الصفحة السابقة الصفحة التالية

أصول السرخسي

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 121

النوع الثاني وهو أن الترخص باعتبار عذر للعباد فكان معنى الرخصة فيه حقيقة من وجه دون وجه. وبيان هذا النوع في فصول: منها السلم فإن النبي (ص) نهى عن بيع ما ليس عند الانسان ورخص في السلم والسلم نوع بيع، واشتراط العينية في المبيع المشروع قائم في الجملة ثم سقط هذا الشرط في السلم أصلا حتى كانت العينية في المسلم فيه مفسدة للعقد لا مصححة، وكان سقوط هذا الشرط للتيسير على المحتاجين حتى يتوصلوا إلى مقصودهم من الاثمان قبل إدراك غلاتهم، ويتوصل صاحب الدراهم إلى مقصوده من الربح فكانت رخصة من حيث إخراج السبب من أن يكون موجبا اعتبار العينية فيه مع بقاء هذا النوع من السبب موجبا له في الجملة. وكذلك المسح على الخفين رخصة مشروعة لليسر على معنى أن استتار القدم بالخف يمنع سراية الحدث إلى القدم لا على معنى أن الواجب من غسل الرجل يتأدى بالمسح، ولهذا يشترط أن يكون اللبس على طهارة في الرجلين، وأن يكون أول الحدث بعد اللبس طارئا على طهارة كاملة ولو نزع الخف بعد المسح يلزمه غسل رجليه، فعرفنا أن التيسير من حيث إخراج السبب الموجب للحدث من أن يكون عاملا في الرجل ما دام مستترا بالخف، وتقدم الخف على الرجل في قبول حكم الحدث ما لم يخلعهما مع بقاء أصل السبب في الجملة. وكذلك الزيادة في مدة المسح للمسافر فإنه رخصة من حيث إن السبب لم يبق في حقه موجبا غسل الرجل بعد مضي يوم وليلة ما لم ينزع الخف، وعلى هذا ما ذكر في كتاب الاكراه أن من اضطر إلى تناول الميتة أو شرب الخمر لخوف الهلاك على نفسه من الجوع أو العطش أو للاكراه فإنه لا يسعه الامتناع من ذلك ولو امتنع حتى مات كان آثما، لان السبب غير موجب للحكم عند الضرورة للاستثناء المذكور في قوله تعالى: *(إلا ما اضطررتم إليه)* فالمستثنى لا يتناوله الكلام موجبا لحكمه، ولكن السبب بهذا الاستثناء لم ينعدم أصلا، فكانت الرخصة ثابتة باعتبار عذر العبد خرج به السبب من أن يكون موجبا للحكم في حقه ويلتحق الحرام في هذه الحالة في حقه بالحلال لما انعدم سبب الحرمة في حقه، ومن امتنع من تناول الحلال حتى يتلف نفسه يكون آثما، يوضحه أن سبب الحرمة

ص 122

وجوب صيانة عقله عن الاختلاط أو الفساد بشرب الخمر، وصيانة بدنه عن ضرر تناول الميتة وصيانة البعض لا يتحقق في إتلاف الكل، فكان الامتناع في هذه الحالة إتلافا للنفس من غير أن يكون فيه تحصيل ما هو المقصود بالحرمة فلا يكون مطيعا لربه بل يكون متلفا نفسه بترك الترخص فيكون آثما. ومن هذا النوع ما قال علماؤنا رحمهم الله: إنه لا يجوز للمسافر أن يصلي الظهر أربعا في سفره وإن ذلك بمنزلة ما لو صلى المقيم الفجر أربعا، لان السبب لم يبق في حقه موجبا إلا ركعتين فكانت الاخريان نفلا في حقه، ولهذا يباح له تركهما لا إلى بدل، وخلط النفل بالفرض قصدا لا يحل، وأداء النفل قبل إكمال الفرض يكون مفسدا للفرض فإذا لم يقعد القعدة الاولى فسدت صلاته. والشافعي رحمه الله يقول: السبب الموجب للظهر أربع ركعات إلا أنه رخص له في الاكتفاء بالركعتين لدفع مشقة السفر فإن أكمل الصلاة كان مؤديا للفرض بعد وجود سببه فيستوي هو والمقيم في ذلك، كما إذا صام المسافر في شهر رمضان، وجعل معنى الرخصة في تخييره بين أن يؤدي فرض الوقت بأربع ركعات وبين أن يؤدي ركعتين بمنزلة العبد يأذن له مولاه في أداء الجمعة فإنه يتخير بين أن يؤدي فرض الوقت بالجمعة ركعتين وبين أن يؤدي بالظهر أربعا. وهذا غلط منه يتبين عند التأمل في مورد الشرع على ما روي أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله ما بالنا نصلي في السفر ركعتين ونحن آمنون؟ فقال: هذه صدقة تصدق الله عليكم فاقبلوا صدقته ونحن نعلم أن المراد التصدق بالاسقاط عنا وما يكون واجبا في الذمة فالتصدق ممن له الحق بإسقاطه يكون كالتصدق بالدين على من عليه الدين، ومثل هذا الاسقاط إذا لم يتضمن معنى التمليك لا يرتد بالرد كالعفو عن القصاص، وكذلك إذا لم يكن فيه معنى المالية لا يرتد بالرد ولا يتوقف على القبول كالطلاق وإسقاط الشفعة، فبهذا يتبين أن السبب لم يبق موجبا للزيادة على الركعتين بعد هذا التصدق، فإن معنى الترخص في إخراج السبب من أن يكون موجبا للزيادة على الركعتين في حقه لا في التخيير، فإن التخيير عبارة عن تفويض المشيئة إلى المخير وتمليكه منه وذلك لا يتحقق هنا، فالعبادات إنما تلزمنا بطريق الابتلاء، قال الله تعالى: *(ليبلوكم أيكم أحسن عملا)* وتفويض المشيئة إلى العبد بهذه الصفة في أصل الوجوب أو في مقدار الواجب يعدم معنى

ص 123

الابتلاء، وبهذا تبين أن المراد من قوله (ص): فاقبلوا صدقته بالوقوف على أداء الواجب من غير خلط النفل به، وهكذا نقول في الصوم إلا أن الرخصة هناك في تأخير الحكم عن السبب وليس للعباد اختيار في رد ذلك إلا أن أصل السبب موجب في حقه ولهذا يلزمه القضاء إذا أدرك عدة من أيام أخر. وبيان هذا في قوله (ص): إن الله وضع المسافر شطر الصلاة وأداء الصوم يحقق ما ذكرنا أن المشيئة التامة والاختيار الكامل لا يثبت للعبد أصلا، فإن ذلك بربوبته، وذلك معنى قوله تعالى: *(وربك يخلق ما يشاء ويختار)*: أي يتعالى أن يكون له رفيق فيما يختار، ويتعالى أن يكون له اختيار لدفع ضرر عنه، وهذا هو الاختيار الكامل، فأما الاختيار للعبد لا ينفك عن معنى الرفق به وذلك في أن يجر إلى نفسه منفعة باختياره أو يدفع عن نفسه ضررا. ألا ترى أن الله تعالى خير الحالف بين الانواع الثلاثة في الكفارة ليحصل للمكفر الرفق لنفسه باختياره الايسر عليه وهذا لا يتحقق في التخيير بين القليل والكثير في الجنس الواحد بوجه، وسواء صلى ركعتين أو أربعا فهو ظهر وببداهة العقول يعلم أن الرفق متعين في أداء الركعتين، فمن قال بأنه يتخير بين الاقل والاكثر من غير رفق له في ذلك فإنه لا يثبت له خيارا يليق بالعبودية والعجز، وخطأ هذا غير مشكل، ومن يقول بأن للعبد أن يرد ما أسقط الله تعالى عنه بطريق التصدق عليه فخطؤه لا يشكل أيضا لان عفو الله تعالى عن العباد في الآخرة لا يقول فيه أحد من العقلاء إنه يرتد برد العبد وإنه تخيير للعبد، وهذا بخلاف العبد المأذون في أداء الجمعة لان الجمعة غير الظهر، ولهذا لا يجوز بناء أحدهما على الآخر وعند المغايرة لا يتعين الرفق في الاقل عددا، فأما ظهر المقيم وظهر المسافر فواحد في الحكم فبالتخيير بين القليل والكثير فيه لا يتحقق شيء من معنى الرفق فيه. ونظير هذا العبد الجاني إذا جنى جناية يخير المولى بين الدفع والفداء فإن أعتقه المولى وهو لا يعلم بالجناية أو كان الجاني مدبرا تكون على المولى قيمته ولا خيار له في ذلك، لان الجنس لما كان واحدا فالرفق كله متعين في الاقل. وكذلك من اشترى شيئا لم يره يثبت له خيار الرؤية لتحقيق معنى الرفق باسترداد الثمن عند فسخ

ص 124

البيع، وفي السلم لا يثبت خيار الرؤية لان برد المقبوض لا يتوصل إلى الرفق باسترداد الثمن ولكنه يرجع بمثل المقبوض فلا يظهر فيه معنى الرفق. فإن قيل: معنى الرفق هنا يتحقق من حيث إن ثوابه في أداء الاربع أكثر وأداء الركعتين على بدنه أيسر فالتخيير لهذا المعنى. قلنا: أحكام الدنيا لا تبنى على ما هو من أحكام الآخرة وهو نيل الثواب مع أن الثواب كله في امتثال الامر بأداء الواجب لا في عدد الركعات، فإن جمعة الحر في الثواب لا يكون دون ظهر العبد، وفجر المقيم في الثواب لا يكون دون ظهره، فعرفنا أن هذا المعنى لا يتحقق في ثواب الصلاة أيضا وإنما يتحقق معنى الرفق في الصوم من الوجه الذي قررنا أن في الفطر نوع رفق له وفي الصوم نوع رفق آخر فكان التخيير بينهما مستقيما. ويخرج على هذا من نذر صوم سنة إن فعل كذا ففعل وهو معسر فإنه يتخير بين صوم ثلاثة أيام وبين صوم سنة على قول محمد رحمه الله، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله أنه رجع إليه قبل موته بأيام لانهما مختلفان حكما، ففي صوم سنة وفاء بالمنذور وأداء ما هو قربة ابتداء، وصوم ثلاثة أيام كفارة لما لحقه بخلف الوعد المؤكد باليمين، وقد بينا أن التخيير عند المغايرة يتحقق فيه معنى الرفق، ولا يدخل على ما ذكرنا التخيير المذكور في حق موسى عليه السلام أنه فيما التزمه من الصداق بين الاقل والاكثر في جنس واحد، كما قال تعالى: *(على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتمت عشرا فمن عندك)* لان الزيادة على الثماني كان فضلا من عنده متبرعا به، فأما الواجب من الصداق وهو الاقل عندنا. هكذا في مسألة الخلاف فالفرض ركعتان عندنا والزيادة عليه نفل مشروع للعبد يتبرع به من عنده ولكن الاشتغال بأداء النفل قبل إكمال الفرض مفسد للفرض، والله أعلم.

 

 باب: أسماء صيغة الخطاب في تناوله المسميات وأحكامها

 قال رضي الله عنه: اعلم بأن هذه الاسماء أربعة: الخاص والعام والمشترك والمؤول. فالخاص كل لفظ موضوع لمعنى معلوم على الانفراد، وكل اسم لمسمى معلوم على

ص 125

الانفراد، ومنه يقال: اختص فلان بملك كذا: أي انفرد به ولا شركة للغير معه، وخصني فلان بكذا: أي أفرده لي، وفلان خاص فلان، ومنه سميت الخصاصة للانفراد عن المال وعن نيل أسباب المال مع الحاجة، ومعنى الخصوص في الحاصل الانفراد وقطع الاشتراك، فإذا أريد به خصوص الجنس قيل إنسان، وإذا أريد به خصوص النوع قيل رجل، وإذا أريد به خصوص العين قيل زيد. وأما العام كل لفظ ينتظم جمعا من الاسماء لفظا أو معنى، ونعني بالاسماء هنا المسميات، وقولنا لفظا أو معنى تفسير للانتظام: أي ينتظم جمعا من الاسماء لفظا مرة كقولنا زيدون، ومعنى تارة كقولنا من وما وما أشبههما. ومعنى العموم لغة: الشمول، تقول العرب: عمهم الصلاح والعدل: أي شملهم، وعم الخصب: أي شمل البلدان أو الاعيان، ومنه سميت النخلة الطويلة عميمة، والقرابة إذا اتسعت انتهت إلى العمومة، فكل لفظ ينتظم جمعا من الاسماء سمي عاما لمعنى الشمول، وذلك نحو اسم الشيء فإنه يعم الموجودات كلها عندنا. وذكر أبو بكر الجصاص رحمه الله أن العام ما ينتظم جمعا من الاسامي أو المعاني، وهذا غلط منه، فإن تعدد المعاني لا يكون إلا بعد التغاير والاختلاف، وعند ذلك اللفظ الواحد لا ينتظمهما وإنما يحتمل أن يكون كل واحد منهما مرادا باللفظ وهذا يكون مشتركا لا عاما ولا عموم للمشترك عندنا، وقد نص الجصاص في كتابه على أن المذهب في المشترك أنه لا عموم له، فعرفنا أن هذا سهو منه في العبارة أو هو مؤول، ومراده أن المعنى الواحد باعتبار أنه يعم المحال يسمى معاني مجازا، فإنه يقال: مطر عام لانه عم الامكنة وهو في الحقيقة معنى واحد ولكن لتعدد المحال الذي تناوله سماه معاني، ولكن هذا إنما يستقيم إذا قال: ما ينتظم جمعا من الاسامي والمعاني. قال رضي الله عنه: وهكذا رأيته في بعض النسخ من كتابه، فأما قوله أو المعاني فهو سهو منه، وذكر أن إطلاق لفظ العموم حقيقة في المعاني والاحكام كما هو في الاسماء والالفاظ. ويقال عمهم الخوف وعمهم الخصب باعتبار المعنى من غير أن يكون هناك لفظ، وهذا غلط أيضا فإن المذهب أنه لا عموم للمعاني حقيقة وإن كان

ص 126

يوصف به مجازا، وسيأتيك بيان هذا الفصل في باب بيان إبطال القول بتخصيص العلل الشرعية. وأما المشترك فكل لفظ يشترك فيه معان أو أسام لا على سبيل الانتظام بل على احتمال أن يكون كل واحد هو المراد به على الانفراد، وإذا تعين الواحد مرادا به انتفى الآخر، مثل اسم العين فإنه للناظر، ولعين الماء، وللشمس، وللميزان، وللنقد من المال، وللشئ المعين لا على أن جميع ذلك مراد بمطلق اللفظ ولكن على احتمال كون كل واحد مرادا بانفراده عند الاطلاق، وهذا لان الاسم يتناول كل واحد من هذه الاشياء باعتبار معنى غير المعنى الآخر، وقد بينا أن لفظ الواحد لا ينتظم المعاني المختلفة. وبيان هذا في لفظ البينونة فإنه يحتمل معنى الابانة ومعنى البين ومعنى البيان، يقول الرجل بان فلان عني: أي هجرني، وبان العضو من الجسم: أي انفصل، وبان لي كذا: أي ظهر، فيعلم أن مطلق اللفظ لا ينتظم هذه المعاني ولكن يحتمل كل واحد منها أن يكون مرادا ولهذا سميناه مشتركا، فالاشتراك عبارة عن المساواة، وفي الاحتمال وجدت المساواة بينهما فبقي المراد به مجهولا لا يمكن العمل بمطلقه في الابتداء بمنزلة المجمل إلا أن الفرق بين المشترك والمجمل أنه قد يتوصل إلى العمل بالمشترك عند التأمل في صيغة اللفظ فيرجح بعض المحتملات ويعرف أنه هو المراد بدليل في اللفظ من غير بيان آخر، والمجمل ما لا يستدرك به المراد بمجرد التأمل في صيغة اللفظ ما لم يرجع في بيانه إلى المجمل ليصير المراد بذلك البيان معلوما لا بدليل في لفظ المجمل. وبيان المشترك في لفظ القرء، فبين العلماء اتفاق أنه يحتمل الاطهار ويحتمل الحيض وأنه غير منتظم لهما بل إذا حملناه على الحيض لدليل في اللفظ وهو أن المرأة لا تسمى ذات القرء إلا باعتبار الحيض فينتفي كون الاطهار مرادا عندنا، وإذا حمله الخصم على الاطهار لدليل في اللفظ وهو الاجتماع أخرج الحيض من أن يكون مرادا باللفظ. وعلى هذا قال علماؤنا رحمهم الله: لو أوصى بثلث ماله لمواليه وله موال أعتقوه وموال أعتقهم لا تصح الوصية، لان الاسم مشترك يحتمل أن يكون المراد به هو المولى الاعلى ويحتمل الاسفل وفي

ص 127

المعنى تغاير، فالوصية للاعلى بمعنى المجازاة وشكرا للنعم، وللاسفل للزيادة في الانعام والترحم عليه، ولا ينتظم اللفظ المعنيين جميعا للمغايرة بينهما فبقي الموصى له مجهولا. ولو حلف لا يكلم مواليه يتناول يمينه الاعلى والاسفل جميعا باعتبار أن المعنى الذي دعاه إلى اليمين غير مختلف في الاعلى والاسفل، فلايجاد المعنى لا يتحقق فيه الاشتراك بل اللفظ في هذا الحكم بمنزلة العام، فإن اسم الشيء يتناول الموجودات كلها باعتبار معنى واحد وهو صفة الوجود فكان منتظما للكل، والمشترك احتماله الجمع من الاشياء باعتبار معان مختلفة، فعرفنا به أن المراد واحد منها، فاسم المولى إذا استعمله فيما يختلف فيه المعنى والمقصود كان مشتركا، وفيما لا يختلف فيه المعنى كان بمنزلة العام. وأما المؤول فهو تبين بعض ما يحتمل المشترك بغالب الرأي والاجتهاد، ومن قولك آل يؤول: أي رجع، وأوليته بكذا إذا رجعته وصرفته إليه، ومآل هذا الامر كذا: أي تصير عاقبته إليه، فالمؤول ما تصير إليه عاقبة المراد بالمشترك بواسطة الامر، قال تعالى: *(هل ينظرون إلا تأويله)* أي عاقبته وما يؤول إليه الامر، وهو خلاف المجمل، فالمراد بالمجمل إنما يعرف ببيان من المجمل وذلك البيان يكون تفسيرا يعلم به المراد بلا شبهة، مأخوذ من قولك: أسفر الصبح إذا أضاء وظهر ظهورا منتشرا، وأسفرت المرأة عن وجهها: أي كشفت وجهها، وهذا اللفظ مقلوب من التفسير فالمعنى فيهما واحد وهو الانكشاف والظهور على وجه لا شبهة فيه، ومنه قوله (ص): من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار يعني قطع القول بأن المراد هذا برأيه، فإن من فعل ذلك فكأنه نصب نفسه صاحب الوحي فليتبوأ مقعده من النار، وبهذا تبين خطأ المعتزلة أن كل مجتهد مصيب لما هو الحق حقيقة، فالاجتهاد عبارة عن غالب الرأي، فمن يقول إنه يستدرك به الحق قطعا بلا شبهة فإنه داخل في جملة من تناولهم هذا الحديث. وصار الحاصل أن العام أكثر انتظاما للمسميات من الخاص، والخاص في معرفة المراد به أثبت من المشترك، ففي المشترك احتمال غير المراد ومع الاحتمال لا يتحقق الثبوت، والمشترك في إمكان معرفة المراد عند

ص 128

التأمل في لفظه أقوى من المجمل فليس في المجمل إمكان ذلك بدون البيان على ما نذكره في بابه، إن شاء الله تعالى.

 فصل: في بيان حكم الخاص

 قال رضي الله عنه: حكم الخاص معرفة المراد باللفظ ووجوب العمل به فيما هو موضوع له لغة، لا يخلو خاص عن ذلك وإن كان يحتمل أن تغير اللفظ عن موضوعه عند قيام الدليل فيصير عبارة عنه مجازا ولكنه غير محتمل للتصرف فيه بيانا، فإنه مبين في نفسه عامل فيما هو موضوع له بلا شبهة، وعلى هذا قال علماؤنا رحمهم الله في قوله تعالى: *(ثلاثة قروء)*: إن المراد الحيض، لانا لو حملناه على الاطهار كان الاعتداد بقرأين وبعض الثالث، ولو حملناه على الحيض كان التربص بثلاثة قروء كوامل، واسم الثلاث موضوع لعدد معلوم لغة لا يحتمل النقصان عنه، بمنزلة اسم الفرد فإنه لا يحتمل العدد، واسم الواحد ليس فيه احتمال المثنى، ففي حمله على الاطهار ترك العمل بلفظ الثلاث فيما هو موضوع له لغة ولا وجه للمصير إليه، وقلنا في قوله: *(اركعوا واسجدوا)* إن فرض الركوع يتأدى بأدنى الانحطاط، لان اللفظ لغة موضوع للميل عن الاستواء، يقال: ركعت النخلة إذا مالت، وركع البعير إذا طأطأ رأسه، فإلحاق صفة الاعتدال به ليكون فرضا ثابتا بهذا النص لا يكون عملا بما وضع له هذا الخاص لغة، ولكن إنما يكون وفي العثمانية إنما يثبت بصفة الاعتدال بخبر الواحد فيكون موجبا للعمل ممكنا للنقصان في الصلاة إذا تركه ولا يكون مفسدا للصلاة، لان ذلك حكم ترك الثابت بالنص، ومن ذلك قوله تعالى: *(وليطوفوا بالبيت العتيق)* فالطواف موضوع لغة لمعنى معلوم لا شبهة فيه وهو: الدوران حول البيت، ثم إلحاق شرط الطهارة بالدوران ليكون فرضا لا يعتد الطواف بدونه لا يكون عملا بهذا الخاص بل يكون نسخا له وجعل الطهارة واجبا فيه حتى يتمكن النقصان بتركه يكون عملا بموجب كل دليل، فإن ثبوت شرط الطهارة بخبر الواحد وهو موجب للعمل فبتركه يتمكن النقصان في العمل شرعا فيؤمر بالاعادة أو الجبر بالدم ليرتفع به النقصان، ومن ذلك قوله تعالى: *(فاغسلوا وجوهكم)* الآية فإن اللفظ موضوع لغة لغسل هذه الاعضاء،

ص 129

ففرضية الغسل في المغسولات والمسح في الممسوحات ثابت بهذا النص، واشتراط النية والموالاة والترتيب والتسمية ليكون فرضا لا يزول الحدث بدونها مع وجود الغسل والمسح لا يكون عملا بهذا الخاص بل يكون نسخا له، وجعل ذلك واجبا أو سنة للاكمال كما هو موجب خبر الواحد يكون عملا بكل دليل ومراعاة لمرتبة كل دليل. فتبين أن فيما ذهب إليه الخصم حط درجة النص عن مرتبته أو رفع درجة خبر الواحد فوق مرتبته فلا يكون القول به صحيحا. وقال الشافعي في قوله تعالى: *(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)*: فإن القطع لفظ خاص لمعنى معلوم، فإبطال عصمة المال والتقوم الذي كان ثابتا قبل فعل السرقة أو بعده قبل القطع لا يكون عملا بهذا الخاص، بل يكون زيادة أثبتموه بالرأي أو بخبر الواحد، فقد دخلتم فيما أبيتم. ولكنا نقول: ما أثبتنا ذلك إلا بلفظ خاص في الآية وهو قوله تعالى: *(جزاء بما كسبا نكالا من الله)* فاسم الجزاء يطلق على ما يجب حقا لله تعالى بمقابلة أفعال العباد، فثبت بهذا اللفظ الخاص أن القطع حق الله تعالى خالصا، وتبين به أن سببه جناية على حق الله تعالى، ولا يجب القطع إلا باعتبار العصمة والتقوم في المسروق، فبه يتبين أن العصمة والتقوم عند فعل السرقة صار حقا لله تعالى حيث وجب القطع باعتباره حقا له ويتم ذلك بالاستيفاء، لان ما يجب حقا لله تعالى فتمامه يكون بالاستيفاء إذ المقصود به الزجر وذلك يحصل بالاستيفاء، وبهذا التحقيق تبين أن العصمة والتقوم لم يبق حقا للعبد فلا يجب الضمان به، أو عرفنا ذلك من قوله تعالى: *(جزاء بما كسبا)* فإن الجزاء لغة يستدعي الكمال، من قولهم: جزى: أي قضى، أو جزأ بالهمزة: أي كفى، وكمال الجزاء باعتبار كمال السبب، وهو أن يكون الفعل حراما لعينه، فمع بقاء التقوم والعصمة حقا للمالك لا يكون الفعل حراما لعينه بل لغيره وهو حق المالك، فعرفنا أنه لم يبق العصمة والتقوم في المحل حقا للعبد عندنا باعتبار خاص منصوص عليه، ولا يدخل عليه الملك فإنه يبقى للمالك حتى يسترده إن كان قائما بعينه، لان مع بقاء الملك له لا تنعدم صفة الكمال في السبب وهو كون

ص 130

الفعل حراما لعينه، ألا ترى أن العصير إذا تخمر يبقى مملوكا ويكون الفعل فيه حراما لعينه حتى يجب الحد بشربه، ولكن لم يبق معصوما متقوما لانه حينئذ يكون بمنزلة عصير الغير فلا يكون شربه حراما لعينه. ثم وجوب القطع باعتبار العصمة والتقوم في محل مملوك، فأما المالك فهو غير معتبر فيه لعينه بل ليظهر السبب بخصومته عند الامام، ولهذا لو ظهر بخصومة غير المالك نقيم الحد بخصومة المكاتب والعبد المأذون المستغرق بالدين في كسبه والمتولي في مال الوقف، ونحن إنما جعلنا ما وجب القطع باعتباره حقا لله تعالى لضرورة كون الواجب محض حق الله تعالى وذلك في العصمة والتقوم دون أصل الملك. ومن هذه الجملة قوله تعالى: *(أن تبتغوا بأموالكم)* فالابتغاء موضوع لمعنى معلوم وهو الطلب بالعقد، والباء للالصاق، فثبت له اشتراط كون المال ملصقا به بالابتغاء تسمية أو وجوبا، والقول بتراخيه عن الابتغاء إلى وجود حقيقة المطلوب كما قاله الخصم في المفوضة أنه لا يجب المهر لها إلا بالوطئ يكون ترك العمل بالخاص، فيكون في معنى النسخ له ولا يجوز المصير إليه بالرأي. ومن ذلك قوله تعالى: *(قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم)* فالفرض لمعنى معلوم لغة وهو التقدير والكتابة في قوله تعالى: *(فرضنا)* لمعنى معلوم لغة وهو إرادة المتكلم نفسه، فالقول بأن المهر غير مقدر شرعا بل يكون إيجاب أصله بالعقد وبيان مقداره مفوضا إلى رأي الزوجين يكون ترك العمل بهذا الخاص، فإنما العمل به فيما قلنا إن وجوب أصله وأدنى المقدار فيه ثابت شرعا لا خيار له فيه للزوجين. ومن هذا النوع ما قال محمد والشافعي في قوله تعالى: *(فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره)* إن كلمة حتى موضوع لمعنى لغة وهو الغاية والنهاية، فجعله لمعنى موجب حلا حادثا يكون ترك العمل بهذا الخاص، وإنما العمل به في أن يجعل غاية للحرمة الحاصلة في المحل ولا حرمة قبل استيفاء عدد الطلاق ولا تصور للغاية قبل وجود أصل الشيء، فإن المنتهى بالغاية بعض الشيء فكيف يتحقق قبل وجود أصله! بل يكون وجود الزوج الثاني في هذه الحالة كعدمه. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: ما تناوله هذا الخاص فهو غاية لما وضع

ص 131

اللفظ له وهو عقد الزوج الثاني، فإن النكاح وإن كان حقيقة للوطئ فقد يطلق بمعنى العقد، والمراد العقد هنا بدليل الاضافة إلى المرأة، وإنما يضاف إليها العقد لتحقق مباشرته منها، ولا يضاف إليها الوطئ حقيقة لانها محل الفعل لا مباشرة للوطئ، فأما شرط الدخول فأثبتناه بحديث مشهور وهو ما روي أن امرأة رفاعة جاءت إلى رسول الله (ص) فقالت: إن رفاعة طلقني فبت طلاقي فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير فلم أجد معه إلا مثل هذه وأشارت إلى هدبة ثوبها، كانت تتهمه بالعنة، فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ فقالت: نعم، فقال: لا حتى تذوقي من عسيلته ويذوق من عسيلتك ففي اشتراط الوطئ للعود إشارة إلى السبب الموجب للحل. وقال عليه السلام: لعن الله المحلل والمحلل له ولا خلاف بين العلماء أن الوطئ من الزوج الثاني شرط لحل العود إلى الاول بهذه الآثار، فنحن عملنا بما هو موجب أصل هذا الدليل بصفته فجعلناه موجبا للحل، وهم أسقطوا اعتبار هذا الوصف من هذا الدليل استدلالا بنص ليس فيه بيان أصل هذا الشرط ولا صفته، فيكون هذا ترك العمل بالدليل الموجب له لا عملا بكل خاص فيما هو موضوع له لغة. ومن ذلك قولنا في قوله تعالى: *(فإن طلقها فلا تحل له)* لان الفاء موضوع لغة للوصل والتعقيب فذكره بعد الخلع المذكور في قوله تعالى: *(فيما افتدت به)* يكون بيانا خاصا أن إيقاع التطليقتين بعد الخلع متصلا به يكون عاملا موجبا حرمة المحل، بخلاف ما يقوله الخصم إن المختلعة لا يلحقها الطلاق. ومن ذلك قوله تعالى: *(الطلاق مرتان)* إلى قوله تعالى: *(فلا جناح عليهما فيما افتدت به)* ففي الاضافة إليها ثم تخصيص جانبها بالذكر بيان أن الذي يكون من جانب الزوج في الخلع عين ما تناوله أول الآية وهو الطلاق لا غيره وهو الفسخ، فجعل الخلع فسخا يكون ترك العمل بهذا الخاص، وجعله طلاقا كما هو موجب هذا الخاص يكون عملا بالمنصوص، هذا بيان الطريق فيما يكون من هذا الجنس.

ص 132

فصل: في بيان حكم العام

 قال بعض المتأخرين ممن لا سلف لهم في القرون الثلاثة: حكمه الوقف فيه حتى يتبين المراد منه بمنزلة المشترك أو المجمل، ويسمى هؤلاء الواقفية، إلا أن طائفة منهم يقولون يثبت به أخص الخصوص وفيما وراء ذلك الحكم هو الوقف حتى يتبين المراد بالدليل. وقال الشافعي: هو مجرى على عمومه موجب للحكم فيما تناوله مع ضرب شبهة فيه لاحتمال أن يكون المراد به الخصوص فلا يوجب الحكم قطعا بل على تجوز أن يظهر معنى الخصوص فيه لقيام الدليل، بمنزلة القياس فإنه يجب العمل به في الاحكام الشرعية لا على أن يكون مقطوعا به بل مع تجوز احتمال الخطأ فيه أو الغلط، ولهذا جوز تخصيص العام بالقياس ابتداء وبخبر الواحد، فقد جعل القياس وخبر الواحد الذي لا يوجب العلم قطعا مقدما على موجب العام حتى جوز التخصيص بهما، وجعل الخاص أولى بالمصير إليه من العام، على هذا دلت مسائله، فإنه رجح خبر العرايا على عموم قوله عليه السلام: التمر بالتمر كيلا بكيل في حكم العمل به، وجعل هذا قولا واحدا له فيما يحتمل العموم وفيما لا يحتمل العموم لانعدام محله، فقال: يجب العمل فيهما بقدر الامكان حتى يقوم دليل التخصيص على الوجه الذي ذكرنا. والمذهب عندنا أن العام موجب للحكم فيما يتناوله قطعا بمنزلة الخاص موجب للحكم فيما تناوله، يستوي في ذلك الامر والنهي والخبر إلا فيما لا يمكن اعتبار العموم فيه لانعدام محله، فحينئذ يجب التوقف إلى أن يتبين ما هو المراد به ببيان ظاهر بمنزلة المجمل، فعلى هذا دلت مسائل علمائنا رحمهم الله. قال محمد رحمه الله في الزيادات: إذا أوصى بخاتم لرجل ثم أوصى بفصه لآخر بعد ذلك في كلام مقطوع، فالحلقة للموصى له بالخاتم والفص بينهما نصفان، لان الايجاب الثاني في عين ما أوجبه للاول لا يكون

ص 133

رجوعا عن الاول فيجتمع في الفص وصيتان إحداهما بإيجاب عام والاخرى بإيجاب خاص، ثم إذا ثبت المساواة بينهما في الحكم يجعل الفص بينهما نصفين. وقال في الوصايا: لو كانت الوصيتان بهذه الصفة في كلام موصول كان الفص للموصى له خاصة، لانه إذا كان الكلام موصولا كان آخره بيانا لاوله، فيظهر به أن مراده بالايجاب العام الحلقة دون الفص. وقال في المضاربة: إذا اختلف المضارب ورب المال في العموم والخصوص فالقول قول من يدعي العموم أيهما كان، فلولا المساواة بين الخاص والعام حكما فيما يتناوله لم يصر إلى الترجيح بمقتضى العقد. قال: وإذا أقاما جميعا البينة وأرخ كل منهما آخرهما تاريخا أولى سواء كان مبينا للعموم أو الخصوص فقد جعل العام المتأخر رافعا للخاص المتقدم كما جعل الخاص المتأخر مخصصا للعام المتقدم ولا يكون ذلك إلا بعد المساواة، وظهر من مذهب أبي حنيفة رحمه الله ترجيح العام على الخاص في العمل به، نحو حفر بئر الناضح فإنه رجح قوله عليه السلام: من حفر بئرا فله مما حولها أربعون ذراعا على الخاص الوارد في بئر الناضح أنه ستون ذراعا، فرجح قوله عليه السلام: ما أخرجت الارض ففيه العشر على الخاص الوارد بقوله عليه السلام: ليس في الخضراوات صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ونسخ الخاص بالعام أيضا كما فعله في بول ما يؤكل لحمه فإنه جعل الخاص من حديث العرنيين فيه منسوخا بالعام وهو قوله عليه السلام: استنزهوا عن البول فإن عامة عذاب القبر منه وأكثر مشايخنا رحمهم الله يقولون أيضا إن العام الذي لم يثبت خصوصه بدليل لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد ولا بالقياس، فزعموا أن المذهب هذا، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب لا يكون موجبا تخصيص العموم في قوله تعالى: *(فاقرؤوا ما تيسر من القرآن)* حتى لا تتعين قراءة الفاتحة فرضا. وكذلك قوله تعالى: *(ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)* عام لم يثبت خصومه فإن الناسي جعل

ص 134

ذاكرا حكما بطريقة إقامة ملته مقام التسمية تخفيفا عليه، فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد ولا بالقياس (وكذلك قوله: *(ومن دخله كان آمنا)* عام لم يثبت تخصيصه، ولا يجوز تخصيصه بخبر الواحد ولا بالقياس) حتى يثبت الامن بسبب الحرم المباح الدم باعتبار العموم، ومتى ثبت التخصيص في العام بدليله فحينئذ يجوز تخصيصه بخبر الواحد والقياس على ما نبينه، إن شاء الله تعالى. أما الواقفون استدلوا بالاشتراك في الاستعمال، فقد يستعمل لفظ العام والمراد به الخاص، قال تعالى: *(الذين قال لهم الناس)* والمراد به رجل واحد، وقد يستعمل لفظة الجماعة للفرد، قال تعالى: *(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)* وقال: *(رب ارجعون)* وهذا في كلام الخطباء ونظم الشعراء معروف، فعند الاطلاق يشترك فيه احتمال العموم واحتمال الخصوص فيكون بمنزلة المشترك يجب الوقف فيه حتى يتبين المراد، أو نقول لفظ العام مجمل في معرفة المراد به حقيقة لاحتمال أن يكون المراد بعض ما تناوله وذلك البعض لا يمكن معرفته بالتأمل في صيغة اللفظ، ألا ترى أنه يستقيم أن يقرن به على وجه البيان والتفسير (مطلق هذا اللفظ) ما هو المراد به من العموم بأن نقول جاءني القوم كلهم أو أجمعون، ولو كان العموم موجب مطلق هذا اللفظ لم يستقم تفسيره بلفظ آخر كالخاص، فإنه لا يستقيم أن يقرن به ما يكون ثابتا بموجبه بأن يقول جاءني زيد كله أو جميعه، ولما استقام ذلك في العام عرفنا أنه غير موجب للاحاطة بنفسه والبعض الذي هو مراد منه غير معلوم، فيكون بمنزلة المجمل. والذين قالوا بأخص الخصوص قالوا: ذلك القدر يتيقن بأنه مراد سواء كان المراد الخصوص أو العموم فللتيقن به جعلناه مرادا، وإنما الوقف فيما وراء ذلك، وبيانه أن إرادة الثلاث من لفظ الجماعة وإرادة الواحد من لفظ الجنس متيقن به، فمطلق اللفظ في ذلك بمنزلة الاحاطة عند اقتران البيان باللفظ وذلك موجب الكلام، فكذلك أخص الخصوص موجب مطلق لفظ العام.

ص 135

والدليل لعامة الفقهاء على أن العام موجب العمل بعمومه قوله تعالى: *(اتبعو ما أنزل إليكم من ربكم)* والاتباع لفظ خاص في اللغة بمعنى معلوم، وفي المنزل عام وخاص فيجب بهذا الخاص اتباع جميع المنزل، والاتباع إنما يكون بالاعتقاد والعمل به وليس في التوقف اتباع للمنزل، فعرفنا أن العمل واجب بجميع ما أنزل على ما أوجبه صيغة الكلام إلا ما يظهر نسخه بدليل، فقد ظهر الاستدلال بالعموم عن رسول الله (ص) وعن الصحابة رضي الله عنهم على وجه لا يمكن إنكاره، فإن النبي عليه السلام حين دعا أبي بن كعب رضي الله عنه وهو في الصلاة فلم يجبه بين له خطأه فيما صنع بالاستدلال بقوله تعالى: *(يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول)* وهذا عام، فلو كان موجبه التوقف على ما زعموا لم يكن لاستدلاله عليه به معنى، والصحابة رضي الله عنهم في زمن الصديق حين خالفوه في الابتداء في قتال مانعي الزكاة استدلوا عليه بقوله عليه السلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وهو عام، ثم استدل عليهم بقوله تعالى: *(فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم)* فرجعوا إلى قوله وهذا عام. وحين أراد عمر رضي الله عنه أن يوظف الجزية والخراج على أهل السواد استدل على من خالفه في ذلك بقوله تعالى: *(والذين جاؤوا من بعدهم)* وقال أرى لمن بعدكم في هذا الفئ نصيبا ولو قسمته بينكم لم يبق لمن بعدكم فيه نصيب، وهذه الآية في هذا الحكم نهاية في العموم. ولما هم عثمان رضي الله عنه برجم المرأة التي ولدت لستة أشهر استدل عليه ابن عباس فقال: أما إنها لو خاصمتكم بكتاب الله لخصمتكم، قال الله تعالى: *(وحمله وفصاله ثلاثون شهرا)* وقال: *(وفصاله في عامين)* فإذا ذهب للفصال عامان بقي للحمل ستة أشهر، وهذا استدلال بالعام. وحين اختلف عثمان وعلي رضي الله عنهما في الجمع بين الاختين وطئا بملك اليمين قال علي رضي الله عنه: أحلتهما قوله تعالى: *(أو ما ملكت أيمانكم)* وحرمتهما قوله تعالى: *(وأن تجمعوا بين الاختين)* فالاخذ بما يحرم أولى احتياطا، فوافقه عثمان في هذا، إلا أنه قال: عند تعارض الدليلين أرجح الموجب للحل باعتبار الاصل. وحين اختلف علي وابن مسعود رضي الله عنهما في المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا، فقال علي رضي الله عنه: تعتد بأبعد الاجلين، واستدل بالآيتين: قوله تعالى: *(أربعة أشهر وعشرا)* وقوله تعالى: *(وأولات الاحمال أجلهن

ص 136

أن يضعن حملهن)* قال ابن مسعود رضي الله عنه: من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد سورة النساء الطولى، يعني قوله تعالى: *(وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن)* نزلت بعد قوله تعالى: *(يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا)* فاستدل بهذا العام على أن عدتها بوضع الحمل لا غير وجعل الخاص في عدة المتوفى عنها زوجها منسوخا بهذا العام في حق الحامل. واحتج ابن عمر على ابن الزبير في التحريم بالمصة والمصتين بقوله تعالى: *(وأخواتكم من الرضاعة)* واحتج ابن عباس على الصحابة رضي الله عنهم في الصرف بعموم قوله (ص): لا ربا إلا في النسيئة واحتجوا عليه بالعموم الموجب لحرمة الربا من الكتاب والسنة فرجع إلى قولهم. فبهذا تبين أنهم اعتقدوا وجوب العمل بالعام وإجراءه على عمومه. ولا معنى لقول من يقول: إنهم عرفوا ذلك بدليل آخر من حال شاهدوه أو ببيان سمعوه، لان المنقول احتجاج بعضهم على بعض بصيغة العموم فقط، وفي القول بما قال هذا القائل تعطيل المنقول والاحالة على سبب آخر لم يعرف. ثم لزوم العمل بالمنزل حكم ثابت إلى يوم القيامة، فلو كان ذلك في حقهم باعتبار دليل آخر ما وسعهم ترك النقل فيه، ولو نقلوا ذلك لظهر وانتشر. يؤيد ما قلنا حديث أبي بكر رضي الله عنه حين بلغه اختلاف الصحابة في نقل الاخبار جمعهم فقال: إنكم إذا اختلفتم فمن بعدكم يكون أشد اختلافا، الحديث إلى أن قال: فيكم كتاب الله تعالى فأحلوا حلاله وحرموا حرامه. ولم يخالف أحد منهم في ذلك، فعرفنا أنهم عرفوا المراد بعين ما هو المنقول إلينا لا بدليل آخر غير منقول إلينا. ثم العموم معنى مقصود من الكلام عام بمنزلة الخصوص فلا بد أن يكون له لفظ موضوع يعرف المقصود بذلك اللفظ، لان الالفاظ لا تقصر عن المعاني، وبيان هذا أن المتكلم باللفظ الخاص له في ذلك مراد لا يحصل باللفظ العام وهو تخصيص الفرد بشيء فكان لتحصيل مراده لفظ موضوع وهو الخاص، والمتكلم باللفظ العام بمعنى العام له مراد في العموم لا يحصل ذلك باللفظ الخاص ولا يتيسر عليه التنصيص على كل فرد بما هو مراد باللفظ العام، فلا بد من أن يكون

ص 137

لمراده لفظ موضوع لغة وذلك صيغة العموم، فإن من أراد عتق جميع عبيده فإنما يتمكن من تحصيل هذا المقصود بقوله عبيدي أحرار، وهذا لفظ عام، فمن جعل موجبه الوقف فإنه يشق على المتكلم بأن يحصل مقصوده في العموم باستعمال صيغته، وما قالوا إنه قد استعمل العام بمعنى الخاص، قلنا ويستعمل أيضا بمعنى الاحاطة على وجه لا يحتمل غيره، قال تعالى: *(إن الله بكل شيء عليم)* وقال تعالى: *(إن الله لا يظلم مثقال ذرة)* وقال تعالى: *(وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها)* فهذا الاستعمال يمنعهم عن القول بالتوقف في موجب العموم. ثم العموم بهذه الصيغة حقيقة واحتمال إرادة المجاز لا يخرج الحقيقة من أن تكون موجب مطلق الكلام، ألا ترى أن بعد تعين الاحاطة فيه بقوله تعالى أجمعون أو كلهم لا ينتفي هذا الاحتمال من كل وجه حتى يستقيم أن يقرن به الاستثناء، قال تعالى: *(فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس)* ويقول الرجل: جاءني القوم كلهم أجمعون إلا فلانا وفلانا. ثم هذا لا يمنع القول بأن موجبه الاحاطة فيما تناوله فكذلك في مطلق اللفظ، مع أنا لا نقول إن ما يقرن به يكون تفسيرا، ولكن نقول وإن كان موجبه العموم قطعا فهو غير محكم لاحتمال إرادة الخصوص فيه فيصير بما يقرن به محكما إذا أطلق ذلك كما في قوله: جاءني القوم كلهم، فإنه لا ينفي احتمال الخصوص بعد هذا إذا لم يقرن به استثناء يكون مغيرا له، ومثله في الخاص موجود فإن قوله جاءني فلان خاص موجب لما تناوله ولكنه غير محكم فيه لاحتمال المجاز، فإذا قال جاءني فلان نفسه يصير محكما وينتفي احتمال المجاز في أن الذي جاءه رسوله أو عبده أو كتابه. ثم قال الشافعي رحمه الله: أجعل مطلق العام موجبا للعمل فيما تناوله ولكن احتمال الخصوص فيه قائم ومع الاحتمال لا يصير مقطوعا به فلا أجعله موجبا للعمل فيما تناوله قطعا. ولكنا نقول: المراد بمطلق الكلام ما هو الحقيقة فيه والحقيقة ما كانت الصيغة موضوعة له لغة، وهذه الصيغة موضوعة لمقصود العموم فكانت حقيقة فيها، وحقيقة الشيء ثابت بثبوته قطعا ما لم يقم الدليل على مجازه كما في لفظ الخاص، فإن ما هو حقيقة فيه يكون ثابتا به قطعا حتى يقوم الدليل على صرفه إلى المجاز.

ص 138

فإن قال قائل: إن الخاص أيضا لا يوجب موجبه قطعا لاحتمال إرادة المجاز منه وإنما يوجب موجبه ظاهرا ما لم يتبين أنه ليس المراد به المجاز بدليل آخر بمنزلة النص في زمن رسول الله (ص)، فإن بقاء الحكم الثابت بالنص يكون ظاهرا لا مقطوعا به لاحتمال النسخ وإن لم يظهر الناسخ بعد. قلنا: هذا فاسد، لان مراد المتكلم بالكلام ما هو موضوع له حقيقة، هذا معلوم وإرادة المجاز موهوم والموهوم لا يعارض المعلوم ولا يؤثر في حكمه، وكذلك المجاز لا يعارض الحقيقة بل ثبوت المجاز بإرادة المتكلم لا بصيغة الكلام وهي إرادة ناقلة للكلام عن حقيقته، فما لم يظهر الناقل بدليله يثبت حكم الكلام مقطوعا به بمنزلة النص المطلق يوجب الحكم قطعا وإن احتمل التغيير بشرط تعلقه به أو قيد بقيده ولكن ذلك ناقل للكلام عن حقيقته فما لم يظهر كان حكم الكلام ثابتا قطعا، بخلاف النص في زمن رسول الله (ص) فإن النص يوجب الحكم، فأما بقاء الحكم ليس من موجبات النص ولكن ما ثبت فالاصل فيه البقاء حتى يظهر الدليل المزيل، فكان بقاؤه لنوع من استصحاب الحال وعدم الناسخ، وهذا المعدوم غير مقطوع به فلهذا لا يكون بقاء الحكم مقطوعا به في ذلك الوقت حتى إن بعد وفاة رسول الله (ص) لما انقطع احتمال النسخ كان الحكم الذي لم يظهر ناسخه باقيا قطعا. فإن قيل: فكذلك عدم إرادة المتكلم للمجاز ليس بمعلوم قطعا بل هو ثابت بنوع من الظاهر بمنزلة عدم الناسخ في ذلك الوقت بخلاف الشرط والاستثناء فانعدامهما ثابت بالنص، لان الشرط والاستثناء يكون مقارنا للنص فالاطلاق فيه على وجه يكون ساكتا عن ذكر الشرط، والاستثناء تنصيص على عدم الشرط والاستثناء؟ قلنا: نعم ولكن الارادة المغيرة للخاص عن حقيقته يكون في باطن المتكلم وهو غيب عنا وليس في وسعنا الوقوف على ذلك وإنما يثبت التكليف شرعا بحسب الوسع فما ليس في وسعنا الوقوف عليه لا يكون معتبرا أصلا إلى أن يظهر بدليله وعند ظهوره بدليله يجعل ثابتا ابتداء، فقبل الظهور يكون حكم الخاص ثابتا قطعا وهو بمنزلة خطاب الشرع لا يوجب الحكم في حق المخاطب ما لم يسمع به لانه ليس في وسعه العمل به قبل

ص 139

السماع وعند السماع يثبت الحكم في حقه ابتداء كأن الخطاب نزل الآن، وعلى هذا قلنا: إذا قال لامرأته إن كنت تحبينني فأنت طالق، أو قال: إن كنت تحبين النار فأنت طالق فقالت أنا أحب ذلك يقع الطلاق، لان حقيقة المحبة والبغض في باطنها ولا طريق لنا إلى معرفته فلا يتعلق الطلاق بحقيقته، ولكن طريق معرفتنا في الظاهر إخبارها فيجعل الزوج معلقا الطلاق بإخبارها حكما، فإذا قالت أحب يقع الطلاق لوجود ما هو الشرط حقيقة وهو الخبر فإن الخبر يحتمل الصدق والكذب، وإذا ثبت هذا في الخاص فكذلك في العام فإن احتمال الخصوص باطن وهو غيب عنا ما لم يظهر بدليله فقبل ظهوره يكون موجبا الحكم فيما تناوله قطعا، إلا أن الشافعي يقول مع هذا احتمال إرادة الخصوص لم ينعدم ولكن ليس في وسعنا الوقوف عليه عند الخطاب فنجعل العام موجبا الحكم فيما تناوله عملا ولا نجعله موجبا للحكم قطعا فيما يرجع إلى العلم به لبقاء احتمال الخصوص. وهكذا أقول في الخاص: الارادة المغيرة فيها احتمال إلا أن ذلك مانع عن ثبوت حكم الحقيقة عملا به فيكون في معنى الناسخ الذي هو مبدل للحكم أصلا، والناسخ لا يكون مقترنا بالنص الموجب للحكم بل إنما يرد النسخ على البقاء، فكذلك في الخاص أجعل ظهور إرادة المجاز بدليله عاملا ابتداء فقبل ظهوره يكون حكم الخاص ثابتا قطعا، وأما إرادة الخصوص لا يكون رافعا للحكم أصلا فيبقى معتبرا مع وجود العمل بالعام فلا يثبت العلم بموجبه قطعا، وعلى هذا نقول في قوله إن كنت تحبينني إنه يقع الطلاق إذا أخبرت به لان ما ليس في وسعه الوقوف عليه وهو حقيقة المحبة والبغض بحال فيسقط اعتباره في حكم العمل، ولو قال: إن كنت تحبين النار فأنت طالق فقالت أحب لا يقع الطلاق، لان كذبها ههنا معلوم قطعا فإن أحدا ممن له طبع سليم لا يحب النار، ويكون هذا بمنزلة العام الذي ليس فيه احتمال الخصوص، كقوله تعالى: *(إن الله بكل شيء عليم)* فإن حقيقة الموجب بمثل هذا العام معلوم قطعا بخلاف العام الذي هو محتمل الخصوص. ولكن الجواب عنه أن نقول: كما أن الله تعالى لم يكلفنا ما ليس في وسعنا فقد أسقط عنا ما فيه حرج علينا كما قال تعالى: *(ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج)* وفي اعتبار الارادة الباطنة في العام الذي هو محتمل لها نوع حرج،

ص 140

فالتمييز بين ما هو مراد المتكلم وبين ما ليس بمراد له قبل أن يظهر دليله فيه حرج عظيم وسقط اعتباره شرعا، ويقام السبب الظاهر الدال على مراده وهو صيغة العموم مقام حقيقة الباطن الذي لا يتوصل إليه إلا بحرج، ألا ترى أن خطاب الشرع يتوجه على المرء إذا اعتدل حاله، ولكن اعتدال الحال أمر باطن وله سبب ظاهر من حيث العادة وهو البلوغ عن عقل، فأقام الشرع هذا السبب الظاهر مقام ذلك المعنى الباطن للتيسير، ثم دار الحكم معه وجودا وعدما حتى إنه وإن اعتدل حاله قبل البلوغ يجعل ذلك كالمعدوم حكما في (حق) توجه الخطاب عليه، ولو لم يعتدل حاله بعد البلوغ عن عقل كان الخطاب متوجها أيضا لهذا المعنى، ومن نظر عن إنصاف لا يشكل عليه أن الحرج في التأمل في إرادة المتكلم ليتميز به ما هو مراد له مما ليس بمراد فوق الحرج بالتأمل في أحوال الصبيان ليتوقف على اعتدال حالهم، وهذا أصل كبير في الفقه، فإن الرخصة بسبب السفر تثبت لدفع المشقة، كما قال الله تعالى: *(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)* ثم حقيقة المشقة باطن تختلف فيه أحوال الناس وله سبب ظاهر وهو السير المديد فأقام الشرع هذا السبب مقام حقيقة ذلك المعنى وأسقط وجود حقيقة المشقة في حق المقيم لانعدام السبب الظاهر إلا إذا تحققت الضرورة عند خوف الهلاك على نفسه فذلك أمر وراء المشقة، وأثبت الحكم عند وجود السبب الظاهر وإن لم تلحقه المشقة حقيقة. وكذلك الاستبراء فإنه يجب التحرز عن خلط المياه المحترمة إلا أن ذلك باطن وله سبب ظاهر وهو استحداث ملك الوطئ بملك اليمين لان زوال ملك اليمين لا يوجب ما يستدل به على براءة الرحم من عدة أو استبراء، فأقام الشرع استحداث ملك الوطئ بملك اليمين مقام المعنى الباطن وهو اشتغال الرحم بالماء في حق وجوب التحرز عن الخلط بالاستبراء، ولهذا قلنا: لو اشتراها من صبي أو امرأة أو اشتراها وهي بكر أو حاضت عند البائع بعد الوطئ قبل أن يبيعها يجب الاستبراء لاعتبار السبب الظاهر، ولهذا قلنا في النكاح لا يجب الاستبراء وإن علم أنها وطئت قبل أن يتزوجها وطئا محرما بأن تزوج أمة كان قد وطئها قبل أن يتزوجها لان الاصل في النكاح الحرة، فإن الرق عارض والازدواج بين الشخصين باعتبار

ص 141

الاصل، وباعتبار صفة الحرمة زوال ملك الوطئ عن الحرة يعقب عدة موجبة براءة الرحم فلا تقع الحاجة إلى إقامة استحداث ملك الوطئ بالنكاح مقام حقيقة اشتغال الرحم في إيجاب الاستبراء للتحرز عن الخلط، وعلى هذا قلنا: إذا قال لامرأته أنت طالق الساعة إن كان في علم الله أن فلانا يقدم إلى شهر فقدم فلان بعد تمام الشهر يقع الطلاق عليها عند القدوم ابتداء، بمنزلة ما لو قال أنت طالق الساعة إن قدم فلان إلى شهر ومعلوم أن بعد قدومه قد تبين أنه كان في علم الله قدومه إلى شهر وأن التعليق كان بشرط موجود حقيقة، ولكن لما لم يكن لنا طريق الوقوف عليه إلا بعد القدوم صار القدوم الذي به يتبين لنا شرطا لوقوع الطلاق (فيقع الطلاق) عنده ابتداء، بخلاف ما لو قال: أنت طالق الساعة إن كان زيد في الدار ثم علم بعد شهر أن زيدا في الدار يومئذ فإنه يكون الطلاق واقعا من حين تكلم به، لانه كان لنا طريق إلى الوقوف على ما جعله شرطا حقيقة فلا يقام ظهوره عندنا مقام حقيقته، ولكن تبين عند ظهوره أن الطلاق كان واقعا لانه علقه بشرط موجود، والذي تحقق ما ذكرنا أن صاحب الشرع خاطبنا بلسان العرب فإنما يفهم من خطاب الشرع ما يفهم من مخاطبات الناس فيما بينهم، ومن يقول لعبده أعط هذه المائة الدرهم هؤلاء بالسوية وهم مائة نفر نعلم قطعا أن مراده إعطاء كل واحد منهم درهما، بمنزلة ما لو قال أعط كل واحد منهم درهما، وكذلك يفهم من الخاص والعام في مخاطبات الشرع الحكم قطعا فيما تناوله كل واحد منهما. ومن قال لغيره: لا تعتق عبدي سالما ثم قال أعتق البيض من عبيدي وسالم بهذه الصفة فإنه يكون له أن يعتقه وبإعتاقه يكون ممتثلا للامر لا مرتكبا للنهي، فكذلك نقول في العام المتأخر في خطاب الشرع إنه يكون قاضيا فيما تناوله على الخاص، فإذا كان حكم الخاص ثابتا قطعا فيما تناوله فلا بد من أن يكون العام كذلك ليكون قاضيا عليه. فإن قيل: أليس أن تخصيص العام بالقياس وخبر الواحد جائز، ومعلوم أن القياس وخبر الواحد لا يوجب العلم قطعا فكيف يكون رافعا للحكم الثابت قطعا بصيغة

ص 142

العموم إذا كانت هذه الصيغة توجب موجبها قطعا؟ قلنا: مثل هذا يلزمك في الخاص فإن صرفه عن الحقيقة إلى المجاز بالقياس وخبر الواحد جائز. ثم الجواب على ما اختاره أكثر مشايخنا رحمهم الله أن تخصيص العام الذي لم يثبت خصوصه ابتداء لا يجوز بالقياس (وخبر الواحد) وإنما يجوز ذلك في العام الذي ثبت خصوصه بدليل موجب من الحكم مثل ما يوجبه العام وهو خبر متأيد بالاستفاضة أو مشهور فيما بين السلف أو إجماع، فعند وجود ذلك يتبين بالقياس وخبر الواحد ما هو المراد بصيغة العام بعد أن خرج من أن يكون موجبا للحكم فيما يتناوله قطعا على ما نبينه في فصل العام إذا دخله خصوص، وهذا لان ما أوجبه القياس أو خبر الواحد يحتمل أن يكون في جملة ما تناوله دليل الخصوص ويحتمل أن يكون في جملة ما تناوله صيغة العام، فإنما يرجح بالقياس وخبر الواحد أحد الاحتمالين. فإن قيل: ما ذهبت إليه أولى فإن الاصل هو وجوب العمل بالادلة الشرعية ما أمكن وذلك في ترتيب العام على الخاص كما قلت لا في رفع الخاص بالعام كما قلتم، فإن من أثبت التعارض بين الخاص والعام ترك العمل بالخاص أصلا وببعض ما تناوله العام، ومن قال بترتيب العام على الخاص هو عامل بحقيقة الخاص وبالعام أيضا فيما تناوله بحسب الامكان فيكون هذا أولى بالمصير إليه. قلنا: هذا إنما يستقيم بعد ثبوت الامكان وبعد ما قررنا أن كل واحد منهما موجب فيما تناوله الحكم قطعا لا إمكان، أرأيت لو قال قائل: أنا أعمل بالعام في كل ما تناوله وأحمل الخاص على المجاز فأعمل به وبهذا الطريق يكون هذا عملا منه بالدليلين لا، فكذلك قولك: أنا أعمل بالخاص وأترك موجب العام فيما تناوله (لا يكون) عملا بهما مع أن موجب الدليل ليس كله العمل به بل العمل به والمدافعة به عند

ص 143

التعارض بمنزلة الشهادات في الخصومات بين العباد فإثبات المدافعة عند المعارضة بين الخاص والعام على ما اقتضاه موجب كل واحد منهما لا يكون تركا للعمل بأحدهما، ثم سوى الشافعي رحمه الله فيما أثبته من حكم العموم بين ما يحتمل العموم وبين ما لا يحتمله لعدم محله فيما هو المحتمل فجعل كل واحد منهما حجة لاثبات الحكم مع ضرب شبهة. وبيان هذا في قوله تعالى: *(لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة)* وقال تعالى: *(أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون)* وقال تعالى: *(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون!)* فإن نفي المساواة بينهما على العموم غير محتمل لعلمنا بالمساواة بينهما في حكم الوجود والانسانية والبشرية والصورة، فقال مع هذا العلم يكون هذا العام حجة فيما هو الممكن حتى لا يسوى بين الكافر والمؤمن في حكم القصاص وفي حكم شراء العبد المسلم ولا يشاكله، لان العمل بالدليل الشرعي واجب بحسب الامكان وانعدام الامكان فيما لا يحتمله بمنزلة دليل الخصوص شرعا، فكما أن دليل الخصوص فيما يحتمل العموم لا يخرج العام بصيغة العام من الحكم فيما يثبت من أن يكون حجة فيما وراء ذلك فكذلك عدم احتمال العموم حسا لا يخرج العام من أن يكون حجة فيما يحتمله. وحاصل مذهبه أنه يسوي بين محتمل الحال وبين محتمل اللفظ فيما يثبت بصيغة العام من الحكم وفيما يثبت من الشبهة المانعة من العلم به قطعا، ونحن نقول: فيما ذهب إليه تحقق الحرج الذي هو مدفوع وهو الوقوف على مراد المتكلم ليعمل به فيما يحتمل العموم، واعتبار الارادة المغيرة للعموم عن حقيقتها فيما يحتمل العموم حتى لا يكون موجبا قطعا فيما تناوله، وقد بينا أن ذلك لا يجوز شرعا، وبه تبين فساد التسوية بين محتمل الحال وبين محتمل اللفظ، وتبين أن موجب العموم لا يثبت فيما لا يمكن العمل بعمومه لانعدام محل العموم، وسنقرر هذا في الفصل الذي يأتي وهو العام إذا خصص منه شيء، وإنما سوينا في موجب العام بين الخبر والامر والنهي لان ذلك حكم صيغة العموم، وهذه الصيغة متحققة في الاخبار كما في الامر والنهي، والله أعلم بالصواب.

ص 144

فصل: في بيان حكم العام إذا خصص منه شيء

 قال رضي الله عنه (وعن والديه): كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول من عند نفسه لا على سبيل الحكاية عن السلف: العام إذا لحقه خصوص لا يبقى حجة بل يجب التوقف فيه إلى البيان سواء كان دليل الخصوص معلوما أو مجهولا إلا أنه يجب به أخص الخصوص إذا كان معلوما. وقال بعضهم: إذا خص منه شيء مجهول فكذلك الجواب وإن خص منه شيء معلوم فإنه يبقى موجبا الحكم فيما وراء المخصوص قطعا. وقال بعضهم: هكذا فيما إذا خص شيء معلوم، وإن خص منه شيء مجهول يسقط دليل الخصوص ويبقى العام موجبا حكمه كما كان قبل دليل الخصوص. قال رضي الله عنه: والصحيح عندي أن المذهب عند علمائنا رحمهم الله في العام إذا لحقه خصوص يبقى حجة فيما وراء المخصوص سواء كان المخصوص مجهولا أو معلوما إلا أن فيه شبهة حتى لا يكون موجبا قطعا ويقينا، بمنزلة ما قال الشافعي رحمه الله في موجب العام قبل الخصوص، والدليل على أن المذهب هذا أن أبا حنيفة رضي الله عنه استدل على فساد البيع بالشرط بنهي النبي (ص) عن بيع وشرط وهذا عام دخله خصوص، واحتج على استحقاق الشفعة بالجوار إذا كان عن ملاصقة بقول النبي عليه السلام: الجار أحق بصقبه وهذا عام قد دخله خصوص، واستدل محمد على فساد بيع العقار قبل القبض بنهيه عليه السلام عن بيع ما لم يقبض وهو عام لحقه خصوص، وأبو حنيفة رحمه الله خص هذا العام بالقياس، فعرفنا أنه حجة للعمل من غير أن يكون موجبا قطعا، لان القياس لا يكون موجبا قطعا فكيف يصلح أن يكون معارضا لما يكون موجبا قطعا! وتبين أن هذا العام دون الخبر الواحد، لان القياس لا يصلح معارضا للخبر الواحد عندنا، ولهذا أخذنا بالخبر الواحد الموجب للوضوء عند القهقهة في الصلاة وتركنا القياس به، وأبو حنيفة أخذ

ص 145

بخبر الواحد في الوضوء بنبيذ التمر وترك القياس به، ثم إن خبر الواحد لا يوجب العلم قطعا فما هو دونه أولى. وأما الكرخي احتج وقال: الخصوص الذي يلحق العام يسلب حقيقته فيصير مجازا ومجازه في مراد المتكلم، وذلك لا يتبين إلا ببيان من جهته فصار مجملا يجب التوقف فيه إلى البيان بمنزلة صيغة العموم فيما لا يحتمل العموم، نحو قوله تعالى: *(وما يستوي الاعمى والبصير)* فإنه لما انتفى حقيقة العموم فيه لم يكن حجة بدون البيان فكذلك هذا، وهذا لانه لو بقي حجة فيما وراء المخصوص كان حقيقة ولا وجه للجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد إلا أن يكون أخص الخصوص منه معلوما فيكون ثابتا به لكونه متيقنا كالذي يقوم فيه دليل البيان فيما لا يمكن العمل فيه بحقيقة العموم، ولان دليل الخصوص بمنزلة الاستثناء فإنه يتبين به أن المخصوص لم يكن داخلا فيما هو المراد بالكلام، كما يتبين بالاستثناء أن الكلام عبارة عما وراءه ولهذا لا يكون دليل الخصوص إلا مقارنا، فأما ما يكون طارئا فهو دليل النسخ لا دليل الخصوص، وإن كان المستثنى مجهولا يصير ما وراءه بجهالته مجهولا كما أن المستثنى إذا تمكن فيه شك يصير ما وراءه مشكوكا فيه، حتى إذا قال: مماليكي أحرار إلا سالما وبزيغا لم يعتق واحد منهما وإن كان المستثنى أحدهما لانه مشكوك فيه، فيثبت حكم الشك فيهما، وإذا صار ما بقي مجهولا لم يصلح حجة بنفسه بل يجب الوقف فيه، كما في قوله تعالى: *(وما يستوي الاعمى والبصير)* وكذلك إن كان دليل الخصوص معلوما، لانه يجوز أن يكون معلولا وهو الظاهر، فإن دليل الخصوص نص على حدة فيكون قابلا للتعليل ما لم يمنع مانع من ذلك وبالتعليل لا ندري أن حكم الخصوص إلى أي مقدار يتعدى فيبقى ما وراءه مجهولا أيضا، وعلى ما قاله الكرخي يسقط الاحتجاج بأكثر العمومات لان أكثر العمومات قد خص منها شيء، وهذا خلاف ما حكينا من مذهب السلف في الصدر الاول فإنهم احتجوا بالعمومات التي يلحقها (خصوص كما احتجوا بالعمومات التي لم يلحقها خصوص، ودعواه أنه

ص 146

يصير به مجازا كلام لا) معنى له، فإن الحقيقة ما يكون مستعملا في موضوعه، والمجاز ما يكون معدولا به عن موضوعه، وإذا كان صيغة العموم يتناول الثلاثة حقيقة كما يتناول المائة والالف وأكثر من ذلك فإذا خص البعض من هذه الصيغة كيف يكون مجازا فيما وراءه وهو حقيقة فيه؟! فإن قيل: البعض غير الكل من هذه الصيغة وإذا كان حقيقة هذه الصيغة للكل فإذا أريد به البعض كان مجازا فيه، ثم هذا إنما يستقيم على ما يقوله بعض أصحاب الشافعي رحمه الله أنه لا يجوز التخصيص من العموم إلى أن يبقى منه ما دون الثلاث، فأما على أصلكم فيجوز التخصيص إلى أن لا يبقى منه أكثر من واحد ولا شك أن صيغة الجمع لا تتناول الواحد حقيقة؟ قلنا: نعم ولكن ما وراء المخصوص يتناوله موجب الكلام على أنه كل لا بعض بمنزلة الاستثناء، فإن الكلام يصير عبارة عما وراء المستثنى بطريق أنه كل لا بعض، ولهذا إذا لم يبق شيء بعد دليل الخصوص كان نسخا لا تخصيصا كما في الاستثناء، فإنه إذا لم يبق شيء بعد الاستثناء بحال لا يكون ذلك استثناء صحيحا، وإذا كان الباقي منه دون الثلاث فهو كل أيضا، وإن كانا بصيغة العموم، لانه لا يحتمل أن يكون الباقي أكثر من ذلك على وجه يكون الباقي جمعا حقيقة، فبهذا الطريق صححنا التخصيص كما يصح استثناء الكل بهذا الطريق، فإنه لو قال: مماليكي أحرار إلا فلانا وفلانا، وليس له سواهما كان الاستثناء صحيحا لاحتمال أن يكون المستثنى بعضا إذا كان له سواهما، بخلاف ما لو قال: مماليكي أحرار إلا مماليكي، وأما وجه القول الثاني ما بينا أن دليل الخصوص بمنزلة الاستثناء، فإذا كان المخصوص مجهولا كان ما وراءه مجهولا أيضا والمجهول لا يكون دليلا موجبا، وأما إذا كان معلوما فما وراءه يكون معلوما أيضا، وكما أن الكلام المقيد بالاستثناء يصير عبارة عما وراء المستثنى ويكون مقطوعا به إذا

ص 147

كان المستثنى معلوما فكذلك العام إذا لحقه خصوص معلوم يصير عبارة عما وراءه ويكون موجبا فيه ما هو حكم العام، لان دليل الخصوص لا يتعرض لما وراءه فيبقى العام فيما وراءه حجة موجبة قطعا، ولا معنى لما قال الكرخي رحمه الله إنه يحتمل التعليل لانه إذا كان بمنزلة الاستثناء لا يحتمل التعليل فإن المستثنى معدوم على معنى أنه لم يكن مرادا بالكلام أصلا والعدم لا يعلل، وعلى هذا القول يسقط الاحتجاج بآية السرقة، لانه لحقها خصوص مجهول وهو ثمن المجن على ما روي كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله (ص) فيما دون ثمن المجن وكذلك بآية البيع فإنه لحقها خصوص مجهول وهو حرمة الربا، وكذلك بالعمومات الموجبة للعقوبة وقد لحقها خصوص مجهول وهو السقوط باعتبار تمكن الشبهة على ما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ادرؤوا الحدود بالشبهات. ووجه القول الثالث أن التخصيص إنما يكون بكلام مبتدأ بصيغة على حدة تتناول بعض ما تناوله العام على خلاف موجبه مما لو كان طارئا كان رافعا على وجه النسخ فإذا كان مقارنا كان ثابتا، ومثل هذا لا يصلح مغيرا صفة الكلام الاول، فكيف يصلح مغيرا له وهو غير متصل بتلك الصيغة؟ فبقي الكلام الاول صادرا من أهله في محله فيكون موجبا حكمه، وحكم العام أنه كان موجبا قطعا، فإذا كان المخصوص معلوما بقي العام فيما وراءه موجبا قطعا، ولا يكون موجبا في موضع الخصوص لتحقق المعارضة بين دليل الخصوص والعموم فيه فإذا كان مجهولا في نفسه فالمجهول لا يصلح معارضا للمعلوم، وقد بينا أن العام موجب للحكم فيما تناوله قطعا بمنزلة الخاص فيما تناوله، فإذا لم تستقم المعارضة بكون المعارض مجهولا سقط دليل الخصوص وبقي حكم العام على ما كان في جميع ما تناوله، وهذا بخلاف الاستثناء فإنه داخل على صيغة الكلام، ألا ترى أنه لا يستقيم بدون أصل الكلام، فإن قول القائل إلا زيدا لا يكون مفيدا شيئا فإذا دخل على صيغة الكلام كان مغيرا لها فيكون أصل الكلام عبارة عما وراء المستثنى وذلك مجهول عند جهالة المستثنى والجهالة

ص 148

في المستثنى لا تمنع صحة الاستثناء، لانه يبين أن صيغة الكلام لم تتناول المستثنى أصلا وما لم يتناوله الكلام فلا أثر للجهالة فيه، وهذا بخلاف صيغة العام فيما لا يحتمله العموم، لان الكلام إنما يكون مفيدا حكمه إذا صدر من أهله في محله، فإن البيع كما لا يصح من المجنون لانعدام الاهلية لا يصح في الحر لانعدام المحلية، فكذلك صيغة العموم في محل لا يقبل العموم بمنزلة الصادر من غير أهله فلا يكون موجبا حكم العموم، وإذا لم ينعقد موجبا حكم العام وليس وراءه شيء معلوم يمكن أن يجعل الكلام عبارة عنه بقي مجملا فيما هو المراد، فأما إذا صدر من أهله في محله كان موجبا حكمه إلا أن يمنع منه مانع والمجهول لا يصلح أن يكون مانعا فبقي أصل الكلام معتبرا في موجبه، ألا ترى أن البائع بعد تمام البيع إذا أجل المشتري في الثمن أجلا مجهولا من غير أن يشترط ذلك في أصل البيع يبقى البيع موجبا حالا للثمن، لانه انعقد موجبا لذلك، وهذا المانع - وهو الاجل - لا يصلح أن يكون مؤخرا للمطالبة فيبقى الحكم الاول على حاله. وأما وجه القول الرابع - وهو الصحيح - أن دليل الخصوص بمنزلة الاستثناء في حق الحكم وبمنزلة الناسخ باعتبار الصيغة، لان بدليل الخصوص يتبين بأن المراد إثبات الحكم فيما وراء المخصوص لا أن يكون المراد رفع الحكم عن الموضع المخصوص بعد أن كان ثابتا، ولهذا لا يكون إلا مقارنا حتى لو كان طارئا يجعل نسخا لا خصوصا لانه لا يمكن أن يجعل مبينا أن المراد ما وراءه، ومن حيث الصيغة هو كلام مبتدأ مفهوم بنفسه مفيد للحكم وإن لم تتقدمه صيغة العام، فعرفنا أنه من حيث الصيغة معتبر بدليل النسخ لانه منفصل عن العام، ومن حيث الحكم هو بمنزلة الاستثناء لانه متصل به حكما حتى لا يجوز إلا مقارنا له فلم يجز إلحاقه بأحدهما خاصة بل يعتبر في كل حكم بنظيره كما هو الاصل فيما تردد بين شيئين وأخذ حظا معتبرا من كل واحد منهما فإنه يعتبر بهما، فنقول: إذا كان المستثنى مجهولا فاعتبار جانب الصيغة فيه يسقط دليل الخصوص ويبقى حكم العام في جميع ما تناوله، واعتبار جانب الحكم فيه وهو أنه بمنزلة الاستثناء يمنع ثبوت الحكم فيما وراء المخصوص لكونه

ص 149

مجهولا فلا نبطل واحدا منهما بالشك، ومعنى هذا أنا لا نسقط دليل الخصوص لكونه مجهولا بالشك، ولا نخرج ما وراءه من أن يكون صيغة العام حجة فيه بالشك، وكذلك إذا كان المخصوص معلوما فإنه من حيث الصيغة هو نص على حدة قابل للتعليل وبالتعليل ما ندري ما يتعدى إليه حكم الخصوص مما تناوله صيغة العام، وباعتبار الحكم لا يقبل التعليل لانه موجب للحكم على أنه تبين به أن المراد ما وراءه كالاستثناء وهذا لا يقبل التعليل، فاعتبار الصيغة يخرج العام من أن يكون حجة فيما وراء المخصوص، وباعتبار الحكم يوجب أن يكون العام موجبا للحكم قطعا فيما وراء المخصوص، فلا يبطل معنى الحجة بالشك ولكن يتمكن فيه ضرب شبهة، فإن ما يكون ثابتا من وجه دون وجه لا يكون مقطوعا به، والحكم إنما نثبت بحسب الدليل ولهذا كان حجة موجبة العمل بها، ولا يكون موجبه العلم قطعا، وهذا بخلاف دليل النسخ فإن عمله في رفع الحكم باعتبار المعارضة وذلك لا يكون إلا فيما تناوله النص بعينه، فإن التعليل فيه يؤدي إلى إثبات المعارضة بين النص والعلة المستنبطة بالرأي والرأي لا يكون معارضا للنص، ولهذا لا نشتغل بالتعليل في إثبات النسخ، فأما دليل الخصوص، وإن كان نصا على حدة، فإنما يوجب الحكم على الوجه الذي يوجبه الاستثناء، لانه في معنى الحكم بمنزلة الاستثناء كما قررنا، فلا يخرج من أن يكون محتملا للتعليل، وبطريق التعليل تتمكن الشبهة فيما يبقى وراء المخصوص مما يكون العام موجبا للحكم فيه، ولهذا جوزنا تخصيص هذا العام بالقياس، لان ثبوت الحكم به فيما وراء المخصوص مع شك في أصله واحتمال، فيجوز أن يكون القياس معارضا له بخلاف خبر الواحد فإنه لا شك في أصله، وإنما الاحتمال في طريقه باعتبار توهم غلط الراوي أو ميله عن الصدق إلى الكذب، فمن حيث إنه لا شك فيه متى ثبت عن رسول الله (ص) كان أقوى من القياس فلا يصلح أن يكون القياس معارضا له. وبيان هذه الاصول من الفروع أن من جمع بين حر وعبد فباعهما بثمن واحد أو بين ميتة وذكية أو بين خل وخمر لم يجز البيع أصلا، لان الحر والميتة والخمر لا يتناولها العقد

ص 150

أصلا فيكون بائعا لما هو مال متقوم منهما بحصته من الالف إذا قسم عليهما والبيع بالحصة لا ينعقد صحيحا ابتداء، كما لو قال: بعت منك هذا العبد بما يخصه من الالف إذا قسم على قيمته وعلى قيمة هذا العبد الآخر، فبهذا الفصل يتبين ما يكون بمنزلة الاستثناء أنه يجعل الكلام عبارة عما وراء المستثنى حكما، ولو باع منه عبدين فهلك أحدهما قبل القبض أو استحق أحدهما أو كان أحدهما مدبرا أو مكاتبا يبقى العقد صحيحا في الآخر، لان العقد يتناولهما باعتبار صفة المالية والتقوم فيهما وهو المعتبر في المحل لتناول العقد إياه، ثم خرج أحدهما لصيانة حق مستحق إما للعبد في نفسه أو للغير أو لتعذر التسليم بهلاكه فيبقى العقد في الآخر صحيحا بحصته، وهذا نظير دليل النسخ فإنه يرفع الحكم الثابت في مقدار ما تناوله النص الذي هو ناسخ ويبقى ما وراء ذلك من حكم العام على ما كان قبل ورود الناسخ. ونظير دليل الخصوص البيع بشرط الخيار فإنه ينعقد صحيحا بمنزلة ما لو لم يكن فيه خيار، وفي حق الحكم كان غير منعقد على معنى أن الحكم متعلق بسقوط الخيار على ما يأتيك بيانه في موضعه أن شرط الخيار لا يدخل في أصل السبب وإنما يدخل على الحكم، فيجب اعتباره في كل جانب بنظيره حتى إن باعتبار السبب إذا سقط الخيار استحق المشتري بزوائده المتصلة أو المنفصلة، وباعتبار الحكم إذا أعتق المشتري والخيار مشروط البائع ثم سقط الخيار لم ينفذ العتق، وعلى هذا قال في الزيادات: لو باع من رجل عبدين وشرط الخيار في أحدهما دون الآخر للبائع أو المشتري، فإن لم يكن ثمن كل واحد منهما مسمى لم يجز العقد في واحد منهما، وإن كان ثمن كل واحد منهما مسمى جاز في واحد منهما، فإن لم يعين المشروط فيه الخيار منهما لم يجز العقد أيضا، وإن عينا ذلك جاز العقد في الآخر ولزم بالثمن المسمى له، لان اشتراط الخيار باعتبار الحكم يعدم العقد في المشروط فيه الخيار، فإذا كان مجهولا كان العقد في الآخر ابتداء في المجهول، وإن كان معلوما ولم يكن ثمن كل واحد منهما مسمى كان العقد في الآخر ابتداء بالحصة فلا ينعقد صحيحا، وباعتبار السبب كان متناولا لهما بصفة الصحة، فإذا كان الذي لا خيار فيه منهما معلوما وكان ثمنه مسمى لزم العقد فيه ولم يجعل العقد في الآخر بمنزلة شرط فاسد في الذي لا خيار فيه، بخلاف ما قاله أبو حنيفة رحمه الله فيما إذا باع حرا وعبدا وسمى ثمن كل واحد منهما لم ينعقد البيع في العبد صحيحا،  

الصفحة السابقة الصفحة التالية

أصول السرخسي

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب