واحد. ومن حكم هذا النوع أنه لا يتأدى بدون العزيمة منه على
الاداء في جميع الوقت وأنه لا يتحقق الفوات فيه ما بقي حيا، وقد قررنا هذا فيما
سبق. وأما القسم الثالث، وهو المشكل فوقت الحج، وبيان الاشكال فيه أن الحج عبادة
تتأدى بأركان معلومة، ولا يستغرق الاداء جميع الوقت، فمن هذا الوجه (يشبه الصلاة
ولا يتصور من الاداء في الوقت في سنة واحدة إلا حجة واحدة فمن هذا الوجه) يشبه
الصوم الذي يكون الوقت معيارا له وفي وقته اشتباه أيضا، فالحج فرض العمر ووقته أشهر
الحج من سنة من سني العمر، وأشهر الحج من السنة الاولى تتعين على وجه لا تفضل عن
الاداء، وباعتبار أشهر الحج من السنين التي يأتيها الوقت تفضل عن الاداء، وكون ذلك
من عمره محتمل في نفسه فكان مشتبها، ثم يترتب على ما قلنا حكمان: صحة الاداء
باعتبار الوقت، ووجوب التعجيل بكون الوقت متعينا، وفي أحد الحكمين اتفاق حتى إنه
يكون مؤديا في أي سنة أداه للتيقن بكون ذلك من عمره ولاتساع الوقت بإدراكه، وفي
الحكم الثاني اختلاف، فعند أبي يوسف رحمه الله الوقت متعين قبل إدراك السنة الثانية
فلا يسعه التأخير، وعند محمد رحمه الله الوقت غير متعين ما بقي حيا فيسعه التأخير
بشرط أن لا يفوته.
ص 43
ومن حكمه أنه بعدما لزمه الاداء بالتمكن منه يصير مفوتا بالموت قبل الاداء حتى يؤمر
بالوصية بأن يحج عنه، بخلاف الصلاة فإن هناك بعد التمكن من الاداء لا يصير مفوتا
إذا مات في الوقت قبل الاداء، لان الوقت هنا مقدر بعمره فبموته يتحقق مضي الوقت وقد
تمكن من الاداء فإذا أخر حتى مضي الوقت كان مفوتا، وهناك الوقت مقدر بزمان لا ينتهي
ذلك بموته فلا يكون هو مفوتا بتأخير الاداء وإن مات لبقاء الوقت فلهذا لا يلزمه
شيء، ويكون آثما هنا إذا مات بعد التمكن بتأخير الاداء. أما عند أبي يوسف رحمه الله
فلان وقت الاداء كان متعينا فالتأخير عنه كان تفويتا، وعند محمد رحمه الله إباحة
التأخير له كان مقيدا بشرط وهو أن يؤديه في عمره، فإذا انعدم هذا الشرط كان آثما في
التأخير، لانه تبين بموته أن الوقت كان عينا وأن التأخير ما كان يسعه بعد التمكن من
الاداء. ومن حكمه أنه لا يتأدى الفرض بنية النفل. أما عند محمد رحمه الله فلان وقت
الاداء من عمره متسع يفضل عن الاداء فهو كوقت الصلاة، وعند أبي يوسف رحمه الله وقت
الاداء وإن كان متعينا فالاداء يكون بأركان معلومة فيكون بمنزلة الصلاة بعد ما تضيق
الوقت بها، ثم وقت أداء النفل ووقت أداء الفرض في الحج غير مختلف فتصح منه العزيمة
على أداء النفل فيه وبه تنعدم العزيمة على أداء الفرض، وبدون العزيمة لا يتأدى،
بخلاف الصوم فلا تصور لاداء النفل هناك في الوقت المعين لاداء الفرض، فتلغو نية
النفل هناك ويكون مؤديا للفرض بعزيمة أصل النية. وقال الشافعي: أنا الغي نيته النفل
منه أيضا لانه نوع سفه، فالحج لا يتأدى إلا بتحمل المشقة وقطع المسافة، ولهذا لم
يجب في العمر إلا مرة، فنية النفل قبل أداء الفرض تكون سفها والسفيه عندي محجور
عليه فتلغو نية النفل بهذا الطريق ولكن بإلغاء نية النفل لا ينعدم أصل نيته الحج
لان الصفة تنفصل عن الاصل في هذه العبادة، ألا ترى أن بانعدام صفة الصحة لا ينعدم
أصل الاحرام، بخلاف الصوم فالصفة هناك لا تنفصل عن الاصل، ألا ترى أن بانعدام صفة
الصحة ينعدم أصل الصوم مع أن الحج قد يتأدى من غير عزيمة كالمغمى عليه يحرم عنه
أصحابه فيصير هو محرما،
ص 44
والرجل يحرم عن أبويه فيصح وإن لم توجد العزيمة منهما. ولكنا نقول: الواجب عليه
أداء ما هو عبادة والمؤدى يكون عبادة وقد بينا أن هذا الوصف لا يتحقق بدون اختيار
يكون منه بالعزم على الاداء، وإعراضه عن أداء الفرض بالعزم على أداء النفل يكون
أبلغ من إعراضه عن أداء الفرض بترك أصل العزيمة، وفي إثبات الحجر بالطريق الذي قاله
انتفاء اختياره وجعله مجبورا فيه وهذا ينافي أداء العبادة فيعود هذا القول على
موضوعه بالنقض، وأما الاحرام فعندنا شرط الاداء بمنزلة الطهارة للصلاة، ولهذا جوزنا
تقديمه على وقت الحج، أو أقمنا هناك دلالة الاستعانة مقام حقيقة الاستعانة عند
الحاجة استحسانا، فيصير العزم به على أداء الفرض موجودا حكما، وهذا المعنى ينعدم
عند العزم على النفل. ومن حكمه أنه يتأدى بمطلق نية الحج لا باعتبار أنه يسقط
اشتراط نية التعين فيه فإن الوقت لما كان قابلا لاداء الفرض والنفل فيه لا بد من
تعيين الفرض ليصير مؤدى، ولكن هذا التعيين ثبت بدلالة الحال فإن الانسان في العادة
لا يتحمل المشقة العظيمة ثم يشتغل بأداء حجة أخرى قبل أداء حجة الإسلام، ودلالة
العرف يحصل التعيين بها ولكن إذا لم يصرح بغيرها، فأما مع التصريح يسقط اعتبار
العرف، كمن اشترى بدراهم مطلقة يتعين نقد البلد بدلالة العرف، فإن صرح باشتراط نقد
آخر عند الشراء سقط اعتبار ذلك العرف وينعقد العقد بما صرح به.
فصل: في بيان حكم
الواجب بالامر

وذلك نوعان: أداء، وقضاء. فالاداء تسليم عين الواجب بسببه إلى
مستحقه، قال الله تعالى: *(إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها)* وقال عليه
السلام: أد الامانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك والقضاء إسقاط الواجب بمثل من
عند المأمور هو حقه، قال عليه السلام: خيركم أحسنكم قضاء. وقال: رحم الله امرأ سهل
البيع والشراء، سهل القضاء، سهل الاقتضاء ويتبين هذا في المغصوب
ص 45
رد الغاصب عينه تسليم نفس الواجب عليه بالغصب، ورد المثل بعد هلاك العين إسقاط
الواجب بمثل من عنده، فيسمى الاول أداء والثاني قضاء لحقه، وقد يدخل النفل في قسم
الاداء على قول من يقول مقتضى الامر الندب أو الاباحة، لانه يسلم عين ما ندب إلى
تسليمه، ولا يدخل في قسم القضاء، لانه إسقاط الواجب بمثل من عنده ولا وجوب هناك،
وقد تستعمل عبارة القضاء في الاداء مجازا لما فيه من إسقاط الواجب، قال الله تعالى:
*(فإذا قضيتم مناسككم)* وقال تعالى: *(فإذا قضيت الصلاة)* وقد تستعمل عبارة الاداء
في القضاء مجازا لما فيه من التسليم إلا أن حقيقة كل عبارة ما فسرناها به، ففي
الاداء معنى الاستقصاء وشدة الرعاية في الخروج عما لزمه وذلك بتسليم عين الواجب،
وليس في القضاء من معنى الاستقصاء وشدة الرعاية شيء، بل فيه إشارة إلى معنى التقصير
من المأمور وذلك بإقامة مثل من عنده مقام المأمور به بعد فواته. واختلف مشايخنا في
أن وجوب القضاء بالسبب الذي وجب به الاداء أم بدليل آخر غير الامر الذي به وجب
الاداء؟ (فالعراقيون يقولون وجوب القضاء بدليل آخر غير الامر الذي به وجب الاداء)
لان الواجب بالامر أداء العبادة ولا مدخل للرأي في معرفة العبادة، فإذا كان نص
الامر مقيدا بوقت كان عبادة في ذلك الوقت، ومعنى العبادة إنما يتحقق في امتثال
الامر، وفي المقيد بالوقت لا تصور لذلك بعد فوات الوقت، عرفنا أن الوجوب بدليل
مبتدأ وهو قوله تعالى في الصوم *(فعدة من أيام أخر)* وقوله عليه السلام في الصلاة:
من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها يوضحه أن الاداء بفعل من المأمور والفعل
الذي يوجد منه في وقت غير الفعل الذي يوجد منه في وقت آخر فإذا كان الامر مقيدا
بوقت لا يتناول فعل الاداء في وقت آخر، كمن استأجر أجيرا في وقت معلوم لعمل فمضي
ذلك الوقت لا يلزمه تسليم النفس لاقامة العمل بحكم ذلك العقد، وهذا لان في التنصيص
على التوقيت إظهار فضيلة
ص 46
الوقت وذلك لا يحصل بالاداء بعد مضي الوقت، فعرفنا أنه إن فات بمضي الوقت فإنما
يفوت على وجه لا يمكن تداركه، فلا يجب القضاء إلا بدليل آخر. وأكثر مشايخنا رحمهم
الله على أن القضاء يجب بالسبب الذي به وجب الاداء عند فواته وهو الاصح، فإن الشرع
لما نص على القضاء في الصلاة والصوم كان المعنى فيه معقولا وهو أن مثل المأمور به
في الوقت مشروع حقا للمأمور بعد خروج الوقت، وخروج الوقت قبل الاداء لا يكون مسقطا
لاداء الواجب في الوقت بعينه بل باعتبار الفوات فيتقدر بقدر ما يتحقق فيه الفوات
وهو فضيلة الوقت، فلا يبقى ذلك مضمونا عليه بعد مضي الوقت إلا في حق الاثم إذا تعمد
التفويت، فأما في أصل العبادة التفويت لا يتحقق بمضي الوقت لكون مثله مشروعا فيه
للعبد متصور الوجود منه حقيقة وحكما، وما يكون سقوطه للعجز بسبب الفوات يتقدر بقدر
ما يتحقق فيه الفوات فيبقى هو مطالبا بإقامة المثل من عنده مقام نفس الواجب بالامر
وهو الاداء في الوقت، وإذا عقل هذا المعنى في المنصوص عليه تعدى به الحكم إلى الفرع
وهي الواجبات بالنذر الموقت من الصوم والصلاة والاعتكاف، وهذا أشبه بأصول علمائنا
رحمهم الله فإنهم قالوا: لو أن قوما فاتتهم صلاة من صلوات الليل فقضوها بالنهار
بالجماعة جهر إمامهم بالقراءة، ولو فاتتهم صلاة من صلوات النهار فقضوها بالليل لم
يجهر إمامهم بالقراءة، ومن فاتته صلاة في السفر فقضاها بعد الاقامة صلى ركعتين، ولو
فاتته حين كان مقيما فقضاها في السفر صلى أربعا، وهذا لان الاداء صار مستحقا بالامر
في الوقت، ونحن نعلم أنه ليس المقصود عين الوقت، فمعنى العبادة في كونه عملا بخلاف
هوى النفس، أو في كونه تعظيما لله تعالى وثناء عليه، وهذا لا يختلف باختلاف
الاوقات، وبعدما صار مضمون التسليم لا يسقط ذلك عنه بترك الامتثال بل يتقرر به حكم
الضمان إلا أن بقدر ما يتحقق العجز عن أدائه بالمثل الذي هو قائم مقامه يسقط ضرورة
وما وراء ذلك يبقى، ولهذا قلنا: من فاتته صلاة من أيام التكبير فقضاها بعد أيام
التكبير لم يكبر عقيبها، لان الجهر بالتكبير دبر الصلاة غير مشروع للعبد في غير
أيام التكبير بل هو منهي عنه لكونه بدعة، فبمضي الوقت يتحقق الفوات فيه فيسقط، أصل
الصلاة مشروع له بعد أيام التكبير فيبقى الواجب
ص 47
باعتباره، وكذلك من فاتته الجمعة لم يقضها بعد مضي الوقت، لان إقامة الخطبة مقام
ركعتين غير مشروع للعبد في غير ذلك الوقت، فبمضي الوقت يتحقق العجز فيه وتلزمه صلاة
الظهر، لان مثله مشروع للعبد بعد مضي الوقت. ومن نصر القول الاول استدل بما ذكره
محمد رحمه الله في الجامع أن من نذر أن يعتكف شهر رمضان فصام ولم يعتكف ثم قضى
اعتكافه في الرمضان الثاني لا يجزيه عن المنذور، ولو كان وجوب القضاء بما وجب به
الاداء وهو الامر بالوفاء بالنذر لجاز، لان الثاني مثل الاول في كون الصوم مشروعا
فيه مستحقا عليه وصحة أداء الاعتكاف به، فعرفنا أنه إنما لم يجز لان وجوب القضاء
بدليل آخر وهو تفويت الواجب في الوقت عند مضيه على وجه هو مقدور فيه، وهذا السبب
يوجب الاعتكاف دينا في ذمته فيلتحق باعتكاف يجب بالنذر مطلقا عن الوقت، فلا يتأدى
بالاعتكاف في رمضان. ولكنا نقول: أصل النذر أوجب عليه الاعتكاف، ولوجوب الاعتكاف
أثر في وجوب الصوم باعتبار أنه شرط فيه وشرط الشيء تابع له فموجب الاصل يكون موجبا
لتبعه إلا أنه امتنع وجوب الصوم به لعارض على شرف الزوال وهو اتصاله بوقت لا يجوز
أن يجب الصوم فيه بإيجاب من العبد، فبمضي الوقت قبل أن يعتكف زال هذا الاتصال وتحقق
وجوب الصوم لوجوب الاعتكاف في ذمته، ثم الصوم الواجب في الذمة لا يتأدى بصوم رمضان،
وإنما لم يجب عليه الصوم لاتصال حكم الاداء بصوم رمضان وقد انقطع ذلك حين صام في
الرمضان الاول ولم يعتكف حتى إنه لو لم يصم ولم يعتكف ثم اعتكف في قضاء الصوم خرج
عن عهدة المنذور لبقاء الاتصال حين لم يصم في رمضان، وإن تحقق مضي الوقت، وبهذا
تبين فساد ما ذهبوا إليه لان وجوب القضاء لو كان بدليل آخر كان سببا آخر، والنذر
بالاعتكاف ما كان متصلا به فلا يتأدى باعتباره كما لا يتأدى في الرمضان الثاني وإن
صامه، يقرره أن امتناع وجوب الصوم عليه بالنذر لمعنى شرف الوقت المضاف إليه النذر،
وقد بينا أن شرف الوقت يفوت بمضيه على وجه لا يمكن تداركه، فبفواته ينعدم ما كان
متعلقا به وهو امتناع
ص 48
وجوب الصوم بالنذر بالاعتكاف، حتى قال أبو يوسف رحمه الله في رواية: يبطل نذره لانه
يبقى اعتكافا بغير صوم وذلك لا يكون واجبا. وقلنا يجب الصوم لوجوب الاعتكاف لان
بانعدام التبع لا ينعدم الاصل، وبوجوب الاصل يجب التبع عند زوال المانع. قال رضي
الله عنه: واعلم بأن الاداء في الامر الموقت يكون في الوقت، وفي غير الموقت يكون
الاداء في العمر، لان جميع العمر فيه بمنزلة الوقت فيما هو موقت، وهو أنواع ثلاثة:
كامل، وقاصر، وأداء يشبه القضاء حكما. فالكامل هو الاداء المشروع بصفته كما أمر به،
والقاصر بأن يتمكن نقصان في صفته، وذلك مثل الصلاة المكتوبة بالجماعة فهي أداء محض،
أو الاداء من المنفرد يكون قاصرا لنقصان في صفة الاداء فإنه مأمور بالاداء
بالجماعة، ولهذا لا يكون الجهر بالقراءة عزيمة في حق المنفرد في صلاة الليل، لان
ذلك من شبه الاداء المحض، ومن اقتدى بالامام من أول الصلاة وأداها معه كان ذلك أداء
محضا، ولو اقتدى به في القعدة الاخيرة ثم قام وأدى الصلاة كان ذلك أداء قاصرا، لانه
يؤديها في الوقت ولكنه منفرد فيما يؤدي، لان اقتداءه بالامام فيما فرغ الامام من
أدائه لا يتحقق فكان منفردا في الاداء وإن كان مقتديا في التحريمة لانه أدركها مع
الامام، ولهذا لا يصح اقتداء الغير به وتلزمه القراءة وسجود السهو لو سها لكونه
منفردا وأداء المنفرد قاصر ولهذا لا يجهر بالقراءة. ولو اقتدى بالامام في أول
الصلاة ثم نام خلفه حتى فرغ الامام أو سبقه الحدث فذهب وتوضأ ثم جاء بعد فراغ
الامام فهو مؤد يشبه أداؤه القضاء في الحكم، لان باعتبار بقاء الوقت هو مؤد،
وباعتبار أنه التزم أداء الصلاة مع الامام حين تحرم معه كان هو قاضيا لما فاته
بفراغ الامام، ولهذا جعلناه في حكم المقتدي حتى لا تلزمه القراءة، ولو سها لا يلزمه
سجود السهو، لان القضاء بصفة الاداء واجب بما وجب به الاداء فإن قيل هذا على العكس
فصاحب الشرع جعل المسبوق قاضيا بقوله عليه السلام: وما فاتكم فاقضوا فكيف يستقيم
جعل المسبوق مؤديا وجعل اللاحق قاضيا حكما؟ قلنا: قد بينا أن استعمال
ص 49
إحدى العبارتين مكان الاخرى مجازا جائز، وإنما سمي المسبوق قاضيا مجازا لما في فعله
من إسقاط الواجب، أو سماه قاضيا باعتبار حال الامام، وإليه أشار في قوله: وما فاتكم
فاقضوا ونحن إنما نجعله مؤديا أداء قاصرا باعتبار حاله، وعلى هذا الاصل قلنا لو أن
مسافرا اقتدى بمسافر ونام خلفه ثم استيقظ ونوى الاقامة وهو في موضع الاقامة أو سبقه
الحدث فرجع إلى مصره وتوضأ، فإن كان ذلك قبل فراغ الامام من صلاته صلى أربع ركعات،
وإن كان بعد فراغه صلى ركعتين إلا أن يتكلم فحينئذ يصلي أربعا، لانه بمنزلة القاضي
في الاتمام حكما، ووجوب القضاء بالسبب الذي به وجب الاداء فلا يتغير إلا بما يتغير
به الاصل، وقبل فراغ الامام نية الاقامة (ودخول موضع الاقامة) مغير للفرض في حق
الاصل وهو الامام، فيكون مغيرا في حق من يقضي ذلك الاصل، وبعد الفراغ نية الاقامة
ودخول المصر غير مغير للفرض في حق الاصل، فكذلك لا يغير في حق من يقضي ذلك الاصل
إلا أن يتكلم فحينئذ ينعدم معنى القضاء لخروجه بالكلام من تحريمة المشاركة وهو
المؤدي لبقاء الوقت فيتغير فرضه بنية الاقامة، ولو كان مسبوقا صلى أربعا في الوجهين
لانه مؤد إتمام صلاته أداء قاصرا، سواء تكلم أو لم يتكلم، فرغ الامام أو لم يفرغ،
كانت نية الاقامة مغيرة للفرض لكونه مؤديا باعتبار بقاء الوقت. وأما القضاء فهو
نوعان: بمثل معقول كما بينا، وبمثل غير معقول كالفدية في حق الشيخ الفاني مكان
الصوم، وإحجاج الغير بماله عند فوات الاداء بنفسه لعجزه فإن ذلك ثابت بالنص، قال
الله تعالى: *(وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)*: أي لا يطيقونه، هكذا نقل عن
ابن عباس رضي الله عنهما، وفي الحج حديث الخثعمية حيث قالت: يا رسول الله إن فريضة
الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على
الراحلة أفيجزئ أن أحج عنه؟ فقال: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يقبل منك؟
فقالت: نعم، فقال عليه السلام: الله أحق أن يقبل ثم لا مماثلة بين الصوم وبين
الفدية صورة ولا معنى،
ص 50
وكذلك لا مماثلة بين دفع المال إلى من ينفق على نفسه في طريق الحج وبين مباشرة أداء
الحج وسقوط الواجب عن المأمور باعتبار ذلك، فأما أصل الاعمال يكون من الحاج دون
المحجوج عنه فهو قضاء بمثل غير معقول وما يكون بهذه الصفة لا يتأتى تعدية الحكم فيه
إلى الفروع فيقتصر على مورد النص، ولهذا قلنا: إن النقصان الذي يتمكن في الصلاة
بترك الاعتدال في الاركان لا يضمن بشيء سوى الاثم، لانه ليس لذلك الوصف منفردا عن
الاصل مثل صورة ولا معنى، ولذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فيمن له مائتا
درهم جياد فأدى زكاتها خمسة زيوفا: لا يلزمه شيء آخر لانه ليس لصفة الجودة التي
تحقق فيها الفوات مثل صورة ولا معنى من حيث القيمة، فإنها لا تتقوم شرعا عند
المقابلة بجنسها. وقال محمد رحمه الله: يلزمه أداء الفضل احتياطا، لان سقوط قيمة
الجودة في حكم الربا للحاجة إلى جعل الاموال أمثالا متساوية قطعا، ومعنى الربا لا
يتحقق فيما وجب عليه أداؤه لله تعالى بمثله في صفة المالية حقيقة ويقوم مقامه في
أداء الواجب به احتياطا، وعلى هذا نقول: رمي الجمار يسقط بمضي الوقت لانه ليس له
مثل معقول صورة ولا معنى فإنه لم يشرع قربة للعبد في غير ذلك الوقت. فإن قيل: كيف
يستقيم وقد أوجبتم الدم عليه باعتبار ترك رمي الجمار؟ قلنا: إيجاب الدم عليه لا
بطريق أنه مثل للرمي قائم مقامه، بل لانه جبر لنقصان تمكن في نسكه بترك الرمي، وجبر
نقصان النسك بالدم معلوم بالنص، قال الله تعالى: *(ففدية من صيام أو صدقة أو نسك)*.
فإن قيل: فقد جعلتم الفدية مشروعة مكان الصلاة بالقياس على الصوم ولو كان ذلك غير
معقول المعنى لم يجز تعدية حكمه إلى الصلاة بالرأي؟ قلنا لا نعدي ذلك الحكم
ص 51
إلى الصلاة بالرأي، ولكن يحتمل أن يكون فيه معنى معقول وإن كنا لا نقف عليه والصلاة
نظير الصوم في القوة أو أهم منه، ويحتمل أنه ليس فيه معنى معقول فإن ما لا نقف عليه
لا يكون علينا العمل به، فلاحتمال الوجه الاول يفدي مكان الصلاة ولاحتمال الوجه
الثاني لا يجب الفداء وإن فدى لم يكن به بأس فأمرناه بذلك احتياطا، لان التصدق
بالطعام لا ينفك عن معنى القربة، وقال عليه السلام: أتبع السيئة الحسنة تمحها ولهذا
لا نقول في الفدية عن الصلاة إنها جائزة قطعا ولكنا نرجو القبول من الله فضلا. وقال
محمد في الزيادات: يجزيه ذلك إن شاء الله، وكذلك قال في أداء الوارث عن المورث بغير
أمره في الصوم: يجزيه إن شاء الله تعالى، وعلى هذا الاصل حكم الاضحية، فالتقرب
بإراقة الدم عرف بنص غير معقول المعنى فيفوت بمضي الوقت، لان مثله غير مشروع قربة
للعبد في غير ذلك الوقت. فإن قيل: فعندكم يجب التصدق بالقيمة بعد مضي أيام النحر
وما ذاك إلا باعتبار إقامة القيمة مقام ما يضحي به وقد أثبتم ذلك بالرأي؟ قلنا: لا
كذلك، ولكن يحتمل أن يكون المقصود بما هو الواجب في الوقت إيصال منفعة اللحم إلى
الفقراء إلا أن الشرع أمره بإراقة الدم لما فيها من تطييب اللحم وتحقيق معنى
الضيافة فالناس أضياف الله تعالى بلحوم الاضاحي في هذه الايام، ويحتمل أن يكون
المقصود إراقة الدم الذي هو نقصان للمالية عند محمد رحمه الله، وتفويت للمالية عند
أبي يوسف رحمه الله، يتبين ذلك بالشاة الموهوبة إذا ضحى بها الموهوب له، فإن الواهب
لا يرجع فيها عند أبي يوسف رحمه الله، وله أن يرجع فيها عند محمد رحمه الله، لانها
نقصان محض إلا أن الاحتمال ساقط الاعتبار في مقابلة النص، ففي أيام النحر هو قادر
على أداء المنصوص عليه بعينه فلا يصار إلى الاحتمال بإقامة القيمة مقامه، وبعد مضي
أيام النحر قد تحقق العجز عن أداء المنصوص عليه، فجاء أوان اعتبار الاحتمال،
ص 52
واحتمال الوجه الاول يلزمه التصدق بالقيمة، لان ذلك قربة مشروعة له في غير أيام
النحر والمعنى فيه معقول والاخذ بالاحتياط في باب العبادات أصل، فلاعتبار هذا
الاحتمال ألزمناه التصدق بالقيمة لا ليقوم ذلك مقام إراقة الدم، وعلى هذا الاصل قال
أبو يوسف رحمه الله: من أدرك الامام في الركوع في صلاة العيد لا يأتي بالتكبيرات في
الركوع لان محلها القيام وقد فات، ومثل الفائت غير مشروع له في حالة الركوع ليقيمه
مقام ما عليه بطريق القضاء فيتحقق الفوات فيه. وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله:
حال الركوع مشبه بحالة القيام لاستواء النصف الاسفل في الركوع، وبه يفارق القائم
القاعد، فباعتبار هذا الشبه لا يتحقق الفوات، وتكبير الركوع محسوب من تكبيرات العيد
وهو مؤدي في حالة الانتقال، فإذا كانت هذه الحالة محلا لبعض تكبيرات العيد نجعلها
عند الحاجة محلا لجميع التكبيرات احتياطا، وعلى هذا لو ترك قراءة الفاتحة والسورة
في الاوليين قضاها في الاخريين وجهر، لان محل أداء ركن القراءة القيام الذي هو ركن
الصلاة، إلا أنه تعين القيام في الاوليين لذلك بدليل موجب للعمل وهو خبر الواحد،
والقيام في الاخريين مثل القيام في الاوليين في كونه ركن الصلاة، ولهذه المشابهة لا
يتحقق الفوات ويقضي القراءة في الاخريين. ولو قرأ الفاتحة في الاوليين ولم يقرأ
السورة قضى السورة في الاخريين لاعتبار هذا الشبه أيضا، والقيام في الاخريين غير
محل لقراءة السورة أداء وهو محل لقراءة السورة قضاء بالمعنى الذي بينا. ولو قرأ
السورة في الاوليين ولم يقرأ الفاتحة لم يقض الفاتحة في الاخريين لان القيام في
الاخريين محل للفاتحة أداء، فلو قرأها على وجه القضاء كان مغيرا به ما هو مشروع في
صلاته مع وجود حقيقة الاداء، وذلك ليس في ولاية العبد، فيتحقق فوات قراءة الفاتحة
بتركها في الاوليين لا إلى خلف، فلا بد من القول بسقوطها عنه، إذ لا مثل لها صورة
أو معنى ليقام مقامها. وهذه الاقسام كلها تتحقق في حقوق العباد أيضا. أما بيان
الاداء المحض فهو في تسليم عين المغصوب إلى المغصوب منه على الوجه الذي غصبه،
وتسليم عين المبيع إلى المشتري على الوجه الذي اقتضاه العقد، ويتفرع عليه ما لو باع
الغاصب المغصوب
ص 53
من المغصوب منه أو وهبه له وسلمه فإنه يكون أداء العين المستحق بسببه ويلغو ما صرح
به، وكذلك لو أن المشتري شراء فاسدا باع المبيع من البائع بعد القبض أو وهبه وسلمه
يكون أداء العين المستحق بسبب فساد البيع، وعلى هذا قلنا لو أطعم الغاصب المغصوب
منه الطعام المغصوب أو ألبسه الثوب المغصوب وهو لا يعلم به فإنه يكون ذلك أداء
للعين المستحق بالغصب، ويتأكد ذلك بإتلاف العين فلا يبقى بعد ذلك للمغصوب منه عليه
شيء. والشافعي أبى ذلك في أحد قوليه، لان أداء المستحق مأمور به شرعا والموجود منه
غرور فلا يجعل ذلك أداء للمأمور، ولكن يجعل استعمالا منه للمغصوب منه في التناول،
فكأنه تناول لنفسه فيتقرر عليه الضمان، وهذا ضعيف، فالغرور في إخباره أنه طعامه
وأداء الواجب في وضع الطعام بين يديه وتمكينه منه وهما غيران، وبالقول إنما جاء
الغرور بجهل المغصوب منه لا لنقصان في تمكينه فلا يخرج به من أن يكون فعله أداء لما
هو المستحق، كما لو اشترى عبدا ثم قال البائع للمشتري أعتق عبدي هذا وأشار إلى
المبيع فأعتقه المشتري وهو لا يعلم به فإنه يكون قابضا وإن كان هو مغرورا بما أخبره
البائع به ولكن قبضه بالاعتاق، وخبر البائع وجهل المشتري غير مؤثر في ذلك فبقي
إعتاقه قبضا تاما. ومن الاداء التام تسليم المسلم فيه وبدل الصرف فإن ذلك أداء
المستحق بسببه حكما بطريق أن الاستبدال متعذر فيه شرعا قبل القبض، فيجعل كأن
المقبوض عين ما تناوله العقد حكما وإن كان غيره في الحقيقة، لان العقد تناول الدين
والمقبوض عين. وأما الاداء القاصر وهو رد المغصوب مشغولا بالدين أو الجناية بسبب
كان منه عند الغاصب، ومعنى القصور فيه أنه أداه لا على الوصف الذي استحق عليه
أداؤه، فلوجود أصل الاداء قلنا إذا هلك في يد المالك قبل الدفع إلى ولي الجناية برئ
الغاصب، ولقصور في الصفة قلنا إذا دفع إلى ولي الجناية أو بيع في الدين يرجع المالك
على الغاصب بقيمته كأن الرد لم يوجد، فكذلك البائع إذا سلم المبيع وهو
ص 54
مباح الدم، فهذا أداء قاصر، لانه سلمه على غير الوصف الذي هو مقتضى العقد، فإن هلك
في يد المشتري لزمه الثمن لوجود أصل الاداء، وإن قتل بالسبب الذي صار مباح الدم رجع
بجميع الثمن عند أبي حنيفة رحمه الله، لان الاداء كان قاصرا فإذا تحقق الفوات بسبب
يضاف إلى ما به صار الاداء قاصرا جعل كأن الاداء لم يوجد. وقال أبو يوسف ومحمد
رحمهما الله: الاداء قاصر لعيب في المحل، فإن حل الدم في المملوك عيب، وقصور الاداء
بسبب العيب يعتبر ما بقي المحل قائما، فأما إذا فات بسبب عيب حدث عند المشتري لم
ينتقض به أصل الاداء وقد تلف هنا بقتل أحدثه القاتل عند المشتري باختياره، ولكن أبو
حنيفة رحمه الله قال: استحقاق هذا القتل كان بالسبب الذي به صار الاداء قاصرا فيحال
بالتلف على أصل السبب. ومن الاداء القاصر إيفاء بدل الصرف أو رأس مال السلم إذا كان
زيوفا فإنه قاصر باعتبار أنه دون حقه في الصفة، ولهذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما
الله: له أن يرد المقبوض في المجلس ويطالبه بالجياد، ولو هلك المقبوض في يده قبل أن
يرده لم يرجع بشيء، لان باعتبار الاصل كان فعله أداء فما لم ينفسخ ذلك الفعل لا
ينعدم معنى الاداء فيه، وبعد هلاكه تعذر فسخ الاداء في الهالك، ولا يمكن إيجاب مثله
لان المقبوض ملك القابض فلا يكون مضمونا عليه، وصفة الجودة منفردة عن الاصل ليس لها
مثل لا صورة ولا معنى في أموال الربا فسقط حقه. وقال أبو يوسف رحمه الله: أستحسن أن
يرد مثل المقبوض (لان حقه في الصفة مرعي وتتعذر رعايته منفصلا عن الاصل فيرد مثل
المقبوض) حتى يقام ذلك مقام رد العين عند تعذر رد العين، وينعدم به أصل الاداء
فيطالبه بالاداء المستحق بسببه. قال: وهذا بخلاف الزكاة فيما قبض الفقير هناك لا
يمكن أن يجعل مضمونا عليه، لانه في الحكم كأنه بقبضه كفاية له من الله تعالى لا من
المعطي، وبدون رد المثل يتعذر اعتبار الجودة منفردة عن الاصل، ألا ترى أن المقبوض
وإن كان قائما في يده لا يتمكن من رده؟
ص 55
ومن الاداء الذي هو بمنزلة القضاء حكما أن يتزوج امرأة على عبد لغيره بعينه ثم
يشتري ذلك العبد فيسلمه إليها فإن ذلك يكون أداء للعين المستحق بسببه وهو التسمية
في العقد، ولهذا لا يكون لها أن تمتنع من القبول، وهذا لان كون المسمى مملوكا لغير
الزوج لا يمنع صحة التسمية وثبوت الاستحقاق بها على الزوج، ألا ترى أنه تلزمه
القيمة إذا تعذر تسليم العين؟ وما ذلك إلا لاستحقاق الاصل، غير أن هذا أداء هو في
معنى القضاء حكما، فإن ما اشتراه الزوج قبل أن يسلم إليها مملوك له حتى لو تصرف فيه
بالاعتاق ينفذ تصرفه، ولو أعتقته المرأة قبل التسليم إليها لا ينفد عتقها، ولو كان
أباها لم يعتق عليها، فهذا التسليم من الزوج أداء مال من عنده مكان ما استحق عليه،
فمن هذا الوجه يشبه القضاء. ولو قضى القاضي لها بالقيمة قبل أن يتملكه الزوج ثم
تملكه فسلمه إليها لم يكن ذلك أداء مستحقا بالتسمية ولكن يكون مبادلة بالقيمة التي
تقرر حقها فيه حتى إنها إذا لم ترض بذلك لا يكون للزوج أن يجبرها على القبول، بخلاف
ما قبل القضاء لها بالقيمة. وأما القضاء بمثل معقول فبيانه في ضمان الغصوب
والمتلفات، فإن الغاصب يؤدي مالا من عنده وهو مثل لما كان مستحقا عليه بسبب الغصب،
وهو نوعان: مثل صورة ومعنى كما في المكيل والموزون، ومثل معنى لا صورة، والمقصود
جبران حق المتلف عليه، وفي المثل صورة ومعنى هذا المقصود أتم منه في المثل معنى،
فلا يصار إلى المثل معنى لا صورة إلا عند الضرورة، كما لا يصار إلى المثل إلا عند
تعذر رد العين، فلو أراد أداء القيمة مع وجود المثل في أيدي الناس كان للمغصوب منه
أن يمتنع من قبوله، وإذا انقطع المثل من أيدي الناس فحينئذ تتحقق الضرورة في اعتبار
المثل في معنى المالية وسقط اعتبار المثل صورة لتحقق فواته. ثم قال محمد رحمه الله:
تعتبر قيمته في آخر أوقات وجوده، لان الضرورة تتحقق عند انقطاعه من أيدي الناس.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: تعتبر وقت الخصومة، لان المثل قائم بالذمة حكما وأداء
المثل بصورته موهوم بأن يصبر إلى أوانه، فإنما تتحقق الضرورة
ص 56
عند المطالبة وذلك وقت قضاء القاضي. وقال أبو يوسف رحمه الله: بالانقطاع يتحقق
الفوات وذلك غير موجب للضمان إنما الموجب أصل الغصب فتعتبر قيمته وقت الغصب، وهذا
لان القيمة خلف عن رد العين، ولهذا كان قضاء والخلف إنما يكون واجبا بالسبب الذي به
كان الاصل واجبا، وفيما ليس له مثل صورة يجب قيمته وقت الغصب ويكون ذلك قضاء بالمثل
معنى لما تعذر اعتبار المثل صورة، حتى إن فيما يتعذر اعتبار المثل صورة ومعنى بتحقق
الفوات غير موجب شيئا سوى الاثم، وذلك بأن يغصب زوجة إنسان أو ولده فإن الاداء
مستحق عليه، ولو مات في يده لم يضمن شيئا لتحقق الفوات بانعدام المثل صورة ومعنى.
وعلى هذا الاصل قلنا: المنافع لا تضمن بالمال بطريق العدوان المحض، لان ضمان
العدوان مقدر بالمثل نصا، ولا مماثلة بين العين والمنفعة صورة ولا معنى، لان من
ضرورة كون الشيء مثلا لغيره أن يكون ذلك الغير مثلا له، ثم العين لا تضمن بالمنفعة
بطريق العدوان قط، فعرفنا أنه لا مماثلة بينهما، وكذلك المنفعة لا تضمن بالمنفعة،
فإن الحجر المبنية على تقطيع واحد وتؤاجر بأجرة واحدة لا تكون منفعة إحداهما مثلا
لمنفعة الاخرى في ضمان العدوان مع وجود المشابهة صورة ومعنى في الظاهر فلان لا يضمن
المنفعة بالعين ولا مشابهة بينهما صورة ولا معنى كان أولى، وانتفاء المشابهة صورة
لا يخفى. وأما المعنى فلان المنافع أعراض لا تبقى وقتين والعين تبقى، وبين ما يبقى
وبين ما لا يبقى تفاوت عظيم في المعنى، وبهذا تبين أنه لا مالية في المنفعة حقيقة،
لان المالية لا تسبق الوجود وبعد الوجود تثبت بالاحراز والتمول وذلك لا يتصور فيما
لا يبقى وقتين، وبهذا تبين أيضا أن الاتلاف والغصب لا يتحقق في المنفعة، فإن
المعدوم ليس بشيء فلا يتحقق فيه فعل هو غصب أو إتلاف، وكما يوجد يتلاشى، وفي حال
تلاشيه لا يتصور فيه الغصب والاتلاف، إلا أن الشرع في حكم العقد جعل المعدوم حقيقة
من المنفعة كالموجود، أو أقام العين المنتفع به مقام المنفعة للحاجة إلى ذلك، وهذه
الحاجة إنما تتحقق في العقد
ص 57
فيثبت هذا الحكم فيما يترتب على العقد من الضمان جائزا كان أو فاسدا، لان الفاسد لا
يمكن أن يجعل أصلا بنفسه ليعرف حكمه من عينه فلا بد من أن يرد حكمه إلى الجائز، ثم
ضمان العقد فاسدا كان أو جائزا يبتنى على التراضي لا على التساوي نصا، والتراضي
يتحقق مع انعدام المماثلة، فلهذا كان مضمونا بالعقد فاسدا كان أو جائزا، ووجوب
الضمان يلزمه الخروج عنه بالاداء فيكون ذلك بحسب الامكان، يوضحه أن قوام الاعراض
بالاعيان والعين يقوم بنفسه، ولا مماثلة بين ما يقوم بنفسه وبين ما يقوم بغيره، بل
ما يقوم بنفسه أزيد في المعنى لا محالة، ولكن هذه الزيادة يسقط اعتبارها في ضمان
العقد لوجود التراضي فاسدا كان العقد أو جائزا، ولا وجه لاسقاط اعتبار هذه الزيادة
في ضمان العدوان، لان بظلم الغاصب لا تسقط حرمة ماله، فلو أوجبنا عليه هذه الزيادة
أهدرناها في حقه، ولو لم نوجب الضمان لم يهدر حق المغصوب منه بل يتأخر إلى الآخرة،
وضرر التأخير دون ضرر الاهدار، وإذا ألزمناه أداء الزيادة كان ذلك مضافا إلينا،
وإذا لم نوجب الضمان لتعذر إيجاب المثل صورة ومعنى لا يكون سقوط حق المغصوب منه في
حق أحكام الدنيا مضافا إلينا، بمنزلة من ضرب إنسانا ضربا لا أثر له أو شتمه شتيمة
لا عقوبة بها في الدنيا. وعلى هذا الاصل قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قطع يد إنسان
عمدا ثم قتله عمدا قبل البرء يتخير الولي، لان القطع ثم القتل مثل الاول صورة
ومعنى، والقتل بدون القطع مثل معنى، فالرأي إلى الولي في ذلك. وقال أبو يوسف ومحمد
رحمهما الله: القتل بعد القطع قبل البرء تحقيق لموجب الفعل الاول والقتل به من
الولي يكون مثلا كاملا فلا يصار إلى القطع. وقال أبو حنيفة رحمه الله: هذا باعتبار
المعنى فأما من حيث الصورة المثل الاول هو القطع ثم القتل، والقتل بعد القطع تارة
يكون محققا لموجب الفعل الاول وتارة يكون ماحيا أثر الفعل الاول، حتى إذا كان
القاتل غير القاطع كان القصاص في النفس على الثاني خاصة فلا يسقط اعتبار المماثلة
صورة بهذا المعنى. فأما القضاء بمثل غير معقول فهو ضمان المحترم المتقوم الذي ليس
بمال بما هو مال
ص 58
معنى ضمان النفس والاطراف بالمال في حالة الخطأ، فإنه ثابت بالنص من غير أن يعقل
فيه المعنى، لانه لا مماثلة بين الآدمي والمال صورة ولا معنى، فالآدمي مالك للمال
والمال مخلوق لاقامة مصالح الآدمي به، ثم الشرع أوجب الدية في القتل خطأ فما عقل من
ذلك إلا معنى المنة على القاتل بتسليم نفسه له لعذر الخطأ، ومعنى المنة على المقتول
لصيانة دمه عن الهدر وإيجاب مال يقضي به حوائجه أو حوائج ورثته الذين يخلفونه،
ولهذا لا يوجبه مع إمكانه إيجاب المثل بصفته وهو القصاص، لانه هو المثل صورة ومعنى،
فالمعنى المطلوب هو الحياة وفي القصاص حياة لا في المال، فإذا لم تكن هذه الحالة في
معنى المنصوص عليه من كل وجه يتعذر إلحاقها به وإيجاب المال. وعلى هذا الاصل لو قتل
من عليه القصاص إنسان آخر لا يضمن لمن له القصاص شيئا، لان ملك القصاص الثابت له
ليس بمال فلا يكون المال مثلا له لا صورة ولا معنى، وكذلك لو قتل زوجة إنسان لا
يضمن للزوج شيئا باعتبار ما فوت عليه من ملك النكاح، لان ذلك ليس بمال فلا يكون
المال مثلا له صورة ومعنى، وهذا لان ملك النكاح مشروع للسكن والنسل، والمال بذلة
لاقامة المصالح فكيف يكون بينهما مماثلة! وإذا تحقق انعدام المثل تحقق الفوات. وعلى
هذا الاصل قلنا شهود العفو عن القصاص إذا رجعوا لم يضمنوا شيئا، وكذلك المكره للولي
على العفو بغير حق لا يضمن شيئا، لانه أتلف عليه ما ليس بمال متقوم ولا وجه لايجاب
الضمان هنا صيانة لملكه في القصاص، فالعفو مندوب إليه شرعا وإهدار مثله لا يقبح.
وكذلك قلنا شهود الطلاق بعد الدخول إذا رجعوا لم يضمنوا للزوج شيئا، والمكره على
الطلاق بعد الدخول كذلك، والمرأة إذا ارتدت لا تضمن للزوج شيئا، ولو جامعها ابن
الزوج لا يضمن للزوج شيئا، لانه أتلف عليه ملك النكاح وذلك ليس بمال متقوم فلا يكون
المال مثلا له صورة
ص 59
ولا معنى، والصيانة هنا للمحل المملوك لا للملك الوارد عليه، ألا ترى أن إزالة هذا
الملك بالطلاق صحيح من غير شهود وولي وعوض؟ ولهذا قلنا إن البضع لا يتقوم عند
الخروج من ملك الزوج وإن كان يتقوم عند الدخول في ملكه، لان معنى الخطر للمحل ووقت
التملك وقت الاستيلاء على المحل بإثبات الملك فيكون متقوما لاظهار خطره، فأما وقت
الخروج فهو وقت إطلاق المحل وإزالة الاستيلاء عنه فلا يظهر حكم التقوم فيه، ولا
يدخل على ما قلنا شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا فإنهم يضمنون نصف الصداق للزوج،
لانهم لا يضمنون شيئا من قيمة ما أتلفوا وهو البضع فقيمته مهر المثل، ولا يضمنون
شيئا منه، ولكن سقوط المطالبة بتسليم البضع قبل الدخول يكون مسقطا للمطالبة بالعوض
المسمى إذا لم يكن ذلك بسبب مضاف إلى الزوج، فهما بالاضافة إلى الزوج بشهادتهما على
الطلاق كالملزمين له نصف الصداق حكما، أو كأنهما فوتا عليه يده في ذلك النصف بعد
فوات تسليم البضع فيكونان بمنزلة الغاصبين في حقه. ومن القضاء الذي هو في حكم
الاداء ما إذا تزوج امرأة على عبد بغير عينه فأتاها بالقيمة أجبرت على القبول وكان
ذلك قضاء بالمثل المسمى من عنده وهو في معنى الاداء، لان العبد المطلق معلوم الجنس
مجهول الوصف، فباعتبار كونه معلوم الجنس يكون أداء للمسمى بتسليم العبد، ولهذا لو
أتاها به أجبرت على القبول، ومن حيث إنه مجهول الوصف يتعذر عليها المطالبة بعين
المسمى فيكون تسليم القيمة قضاء في حكم الاداء فتجبر على قبولها، بخلاف العبد إذا
كان بعينه (أو المكيل أو الموزون إذا كان موصوفا أو معينا لان المسمى معلوم بعينه)
ووصفه فتكون القيمة بمقابلته قضاء ليس في معنى الاداء، فلا تجبر على القبول إذا
أتاها به إلا عند تحقق العجز عن تسليم ما هو المستحق كما في ضمان الغصب على ما
قررنا، والله أعلم.
ص 60
فصل: في بيان مقتضى الامر في صفة الحسن للمأمور به

قال رضي الله عنه: اعلم أن مطلق
مقتضى الامر كون المأمور به حسنا شرعا، وهذا الوصف غير ثابت للمأمور به بنفسه، فإنه
أحد تصاريف الكلام فيتحقق في القبيح والحسن جميعا لغة كسائر التصريفات، ولا نقول
إنه ثابت عقلا كما زعم بعض مشايخنا رحمهم الله، لان العقل بنفسه غير موجب عندنا.
وبيان كونه ثابتا شرعا أن الله تعالى لم يأمر بالفحشاء كما نص عليه في محكم تنزيله،
والامر طلب إيجاد المأمور به بأبلغ الجهات، ولهذا كان مطلقة موجبا شرعا، والقبيح
واجب الاعدام شرعا، فما هو واجب الايجاد شرعا تعرف صفة الحسن فيه شرعا. ثم هو في
صفة الحسن نوعان: حسن لمعنى في نفسه، وحسن لمعنى في غيره. والنوع الاول قسمان: حسن
لعينه لا يحتمل السقوط بحال، وحسن لعينه قد يحتمل السقوط في بعض الاحوال. والقسم
الثاني نوعان أيضا: حسن لمعنى في غيره وذلك مقصود في نفسه لا يحصل منه ما لاجله كان
حسنا، وحسن لمعنى في غيره يتحقق بوجوده ما لاجله كان حسنا. وأما النوع الاول من
القسم الاول فهو الايمان بالله تعالى وصفاته، فإنه مأمور به، قال الله تعالى:
*(آمنوا بالله ورسوله)* وهو حسن لعينه، وركنه التصديق بالقلب والاقرار باللسان،
فالتصديق لا يحتمل السقوط بحال، ومتى بدله بغيره فهو كفر منه على أي وجه بدله،
والاقرار حسن لعينه وهو يحتمل السقوط في بعض الاحوال. حتى إنه إذا بدله بغيره بعذر
الاكراه لم يكن ذلك كفرا منه إذا كان مطمئن القلب بالايمان، وهذا لان اللسان ليس
بمعدن التصديق ولكن يعبر اللسان عما في قلبه، فيكون دليل التصديق وجودا وعدما، فإذا
بدله بغيره في وقت يكون متمكنا من إظهاره يكون كافرا وإذا زال تمكنه من الاظهار
بالاكراه لم يصر كافرا، لان سبب الخوف على نفسه دليل ظاهر على بقاء التصديق بالقلب،
وأن الحامل له على هذا التبديل حاجته إلى دفع الهلاك عن نفسه لا تبديل الاعتقاد،