ص 91
فإن قيل قوله تعالى: *(وحرم الربا)* يوجب نفي أصله مشروعا كقوله تعالى: *(حرمت
عليكم أمهاتكم)* بل أولى لانه أضاف هذا التحريم إلى نفسه، وهناك الحرمة مضافة إلى
الام. قلنا الربا عبارة عن الفضل، فمعنى قوله تعالى: *(وحرم الربا)* أي حرم اكتساب
الفضل الخالي عن العوض بسبب التجارة ونحن نثبت هذه الحرمة ولكن بينا أنه ليس من
ضرورة الحرمة في ملك اليمين انتفاء أصل الملك، وعلى هذا قلنا بيع العبد بالخمر فإن
الخمر فاسد التقوم شرعا ولم تنعدم به أصل المالية الثابتة فيه بالتمول فإن تموله ما
فسد شرعا لما فيه من عرضية التخلل إذ التمول للشئ عبارة عن صيانته وادخاره لوقت
الحاجة وإمساك الخمر إلى أن يتخلل لا يكون حراما شرعا، بمنزلة من أحرم وله صيد فإن
الصيد لا يكون متقوما في حق تصرفه حتى لا يتمكن من التصرف فيه ويكون محرم العين في
حقه ولكن لا ينعدم أصل المالية فيه باعتبار ماله وهو ما بعد التحلل من الاحرام،
ولهذا اختلف العلماء في جواز هذا البيع، فمنهم من يقول هو جائز بالقيمة ولو قضى
القاضي بهذا نفذ قضاؤه، فإذا تبين أنه لم ينعدم ما هو ركن العقد قلنا ينعقد العقد
موجبا حكمه في محل يقبله وهو العبد ولا ينعقد موجبا للحكم في محل لا يقبله وهو
الخمر حتى لا يملك الخمر وإن قبضه بحكم العقد، بخلاف البيع بالميتة والدم فإنه لا
مالية في الميتة والدم باعتبار الحال ولا باعتبار المآل، وكذلك جلد الميتة لا مالية
فيه باعتبار الحال فإنه لو ترك كذلك فإنه يفسد وإنما تحدث فيه المالية بصنع مكتسب
وهو الدباغة، ولهذا اتفق العلماء على بطلان هذا العقد، ولو قضى قاض بجوازه لم ينفذ
قضاؤه، فلانعدام ما هو ركن العقد لم ينعقد العقد، لان انعقاده شرعا لا يكون بدون
ركنه، وعلى هذا جوزنا بيع الدهن الذي وقع فيه نجاسة لان الدهن مال متقوم وبوقوع
النجاسة فيه ما انعدم أصله ولا تغير وصفه إنما جاوره أجزاء النجاسة ولاجله حرم
تناوله فيكون بمنزلة النهي الذي ورد لمعنى في غير المنهي عنه وهو غير متصل به وصفا،
ومثل هذا النهي لا يمنع جواز العقد كما لا يمنع كمال العبادة، ولهذا يتأدى الفرض
بأداء الصلاة في الارض المغصوبة،
ص 92
ويتأدي صوم الفرض في أيام الوصال إذا نواه، لان النهي بالمجاورة لا لمعنى اتصل
بالوقت الذي يؤدى فيه الصوم إلا أن الوصال لا يتحقق، لان الشرع أخرج زمان الليل من
أن يكون وقتا لركن الصوم وهو الامساك باعتبار أن الامساك فيه عادة فكان ذلك نسخا
استعير لفظ النهي له مجازا، ولا كلام في جواز ذلك إنما الكلام في موجب النهي حقيقة.
ثم في البيع يمكن تمييز الدهن مما جاوره حكما فيكون البيع متناولا للدهن دون
النجاسة وفي التناول لا يمكن تمييز الدهن مما جاوره فلا يحل تناوله، فلهذا جاز بيع
الثوب النجس ولا تجوز الصلاة فيه، وعلى هذا قلنا العاصي في سفره يترخص بالرخص، لان
سبب الرخصة السير المديد وهو موجود بصفة الكمال لا قبح في أصله ولا في صفته وإنما
القبح في معنى جاوره وهو قصده إلى قطع الطريق أو تمرد العبد على مولاه، ألا ترى أنه
إذا ترك قصده بقصد الحج خرج من أن يكون عاصيا ولم يتغير سفره وإنما تبدل قصده،
وكذلك العبد إذا لحقه إذن مولاه لم يتغير سفره وخرج من أن يكون عاصيا، وعلى هذا
قلنا في قوله تعالى: *(ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا)* إن هذا النهي لا يعدم أصل
الشهادة للقاذف حتى ينعقد النكاح بشهادته ولكن يفسد أداؤه حتى يخرج من أن يكون أهلا
للعان لان اللعان أداء وأداؤه فاسد بعد هذا النهي المطلق، وعلى هذا قلنا الزنا لا
يوجب حرمة المصاهرة لان الزنا قبيح لعينه، وحرمة المصاهرة ليست تثبت بالزنا ولا
بالوطئ الحلال بعينه إنما الاصل فيه الولد المخلوق من الماءين وهو محترم مخلوق بخلق
الله تعالى على أي وجه اجتمع الماءان في الرحم كما قال تعالى: *(ثم أنشأناه خلقا
آخر)* فلا يتمكن فيه صفة القبح وتثبت الحرمة بطريق الكرامة له ثم تتعدى الحرمة إلى
أطرافه وإلى أسباب خلقه، فيقام السبب وهو الوطئ في المحل الصالح لحدوث الولد فيه
مقام نفس الولد في إثبات الحرمة، وما قام مقام غيره في إثبات حكم فإنما تراعى
صلاحية السبب للحكم في الاصل لا فيما قام مقامه، بمنزلة التراب فإنه قائم مقام
الماء في الطهارة
ص 93
وصلاحية السبب لهذا الحكم في استعمال الماء الذي هو الاصل لا في استعمال التراب
فإنه تلويث، ولهذا لم يكن وطئ الميتة والاتيان في غير المأتى ووطئ الصغيرة موجبا
الحرمة، لان قيام الوطئ مقام الولد في هذا الحكم باعتبار كون المحل محلا يخلق فيه
الولد وذلك لا يوجد في هذه المواضع، وعلى هذا قلنا في استيلاء الكفار على أموالنا
إذا تم بالاحراز فهو موجب للملك، لان صفة الحرمة والقبح لهذا الفعل بواسطة العصمة
في المحل وهذه الواسطة ثابتة من طريق الحكم في حقنا لا في حقهم فإنهم لا يعتقدون
ذلك وولاية الالزام منقطعة بانعدام ولايتنا عنهم في دار الحرب، لان هذه الواسطة هي
العصمة الثابتة بالاحراز بدار الإسلام عندنا وقد انتهت هذه العصمة بانتهاء سببها
حين أحرزوها بدارهم حتى إن في زمان الاحراز لما كانت العصمة عن الاسترقاق بالحرية
المتأكدة بالاسلام ولم تنته بالاحراز الموجود منهم قلنا لا يملكون رقابنا، وعلى هذا
قلنا الغصب سبب موجب للملك عند تقرر الضمان، لانه قبيح بأنه غصب والملك لا يثبت به
وإنما يثبت الملك للغاصب بتملك المغصوب منه بدله وهو القيمة عليه، وهذا حكم شرعي لا
قبح فيه، بل فيه حكمة بالغة وهو التحرز عن فضل خال عن العوض سالم للمغصوب منه شرعا
فإنه إذا اجتمع الاصل والبدل في ملكه يتحقق هذا المعنى فيه مع أن الملك إنما لا
يبقى للمغصوب منه ليتم به شرط سلامة الضمان له فإن الضمان ضمان جبر وإنما يجبر
الفائت لا القائم فكان انعدام ملكه في العين شرطا لسلامة الضمان له وشرط الشيء تبعه
فإنما تراعى صلاحية السبب في الاصل لا في التبع، وفي المدبر على هذا الطريق نقول:
لما سلم الضمان للمغصوب منه بجعل الاصل زائلا عن ملكه حكما لان المدبر محتمل لذلك،
ولهذا لو اكتسب هو كسبا ثم لم يرجع من إباقه حتى مات كان ذلك الكسب للغاصب وإنما لم
يثبت الملك للغاصب فيه صيانة لحق المدبر، والتدبير موجب حق العتق له عند الموت
ولهذا امتنع بيعه، وفي القن بعد ما زال ملك المغصوب منه لا مانع
ص 94
من دخوله في ملك الغاصب الضامن وهذا أحق الناس به لانه ملك عليه بدله، أو نقول في
المدبر لا يمكن أن يجعل الضمان بدلا عن العين، لان من شرطه انعدام ملكه في العين
وهذا الشرط لا يمكن إيجاده بحق المدبر، فجعلنا الضمان ضمان الجناية واجبا باعتبار
الجناية على يده وهذا جائز عند الضرورة ولا ضرورة في القن فيجعل بدلا عن العين،
ولهذا قلنا لو أخذ القيمة بطريق الصلح بغير قضاء القاضي لا يملك عليه المدبر ويملك
عليه القن. وهذا طريق في تخريج جنس هذه المسائل.
فصل: في بيان حكم الامر والنهي في
أضدادهما

قال رضي الله عنه اعلم أن العلماء يختلفون فيهما جميعا، فنبين كل واحد
منهما على الانفراد ليكون أوضح. أما بيان حكم الامر فقد قال بعض المتكلمين: لا حكم
للامر في ضده. وقال الجصاص رحمه الله: الامر بالشئ يوجب النهي عن ضده سواء كان له
ضد واحد أو أضداد. وقال بعضهم: يوجب كراهة ضده، والمختار عندنا أنه يقتضي كراهة ضده
ولا نقول إنه يوجبه أو يدل عليه مطلقا. وحجة الفريق الاول أن الضد مسكوت عنه
والسكوت عنه لا يكون موجبا شيئا، ألا ترى أن التعليق بشرط لا يوجب نفي المعلق قبل
وجود الشرط لانه مسكوت عنه فيبقى على ما كان قبل التعليق فهنا أيضا الضد مسكوت عنه
فيبقى على ما كان قبل الامر. يقرره أن الامر فيما وضع له لا يوجب حكما فيما لم
يتناوله النص إلا بطريق التعدية إليه بعد التعليل فلان لا يوجب حكما في ضد ما وضع
له كان أولى، وعلى قول هؤلاء الذم والاثم على من ترك الائتمار باعتبار أنه لم يأت
بما أمر به. قال الجصاص رحمه الله: وهو قول قبيح فإن فيه قولا باستحقاق العبد
العقوبة على ما لم يفعله واستحقاق العقوبة إنما هو باعتبار فعل فعله العبد، ثم إنه
بنى مذهبه على أن الامر المطلق يوجب الائتمار على الفور، فقال: من ضرورة وجوب
الائتمار على الفور حرمة الترك الذي هو ضده والحرمة حكم النهي فكان موجبا للنهي عن
ضده بحكمه. يوضحه أن الامر طلب الايجاد للمأمور به على
ص 95
أبلغ الجهات والاشتغال بضده يعدم ما وجب بالامر وهو الايجاد فكان حراما منهيا عنه
لمقتضى حكم الامر، ولهذا يستوي فيه ما يكون ضد واحد أو أضداد، فبأي ضد اشتغل ينعدم
ما هو المطلوب، ألا ترى أنه إذا قال لغيره اخرج من هذه الدار سواء اشتغل بالقعود
فيها أو الاضطجاع أو القيام ينعدم ما أمر به وهو الخروج. وهذا هو الحجة للفريق
الثالث، إلا أنهم يقولون حرمة الضد بهذا الطريق تثبت بواسطة حكم الامر فإنما ثبت
أدنى الحرمة فيه، لان ما ثبت بطريق الدلالة لا يكون مثل الثابت بالنص والثابت بالنص
ثابت من كل وجه وهذا ثابت من وجه دون وجه لتحقيق حكم الامر، ويكفي لذلك أدنى
الحرمة، بمنزلة حرمة تثبت بالنهي لمعنى في غير المنهي عنه غير متصل بالنهي عنه
فتثبت به الكراهة فقط. ووجه القول المختار هذا الكلام أيضا إلا أنا نقول ثبوت
الحرمة بطريق الاقتضاء هنا لان طلب الوجود بالامر يقتضي حرمة الضد ولا يثبت بدلالة
النص إلا مثل ما هو ثابت بالنص أو أقوى منه كالتنصيص على حرمة التأفيف بدليل حرمة
الشتم، لان فيه ذلك الاذى وزيادة، فأما ما ثبت بطريق الاقتضاء فهو ثابت لاجل
الضرورة وإنما يثبت بقدر ما ترتفع به الضرورة، ووجود أحد الضدين يقتضي انتفاء الضد
الآخر كالليل مع النهار فكان وجوب الاداء بالامر مقتضيا نفي الضد، وإنما حرم الضد
بهذا الاقتضاء، فلهذا قلنا: إن الامر بالشئ يقتضي كراهة ضده لا أن يكون موجبا له أو
دليلا عليه. وما ذكره الجصاص أن مطلق الامر يوجب الائتمار على الفور دعوى منه، وقد
ذكرنا أن الرواية بخلاف ذلك. والجواب عما قاله الفريق الاول أن الضد مسكوت عنه يتضح
بالتقرير الذي قلنا في وجه المختار، وهو أن ثبوت كراهة ضده بطريق الاقتضاء والمقتضى
مسكوت عنه فإن ما يكون منصوصا عليه لا يكون ثبوته بطريق الاقتضاء، ولا خلاف بيننا
وبينهم أن الاقتضاء طريق صحيح لاثبات المقتضى وإن كان مسكوتا عنه بعد أن يكون
محتاجا إليه، وليس هذا نظير التعليق بالشرط فإن ذلك يوجب وجود الحكم ابتداء عند
وجود الشرط، ومن ضرورة وجود الحكم عند وجود الشرط ابتداء أن لا يكون موجودا قبله
ولكن انعدامه قبل وجود الشرط عدم أصلي فلا يصير مضافا إلى الوجود عند وجود الشرط
نصا ولا اقتضاء، لان العدم الاصلي لا يستدعي دليلا معدما يضاف إليه، وأما ههنا وجوب
الاقدام على الايجاد
ص 96
يقتضي حرمة الترك والحرمة الثابتة بمقتضى الشيء تكون مضافا إليه، فجعلنا قدر ما
يثبت من الحرمة وهو الموجب للكراهة مضافا إلى الامر اقتضاء. وإذا تبين حكم الامر
فكذلك حكم النهي في ضده على هذه الاقاويل الاربعة. فالفريق الاول يقولون لا حكم له
في ضده لانه مسكوت عنه، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: *(ولا تقتلوا أنفسكم)* فإنه
لا يكون أمرا بضده وهو ترك قتل النفس إذ لو كان أمرا به لكان تارك قتل النفس مباشرا
لفعل الطاعة وهو الائتمار بالامر فإنه يكون مستحق الثواب الموعود للمطيعين، وهذا
فاسد. وقال الجصاص رحمه الله: النهي عن الشيء يوجب ضده إن كان له ضد واحد وإن كان
له أضداد فلا موجب له في شيء من أضداده، وبين ذلك في الحركة والسكون، فإن قول
القائل لا تتحرك يكون أمرا بضده وهو السكون لان للمنهي عنه ضدا واحدا، وقوله لا
تسكن لا موجب له في ضده لان له أضدادا وهي الحركة من الجهات الست فإن السكون ينعدم
من أي جانب كانت الحركة فلا يتعين واحد من الاضداد مأمورا به بموجب النهي، وإذا قال
لغيره لا تقم فللمنهي عنه أضداد من القعود والاضطجاع فلا موجب لهذا النهي في شيء من
أضداده. قال لان موجب النهي إعدام المنهي عنه بأبلغ الوجوه، وإذا كان له ضد واحد
فمن ضرورة وجوب الاعدام الكف عن الايجاد فيكون النهي موجبا الامر بالضد بحكمه.
واستدل على ذلك بقوله تعالى: *(ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن)* فإنه
نهى عن الكتمان وهو موجب الامر بالاظهار ولهذا وجب قبول قولها فيما تخبره، لانها
مأمورة بالاظهار، ونهى المحرم عن لبس المخيط لا يكون أمرا بلبس شيء عين من غير
المخيط لان للمنهي عنه أضدادا هنا، وبحكم النهي لا يثبت الامر بجميع الاضداد وليس
بعضها بأولى من البعض. يوضح الفرق بينهما أن مع التصريح بالنهي فيما له ضد واحد لا
يستقيم التصريح بالاباحة في الضد، فإنه لو قال نهيتك عن التحرك وأبحت لك السكون أو
أنت بالخيار في السكون كان كلاما مختلا، لان موجب النهي تحريم المنهي عنه ومع
تحريمه لا يتصور التخيير في ضده لاستحالة انعدامهما جميعا وصفة الاباحة تقتضي
ص 97
التخيير، وبهذا يتبين فساد ما ذهب إليه الفريق الاول من أن الضد مسكوت عنه، ولا
تعويل على استدلالهم بالنهي عن قتل النفس، لانا نجعل ذلك بمنزلة التصريح بالكف عن
قتل النفس لتحقيق موجب النهي، والناس تكلموا في أن الامر بالكف عن قتل النفس ما
حكمه؟ منهم من قال معنى الابتلاء لا يتحقق في مثل هذا لان طبع كل واحد يحمله على
ذلك ونيل الثواب في العمل بخلاف هوى النفس ليتحقق فيه الابتلاء. قال رضي الله عنه:
والاصح عندي أنه ينال به ثواب المطيعين عند قصد امتثال الامر وإظهار الطاعة، وهكذا
نقول إذا ثبت ذلك بحكم النهي، فأما إذا كان للمنهي عنه أضداد يستقيم التصريح
بالاباحة في جميع الاضداد بأن تقول لا تسكن وأبحت لك التحرك من أي جهة شئت، فعرفنا
أنه لا موجب لهذا النهي في شيء من الاضداد، وقول من يقول بأن مثل هذا النهي يكون
أمرا بأضداده يؤدي إلى القول بأنه لا يتصور من العبد فعل مباح أو مندوب إليه، فإن
المنهي عنه محرم وأضداده واجب بالامر الثابت بمقتضى النهي فكيف يتصور منه فعل مباح
أو مندوب إليه؟ وفي اتفاق العلماء على أن أقسام الافعال التي يأتي بها العبد عن قصد
أربعة: واجب ومندوب إليه ومباح ومحظور، دليل على فساد قول هذا القائل. وأما الفريق
الثالث فيقولون: موجب النهي في ضده إثبات سنة تكون في القوة كالواجب، لان هذا أمر
ثبت بطريق الدلالة فيكون موجبه دون موجب الثابت بالنص، وعلى القول المختار يحتمل أن
يكون مقتضيا هذا المقدار على قياس ما بينا في الامر، وكذلك إذا كان للمنهي عنه
أضداد فإنه يثبت هذا القدر من المقتضي في أي أضداده يأتي به المخاطب، ولهذا قلنا
بأن النهي عن لبس المخيط في حالة الاحرام يثبت أن السنة لبس الازار والرداء، وذلك
أدنى ما يقع به الكفاية من غير المخيط. فأما قوله: *(ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق
الله في أرحامهن)* فهو نسخ وليس بنهي بمنزلة قوله تعالى: *(لا يحل لك النساء من
بعد)* وإنما كان هذا أمرا بالاظهار بواسطة أن الكتمان لم يبق مشروعا وهو نظير قوله:
لا نكاح إلا بشهود وقد
ص 98
بينا تحقيق هذا المعنى فيما سبق، فأما بيان فائدة الاصل المذكور في هذا الفصل من
مسائل الفقه أن نقول: لما كان الامر مقتضيا كراهة الضد لم يكن ضده مفسدا للعبادة
إلا أن يكون مفوتا لما هو واجب بصيغة الامر ولكن يكون مكروها في نفسه، فإن المأمور
بالقيام في الصلاة إذا قعد لا تفسد صلاته لانه لم يفت بهذا الضد ما هو الواجب
بالامر وهو القيام إذا أتى به بعد القعود ولكن القعود مكروه في نفسه، ولكون النهي
مقتضيا في ضده ما بينا من صفة السنة قلنا لا ينعدم بالضد ما هو موجب صيغة النهي،
فإن ركن العدة الامتناع من الخروج والتزوج، ثبت ذلك بصيغة النهي، قال تعالى: *(ولا
يخرجن)* وقال: *(ولا تعزموا عقدة النكاح)* فإن فعلت ذلك لم ينعدم به مأمور ما هو
ركن الاعتداد حتى تنقضي العدة، بخلاف الكف في باب الصوم فإنه واجب بصيغة الامر نصا،
قال تعالى: *(ثم أتموا الصيام إلى الليل)* فينعدم الاداء بمباشرة الضد وهو الاكل،
وعلى هذا قلنا العدتان تنقضيان بمضي مدة واحدة، لان الكف في العدة ثابت بمقتضى
النهي ولا تضايق فيما هو موجب النهي نصا وهو التحريم، ولا يتحقق أداء الصومين في
يوم واحد لتضايق الوقت في ركن كل صوم وهو الكف إلى وقت فإنه ثابت بالامر نصا ولا
يتحقق اجتماع الكفين في وقت واحد، وعلى هذا قال أبو يوسف رحمه الله: من سجد في
صلاته على مكان نجس ثم سجد على مكان طاهر جازت صلاته، لان المأمور به السجود على
مكان طاهر ومباشرة الضد بالسجود على مكان نجس لا يفوت المأمور به فيكون مكروها في
نفسه ولا يكون مفسدا للصلاة، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تفسد به الصلاة
لان تأدي المأمور به لما كان باعتبار المكان فما يكون صفة للمكان الذي يؤدى الفرض
عليه يجعل بمنزلة الصفة له حكما فيصير هو كالحامل للنجاسة إذا سجد على مكان نجس
والكف عن حمل النجاسة مأمور به في جميع الصلاة فيفوت ذلك بالسجود على مكان نجس، كما
أن الكف عن اقتضاء الشهوة لما كان مأمورا به في جميع وقت الصوم يتحقق الفوات بالاكل
في جزء من الوقت فيه، وعلى هذا قال أبو يوسف بترك القراءة في شفع من التطوع لا يخرج
عن حرمة الصلاة، لانه مأمور بالقراءة في الصلاة وذلك نهي عن ضده اقتضاء، فترك
القراءة ما لم يكن مفوتا للفرض
ص 99
لا يكون مفسدا، ومع احتمال أداء شفع آخر بهذه التحريمة لا يتحقق فوات هذا الفرض
فتبقى التحريمة صحيحة قابلة لبناء شفع آخر عليها وإن فسد أداء الشفع الاول بترك
القراءة. وقال محمد رحمه الله: القراءة فرض من أول الصلاة إلى آخرها حكما، ولهذا لا
يصلح الامي خليفة للقارئ وإن كان قد رفع رأسه من السجدة الاخيرة وأتى بفرض القراءة
في محلها، وإذا كان مستديما حكما يتحقق فوات ما هو الفرض بترك القراءة في ركعة
فيخرج به من تحريمة الصلاة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: كل شفع من التطوع صلاة على
حدة ولهذا تفترض القراءة في كل ركعة من الشفع عندنا كما تفترض في كل ركعة من الفجر
إلا أن بترك القراءة في ركعة من التطوع لا يفوت ما هو المأمور به من القراءة في
الصلاة نصا فلا تنقطع التحريمة وبترك القراءة في الركعتين يفوت ما هو الفرض قطعا
فيكون ذلك قطعا للتحريمة، وهكذا نقول في الفجر فإن بترك القراءة في ركعة يفسد الفرض
ولكن لا تنحل التحريمة بل تنقلب تطوعا في إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله،
وفي الرواية الاخرى يقول في التطوع احتمال بناء شفع آخر عليه قائم فإذا فعل ذلك كان
الكل في حكم صلاة واحدة ولا تنقطع التحريمة بترك القراءة في ركعة منها، ومثل هذا
الاحتمال غير موجود في الفجر حتى إن في ظهر المسافر لبقاء هذا الاحتمال بنية
الاقامة قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: لا تفسد بترك القراءة في ركعة منها
حتى إذا نوى الاقامة أتم صلاته وقضى ما ترك من القراءة في الشفع الثاني فيجزيه ذلك،
وعلى هذا نقول إن بترك القراءة في التطوع في الركعتين جميعا لا تنحل التحريمة عنده
لاحتمال بناء شفع آخر عليه كما في فصل المسافر ولكنه يفسد لتحقق فوات ما هو فرض في
هذه الصلاة، فإنه وإن بنى الشفع الثاني على تحريمته لا يخرج به من أن يكون الشفع
الاول صلاة على حدة حقيقة وحكما، ولهذا لا يفسد الشفع الاول بمفسد يعترض في الشفع
الثاني، والمسائل التي تخرج على هذا الاصل يكثر تعدادها، والله أعلم.
ص 100
فصل: في بيان أسباب الشرائع

قال رضي الله عنه: اعلم بأن الامر والنهي على الاقسام
التي بيناها لطلب أداء المشروعات ففيها معنى الخطاب بالاداء بعد الوجوب بأسباب
جعلها الشرع سببا لوجوب المشروعات، والموجب هو الله تعالى حقيقة لا تأثير للاسباب
في الايجاب بأنفسها، والخطاب يستقيم أن يكون سببا موجبا للمشروعات إلا أن الله
تعالى جعل أسبابا أخر سوى الخطاب سبب الوجوب تيسيرا للامر على العباد حتى يتوصل إلى
معرفة الواجبات بمعرفة الاسباب الظاهرة، وقد دل على ما بينا قوله تعالى: *(أقيموا
الصلاة وآتوا الزكاة)* فإن الالف واللام دليل على أن المراد أقيموا الصلاة التي
أوجبتها عليكم بالسبب الذي جعلته سببا لها وأدوا الزكاة الواجبة عليكم بسببها، كقول
القائل أد الثمن فإنما يفهم منه الخطاب بأداء الثمن الواجب بسببه وهو البيع. ثم أصل
الوجوب في المشروعات جبر لا صنع للعبد فيه ولا اختيار، فإن الموجب هو الله تعالى
تعبد العباد بما أوجبها عليهم، فكما لا صنع لهم في صفة العبودية الثابتة عليهم لا
صنع لهم في أصل الوجوب، وباعتبار الاسباب التي جعلها الشرع سببا لا اختيار لهم في
أصل الوجوب أيضا، كما أنه لا اختيار لهم في السبب، فأما وجوب الاداء الثابت بالخطاب
لا ينفك عن اختيار يكون فيه للعبد عند الاداء، وبه يتحقق معنى العبادة والابتلاء في
المؤدي، وهذا لان التكليف بقدر الوسع شرعا، وأصل الوجوب يثبت بتقرر السبب مع انعدام
الخطاب بالاداء الثابت بالامر والنهي، فإن من مضى عليه وقت الصلاة وهو نائم تجب
عليه الصلاة حتى يؤدى الفرض إذا انتبه، فالخطاب موضوع عن النائم، وكذلك المغمى عليه
إذا لم يبق لتلك الصفة أكثر من يوم وليلة أو المجنون إذا لم يزدد جنونه على يوم
وليلة يثبت حكم وجوب الصلاة
ص 101
في حقه حتى يلزمه القضاء والخطاب موضوع عنه، ألا ترى أن المجنون أو المغمى عليه لو
كان كافرا فكما أفاق أسلم لم تلزمه قضاء الصلوات لما لم يثبت الوجوب في تلك الحالة
في حقه لانعدام الاهلية، فإن الاسباب إنما توجب على من يكون أهلا للوجوب عليه،
وكذلك المغمى عليه في جميع شهر رمضان أو المجنون في بعض الشهر يثبت الوجوب في حقهما
حتى يجب القضاء بعد الافاقة والخطاب موضوع عنهما، وكذلك الزكاة على أصل الخصم تجب
على الصبي والمجنون والخطاب موضوع عنهما، وبالاتفاق يجب عليهما العشر وصدقة الفطر،
وكذلك يجب عليهما حقوق العباد عند تحقق الاسباب منهما أو من الولي على سبيل النيابة
عنهما كالصداق الذي يلزمهما بتزويج الولي إياهما، والعتق الذي يستحقه القريب عليهما
عند دخوله في ملكهما بالارث وإن كان الخطاب موضوعا عنهما. إذا تقرر هذا فنقول:
الاسباب التي جعلها الشرع موجبا للمشروعات هي الاسباب التي تضاف المشروعات إليها
وتتعلق بها شرعا، لان إضافة الشيء إلى الشيء في الحقيقة تدل على أنه حادث به كما
يقال: كسب فلان أي حدث له باكتسابه، وقد يضاف إلى الشرط مجازا أيضا على معنى أن
وجوده يكون عند وجود الشرط ولكن المعتبر هو الحقيقة حتى يقوم دليل المجاز، وتعلق
الشيء بالشئ يدل على نحو ذلك، فحين رأينا إضافة الصلاة إلى الوقت شرعا وتعلقها
بالوقت شرعا أيضا حتى تتكرر بتكررها مع أن مطلق الامر لا يوجب التكرار وإن كان
معلقا بشرط، ألا ترى أن الرجل إذا قال (لغيره) تصدق بدرهم من مالي لدلوك الشمس لا
يقتضي هذا الخطاب التكرار، ورأينا أن وجوب الاداء الثابت بقوله تعالى: *(أقم الصلاة
لدلوك الشمس)* غير مقصور على المرة الواحدة، ثبت أن تكرار الوجوب باعتبار تجدد
السبب بدلوك الشمس في كل يوم، ثم وجوب الاداء مرتب عليه بحكم هذا الخطاب، وحرف
اللام في قوله تعالى: *(لدلوك الشمس)* دليل على تعلقها بذلك الوقت، كما يقال تأهب
للشتاء وتطهر للصلاة ولم يتعلق بها وجودا
ص 102
عندها، فعرفنا أن تعلق الوجوب بها بجعل الشرع ذلك الوقت سببا لوجوبها فنقول: وجوب
الايمان بالله تعالى كما هو بأسمائه وصفاته بإيجاب الله، وسببه في الظاهر الآيات
الدالة على حدث العالم لمن وجب عليه، وهذه الآيات غير موجبة لذاتها، وعقل من وجب
عليه غير موجب عليه أيضا ولكن الله تعالى هو الموجب بأن أعطاه آلة يستدل بتلك الآلة
على معرفة الواجب، كمن يقول لغيره هاك السراج فإن أضاء لك الطريق فاسلكه كان الموجب
للسلوك في الطريق هو الامر بذلك لا الطريق بنفسه ولا السراج، فالعقل بمنزلة السراج
والآيات الدالة على حدث العالم بمنزلة الطريق، والتصديق من العبد والاقرار بمنزلة
السلوك في الطريق فهو واجب بإيجاب الله تعالى حقيقة، وسببه الظاهر الآيات الدالة
على حدث العالم ولهذا تسمى علامات، فإن العلم للشئ لا يكون موجبا لنفسه، ولا نعني
أن هذه الآيات توجب وحدانية الله تعالى ظاهرا أو حقيقة، وإنما نعني أنها في الظاهر
سبب لوجوب التصديق والاقرار على العبد، ولكون هذه الآيات دائمة لا تحتمل التغير
بحال إذ لا يتصور للمحدث أن يكون غير محدث في شيء من الاوقات فكان فرضية الايمان
بالله تعالى دائما بدوام سببه غير محتمل للنسخ والتبديل بحال، ولهذا صححنا إيمان
الصبي العاقل، لان السبب متقرر في حقه والخطاب بالاداء موضوع عنه بسبب الصبا، لان
الخطاب بالاداء يحتمل السقوط في بعض الاحوال ولكن صحة الاداء باعتبار تقرر السبب
الموجب لا باعتبار وجوب الاداء، كالبيع بثمن مؤجل سبب لجواز أداء الثمن قبل حلول
الاجل وإن لم يكن الخطاب بالاداء متوجها حتى يحل الاجل، والمسافر إذا صام في شهر
رمضان كان صحيحا منه فرضا لتقرر السبب في حقه وإن كان الخطاب بالاداء موضوعا عنه
قبل إدراك عدة من أيام أخر، وهذا لان صحة الاداء تكون بوجود ما هو الركن ممن هو أهل
والركن هو التصديق والاقرار، والاهلية لذلك لا تنعدم بالصبا، فبعد ذلك بامتناع صحة
الاداء لا يكون إلا بحجر شرعي، والقول بالحجر لاحد عن الايمان بالله تعالى محال،
فأما الصلاة فواجبة بإيجاب الله تعالى بلا شبهة، وسبب وجوبها
ص 103
في الظاهر هو الوقت في حقنا وأمرنا بأدائها بقوله تعالى: *(أقم الصلاة لدلوك
الشمس)* أي لوجوبها بدلوك الشمس، والدليل عليه أنها تنسب إلى الوقت شرعا، فيقال فرض
الوقت وصلاة الفجر والظهر، وإنما يضاف الواجب إلى سببه، وكذلك يتكرر الوجوب بتكرر
الوقت، والخطاب لا يوجب التكرار وهي لا تضاف إلى الخطاب شرعا وليس هنا سوى الوقت
والخطاب، فتبين بهذا أن الوقت هو السبب ولهذا لا يجوز تعجيلها قبل الوقت ويجوز بعد
دخول الوقت مع تأخير لزوم الاداء بالخطاب إلى آخر الوقت. فإن قيل: لا يفهم من وجوب
العبادة شيء سوى وجوب الاداء ولا خلاف أن وجوب الاداء بالخطاب فما الذي يكون واجبا
بسبب الوقت؟ قلنا: الواجب بسبب الوقت ما هو المشروع نفلا في غير الوقت الذي هو سبب
للوجوب، وبيان هذا في الصوم فإنه مشروع نفلا في كل يوم وجد الاداء أو لم يوجد، وفي
رمضان يكون مشروعا واجبا بسبب الوقت سواء وجد خطاب الاداء بوجود شرطه وهو التمكن من
الاداء أو لم يوجد، ألا ترى أن من كان مغمى عليه أو نائما في وقت الصلاة ثم أفاق
بعد مضي الوقت يصير مخاطبا بالاداء لوجوبها عليه لوجود السبب وهو الوقت ولو كان هذا
المغمى عليه أو النائم غير بالغ ثم بلغ بعد مضي الوقت ثم أفاق وانتبه لم يكن عليه
قضاؤها وقد صار مخاطبا عند الافاقة في الموضعين بصفة واحدة ولكن لما انعدمت الاهلية
عند وجود السبب لم يثبت الوجوب في حقه، فلما وجدت الاهلية في الفصل الاول ثبت
الوجوب، ومن باع بثمن مؤجل فالثمن يجب بنفس العقد والخطاب بالاداء متأخر إلى مضي
الاجل فهذا مثله. وسبب وجوب الصوم شهود الشهر في حال قيام الاهلية ولهذا أضيف إلى
الشهر شرعا ويتكرر بتكرر الشهر ولم يجب الاداء قبل وجود الشهر وجاز بعد وإن كان
الاداء متأخرا كما في حق المريض والمسافر، فإن الامر بالاداء في حقهما بعد إدراك
عدة من أيام أخر، والوجوب ثابت في الشهر بتقرر سببه حتى لو صاما كان ذلك فرضا، ألا
ترى أن من كان مسافرا في رمضان غير بالغ ثم صار مقيما بعدما بلغ
ص 104
خارج رمضان لا يلزمه الصوم، ولو كان بالغا في رمضان مسافرا لزمه الاداء إذا صار
مقيما وحالهما عند الاقامة بصفة واحدة، فعرفنا أن الوجوب ثبت في حق أحدهما بتقرر
سببه دون الآخر. وبيان ما قلنا في قوله تعالى: *(فمن شهد منكم الشهر فليصمه)*
معناه: فليصم فيه، لان الوقت ظرف للصوم وإنما يفهم من هذا فليصم فيه الصوم الواجب
بشهوده، ولهذا ظن بعض المتأخرين ممن صنف في هذا الباب أن سبب الوجوب أيام الشهر دون
الليالي، لان صلاحية الاداء مختص بالايام. قال رضي الله عنه: وهذا غلط عندي بل في
السببية للوجوب الايام والليالي سواء، فإن الشهر اسم لجزء من الزمان يشتمل على
الايام والليالي وإنما جعله الشرع سببا لاظهار فضيلة هذا الوقت وهذه الفضيلة ثابتة
لليالي والايام جميعا، والرواية محفوظة في أن من كان مفيقا في أول ليلة من الشهر ثم
جن قبل أن يصبح ومضى الشهر وهو مجنون ثم أفاق يلزمه القضاء، ولو لم يتقرر السبب في
حقه بما شهد من الشهر في حالة الافاقة لم يلزمه القضاء (وكذلك المجنون إذا أفاق في
ليلة من الشهر ثم جن قبل أن يصبح ثم أفاق بعد مضي الشهر يلزمه القضاء) والدليل عليه
أن نية أداء الفرض تصح بعد دخول الليلة الاولى بغروب الشمس قبل أن يصبح، ومعلوم أن
نية أداء الفرض قبل تقرر سبب الوجوب لا يصح، ألا ترى أنه لو نوى قبل غروب الشمس لم
تصح نيته، وأيد ما قلنا قوله (ص): صوموا لرؤيته فإنه نظير قوله تعالى: *(أقم الصلاة
لدلوك الشمس)* وقد بينا في الصلاة أن في تقرر الوجوب بتقرر السبب لا يعتبر التمكن
بالاداء، فإن من أسلم في آخر الوقت بحيث لا يتمكن من أداء الصلاة في الوقت يلزمه
فرض الوقت فهنا وإن لم يثبت التمكن من الاداء بشهود الليل يتقرر سبب الوجوب ولكن
بشرط احتمال الاداء في الوقت، ولهذا لو أسلم في آخر يوم من رمضان قبل الزوال أو
بعده لم يلزمه الصوم وإن أدرك جزءا من الشهر، لانه ليس هنا معنى احتمال الاداء في
الوقت، وقد قررنا هذا فيما سبق.
ص 105
وسبب وجوب الحج البيت ولهذا يضاف إليه شرعا، قال الله تعالى: *(ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا)* ولهذا لا يتكرر بتكرر وقت الاداء، لان ما هو السبب
غير متجدد، فأما الوقت فهو شرط جواز الاداء وليس بسبب للوجوب ولا يقال بدخول شوال
يدخل الوقت ويتأخر الاداء إلى يوم عرفة، فعرفنا أن الوقت سبب للوجوب إذ لو لم يكن
سببا له لم يكن إضافة الوقت إليه مفيدا ويقال أشهر الحج كما يقال وقت الصلاة،
فعرفنا أنه سبب فيه، وهذا لان عندنا يجوز الاداء كما دخل شوال، ولكن هذه عبادة
تشتمل على أركان بعضها مختص بوقت ومكان وبعضها لا يختص، فما كان مختصا بوقت أو مكان
لا يجوز في غير ذلك الوقت كما لا يجوز في غير ذلك المكان وما لم يكن مختصا بوقت فهو
جائز في جميع وقت الحج، حتى إن من أحرم في رمضان وطاف وسعى لم يكن سعيه معتدا به من
سعى الحج حتى إذا طاف للزيارة يوم النحر تلزمه إعادة السعي، ولو كان طاف وسعى في
شوال كان سعيه معتدا به حتى لا يلزمه إعادته يوم النحر، لان السعي غير مؤقت فجاز
أداؤه في أشهر الحج، وأما الوقوف موقت فلم يجز أداؤه قبل وقته كما لا يجوز أداء
طواف الزيارة يوم عرفة لانه موقت بيوم النحر، وكما لا يجوز رمي اليوم الثاني في
اليوم الاول، وهو نظير أركان الصلاة فإن السجود ترتب على الركوع فلا يعتد به قبل
الركوع، ولا يدل ذلك على أن الوقت ليس بوقت الاداء، وبهذا تبين أن الوقت ليس بسبب
للوجوب ولكنه شرط جواز الاداء ووجوب الاداء فيه، وكذلك الاستطاعة بالمال ليس بسبب
للوجوب فإن هذه عبادة بدنية وإنما كان البيت سببا لوجوبها لانها عبادة هجرة وزيارة
تعظيما لتلك البقعة فلا يصلح المال سببا لوجوبها ولا هو شرط لجواز الاداء أيضا،
فالاداء من الفقير صحيح وإن كان لا يملك شيئا وإنما المال شرط وجوب الاداء فإن
السفر الذي يوصله إلى الاداء لا يتهيأ له بدون الزاد والراحلة إلا بحرج عظيم والحرج
مدفوع، فعرفنا أن المال شرط وجوب الاداء وهو نظير عدة من أيام أخر في باب الصوم (في
حق المسافر) فإنه شرط
ص 106
وجوب الاداء حتى كان الاداء جائزا قبله، ولا يتكرر وجوب الاداء بتجدد هذه الايام،
وهنا أيضا لا يتكرر وجوب الاداء بتجدد ملك الزاد والراحلة، فعرفنا أنه شرط لوجوب
الاداء. وسبب وجوب الطهارة الصلاة فإنها تضاف إليها شرعا، فيقال تطهر للصلاة، فأما
الحدث فهو شرط وجوب الاداء بالامر وهو قوله تعالى: *(فاغسلوا وجوهكم)* الآية، لا أن
يكون سببا للوجوب، وكيف يكون سببا (للوجوب) وهو ناقض للطهارة؟ فما كان مزيلا للشئ
رافعا له لا يصلح سببا لوجوبه ولهذا جاز الاداء بدونه، وكان الوضوء على وضوء نورا
على نور، ولا يجب الاداء مع تحقق الحدث بدون وجوب الصلاة، فإن الجنب إذا حاضت لا
يجب عليها الاغتسال ما لم تطهر لانه ليس عليها وجوب الصلاة، وبهذا تبين أن الطهارة
ليست بعبادة مقصودة ولكنها شرط الصلاة وما يكون شرطا للشئ يتعلق به صحته، ووجوبه
بوجوب الاصل بمنزلة استقبال القبلة فإن وجوبه بوجوب الصلاة والشهود في باب النكاح
ثبوتها بثبوت النكاح لكون الشهود شرطا في النكاح. وسبب وجوب الزكاة المال بصفة أن
يكون نصابا ناميا، ألا ترى أنه يضاف إلى المال وأنه يتضاعف بتضاعف النصب في وقت
واحد ولكن الوجوب بواسطة غنى المالك، قال رسول الله (ص): لا صدقة إلا عن ظهر غنى
والغنى لا يحصل بأصل المال ما لم يبلغ مقدارا وذلك في النصاب شرعا، والوجوب بصفة
اليسر ولا يتم ذلك إلا إذا كان المال ناميا ولهذا يضاف إلى سبب النماء أيضا فيقال
زكاة السائمة وزكاة التجارة، فأما مضي الحول فهو شرط لوجوب الاداء من حيث إن النماء
لا يحصل إلا بمضي الزمان ولهذا جاز الاداء بعد كمال النصاب قبل حولان الحول وجواز
الاداء لا يكون قبل تقرر سبب الوجوب حتى لو أدى قبل كمال النصاب لم يجز. فإن قيل:
الزكاة يتكرر وجوبها في مال واحد باعتبار الاحوال، وبتكرر الشرط لا يتجدد الواجب؟
قلنا: ليس كذلك بل يتكرر الوجوب بتجدد النماء الذي هو وصف
ص 107
للمال وباعتباره يكون المال سببا للوجوب، فإن لمضي كل حول تأثيرا في حصول النماء
المطلوب من عين السائمة بالدر والنسل، والمطلوب من ربح عروض التجارة زيادة القيمة.
وسبب وجوب صدقة الفطر على المسلم الغني رأس يموله بولايته عليه، ولهذا يضاف إليه
فيقال صدقة الرأس، ويتضاعف الواجب بتعدد الرؤوس من الاولاد الصغار والمماليك، وإنما
عرفنا هذا بقوله عليه السلام: أدوا عن كل حر وعبد وقال عليه السلام: أدوا عمن
تمونون وحرف عن للانتزاع، فأما أن يكون المراد طريق الانتزاع بالوجوب على الرأس، ثم
أداء الغير عنه وهذا باطل، فإنه لا يجب على الكافر والرقيق والفقير والصغير، فعرفنا
أن المراد انتزاع الحكم عن سببه وفيه تنصيص على أن الرأس بالصفة التي قلنا هو السبب
الموجب للوجوب، وأما الفطر فهو شرط وجوب الاداء والاضافة إليه بطريق المجاز على
معنى أن الوجوب عنده يكون، وإنما جعلنا الفطر شرطا والرأس سببا مع وجود الاضافة
إليهما لان تضاعف الواجب بتعدد الرؤوس دليل محكم على أنه سبب والاضافة دليل محتمل،
فقد بينا أن الاضافة قد تكون إلى الشرط مجازا، ولان التنصيص على المئونة دليل على
أن سبب الوجوب الرأس دون الفطر، فالمئونة إنما تجب عن الرؤوس، ولهذا اشتمل هذا
الواجب على معنى المئونة وعلى معنى العبادة لان صفة الغنى فيمن يجب عليه الاداء
يعتبر لوجوب الاداء وذلك دليل كونه عبادة، وصفة المئونة في المؤدي دليل على أنه
بمنزلة النفقة، وجواز الاداء قبل الفطر دليل على أن الفطر ليس بسبب في وجوب الاداء
بشهود وقت الفطر في حق من لا يؤدي الصوم أصلا دليل على أن الفطر شرط وجوب الاداء،
فإن الكافر إذا أسلم ليلة العيد أو الصبي بلغ أو العبد عتق يلزمه الاداء بطلوع
الفجر من يوم الفطر، ولهذا لو أسلم بعد طلوع الفجر لم يلزمه وإن أدرك اليوم، لان
وقت الفطر عن رمضان في حق وجوب الصدقة عند طلوع الفجر، فإذا انعدمت الاهلية عند ذلك
لم يجب الاداء، وتكرر الوجوب
ص 108
بتكرر الفطر في كل سنة بمنزلة تكرر وجوب الزكاة بتكرر الحول، فإن الوصف الذي لاجله
كان الرأس موجبا وهو المئونة يتجدد بمضي الزمان، كما أن النماء الذي لاجله كان
المال سببا للوجوب يتجدد بتجدد الحول. وسبب وجوب العشر الارض النامية باعتبار حقيقة
النماء، وسبب وجوب الخراج الارض النامية باعتبار التمكن من طلب النماء بالزراعة،
ولهذا لو اصطلم الزرع آفة لم يجب العشر ولا الخراج، ولهذا لم يجتمع العشر والخراج
بسبب أرض واحدة بحال، لان كل واحد منهما مئونة الارض النامية إلا أن العشر الواجب
جزء من النماء فلا بد من حصول النماء ليثبت حكم الوجوب في محله بسببه، ولهذا كان في
العشر معنى المئونة ومعنى العبادة، فباعتبار أصل الارض هو مئونة لان تملك الارض سبب
لوجوب مئونة شرعا وباعتبار كون الواجب جزءا من النماء فيه معنى العبادة بمنزلة
الزكاة، وفي الخراج معنى المئونة باعتبار أصل الارض، ومعنى المذلة باعتبار التمكن
من طلب النماء بالزراعة، فالاشتغال بالزراعة مع الاعراض عن الجهاد سبب للمذلة على
ما روي أن النبي عليه السلام رأى شيئا من آلات الزراعة في دار فقال: ما دخل (هذا)
بيت قوم إلا ذلوا ولهذا يتكرر وجوب العشر بتجدد الخارج لتجدد الوصف وهو النماء ولا
يتكرر وجوب الخراج في حول واحد بحال، ولهذا جاز تعجيل الخراج قبل الزراعة ولم يجز
تعجيل العشر لان الارض باعتبار حقيقة النماء توجب العشر وذلك لا يتحقق قبل الزراعة،
ولهذا أوجب أبو حنيفة رحمه الله العشر في قليل الخارج وكثيره وفي كل ما يستنبت في
الارض مما له ثمرة باقية وما ليست له ثمرة باقية سواء، لان الوجوب باعتبار صفة
النماء ولا معتبر بصفة الغنى فيمن يجب عليه باعتبار النصاب لاجله. وسبب وجوب الجزية
الرأس باعتبار صفة معلومة، وهو أن يكون كافرا حرا له بنية صالحة للقتال، ولهذا يضاف
إليه فيقال: جزية الرأس، ويتكرر الوجوب
ص 109
بتكرر الحول بمنزلة تكرر وجوب الزكاة، فإن المعنى الذي كان الرأس سببا موجبا
باعتبار نصرة القتال، وهذا لان أهل الذمة يصيرون منا دارا، والقتال بنصرة الدار
واجب على أهلها، ولا تصلح أبدانهم لهذه النصرة لميلهم إلى أهل الدار المعادية
لدارنا اعتقادا فأوجب عليهم في أموالهم جزية عقوبة لهم على كفرهم، وخلفا عن النصرة
التي قامت بإصرارهم على الكفر في حقنا، ولهذا تصرف إلى المجاهدين الذين يقومون
بنصرة الدار، وهذه النصرة يتجدد وجوبها بتجدد الحاجة في كل وقت، فكذلك ما كان خلفا
عنها بتجدد وجوبها، إلا أنه لا نهاية للحاجة إلى المال فيعتبر الوقت لتجدد الوجوب
كما يعتبر في الزكاة. وسبب وجوب العقوبات ما يضاف إليه نحو الزنا للرجم والجلد،
والسرقة للقطع، وشرب الخمر والقذف للحد، والقتل العمد للقصاص. وسبب وجوب الكفارات
التي هي دائرة بين العقوبة والعبادة ما يضاف إليه من سبب متردد بين الحظر والاباحة
نحو اليمين المعقودة على أمر في المستقبل إذا حنث فيها، والظهار عند العود، والفطر
في رمضان بصفة الجناية، والقتل بصفة الخطأ. فأما سبب المشروع من المعاملات فهو تعلق
البقاء المقدور بتعاطيها، وبيان ذلك أن الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى قيام
الساعة، وهذا البقاء إنما يكون ببقاء الجنس وبقاء النفس، فبقاء الجنس بالتناسل،
والتناسل بإتيان الذكور الاناث في موضع الحرث، والانسان هو المقصود بذلك، فشرع لذلك
التناسل طريقا لا فساد فيه ولا ضياع، وهو طريق الازدواج بلا شركة، ففي التغالب فساد
العالم، وفي الشركة ضياع الولد لان الاب إذا اشتبه يتعذر إيجاب مئونة الولد عليه،
وبالامهات عجز عن اكتساب ذلك بأصل الجبلة فيضيع الولد، وبقاء النفس إلى أجله إنما
يقوم بما تقوم
ص 110
به المصالح للمعيشة وذلك بالمال، وما يحتاج إليه كل واحد لكفايته لا يكون حاصلا في
يده وإنما يتمكن من تحصيله بالمال، فشرع سبب اكتساب المال وسبب اكتساب ما فيه كفاية
لكل واحد وهو التجارة عن تراض لما في التغالب من الفساد والله لا يحب الفساد، ولان
الله تعالى جعل الدنيا دار محنة وابتلاء، كما قال تعالى: *(إنا خلقنا الانسان من
نطفة أمشاج نبتليه)* والانسان الذي هو مقصود غير مخلوق في الدنيا لنيل اللذات وقضاء
الشهوات بل للعبادة التي هي عمل بخلاف هوى النفس، قال الله تعالى: *(وما خلقت الجن
والانس إلا ليعبدون)* فعرفنا أن ما جعل لنا في الدنيا من اقتضاء الشهوات بالاكل
وغير ذلك ليس لعين اقتضاء الشهوة بل لحكم آخر وهو تعلق البقاء المقدور بتعاطيها،
إلا أن في الناس مطيعا وعاصيا، فالمطيع يرغب فيه لا لقضاء الشهوة بل لاتباع الامر،
والعاصي يرغب فيه لقضاء شهوة النفس فيتحقق البقاء المقدور بفعل الفريقين، وللمطيع
الثواب باعتبار قصده إلى الاقدام عليه، والعاصي مستوجب للعقاب باعتبار قصده في
اتباع هوى النفس الامارة بالسوء، تبارك الله الحكيم الخبير القدير، هو مولانا، فنعم
المولى ونعم النصير.
فصل: في بيان المشروعات من العبادات وأحكامها

قال رحمه الله:
هذه المشروعات تنقسم على أربعة أقسام: فرض وواجب وسنة ونفل. فالفرض اسم لمقدر شرعا
لا يحتمل الزيادة والنقصان، وهو مقطوع به لكونه ثابتا بدليل موجب للعلم قطعا من
الكتاب أو السنة المتواترة أو الاجماع، وفي الاسم ما يدل على ذلك كله، فإن الفرض
لغة التقدير، قال الله تعالى: *(فنصف ما فرضتم)*: أي قدرتم بالتسمية، وقال تعالى:
*(سورة أنزلناها وفرضناها)*: أي قطعنا الاحكام قطعا، وفي هذا الاسم ما ينبئ عن شدة
الرعاية في الحفظ لانه مقطوع به وما ينبئ عن التخفيف لانه مقدر متناه كيلا يصعب
علينا أداؤه، ويسمى مكتوبة أيضا لانها كتبت علينا في اللوح المحفوظ. وبيان هذا
القسم في الايمان بالله تعالى، والصلاة والزكاة والصوم والحج، فإن التصديق بالقلب
ص 111
والاقرار باللسان بعد المعرفة فرض مقطوع به، إلا أن التصديق مستدام في جميع العمر
لا يجوز تبديله بغيره بحال، والاقرار لا يكون واجبا في جميع الاحوال وإن كان لا
يجوز تبديله بغيره من غير عذر بحال، والعبادات التي هي أركان الدين مقدرة متناهية
مقطوع بها. وحكم هذا القسم شرعا أنه موجب للعلم اعتقادا باعتبار أنه ثابت بدليل
مقطوع به ولهذا يكفر جاحده، وموجب للعمل بالبدن للزوم الاداء بدليله، فيكون المؤدي
مطيعا لربه والتارك للاداء عاصيا، لانه بترك الاداء مبدل للعمل لا للاعتقاد وضد
الطاعة العصيان ولهذا لا يكفر بالامتناع عن الاداء فيما هو من أركان الدين، لا من
أصل الدين إلا أن يكون تاركا على وجه الاستخفاف فإن استخفاف أمر الشارع كفر، فأما
بدون الاستخفاف فهو عاص بالترك من غير عذر، فاسق لخروجه من طاعة ربه، فالفسق هو
الخروج، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من
جحرها، ولهذا كان الفاسق مؤمنا لانه غير خارج من أصل الدين وأركانه اعتقادا، ولكنه
خارج من الطاعة عملا، والكافر رأس الفساق في الحقيقة إلا أنه اختص باسم هو أعظم في
الذم، فاسم الفاسق عند الاطلاق يتنازل المؤمن العاصي باعتبار أعماله. فأما الواجب
فهو ما يكون لازم الاداء شرعا ولازم الترك فيما يرجع إلى الحل والحرمة، والاسم
مأخوذ من الوجوب وهو السقوط، قال الله تعالى: *(فإذا وجبت جنوبها)*: أي سقطت على
الارض، فما يكون ساقطا على المرء عملا بلزومه إياه من غير أن يكون دليله موجبا
للعلم قطعا يسمى واجبا، أو هو ساقط في حق الاعتقاد قطعا وإن كان ثابتا في حق لزوم
الاداء عملا، والفرض والواجب كل واحد منهما لازم إلا أن تأثير الفرضية أكثر، ومنه
سمي الحز في الخشبة فرضا لبقاء أثره على كل حال، ويسمى السقوط على الارض وجوبا لانه
قد لا يبقى أثره في الباقي، فما كان ثابتا بدليل موجب للعمل والعلم قطعا يسمى فرضا،
لبقاء أثره وهو العلم به أدى أو لم يؤد، وما كان ثابتا بدليل موجب للعمل غير موجب
للعلم يقينا باعتبار شبهة في طريقه يسمى واجبا، وقيل الاسم مشتق من الوجبة وهي
الاضطراب قال القائل:
ص 112
وللفؤاد وجيب تحت أبهره لدم الغلام وراء الغيب بالحجر أي اضطراب، فلنوع شبهة في
دليله يتمكن فيه اضطراب فسمي واجبا، وهذا نحو تعيين قراءة الفاتحة في الصلاة،
وتعديل الاركان، والطهارة في الطواف، والسعي في الحج وأصل العمرة والوتر. والشافعي
ينكر هذا القسم ويلحقه بالفرض، فإن كان إنكاره ذلك للاسم فقد بينا معنى الاسم، وإن
كان للحكم فهو إنكار فاسد، لان ثبوت الحكم بحسب الدليل، ولا خلاف بيننا وبينه أن
هذا التفاوت يتحقق في الدليل فإن خبر الواحد لا يوجب علم اليقين لاحتمال الغلط من
الراوي وهو دليل موجب للعمل بحسن الظن بالراوي وترجح جانب الصدق بظهور عدالته،
فيثبت حكم هذا القسم بحسب دليله وهو أنه لا يكفر جاحده، لان دليله لا يوجب علم
اليقين، ويجب العمل به لان دليله موجب للعمل ويضلل جاحده إذا لم يكن متأولا بل كان
رادا لخبر الواحد، فإن كان متأولا في ذلك مع القول بوجوب العمل بخبر الواحد فحينئذ
لا يضلل، ولوجوب العمل به يكون المؤدي مطيعا والتارك من غير تأويل عاصيا معاقبا،
وهذا لان الدلالة قامت لنا على أن الزيادة على النص نسخ فلا يثبت إلا بما يثبت
النسخ به والنسخ لا يثبت بخبر الواحد، فكذلك لا نثبت الزيادة فلا يكون موجبا للعلم
بهذا المعنى ولكن يجب العمل به، لان في العمل تقرير الثابت بالنص لا نسخ له، إلا أن
هذا يشكل على بعض الناس قبل التأمل على ما حكي عن يوسف بن خالد السمتي رحمه الله:
قدمت على أبي حنيفة رضي الله عنه فسألته عن الصلاة المفروضة كم هي؟ فقال: خمس،
فسألته عن الوتر، فقال: واجب، فقلت لقلة تأملي: كفرت فتبسم في وجهي، ثم تأملت فعرفت
أن بين الواجب والفريضة فرق كما بين السماء والارض، فيرحم الله أبا حنيفة ويجازيه
خيرا على ما هداني إليه. وبيان هذا أن فرضية القراءة في الصلوات ثابتة بدليل مقطوع
به، وهو قوله تعالى: *(فاقرؤوا ما تيسر من القرآن)* وتعيين الفاتحة ثابت بخبر
الواحد
ص 113
فمن جعل ذلك فرضا كان زائدا على النص، ومن قال يجب العمل به من غير أن يكون فرضا
كان مقررا للثابت بالنص على حاله وعاملا بالدليل الآخر بحسب موجبه، وفي القول
بفرضية ما ثبت بخبر الواحد رفع للدليل الذي فيه شبهة عن درجته أو حط للدليل الذي لا
شبهة فيه عن درجته وكل واحد منهما تقصير لا يجوز المصير إليه بعد الوقوف عليه
بالتأمل. وكذلك أصل الركوع والسجود ثابت بالنص، وتعديل الاركان ثابت بخبر الواحد
فلو أفسدنا الصلاة بترك التعديل كما نفسدها بترك الفريضة كنا رفعنا خبر الواحد عما
هو درجته في الحجة، ولو لم ندخل نقصانا في الصلاة بترك التعديل كنا حططناه عن درجته
من حيث إنه موجب للعمل. وكذلك الوتر فإنه ثابت بخبر الواحد، فلو لم نثبت صفة الوجوب
فيه عملا كان فيه إخراج خبر الواحد من أن يكون موجبا للعمل، ولو جعلناه فرضا كنا قد
ألحقنا خبر الواحد بالنص الذي هو مقطوع به. وكذلك شرط الطهارة في الطواف فإن فرضية
الطواف بدليل مقطوع به، واشتراط الطهارة فيه بخبر الواحد حيث شبهه رسول الله (ص)
بالصلاة، فالقول بفساد أصل الطواف عند ترك الطهارة يكون إلحاقا لدليله بالنص
المقطوع به، والقول بأنه يتمكن نقصان في الطواف حتى يعيد ما دام بمكة وإذا رجع إلى
أهله يجبر النقصان بالدم يكون عملا بدليله كما هو موجبه. وكذلك ترك الطواف بالحطيم،
فإن كون الحطيم من البيت ثبت بخبر الواحد. وكذلك السعي فإن ثبوته بخبر الواحد لان
المنصوص عليه في الكتاب: *(فلا جناح عليه أن يطوف بهما)* وهذا لا يوجب الفرضية.
وكذلك العمرة ثبوتها بخبر الواحد، فأما الثابت بالنص: *(ولله على الناس حج البيت)*
وهذا لا يوجب نوعين من الزيارة قطعا، والاضحية وصدقة الفطر على هذا أيضا تخرج. وأما
السنة: فهي الطريقة المسلوكة في الدين، مأخوذة من سنن الطريق، ومن قول القائل: سن
الماء إذا صبه حتى جرى في طريقه، وهو اشتقاق معروف، والمراد به شرعا ما سنه رسول
الله (ص) والصحابة بعده عندنا. وقال
ص 114
الشافعي: مطلق السنة يتناول سنة رسول الله (ص) فقط، وهذا لانه لا يرى تقليد الصحابي
ويقول: القياس مقدم على قول الصحابي فإنما يتبع حجته لا فعله، وقوله بمنزلة من بعد
الصحابة فإنه يتبع حجتهم لا مجرد فعلهم وقولهم إذا لم يبلغوا حد الاجماع، ولهذا قال
في قول سعيد بن المسيب رضي الله عنه: إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية: السنة
تنصرف إلى سنة رسول الله (ص)، وكذلك قوله في استحقاق الفرقة بسبب العجز عن النفقة:
السنة أنها تنصرف إلى طريقة رسول الله (ص) (وكذلك قوله في أن الحر لا يقتل بالعبد:
السنة تنصرف إلى سنة رسول الله عليه السلام) فأما عندنا إطلاق هذا اللفظ لا يوجب
الاختصاص بسنة رسول الله (ص)، فقال عليه السلام: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من
عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم
القيامة والسلف كانوا يطلقون اسم السنة على طريقة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
وكانوا يأخذون البيعة على سنة العمرين، وقال عليه السلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ إذا ثبت هذا فنقول: حكم السنة هو الاتباع،
فقد ثبت بالدليل أن رسول الله (ص) متبع فيما سلك من طريق الدين قولا وفعلا، وكذلك
الصحابة بعده، وهذا الاتباع الثابت بمطلق السنة خال عن صفة الفرضية والوجوب إلا أن
يكون من أعلام الدين، فإن ذلك بمنزلة الواجب في حكم العمل على ما قال مكحول رحمه
الله: السنة سنتان: سنة أخذها هدى وتركها ضلالة، وسنة أخذها حسن وتركها لا بأس به،
فالاول نحو صلاة العيد والاذان والاقامة والصلاة بالجماعة، ولهذا لو تركها قوم
استوجبوا اللوم والعتاب، ولو تركها أهل بلدة وأصروا على ذلك قوتلوا عليها ليأتوا
بها، والثاني نحو ما نقل من طريقة رسول الله (ص) في قيامه وقعوده ولباسه وركوبه،
وسننه في العبادات متبوعة أيضا، فمنها ما يكره تركها، ومنها ما يكون التارك مسيئا،
ومنها ما يكون
ص 115
المتبع لها محسنا ولا يكون التارك مسيئا، وعلى هذا تخرج الالفاظ المذكورة في باب
الاذان من قوله يكره وقد أساء ولا بأس به، وحيث قيل يعيد فهو دليل الوجوب، وعلى هذا
الخلاف قول الصحابي: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا عندنا لا يقتضي مطلقه أن يكون الآمر
رسول الله (ص)، وعند الشافعي مطلقه يقتضي ذلك، وقد كانوا يطلقون لفظ الامر على ما
أمر به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، كما كانوا يطلقون لفظ السنة على سنة العمرين،
وتمام بيان هذا يتأتى في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما النافلة: فهي الزيادة، ومنه
تسمى الغنيمة نفلا لانه زيادة على ما هو المقصود بالجهاد شرعا، ومنه سمي ولد الولد
نافلة لانه زيادة على ما حصل للمرء بكسبه، فالنوافل من العبادات زوائد مشروعة لنا
لا علينا، والتطوعات كذلك فإن التطوع اسم لما يتبرع به المرء من عنده ويكون محسنا
في ذلك ولا يكون ملوما على تركه فهو والنفل سواء، وحكمه شرعا أنه يثاب على فعله ولا
يعاقب على تركه، ولهذا قلنا: إن الشفع الثاني من ذوات الاربع في حق المسافر نفل،
لانه يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، ولهذا جوزنا صلاة النفل قاعدا مع القدرة
على القيام، وراكبا مع القدرة على النزول بالايماء في حق الراكب وإن لم يكن متوجها
إلى القبلة، لانه مشروع زيادة لنا وهو مستدام غير مقيد بوقت، وفي مراعاة تمام
الاركان والشرائط في جميع الاوقات حرج ظاهر، فلدفع الحرج جوزنا الاداء على أي وصف
يشرع فيه لتحقيق كونه زيادة لنا. وقال الشافعي: آخره من جنس أوله نفل فكما أنه مخير
في الابتداء بين أن يشرع وبين أن لا يشرع لكونه نفلا فكذلك يكون مخيرا في الانتهاء،
وإذا ترك الاتمام فإنما ترك أداء النفل وذلك لا يلزمه شيئا كما في المظنون. وقلنا
نحن: المؤدي موصوف بأنه لله تعالى وقد صار مسلما بالاداء، ولهذا لو مات كان مثابا
على ذلك فيجب التحرز عن إبطاله مراعاة لحق صاحب الحق، وهذا التحرز
ص 116
لا يتحقق إلا بالاتمام فيما لا يحتمل الوصف بالتجزي عبادة فيجب الاتمام لهذا وإن
كان في نفسه نفلا، ويجب القضاء إذا أفسده لوجود التعدي فيما هو حق الغير بمنزلة
المنذور، فالمنذور في الاصل مشروع نفلا ولهذا يكون مستداما كالنوافل إلا أن لمراعاة
التسمية بالنذر يلزمه أداء المشروع نفلا، فإذا وجب الابتداء لمراعاة التسمية فلان
يجب الاتمام لمراعاة ما وجد منه الابتداء ابتداء كان أولى، وهو نظير الحج فإن
المشروع منه نفلا يصير واجب الاداء لمراعاة التسمية حقا للشرع، فكذلك الاتمام بعد
الشروع في الاداء يجب حقا للشرع، وهذا هو الطريق في بيان الانواع الاربعة. ومما هو
ثابت بخبر الواحد أيضا تأخير المغرب للحاج إلى أن يجمع بينه وبين العشاء في وقت
العشاء بالمزدلفة، فإنه ثابت بقوله عليه السلام لاسامة بن زيد رضي الله عنهما
الصلاة أمامك ولهذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: لو صلى المغرب في الطريق في
وقت المغرب يلزمه الاعادة بالمزدلفة ما لم يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر يسقط عنه
الاعادة، لان الوجوب بدليل موجب للعمل وذلك الدليل يوجب الجمع بينهما في وقت العشاء
وقد تحقق فوات هذا العمل بطلوع الفجر، فلو ألزمناه القضاء مطلقا كنا قد أفسدنا ما
أداه أصلا وذلك حكم ترك الفريضة، فكذلك الترتيب بين الفوائت، وفرض الوقت ثابت بخبر
الواحد فيكون موجبا للعمل ما لم يتضيق الوقت، لان عند التضيق تتحقق المعارضة بتعين
هذا الوقت لاداء فرض الوقت، وكذلك عند كثرة الفوائت لان الثابت بخبر الواحد الترتيب
عملا وبعد التكرار في الفوائت يتحقق فوات ذلك، وعلى هذا قال أبو حنيفة رحمه الله:
إذا ترك صلاة ثم صلى شهرا وهو ذاكر لها فليس عليه إلا قضاء الفائتة، لان فساد الخمس
بعدها لم يكن بدليل مقطوع به ليجب قضاؤها مطلقا وإنما كان لوجوب الترتيب بخبر
الواحد وقد سقط وجوب الترتيب عملا عند كثرة الصلوات فلا يلزمه إلا قضاء المتروكة،
والله أعلم.
ص 117
فصل: في بيان العزيمة والرخصة

قال رحمه الله: العزيمة في أحكام الشرع ما هو مشروع
منها ابتداء من غير أن يكون متصلا بعارض. سميت عزيمة لانها من حيث كونها أصلا
مشروعا في نهاية من الوكادة والقوة حقا لله تعالى علينا بحكم أنه إلهنا ونحن عبيده،
وله الامر يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وعلينا الإسلام والانقياد. والرخصة: ما كان
بناء على عذر يكون للعباد، وهو ما استبيح للعذر مع بقاء الدليل المحرم، وللتفاوت
فيما هو أعذار العباد يتفاوت حكم ما هو رخصة. والاسمان من حيث اللغة يدلان على ما
ذكرنا، لان العزم في اللغة هو: القصد المؤكد، قال الله تعالى: *(فنسي ولم نجد له
عزما)*: أي قصدا متأكدا في العصيان، وقال تعالى: *(فاصبر كما صبر أولو العزم من
الرسل)* ومنه جعل العزم يمينا، حتى إذا قال القائل: أعزم كان حالفا، لان العباد
إنما يؤكدون قصدهم باليمين. والرخصة في اللغة عبارة عن: اليسر والسهولة، يقال: رخص
السعر إذا تيسرت الاصابة لكثرة وجود الاشكال وقلة الرغائب فيها، وفي عرف اللسان
تستعمل الرخصة في الاباحة على طريق التيسير، يقول الرجل لغيره: رخصت لك في كذا، أي
أبحته لك تيسيرا عليك، وقد بينا ما هو العزيمة في الفصل المتقدم، فإن النوافل
لكونها مشروعة ابتداء عزيمة، ولهذا لا تحتمل التغيير بعذر يكون للعباد حتى لا تصير
مشروعة. وزعم بعض أصحابنا أنها ليست بعزيمة لانها شرعت جبرا للنقصان في أداء ما هو
عزيمة من الفرائض، أو قطعا لطمع الشيطان في منع العباد من أداء الفرائض، من حيث
إنهم لما رغبوا في أداء النوافل مع أنها ليست عليهم فذلك دليل رغبتهم في أداء
الفرائض بطريق الاولى، والاول أوجه، فهذا الذي قالوا مقصود الاداء، فأما النوافل
فمشروع ابتداء مستدام لا يحتمل التغير بعارض يكون من العباد. وأما الرخصة قسمان:
أحدهما حقيقة والآخر مجاز، فالحقيقة نوعان: أحدهما أحق من الآخر، والمجاز نوعان
أيضا: أحدهما أتم من الآخر في كونه مجازا.
ص 118
فأما النوع الاول فهو: ما استبيح مع قيام السبب المحرم وقيام حكمه، ففي ذلك الرخصة
الكاملة بالاباحة لعذر العبد مع قيام سبب الحرمة وحكمها، وذلك نحو إجراء كلمة الشرك
على اللسان بعذر الاكراه، فإن حرمة الشرك باتة لا ينكسف عنه لضرورة وجوب حق الله
تعالى في الايمان به قائم أيضا ومع هذا أبيح لمن خاف التلف على نفسه عند الاكراه
إجراء الكلمة رخصة له، لان في الامتناع حتى يقتل تلف نفسه صورة ومعنى وبإجراء
الكلمة لا يفوت ما هو الواجب معنى، فإن التصديق بالقلب باق والاقرار الذي سبق منه
مع التصديق صح إيمانه، واستدامة الاقرار في كل وقت ليس بركن إلا أن في إجراء كلمة
الشرك هتك حرمة حق الله تعالى صورة، وفي الامتناع مراعاة حقه صورة ومعنى فكان
الامتناع عزيمة، لان الممتنع مطيع ربه مظهر للصلابة في الدين وما ينقطع عنه طمع
المشركين وهو جهاد فيكون أفضل، والمترخص بإجراء الكلمة يعمل لنفسه من حيث السعي في
دفع سبب الهلاك عنها، فهذه رخصة له إن أقدم عليها لم يأثم، والاول عزيمة حتى إذا
صبر حتى قتل كان مأجورا، وعلى هذا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر عند خوف الهلاك،
فإن السبب الموجب لذلك وحكم السبب وهو الوجوب حقا لله تعالى قائم ولكن يرخص له في
الترك، والتأخير بعذر كان من جهته وهو خوف الهلاك وعجزه عن شد المعاضد عنه، ولهذا
لو أقدم على الامر بالمعروف حتى يقتل كان مأجورا لانه مطيع ربه فيما صنع، وفي هذا
الفصل يباح له الاقدام عليه وإن كان يعلم أنه لا يتمكن من منعهم عن المنكر، بخلاف
ما إذا أراد المسلم أن يحمل على جماعة من المشركين وهو يعلم أنه لا ينكأ فيهم حتى
يقتل فإنه لا يسعه الاقدام، لان الفسقة معتقدون لما يأمرهم به وإن كانوا يعملون
بخلافه ففعله يكون مؤثرا في باطنهم لا محالة وإن لم يكن مؤثرا في ظاهرهم ويتفرق
جمعهم عند إقدامه على الامر بالمعروف وإن قتلوه والمقصود تفريق جمعهم، وأما
المشركون غير معتقدين لما يأمرهم به المسلم فلا يتفرق جمعهم بصنيعه فإذا كان فعله
لا ينكأ فيهم كان مضيعا نفسه في الحملة عليهم، ملقيا بيده إلى التهلكة لا أن يكون
عاملا لربه في إعزاز الدين. وكذلك تناول مال الغير بغير إذنه للمضطر عند خوف الهلاك
فإنه رخصة مع قيام سبب الحرمة وحكمها وهو حق المالك، ولهذا وجب الضمان
ص 119
حقا له، وكذلك إباحة إتلاف مال الغير عند تحقق الاكراه فإنه رخصة مع قيام سبب
الحرمة وحكمها، وكذلك إباحة الافطار في رمضان للمكره، وإباحة الاقدام على الجناية
على الصيد للمحرم. ولهذا النوع أمثلة كثيرة والحكم في الكل واحد له أن يرخص
بالاقدام على ما فيه رفع الهلاك عن نفسه فذلك واسع له، تيسيرا من الشرع عليه، وإن
امتنع فهو أفضل له ولم يكن في الامتناع عاملا في إتلاف نفسه بل يكون متمسكا بما هو
العزيمة. والنوع الثاني: ما استبيح مع قيام السبب المحرم موجبا لحكمه إلا أن الحكم
متراخ عن السبب (فلكون السبب القائم موجبا للحكم كانت الاستباحة ترخصا للمعذور
ولكون الحكم متراخيا عن السبب) كان هذا النوع دون الاول، فإن كمال الرخصة يبتنى على
كمال العزيمة، فإذا كان الحكم ثابتا في السبب فذلك في العزيمة أقوى منه إذا كان
الحكم متراخيا عن السبب، بمنزلة البيع بشرط الخيار مع البيع البات، والبيع بثمن
مؤجل مع البيع بثمن حال، فالحكم وهو الملك في المبيع والمطالبة بالثمن ثابت في
البات المطلق متراخ عن السبب في المقرون بشرط الخيار أو الاجل، وبيان هذا النوع في
الصوم في شهر رمضان للمسافر والمريض فإن السبب الموجب شرعا وهو شهود الشهر قائم،
ولهذا لو أديا كان المؤدى فرضا ولكن الحكم متراخ إلى إدراك عدة من أيام أخر، ولهذا
لو ماتا قبل الادراك لم يلزمهما شيء ولو كان الوجوب ثابتا للزمهما الامر بالفدية
عنهما، لان ترك الواجب بعذر يرفع الاثم ولكن لا يسقط الخلف وهو القضاء أو الفدية،
والتعجيل بعد تمام السبب مع تراخي الحكم صحيح كتعجيل الدين المؤجل. ثم قال الشافعي
رحمه الله: لما كان حكم الوجوب متأخرا إلى إدراك عدة من أيام أخر كان الفطر أفضل
ليكون إقدامه على الاداء متراخيا بعد ثبوت الحكم بإدراك عدة من أيام أخر، وقلنا
نحن: الصوم أفضل لان مع إباحة الترخص بالفطر للمشقة التي تلحقه بالصوم في المرض أو
السفر السبب الموجب قائم فكان المؤدى للصوم عاملا لله تعالى في إدراك الفرائض،
والمترخص بالفطر عاملا لنفسه فيما يرجع إلى الترفة فالاول عزيمة والتمسك بالعزيمة
أفضل مع أن
ص 120
في معنى الرخصة يشترك الصوم والفطر، فمن وجه الصوم مع الجماعة في شهر رمضان يكون
أيسر من التفرد به بعد مضي الشهر وإن كان أشق على بدنه، ومن وجه الترخص بالفطر مع
أداء الصوم بعد الاقامة أيسر عليه لكيلا تجتمع عليه مشقتان في وقت واحد: مشقة السفر
ومشقة أداء الصوم، وإذا كان في كل جانب نوع ترفه يخير بينهما للتيسير عليه، وبعد
تحقق المعارضة بينهما يترجح جانب أداء الصوم لكونه مطيعا فيه عاملا لله تعالى إلا
أن يخاف الهلاك على نفسه إن صام فحينئذ يلزمه أن يفطر، لانه إن صام فمات كان قتيل
الصوم وهو المباشر لفعل الصوم فيكون قاتلا نفسه وعلى المرء أن يتحرز عن قتل نفسه،
بخلاف ما إذا أكرهه ظالم على الفطر فلم يفطر حتى قتله لان القتل هنا مضاف إلى فعل
الظالم، فأما هو في الامتناع عن الفطر عند الاكراه مستديم للعبادة، مظهر للطاعة عن
نفسه في العمل لله تعالى، وذلك عمل المجاهدين. وبيان النوع الثالث في الاصر
والاغلال التي كانت على من قبلنا، وقد وضعها الله تعالى عنا، كما قال تعالى: *(ويضع
عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم)* وقال تعالى: *(ربنا ولا تحمل علينا إصرا)*
الآية، فهذا النوع غير مشروع في حقنا أصلا، لا بناء على عذر موجود في حقنا بل
تيسيرا وتخفيفا علينا، فكانت رخصة من حيث الاسم مجازا وإن لم تكن رخصة حقيقة
لانعدام السبب الموجب للحرمة مع الحكم بالرفع والنسخ أصلا في حقنا، فإن حقيقة
الرخصة في الاستباحة مع قيام السبب المحرم، ولكن لما كان الرفع للتخفيف علينا
والتسهيل سميت رخصة مجازا. وأما بيان النوع الرابع فما يستباح تيسيرا لخروج السبب
من أن يكون موجبا للحكم مع بقائه مشروعا في الجملة، فإنه من حيث انعدام السبب
الموجب للحكم يشبه هذا النوع الثالث فكان مجازا، ومن حيث إنه بقي السبب مشروعا في
الجملة يشبه