ص 211
باطل، كما لو قال لامرأته أنت طالق واحدة بل اثنتين تطلق ثلاثا، ولكنا نقول يلزمه
ألفان لانه ما كان مقصوده تدارك الغلط بنفي ما أقر به أولا بل تدارك الغلط بإثبات
الزيادة التي نفاها في الكلام الاول بطريق الاقتضاء، فكأنه قال بل مع تلك الالف ألف
أخرى فهما ألفان علي، ألا ترى أن الرجل يقول أتى علي خمسون سنة بل ستون فإنه يفهم
هذا من كلامه بل ستون لعشرة زائدة على الخمسين التي أخبرت بها أولا، ولكن هذا يتحقق
في الاخبارات لانها تحتمل الغلط ولا يتحقق في الانشاءات فلهذا جعلناه موقعا اثنتين
راجعا عن الاولى ورجوعه لا يصح فتطلق ثلاثا، حتى لو قال كنت طلقتك أمس واحدة لا بل
اثنتين تطلق اثنتين لان الغلط في الاخبار يتمكن، ولو قال لغير المدخول بها أنت طالق
واحدة لا بل اثنتين تطلق واحدة لانه بقوله بل اثنتين أولا بل اثنتين يروم الرجوع عن
الاولى وذلك باطل وبعدما بانت بالاولى لم يبق المحل ليصح إيقاع الثنتين عليها، ولو
قال إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة لا بل اثنتين فدخلت تطلق ثلاثا بالاتفاق لان مع
تعلق الاولى بالشرط بقي المحل على حاله وهو بهذا الحرف تبين أنه تعلق الثنتين
بالشرط ابتداء لا بواسطة الاولى، لانه راجع عن الاولى فكأنه أعاد ذكر الشرط وصار
كلامه في حكم يمينين فعند وجود الشرط تقع الثلاث جملة لتعلق الكل بالشرط بلا واسطة،
بخلاف ما قاله أبو حنيفة رحمه الله في حرف الواو فإنه للعطف فيكون هو مقررا للاولى
ومعلقا الثانية بالشرط بواسطة الاولى، فعند وجود الشرط يقعن متفرقا أيضا فتبين
بالاولى قبل وقوع الثانية والثالثة، والله أعلم.
فصل وأما لكن فهو كلمة موضوعة
للاستدراك بعد النفي، تقول ما رأيت زيدا لكن عمرا، فالمعنى الذي تختص به هذه الكلمة
باعتبار أصل الوضع إثبات ما بعدها فأما نفي ما قبلها فثابت بدليله بخلاف بل، قال
تعالى: *(فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)* ثم العطف
بها إنما يكون عند اتساق الكلام فإن وجد ذلك كان لتعليق النفي بالاثبات الذي بعدها
وإلا كانت للاستئناف. وبيان هذا في مسائل مذكورة في الجامع: منها إذا قال رجل هذا
العبد في يدي لفلان
ص 212
فقال المقر له ما كان لي قط ولكنه لفلان، فإن وصل كلامه فهو للمقر له الثاني، وإن
فصل فهو للمقر، لان قوله ما كان لي قط تصريح بنفي ملكه فيه، فإذا وصل به قوله لكن
لفلان كان بيانا أنه نفي ملكه إلى الثاني بإثبات الملك له بقوله لكن، فإن قطع كلامه
كان محمولا على نفي ملكه أصلا كما هو الظاهر وهو رد للاقرار، ثم قوله ولكنه لفلان
شهادة بالملك للثاني على المقر وبشهادة الفرد لا يثبت الملك. ولو أن المقضي له
بالعبد بالبينة قال ما كان لي قط ولكنه لفلان فقال المقر له قد كان له فباعه أو
وهبه مني بعد القضاء له فإنه يكون للثاني، لانه حين وصل الكلام فقد تبين أنه نفي
ملكه بإثباته للثاني وذلك يحتمل الانشاء بسبب كان بعد القضاء فيحمل على ذلك في حق
المقر له إلا أن المقر يصير ضامنا قيمته للمقضي عليه لان ظاهر كلامه تكذيب لشهوده
وإقرار بأن القضاء باطل وهذا حجة عليه، ولكن إنما يقرر هذا الحكم بعد ما تحول الملك
إلى المقر له فيضمن قيمته للمقضي عليه. ولو أن أمة زوجت نفسها من رجل بمائة درهم
بغير إذن مولاها فقال المولى لا أجيزه لكن أجيزه بمائة وخمسين، أو قال لكن أجيزه إن
زدتني خمسين فالعقد باطل لان الكلام غير متسق، فإن نفي الاجازة وإثباتها بعينها لا
يتحقق فيه معنى العطف فيرتد العقد بقوله لا أجيزه ويكون قوله لكن أجيزه ابتداء بعد
الانفساخ. ولو قال لفلان علي ألف درهم قرض فقال فلان لا ولكنه غصب فإنه يلزمه المال
لان الكلام متسق فيتبين بآخره أنه نفي السبب لا أصل المال وأنه قد صدقه في الاقرار
بأصل المال ولا تفاوت في الحكم بين السببين، والاس
مطلوبة للاحكام فعند انعدام
التفاوت يتم تصديقه له فيما أقر به فيلزمه المال، وعلى هذا لو قال لك علي ألف درهم
ثمن هذه الجارية التي اشتريتها منك فقال الجارية جاريتك ما بعتها منك ولكن لي عليك
ألف درهم يلزمه المال، لان الكلام متسق وفي آخره بيان أنه مصدق له في أصل المال
مكذب في السبب ولا تفاوت عند سلامة الجارية للمقر فيلزمه المال.
ص 213
فصل وأما أو فهي كلمة تدخل بين اسمين أو فعلين، وموجبها باعتبار أصل الوضع يتناول
أحد المذكورين. بيانه في قوله تعالى: *(من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو
تحرير رقبة)* فإن الواجب في الكفارة أحد الاشياء المذكورة مع إباحة التكفير بكل نوع
منها على الانفراد، ولهذا لو كفر بالانواع كلها كان مؤديا للواجب بأحد الانواع في
الصحيح من المذهب، بخلاف ما يقوله بعض الناس وقد بينا هذه. وكذلك في قوله تعالى في
كفارة الحلق: *(ففدية من صيام أو صدقة أو نسك)* وفي جزاء الصيد: *(هديا بالغ الكعبة
أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما)* وقد ظن بعض مشايخنا أنها في أصل الوضع
للتشكيك فإن الرجل إذا قال رأيت زيدا وعمرا يكون مخبرا برؤية كل واحد منهما عينا،
ولو قال بل عمرا يكون مخبرا برؤية عمرو عينا. ولو قال أو عمرا يكون مخبرا برؤية
أحدهما غير عين على أنه شاك في كل واحد منهما يجوز أن يكون قد رآه ويجوز أن يكون لم
يره إلا أن في الابتداءات والامر والنهي يتعذر حمله على التشكيك فإن ذلك لا يكون
إلا عند التباس العلم بالشئ فيحمل على التخيير، وقرر هذا الكلام في تصنيفه. قال رضي
الله عنه: وعندي أن هذا غير صحيح لان الشك ليس بأمر مقصود حتى يوضع له كلمة في أصل
الوضع، ولكن هذه الكلمة لبيان أن المتناول أحد المذكورين كما ذكرنا إلا أن في
الاخبار يفضي إلى الشك باعتبار محل الكلام لا باعتبار هذه الكلمة كما في قوله رأيت
زيدا أو عمرا، فأما في الانشاءات لما تبدل المحل وانعدم المعنى الذي لاجله كان معنى
الشك فالثابت بهذه الكلمة التخيير باعتبار أصل الوضع وهو أنها تتناول أحد المذكورين
على إثبات صفة الاباحة في كل واحد منهما، ولهذا قلنا لو قال هذا العبد حر أو هذا
فهو وقوله أحدهما حر سواء يتناول الايجاب أحدهما ويتخير المولى في البيان على أن
يكون بيانه من وجه كابتداء الايقاع حتى يشترط لصحة البيان صلاحية المحل للايقاع،
ومن وجه هو تعيين للواقع، ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لو جمع بين عبده
ودابته وقال هذا حر أو هذا لغا كلامه،
ص 214
بمنزلة ما لو قال أحدهما حر لان محل الايجاب أحدهما بغير عينه، وإذا لم يكن أحد
العبدين محلا صالحا للايجاب فغير المعين منهما لا يكون صالحا وبدون صلاحية المحل لا
يصح الايجاب أصلا. وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذا الايجاب يتناول أحدهما بغير عينه
على احتمال التعيين، ألا ترى أنهما لو كانا عبدين تناول أحدهما على احتمال التعيين
إما ببيانه أو بانعدام المزاحمة بموت أحدهما فيصح الايجاب هنا باعتبار هذا المجاز
كما هو أصل أبي حنيفة رحمه الله في العمل بالمجاز وإن تعذر العمل بالحقيقة لعدم
صلاحية المحل له، وعندهما المجاز خلف عن الحقيقة في الحكم، فإذا لم يكن المحل صالحا
للحكم حقيقة يسقط اعتبار العمل بالمجاز وقد بينا هذا. وعلى هذا لو قال لثلاث نسوة
له: هذه طالق أو هذه وهذه تطلق الثالثة ويتخير في الاوليين، بمنزلة ما لو جمع بين
الاوليين فقال إحداكما طالق وهذه، ولهذا قال زفر رحمه الله في قوله والله لا أكلم
فلانا أو فلانا وفلانا إنه لا يحنث إن كلم الاول وحده ما لم يكلم الثالث معه،
بمنزلة قوله لا أكلم أحد هذين وهذا. ولكنا نقول هناك إن كلم الاول وحده يحنث وإن
كلم أحد الآخرين لا يحنث ما لم يكلمهما لانه أشرك بينهما بحرف الواو والخبر المذكور
يصلح للمثنى كما يصلح للواحد، فإنه يقول لا أكلم هذا لا أكلم هذين فيصير كأنه قال
لا أكلم هذا أو هذين، بخلاف الطلاق فهناك الخبر المذكور غير صالح للمثنى إذا جمعت
بينهما لانه يقال للمثنى طالقان مع أن هناك يمكن أن تجعل الثالثة كالمذكورة وحدها
فإن الحكم فيها لا يختلف سواء ضمت إلى الاولى أو إلى الثانية، وهنا الحكم في الثالث
يختلف بالانضمام إلى الاول أو الثاني فكان ضمه إلى ما يليه أولى. وعلى هذا لو قال
وكلت ببيع هذا العبد هذا الرجل أو هذا فإنه يصح التوكيل استحسانا، بمنزلة ما لو قال
وكلت أحدهما ببيعه حتى لا يشترط اجتماعهما على البيع، بخلاف ما لو قال وهذا، وإذا
باع أحدهما نفذ البيع ولم يكن للآخر بعد ذلك أن يبيعه، وإن عاد إلى ملكه وقبل البيع
يباح لكل واحد منهما أن يبيعه. وكذلك لو قال لواحد بع هذا العبد أو هذا يثبت له
الخيار على أن يبيع أحدهما أيهما شاء، بمنزلة ما لو قال بع أحدهما، فأما في البيع
إذا أدخل كلمة
ص 215
أو في المبيع أو الثمن فالبيع فاسد للجهالة لان موجب الكلمة التخيير ومن له الخيار
منهما غير معلوم، فإن كان معلوما جاز في الاثنين والثلاثة استحسانا ولم يجز في
الزيادة على ذلك لبقاء الحظر بعد تعين من له الخيار، ولكن اليسير من الحظر لا يمنع
جواز العقد والفاحش منه يمنع جواز العقد. فأما في النكاح ف أبو يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى يقولان يثبت التخيير بهذه الكلمة إذا كان مفيدا بأن يقول لامرأة تزوجتك
على ألف درهم حالا أو على ألفين إلى سنة أو تزوجتك على ألف درهم أو مائة دينار، ولا
يثبت الخيار إذا لم يكن مفيدا بأن يقول تزوجتك على ألف درهم أو ألفين بل يجب الاقل
عينا لانه لا فائدة في التخيير بين القليل والكثير في جنس واحد، وصحة النكاح لا
تتوقف على تسمية البدل فوجوب المال عند التسمية في معنى الابتداء، بمنزلة الاقرار
بالمال أو الوصية أو الخلع أو الصلح عن دم العمد على مال فإنما يثبت الاقل لكونه
متيقنا به، ولهذا كل ما يصلح أن يكون مسمى في الصلح عن دم العمد يصلح أن يكون مسمى
في النكاح. وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول يصار إلى تحكيم مهر المثل لان التخيير
الذي هو حكم هذه الكلمة يمنع كون المسمى معلوما قطعا والموجب الاصلي في النكاح مهر
المثل وإنما ينتفي ذلك الموجب عند تسمية معلومة قطعا فإذا انعدم ذلك بحرف أو وجب
المصير إلى الموجب الاصلي، بخلاف الخلع والصلح فليس في ذلك العقد موجب أصلي في
البدل بل هو صحيح من غير بدل يجب به فلهذا أوجبنا القدر الميتقن به وما زاد على ذلك
لكونه مشكوكا فيه يبطل. وعلى هذا قال مالك رحمه الله في حد قطاع الطريق إن الامام
يتخير في ظاهر قوله تعالى: *(أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف)*
فإن موجب الكلمة التخيير والكلام محمول على حقيقته حتى يقوم دليل المجاز. ولكنا
نقول في أول الآية تنصيص على أن المذكور جزاء على المحاربة، والمحاربة أنواع كل نوع
منها معلوم من تخويف أو أخذ مال أو قتل نفس أو جمع بين القتل وأخذ المال، وهذه
الانواع تتفاوت في صفة الجناية والمذكور أجزية متفاوتة في معنى التشديد فوقع
ص 216
الاستغناء بتلك المقدمة عن بيان تقسيم الا جزية على أنواع الجناية نصا، ولكن هذا
التقسيم ثابت بأصل معلوم وهو أن الجملة إذا قوبلت بالجملة ينقسم البعض على البعض
فلهذا كان الجزاء على كل نوع عينا، كيف وقد نزل جبريل عليه السلام على النبي (ص)
بهذا التقسيم في أصحاب أبي بردة؟ ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله إذا جمع بين القتل
وأخذ المال فللامام الخيار، إن شاء قطع يده ثم قتله وصلبه، وإن شاء قتله وصلبه ولم
يقطعه، لان نوع المحاربة متعدد صورة متحد معنى فيتخير لهذا. وقيل أو هنا بمعنى بل
كما قال الله تعالى: *(فهي كالحجارة أو أشد قسوة)* أي بل أشد قسوة فيكون المراد بل
يصلبوا إذا اتفقت المحاربة بقتل النفس وأخذ المال بل تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف
إذا أخذوا المال فقط بل ينفوا من الارض إذا خوفوا الطريق. وقد تستعار كلمة أو للعطف
فتكون بمعنى الواو، قال تعالى: *(وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون)* أي ويزيدون.
قال القائل: فلو كان البكاء يرد شيئابكيت على زياد أو عناق على المرأين إذ مضيا
جميعا لشأنهما بحزن واحتراق (أي وعناق) بدليل قوله: على المرأين إذ مضيا جميعا. إذا
عرفنا هذا فنقول إنما يحمل على هذه الاستعارة عند اقتران الدليل بالكلام، ومن
الدليل (على ذلك) أن تكون مذكورة في موضع النفي، قال الله تعالى: *(ولا تطع منهم
آثما أو كفورا)* معناه: ولا كفورا، والدليل فيه ما قدمنا أن النكرة في (موضع) النفي
تعم ولا يمكن إثبات التعميم إلا أن يجعل بمعنى واو العطف ولكن على أن يتناول كل
واحد منهما على الانفراد لا على الاجتماع كما هو موجب حرف الواو، ولهذا قلنا لو قال
والله أكلم فلانا أو فلانا فإنه يحنث إذا كلم أحدهما، بخلاف قوله فلانا وفلانا فإنه
لا يحنث ما لم يكلمهما، ولكن يتناول كل واحد (منهما) على الانفراد حتى لا يثبت له
الخيار، ولو كان في الايلاء بأن قال لا أقرب
ص 217
هذه أو هذه فمضت المدة بانتا جميعا. ومن ذلك أن يستعمل الكلمة في موضع الاباحة
فتكون بمعنى الواو حتى يتناول معنى الاباحة كل واحد من المذكورين، فإن الرجل يقول
جالس الفقهاء أو المتكلمين فيفهم (منه) الاذن بالمجالسة مع كل واحد من الفريقين،
والطبيب يقول للمريض كل هذا أو هذا فإنما يفهم منه أن كل واحد منهما صالح لك. وبيان
هذا في قوله تعالى: *(إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم)*
فالاستثناء من التحريم إباحة ثم تثبت الاباحة في جميع هذه الاشياء، فعرفنا أن موجب
هذه الكلمة في الاباحة العموم وأنه بمعنى واو العطف. وبيان الفرق بين الاباحة
والايجاب أن في الايجاب الامتثال بالاقدام على أحدهما، وفي الاباحة تتحقق الموافقة
في الاقدام على كل واحد منهما. وعلى هذا قلنا إذا قال لا أكلم أحدا إلا فلانا أو
فلانا فإن له أن يكلمهما من غير حنث. ولو قال لاربع نسوة له والله لا أقربكن إلا
فلانة أو فلانة فإنه لا يكون موليا منهما جميعا حتى لا يحنث إن قربهما ولا تقع
الفرقة بينه وبينهما بمضي المدة قبل القربان. وقد تستعار أو بمعنى حتى قال تعالى:
*(ليس لك من الامر شيء أو يتوب عليهم)*: أي حتى يتوب عليهم. وفي هذه الاستعارة معنى
العطف، فإن غاية الشيء تتصل به كما يتصل المعطوف بالمعطوف عليه، ولهذا قال في
الجامع: لو قال والله لادخلن هذه الدار اليوم أو لادخلن هذه الدار فأي الدارين دخل
بر في يمينه لانه ذكر الكلمة في موضع الاثبات فيقتضي التخيير في شرط البر. ولو قال
لا أدخل هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار (فأي الدارين دخل حنث في يمينه لانه ذكرها
في موضع النفي فكانت بمعنى ولا. ولو قال والله لا أدخل هذه الدار أو أدخل هذه
الدار) الاخرى فإن دخل الاولى حنث في يمينه، وإن دخل الثانية أولا بر في يمينه حتى
إذا دخل الاولى بعد ذلك لا يحنث بمنزلة قوله لا أدخل هذه الدار حتى أدخل هذه الدار
فكأن الدخول في الاخرى غاية ليمينه فإذا دخلها انتهت اليمين، وإن لم يدخلها حتى دخل
الاولى حنث لوجود الشرط في حال بقاء اليمين، وإنما
ص 218
جعلناه هكذا لانه يتعذر اعتبار معنى التخيير فيه للنفي في أحد الجانبين ويتعذر
إثبات معنى العطف لعدم المجانسة بين المذكورين فيجعل بمعنى الغاية، لان حرمة الدخول
الثابت باليمين يحتمل الامتداد فيليق به ذكر الغاية كما في قوله تعالى: *(ليس لك من
الامر شيء أو يتوب عليهم)* فإنه لا يمكن حمل الكلمة على العطف إذ الفعل لا يعطف على
الاسم والمستقبل لا يعطف على الماضي، ونفي الامر يحتمل الامتداد فيجعل قوله *(أو
يتوب)* بمعنى الغاية، ولانه نفي الدخول في الدار الاولى فإذا دخل فيها أولا يجعل
كأن المذكور آخرا من جنسه نفي فيحنث بالدخول فيها لهذا، وأثبت الدخول في الدار
الثانية فإذا دخلها أولا يجعل كأن الاخير من جنسه إثبات كما في قوله لادخلن هذه
الدار أو لادخلن هذه الدار. فصل وأما حتى فهي للغاية باعتبار أصل الوضع بمنزلة إلى،
هو المعنى الخاص الذي لاجله وضعت الكلمة، قال تعالى: *(هي حتى مطلع الفجر)* وقال
تعالى: *(حتى يعطوا الجزية عن يد)* وقال تعالى: *(حتى يأذن لي أبي)* وقال تعالى:
*(حتى يأتيك اليقين)* فمتى كان ما قبلها بحيث يحتمل الامتداد وما بعدها يصلح
للانتهاء به كانت عاملة في حقيقة الغاية، ولهذا قلنا إذا حلف أن يلازم غريمه حتى
يقضيه ثم فارقه قبل أن يقضيه دينه حنث، لان الملازمة تحتمل الامتداد، وقضاء الدين
يصلح منهيا للملازمة. وقال في الزيادات: لو قال عبده حر إن لم أضربك حتى تشتكي يدي
أو حتى الليل أو حتى تصبح أو حتى يشفع فلان ثم ترك ضربه قبل هذه الاشياء حنث، لان
الضرب بطريق التكرار يحتمل الامتداد والمذكور بعد الكلمة صالح للانتهاء فيجعل غاية
حقيقة، وإذا أقلع عن الضرب قبل الغاية حنث إلا في موضع يغلب على الحقيقة عرف فيعتبر
ذلك، لان الثابت بالعرف ظاهرا بمنزلة الحقيقة، حتى لو قال إن لم أضربك حتى أقتلك أو
حتى تموت فهذا على الضرب الشديد باعتبار العرف، فإنه متى كان قصده القتل لا يذكر
لفظ الضرب وإنما يذكر ذلك إذا لم يكن قصده القتل وجعل
ص 219
القتل غاية لبيان شدة الضرب عادة. ولو قال حتى يغشى عليك أو حتى تبكي فهذا على
حقيقة الغاية لان الضرب إلى هذه الغاية معتاد. وقد تستعمل الكلمة للعطف فإن بين
العطف والغاية مناسبة بمعنى التعاقب ولكن مع وجود معنى الغاية فيها. يقول الرجل
جاءني القوم حتى زيد ورأيت القوم حتى زيدا فيكون للعطف مع اعتبار معنى الغاية لانه
يفهم بهذا أن زيدا أفضل القوم أو أرذلهم. وقد يدخل بمعنى العطف على جملة فإن ذكر له
خبرا فهو خبره وإلا فخبره من جنس ما سبق. يقول الرجل مررت بالقوم حتى زيد غضبان،
وتقول أكلت السمكة حتى رأسها فهذا مما لم يذكر خبره وهو من جنس ما سبق على احتمال
أن يكون هو الاكل أو غيره ولكنه إخبار بأن رأسها مأكول أيضا. ولو قال حتى رأسها
بالنصب كان هذا عطفا، أي وأكلت رأسها أيضا ولكن باعتبار معنى الغاية. ومثل هذا في
الافعال تكون للجزاء إذا كان ما قبلها يصلح سببا لذلك وما بعدها يصلح أن يكون جزاء
فيكون بمعنى لام كي، قال تعالى: *(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة)* أي لكيلا تكون فتنة،
وقال تعالى: *(وزلزلوا حتى يقول الرسول)* والقراءة بالنصب تحتمل الغاية، معناه إلى
أن يقول الرسول فيكون قول الرسول نهاية من غير أن يكون بناء على ما سبق كما هو موجب
الغاية أنه لا أثر له فيما جعل غاية له، ويحتمل لكي يقول الرسول، والقراءة بالرفع
تكون بمعنى العطف أي ويقول الرسول. وعلى هذا قال في الزيادات: إذا قال إن لم آتك
غدا حتى تغديني فعبدي حر فأتاه فلم يغده لا يحنث، لان الاتيان ليس بمستدام فلا
يحتمل الكلمة بمعنى حقيقة الغاية وما بعده يصلح جزاء فيكون المعنى لكي تغديني فقد
جعل شرط بره الاتيان على هذا القصد وقد وجد، وكذلك لو قال إن لم تأتني حتى أغديك
فأتاه ولم يغده لم يحنث. وقد يستعار للعطف المحض كما أشرنا إليه في القراءة بالرفع،
ولكن هذا إذا كان المذكور بعده لا يصلح للجزاء فيعتبر مجرد المناسبة بين العطف
والغاية في الاستعارة. وعلى هذا قال في الزيادات: إذا قال إن لم آتك حتى أتغدى عندك
اليوم أو إن لم تأتني حتى تتغدى عندي اليوم فأتاه ثم لم يتغد عنده في ذلك اليوم
حنث، لان الكلمة بمعنى العطف فإن الفعلين من واحد فلا يصلح الثاني أن يكون جزاء
للاول فحمل على العطف المحض لتصحيح الكلام، وشرط البر وجود الامرين في اليوم فإذا
لم يوجدا حنث.
ص 220
فإن قيل: أهل النحو لا يعرفون هذا، فإنهم لا يقولون رأيت زيدا حتى عمرا باعتبار
العطف؟ قلنا: قد بينا أن في الاستعارات لا يعتبر السماع وإنما يعتبر المعنى الصالح
للاستعارة وما أشرنا إليه من المناسبة معنى صالح لذلك فهي استعارة بديعة بنى
علماؤنا رحمهم الله جواب المسألة عليها مع أن قول محمد رحمه الله حجة في اللغة فإن
أبا عبيد وغيره احتج بقوله، وذكر ابن السراج أن المبرد سئل عن معنى الغزالة فقال هي
الشمس، قاله محمد بن الحسن رحمه الله وكان فصيحا فإنه قال لخادم له يوما: انظر هل
دلكت الغزالة؟ فخرج ثم دخل فقال: لم أر الغزالة. وإنما أراد محمد هل زالت الشمس؟
فعلى هذا يجوز أن يقول الرجل رأيت زيدا حتى عمرا بمعنى العطف إلا أن الاولى أن يجعل
هذا بمعنى الفاء دون الواو، لان كل واحد منهما للعطف ولكن في الفاء معنى التعقيب
فهو أقرب إلى معنى المناسبة كما بينا. فصل وأما إلى فهي لانتهاء الغاية، ولهذا
تستعمل الكلمة في الآجال والديون، قال تعالى: *(إلى أجل مسمى)* وعلى هذا لو قال
لامرأته أنت طالق إلى شهر، فإن نوى التنجيز في الحال تطلق ويلغو آخر كلامه، وإن نوى
التأخير يتأخر الوقوع إلى مضي الشهر، وإن لم يكن له نية فعلى قول زفر رحمه الله يقع
في الحال، لان تأخير الشيء لا يمنع ثبوت أصله (فيكون بمنزلة التأجيل في الدين لا
يمنع ثبوت أصله) وعندنا لا يقع لان الكلمة للتأخير فيما يقرن به باعتبار أصل الوضع
وقد قرنها بأصل الطلاق وأصلها يحتمل التأخير في التعليق بمضي شهر أو بالاضافة إلى
ما بعد شهر، فأما أصل اليمين لا يحتمل التأخير في التعليق والاضافة، فلهذا حملنا
الكلمة هناك على تأخير المطالبة. ثم من الغايات بهذه الكلمة ما لا يدخل كقوله
تعالى: *(ثم أتموا الصيام إلى الليل)* ومنها ما يدخل كقوله: *(وأيديكم إلى
المرافق)* والحاصل فيه أن ما يكون من الغايات قائما بنفسه فإنه لا يدخل لانه حد ولا
يدخل الحد في المحدود، ولهذا لو قال لفلان من هذا الحائط إلى هذا الحائط لا يدخل
الحائطان في الاقرار،
ص 221
وما لا يكون قائما بنفسه فإن كان أصل الكلام متناولا للغاية كان ذكر الغاية لاخراج
ما وراءها فيبقى موضع الغاية داخلا كما في قوله تعالى: *(وأيديكم إلى المرافق)* فإن
الاسم عند الاطلاق يتناول الجارحة إلى الابط فذكر الغاية لاخراج ما وراءها، وإن كان
أصل الكلام لا يتناول موضع الغاية أو فيه شك فذكر الغاية لمد الحكم إلى موضعها فلا
تدخل الغاية كما في قوله تعالى: *(إلى الليل)* فإن الصوم عبارة عن الامساك ومطلقه
لا يتناول إلا ساعة فذكر الغاية لمد الحكم إلى موضع الغاية، ولهذا قال أبو حنيفة
رحمه الله: الغاية تدخل في الخيار لان مطلقه يقتضي التأبيد ولان في لزوم البيع في
موضع الغاية شكا، وفي الآجال والاجارات لا تدخل الغايات، لان المطلق لا يقتضي
التأبيد وفي تأخير المطالبة وتمليك المنفعة في موضع الغاية شك، وفي اليمين إذا حلف
لا يكلم فلانا إلى وقت كذا تدخل الغاية في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لان
مطلقه يقتضي التأبيد فذكر الغاية لاخراج ما وراءها، ولا تدخل في ظاهر الرواية لان
في حرمة الكلام ووجوب الكفارة في الكلام في موضع الغاية شكا. وعلى هذا قال زفر رحمه
الله: إذا قال لفلان علي من درهم إلى عشرة، أو قال لامرأته أنت طالق من واحدة إلى
ثلاث لا تدخل الغايتان لان الغاية حد والمحدود غير الحد. وقال أبو يوسف ومحمد
رحمهما الله: تدخل الغايتان لان هذه الغاية لا تقوم بنفسها فلا تكون غاية ما لم تكن
ثانية. وقال أبو حنيفة رحمه الله: الغاية الثانية لا تدخل لان مطلق الكلام لا
يتناوله وفي ثبوته شك، ولكن الغاية الاولى تدخل للضرورة لان الثانية داخلة في
الكلام ولا تكون ثانية قبل دخول الاولى. فصل وأما على فهو للالزام باعتبار أصل
الوضع لان معنى حقيقة الكلمة من علو الشيء على الشيء وارتفاعه فوقه وذلك قضية
الوجوب واللزوم، ولهذا لو قال لفلان علي ألف درهم أن مطلقه محمول على الدين إلا أن
يصل بكلامه وديعة لان
ص 222
حقيقته اللزوم في الدين. ثم تستعمل الكلمة للشرط باعتبار أن الجزاء يتعلق بالشرط
ويكون لازما عند وجوده. وبيان هذا في قوله تعالى: *(يبايعنك على أن لا يشركن بالله
شيئا)* وقال تعالى: *(حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق)* وعلى هذا قال في
السير: إذا قال رأس الحصن آمنوني على عشرة من أهل الحصن إن العشرة سواه والخيار في
تعيينهم إليه لانه شرط ذلك لنفسه بكلمة على، بخلاف ما لو قال آمنوني وعشرة أو فعشرة
أو ثم عشرة فالخيار في تعيين العشرة إلى من آمنهم، لان المتكلم عطف أمانهم على أمان
نفسه من غير أن شرط لنفسه في أمانهم شيئا. وقد تستعار الكلمة بمعنى الباء الذي يصحب
الاعواض لما بين العوض والمعوض من اللزوم والاتصال في الوجوب، حتى إذا قال بعت منك
هذا الشيء على ألف درهم أو آجرتك شهرا على درهم يكون بمعنى الباء، لان البيع
والاجارة لا تحتمل التعليق بالشرط فيحمل على هذا المستعار لتصحيح الكلام، ولهذا قال
أبو يوسف ومحمد رحمهما الله، إذا قالت المرأة لزوجها طلقني ثلاثا على ألف درهم
فطلقها واحدة يجب ثلث الالف، بمنزلة ما لو قالت بألف درهم لان الخلع عقد معاوضة.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول لا يجب عليها شيء من الالف ويكون الواقع رجعيا لان
الطلاق يحتمل التعليق بالشرط وإن كان مع ذكر العوض، ولهذا كان بمنزلة اليمين من
الزوج حتى لا يملك الرجوع عنه قبل قبولها، وحقيقة الكلمة للشرط فإذا كانت مذكورة
فيما يحتمل معنى الشرط يحمل عليه دون المجاز وعلى اعتبار الشرط لا يلزمها شيء من
المال لانها شرطت إيقاع الثلاث ليتم رضاها بالتزام المال والشرط يقابل المشروط جملة
ولا يقابله أجزاء، وقد يكون على بمعنى من، قال تعالى: *(إذا اكتالوا على الناس
يستوفون)* أي من الناس. فصل وكلمة من للتبعيض باعتبار أصل الوضع، وقد تكون لابتداء
الغاية، يقول الرجل خرجت من الكوفة، وقد تكون للتمييز يقال باب من حديد وثوب من
قطن، وقد تكون بمعنى الباء، قال تعالى: *(يحفظونه من أمر الله)* أي بأمر الله، وقد
تكون صلة، قال تعالى: *(يغفر لكم من ذنوبكم)* وقال تعالى: *(فاجتنبوا الرجس
ص 223
من الاوثان)* وفي حملة على الصلة يعتبر تعذر حمله على معنى وضع له باعتبار الحقيقة
أو يستعار له مجازا وتعتبر الحاجة إلى إتمام الكلام به لئلا يخرج من أن يكون مفيدا.
وعلى هذا قال في الجامع: إن كان ما في يدي من الدراهم إلا ثلاثة فإذا في يده أربعة
فهو حانث لان الدرهم الرابع بعض الدراهم وكلمة من للتبعيض. ولو قالت المرأة لزوجها
اخلعني على ما في يدي من الدراهم فإذا في يدها درهم أو درهمان تلزمها ثلاثة دراهم
لان من هنا صلة لتصحيح الكلام فإن الكلام لا يصح إلا بها، حتى إذا قالت اخلعني على
ما في يدي دراهم كان الكلام مختلا، وفي الاول لو قال إن كان في يدي دراهم كان
الكلام صحيحا فعمل الكلمة في التبعيض لا في تصحيح الكلام. وقد بينا المسائل على هذه
الكلمة فيما سبق. فصل وأما في فهي للظرف باعتبار أصل الوضع، يقال دراهم في صرة.
وعلى اعتبار هذه الحقيقة قلنا إذا قال لغيره غصبتك ثوبا في منديل أو تمرا في قوصرة
يلزمه رد كليهما لانه أقر (بغصب مظروف في ظرف فلا يتحقق ذلك إلا) بغصبه لهما. ثم
الظرف أنواع ثلاثة: ظرف الزمان وظرف المكان وظرف الفعل. فأما ظرف الزمان فبيانه
فيما إذا قال لامرأته أنت طالق في غد فإنها تطلق غدا باعتبار أنه جعل الغد ظرفا،
وصلاحية الزمان ظرفا للطلاق من حيث إنه يقع فيه فتصير موصوفة في ذلك الزمان بأنها
طالق فعند الاطلاق كما طلع الفجر تطلق فتتصف بالطلاق في جميع الغد بمنزلة ما لو قال
أنت طالق غدا، وإن قال نويت آخر النهار لم يصدق عندهما في القضاء كما في قوله غدا،
لانه نوى التخصيص فيما يكون موجبه العموم. وعند أبي حنيفة رضي الله عنه يدين في
القضاء لان ذكر حرف الظرف دليل على أن المراد جزء من الغد فالوقوع إنما يكون في جزء
ولكن ذلك الجزء مبهم في كلامه فعند عدم النية قلنا كما وجد جزء من الغد تطلق فإذا
نوى آخر النهار كان هذا بيانا للمبهم وهو مصدق في بيان مبهم كلامه في القضاء بخلاف
قوله غدا فاللفظ هناك
ص 224
متناول لجميع الغد فنية آخر النهار تكون تخصيصا، وعلى هذا لو قال إن صمت الشهر فهو
على صوم جميع الشهر، ولو قال إن صمت في الشهر فهو على صوم ساعة باعتبار المعنى الذي
قلنا. وأما ظرف المكان فبيانه في قوله أنت طالق في الدار أو في الكوفة فإنه يقع
الطلاق عليها حيثما تكون، لان المكان لا يصلح ظرفا (للطلاق) فإن الطلاق إذا وقع في
مكان فهو واقع في الامكنة كلها وهي إذا اتصفت بالطلاق في مكان تتصف به في الامكنة
كلها إلا أن يقول عنيت إذا دخلت فحينئذ لا يقع الطلاق ما لم تدخل باعتبار أنه كنى
بالمكان عن الفعل الموجود فيه أو أضمر الفعل في كلامه فكأنه قال أنت طالق في دخولك
الدار، وهذا هو ظرف الفعل على معنى أن الفعل لا يصلح ظرفا للطلاق حقيقة ولكن بين
الظرف والشرط مناسبة من حيث المقارنة أو من حيث تعلق الجزاء بالشرط بمنزلة قوام
المظروف بالظرف فتصير الكلمة بمعنى الشرط مجازا. ثم إن كان الفعل سابقا أو موجودا
في الحال يكون تنجيزا، وإن كان منتظرا يتعلق الوقوع بوجوده كما هو حكم الشرط. وعلى
هذا لو قال أنت طالق في حيضتك وهي حائض تطلق في الحال، وإن قال أنت طالق في مجئ
حيضتك فإنها لا تطلق حتى تحيض. وقال في الجامع: إذا قال أنت طالق في مجئ يوم لم
تطلق حتى يطلع الفجر من الغد، ولو قال في مضي يوم، فإن قال ذلك بالليل فهي طالق كما
غربت الشمس من الغد، وإن قال ذلك بالنهار لم تطلق حتى يجئ مثل هذه الساعة من الغد.
وعلى هذا قال في السير الكبير: إذا قال رأس الحصن آمنوني في عشرة فهو أحد العشرة
لان معنى الظرف في العدد بهذا يتحقق، والخيار في التسعة إلى الذي آمنهم لا إليه،
لانه ما شرط لنفسه شيئا في أمان من ضمهم إلى نفسه ليكونوا عشرة. ولو قال لفلان علي
عشرة دراهم في عشرة تلزمه عشرة لان العدد لا يصلح ظرفا لمثله بلا شبهة إلا أن يعني
حرف مع فإن في يأتي بمعنى مع، قال تعالى: *(فادخلي في عبادي)* أي مع عبادي، فإذا
قال ذلك فحينئذ يلزمه عشرون، ولكن
ص 225
بدون هذه النية لا يلزمه لان المال بالشك لا يجب. وكما أن في يكون بمعنى مع يكون
بمعنى من، قال تعالى: *(وارزقوهم فيها)* أي منها. وكذلك لو قال لامرأته أنت طالق
واحدة في واحدة فهي طالق واحدة إلا أن يقول نويت مع فحينئذ تطلق اثنتين دخل بها أم
لم يدخل بها، وإن قال عنيت الواو فذلك صحيح أيضا على ما هو مذهب أهل النحو أن أكثر
حروف الصلات يقام بعضها مقام بعض، فعند هذه النية تطلق اثنتين إن كان دخل بها
وواحدة إن لم يدخل بها، بمنزلة قوله واحدة وواحدة. وقال في الزيادات: إذا قال أنت
طالق في مشيئة الله أو في إرادته لم تطلق بمنزلة قوله إن شاء الله كما جعل قوله في
دخولك الدار بمنزلة قوله إن دخلت الدار، إلا في قوله في علم الله فإنها تطلق لان
العلم يستعمل عادة بمعنى المعلوم، يقال علم أبي حنيفة، ويقول الرجل اللهم اغفر لنا
علمك فينا: أي معلومك، وعلى هذا المعنى يستحيل جعله بمعنى الشرط. فإن قيل: لو قال
في قدرة الله لم تطلق، وقد تستعمل القدرة بمعنى المقدور، فقد يقول من يستعظم شيئا:
هذه قدرة الله تعالى. قلنا: معنى هذا الاستعمال أنه أثر قدرة الله تعالى إلا أنه قد
يقام المضاف إليه مقام المضاف ومثله لا يتحقق في العلم. ومن هذا الجنس أسماء
الظروف، وهي: مع، وقبل، وبعد، وعند. فأما مع فهي للمقارنة حقيقة وإن كان قد تستعمل
بمعنى بعد، قال تعالى: *(إن مع العسر يسرا)* وعلى اعتبار حقيقة الوضع قلنا إذا قال
لامرأته أنت طالق واحدة مع واحدة تطلق اثنتين سواء دخل بها أو لم يدخل بها، وكذلك
لو قال معها واحدة لانهما تقترنان في الوقوع في الوجهين. ولو قال لفلان علي مع كل
درهم من هذه الدراهم العشرة درهم فعليه عشرون درهما. وأما قبل فهي للتقديم، قال
تعالى: *(من قبل أن نطمس وجوها)* ولهذا لو قال لامرأته وقت الضحوة أنت طالق قبل
غروب الشمس تطلق للحال، بخلاف
ص 226
الملك الذي كان للمورث، فإن الوراثة خلافة، وقد بينا أن عنده استصحاب الحال فيما
يرجع إلى الابقاء حجة على الغير. ولكنا نقول: هذا البقاء في حق المورث، فأما في حق
الوارث فصفة المالكية تثبت له ابتداء واستصحاب الحال لا يكون حجة فيه بوجه، وعلى
هذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا ادعى عينا في يد إنسان أنه له ميراث من
أبيه وأقام الشاهدين فشهدا أن هذا كان لابيه لم تقبل هذه الشهادة. وفي قول أبي يوسف
الآخر تقبل، لان الوراثة خلافة فإنما يبقى للوارث الملك الذي كان للمورث، ولهذا يرد
بالعيب ويصير مغرورا فيما اشتراه المورث، وما ثبت فهو باق لاستغناء البقاء عن دليل.
وهما يقولان في حق الوارث: هذا في معنى ابتداء التملك، لان صفة المالكية تثبت له في
هذا المال بعد أن لم يكن مالكا، وإنما يكون البقاء في حق المورث أن لو حضر بنفسه
يدعي أن العين ملكه فلا جرم إذا شهد الشاهدان أنه كان له كانت شهادة مقبولة كما إذا
شهدا أنه له، فأما إذا كان المدعي هو الوارث وصفة المالكية للوارث تثبت ابتداء بعد
موت المورث فهذه الشهادة لا تكون حجة للقضاء بالملك له، لان طريق القضاء بها
استصحاب الحال وذلك غير صحيح. فصل ومن هذه الجملة الاستدلال بتعارض الاشباه، وذلك
نحو احتجاج زفر رحمه الله في أنه لا يجب غسل المرافق في الوضوء، لان من الغايات ما
يدخل ومنها ما لا يدخل فمع الشك لا تثبت فرضية الغسل فيما هو غاية بالنص، لان هذا
في الحقيقة احتجاج بلا دليل لاثبات حكم، فإن الشك الذي يدعيه أمر حادث فلا يثبت
حدوثه إلا بدليل. فإن قال: دليله تعارض الاشباه. قلنا: وتعارض الاشباه أيضا حادث
فلا يثبت إلا بالدليل. فإن قال: الدليل عليه ما أعده من الغايات مما يدخل بالاجماع
وما لا يدخل بالاجماع. قلنا: وهل تعلم أن هذا المتنازع فيه من أحد النوعين بدليل؟
فإن قال أعلم ذلك. قلنا: فإذن عليك أن لا تشك فيه بل
ص 227
تلحقه بما هو من نوعه بدليله. وإن قال: لا أعلم ذلك. قلنا: قد اعترفت بالجهل، فإن
كان هذا مما يمكن الوقوف عليه بالطلب فإنما جهلته عن تقصير منك في طلبه وذلك لا
يكون حجة أصلا، وإن كان مما لا يمكن الوقوف عليه بعد الطلب كنت معذورا في الوقوف
فيه، ولكن هذا العذر لا يصير حجة لك على غيرك ممن يزعم أنه قد ظهر عنده دليل إلحاقه
بأحد النوعين، فعرفنا أن حاصل كلامه احتجاج بلا دليل. فصل ومن هذه الجملة الاحتجاج
بالاطراد على صحة العلة إما وجودا أو وجودا وعدما فإنه احتجاج بلا دليل في الحقيقة،
ومن حيث الظاهر هو احتجاج بكثرة أداء الشهادة، وقد بينا أن كثرة أداء الشهادة
وتكرارها من الشاهد لا يكون دليل صحة شهادته. ثم الاطراد عبارة عن سلامة الوصف عن
النقوض والعوارض، والناظر وإن بالغ في الاجتهاد بالعرض على الاصول المعلومة عنده
فالخصم لا يعجز من أن يقول عندي أصل آخر هو مناقض لهذا الوصف أو معارض فجهلك به لا
يكون حجة لك علي، فتبين من هذا الوجه أنه احتجاج بلا دليل، ولكنه فوق ما تقدم في
الاحتجاج به من حيث الظاهر، لان من حيث الظاهر الوصف صالح، ويحتمل أن يكون حجة
للحكم إذا ظهر أثره عند التأمل، ولكن لكونه في الحقيقة استدلالا على صحته بعدم
النقوض والعوارض لم يصلح أن يكون حجة لاثبات الحكم. فإن قيل: أليس أن النصوص بعد
ثبوتها يجب العمل بها، واحتمال ورود الناسخ لا يمكن شبهة في الاحتجاج بها قبل أن
يظهر الناسخ فكذلك ما تقدم؟ قلنا: أما بعد وفاة رسول الله (ص) فلا احتمال للنسخ في
كل نص كان حكمه ثابتا عند وفاته، فأما في حال حياته فهكذا نقول: إن الاحتجاج به
لاثبات الحكم ابتداء صحيح، فأما لابقاء الحكم أو لنفي الناسخ لا يكون صحيحا، لان
احتمال بقاء الحكم واحتمال قيام دليل النسخ فيه كان بصفة واحدة، وقد قررنا هذا في
باب النسخ.
ص 228
مبيعا والمبيع الدين لا يكون إلا سلما، وعلى هذا لو قال لعبده إن أخبرتني بقدوم
فلان فأنت حر، فهذا على الخبر الحق الذي يكون بعد القدوم، لان مفعول الخبر محذوف
هنا وقد دل عليه حرف الباء الذي هو للالصاق، كقول القائل: بسم الله، أي بدأت بسم
الله فيكون معنى كلامه إن أخبرتني خبرا ملصقا بقدوم فلان، والقدوم اسم لفعل موجود
فلا يتناول الخبر بالباطل. ولو قال إن أخبرتني أن فلانا قد قدم فهذا على الخبر حقا
كان أو باطلا، لانه لما لم يذكر حرف الباء فالمذكور صالح لان يكون مفعول الخبر وأن
وما بعده مصدر والخبر إنما يكون بكلام لا يفعل فكأنه قال إن أخبرتني بخبر قدوم
فلان، والخبر اسم لكلام يدل على القدوم ولا يوجد عنده القدوم لا محالة. وعلى هذا
قال في الزيادات: إذا قال أنت طالق بمشيئة الله أو بإرادته أو بحكمه لم تطلق، وكذلك
سائر أخواتها، لان الباء للالصاق فيكون دليلا على معنى الشرط مفضيا إليه. وعلى هذا
قال في الجامع: إذا قال لامرأته إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني تحتاج إلى الاذن في
كل مرة، لان الباء للالصاق فإنما جعل المستثنى خروجا ملصقا بالاذن وذلك لا يكون إلا
بتجديد الاذن في كل مرة، قال تعالى: *(وما نتنزل إلا بأمر ربك)* أي مأمورين بذلك.
ولو قال إن خرجت إلا أن آذن لك، فهذا على الاذن مرة (واحدة) لانه يتعذر الحمل ههنا
على الاستثناء لمخالفة الجنس في صيغة الكلام فيحمل على معنى الغاية مجازا لما
بينهما من المناسبة، وعليه دل قوله تعالى: *(إلا أن يحاط بكم)*. *(إلا أن تقطع
قلوبهم)*: أي حتى. ثم قال الشافعي في قوله تعالى: *(وامسحوا برؤوسكم)*: إن الباء
للتبعيض فإنما يلزمه مسح بعض الرأس وذلك أدنى ما يتناوله الاسم. وقال مالك: الباء
صلة للتأكيد بمنزلة قوله تعالى: *(تنبت بالدهن)* كأنه قال وامسحوا رؤوسكم فيلزمه
مسح جميع الرأس. وقلنا: أما التبعيض فلا وجه له لان الموضوع للتبعيض حرف من
والتكرار والاشتراك لا يثبت بأصل الوضع، ولا وجه لحمله على الصلة لما فيه من معنى
الالغاء أو الحمل على غير فائدة مقصودة
ص 229
وهي التوكيد. ولكنا نقول: الباء للالصاق باعتبار أصل الوضع، فإذا قرنت بآلة المسح
يتعدى الفعل بها إلى محل المسح فيتناول جميعه كما يقول الرجل: مسحت الحائط بيدي
ومسحت رأس اليتيم بيدي فيتناول كله، وإذا قرنت بمحل المسح يتعدى الفعل بها إلى
الآلة فلا تقتضي الاستيعاب وإنما تقتضي إلصاق الآلة بالمحل وذلك لا يستوعب الكل
عادة، ثم أكثر الآلة ينزل منزلة الكمال، فيتأدى المسح بإلصاق ثلاثة أصابع بمحل
المسح، ومعنى التبعيض إنما يثبت بهذا الطريق لا بحرف الباء. فإن قيل: أليس أن في
التيمم حكم المسح ثبت بقوله تعالى: *(فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)* ثم الاستيعاب
فيه شرط؟ قلنا: أما على رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله فإنه لا يشترط فيه
الاستيعاب لهذا المعنى، وأما على ظاهر الرواية فإنما عرفنا الاستيعاب هناك إما
بإشارة الكتاب وهو أن الله تعالى أقام التيمم في هذين العضوين مقام الغسل عند تعذر
الغسل والاستيعاب في الغسل فرض بالنص فكذلك فيما قام مقامه، أو عرفنا ذلك بالسنة
وهو قوله عليه السلام لعمار رضي الله عنه: يكفيك ضربتان: ضربة للوجه وضربة
للذراعين. ومن هذا الفصل حروف القسم، والاصل فيها باعتبار الوضع الباء حتى يستقيم
استعمالها مع إظهار الفعل ومع إضماره، فإن الباء للالصاق وهي تدل على محذوف كما
بينا، وقول الرجل بالله بمعنى أقسم (أو أحلف) بالله كما قال تعالى: *(يحلفون بالله
ما قالوا)* وكذلك يستقيم وصلها بسائر الاسماء والصفات وبغير الله إذا حلف به مع
التصريح بالاسم أو الكناية عنه بأن يقول بأبي أو بك لافعلن أو به لافعلن فيصح
استعماله في جميع هذه الوجوه لمقصود القسم باعتبار أصل الوضع. ثم قد تستعار الواو
مكان الباء في صلة القسم لما بينهما من المناسبة صورة ومعنى. أما الصورة فلان خروج
كل واحد منهما من المخرج الصحيح بضم الشفتين، وأما المعنى فلان في العطف إلصاق
المعطوف بالمعطوف عليه، وحرف الباء للالصاق إلا أن الواو تستعمل في المضمر (دون
المظهر، لا يقال أحلف والله لانه يشبه قسمين،
ص 230
بينهما بعضية، وفي المبتوتة إنه لا يلحقها الطلاق لانه ليس بينهما نكاح، وفي إسلام
المروي بالمروي إنه يجوز لانه لم يجمع البدلين الطعم والثمنية، وهذا فاسد لانه
استدلال بعدم وصف والعدم لا يصلح أن يكون موجبا حكما، وقد بينا أن العدم الثابت
بدليل لا يكون بقاؤه ثابتا بدليل فكيف يستدل به لاثبات حكم آخر. فإن قيل: مثل هذا
التعليل كثير في كتبكم. قال محمد رحمه الله: ملك النكاح لا يضمن بالاتلاف لانه ليس
بمال، والزوائد لا تضمن بالغصب لانه لم يغصب الولد. وقال أبو حنيفة رحمه الله:
العقار لا يضمن بالغصب لانه لم ينقله ولم يحوله. وقال فيما لا يجب فيه الخمس: لانه
لم يوجف عليه المسلمون. وقال في تناول الحصاة: لا تجب الكفارة لانه ليس بمطعوم.
وقال في الجد: لا يؤدي صدقة الفطر عن النافلة لانه ليس عليه ذلك. فهذا استدلال بعدم
وصف أو حكم. قلنا: أولا هذا عندنا غير مذكور على وجه المقايسة بل على وجه الاستدلال
فيما كان سببه واحدا معينا بالاجماع نحو الغصب، فإن ضمان الغصب سببه واحد عين وهو
الغصب، فالاستدلال بانتفاء الغصب على انتفاء الضمان يكون استدلالا بالاجماع. وكذلك
وجوب ضمان المال بسبب يستدعي المماثلة بالنص وله سبب واحد عين وهو إتلاف المال،
فيستقيم الاستدلال بانتفاء المالية في المحل على انتفاء هذا النوع من الضمان وكذلك
إذا كان دليل الحكم معلوما في الشرع بالاجماع نحو الخمس فإنه واجب في الغنيمة لا
غير وطريق الاغتنام الايجاف عليه بالخيل والركاب، فالاستدلال به لنفي الخمس يكون
استدلالا صحيحا، وقد بينا أنه إبلاء العذر في بعض المواضع لا الاحتجاج به على
الخصم. فأما تعليل النكاح بأنه ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال يكون
تعليلا بعدم الوصف وعدم الوصف لا يعدم الحكم لجواز أن يكون الحكم ثابتا باعتبار وصف
آخر، لانه وإن لم يكن مالا فهو من جنس ما يثبت مع الشبهات والاصل المتفق عليه
الحدود والقصاص، وبهذا الوصف لا يصير النكاح بمنزلة الحدود والقصاص حتى يثبت مع
الشبهات بخلاف الحدود والقصاص، فعرفنا أن بعدم هذا الوصف لا ينعدم وصف آخر يصلح
التعليل به لاثباته بشهادة
ص 231
النساء مع الرجال. وكذلك ما علل به من أخوات هذا الفصل فهو يخرج على هذا الحرف إذا
تأملت. فصل ومن هذا النوع الاحتجاج بأن الاوصاف محصورة عند القائسين، فإذا قامت
الدلالة على فساد سائر الاوصاف إلا وصفا واحدا تثبت به صحة ذلك الوصف ويكون حجة.
هذا طريق بعض أصحاب الطرد. وقد جوز الجصاص رحمه الله تصحيح الوصف للعلة بهذا
الطريق. قال الشيخ رحمه الله: وقد كان بعض أصدقائي عظيم الجد في تصحيح هذا الكلام،
بعلة أن الاوصاف لما كانت محصورة وجميعها ليست بعلة للحكم بل العلة وصف منها، فإذا
قام الدليل على فساد سائر الاوصاف سوى واحد منها ثبت صحة ذلك الوصف بدليل الاجماع
كأصل الحكم، فإن العلماء إذا اختلفوا في حكم حادثة على أقاويل، فإذا ثبت بالدليل
فساد سائر الاقاويل إلا واحدا ثبت صحة ذلك القول، وذلك نحو اختلاف العلماء في جارية
بين رجلين جاءت بولد فادعياه، فإنا إذا أفسدنا قول من يقول بالرجوع إلى قول القائف،
وقول من يقول بالقرعة، وقول من يقول بالتوقف إنه لا يثبت النسب من واحد منهما يثبت
به صحة قول من يقول بأنه يثبت النسب منهما جميعا. وإذا قال لنسائه الاربعة: إحداكن
طالق ثلاثا ووطئ ثلاثا منهن حتى يكون ذلك دليلا على انتفاء المحرمة عنهن تعين بها
الرابعة محرمة فكان تقرب هذا من الادلة العقلية. قال الشيخ: وعندي أن هذا غلط لا
نجوز القول به، وهو مع ذلك نوع من الاحتجاج بالدليل. أما بيان الغلط فيه وهو أن ما
يجعله هذا القائل دليل صحة علته هو الدليل على فساده، لانه لا يمكنه سلوك هذا
الطريق إلا بعد قوله بالمساواة بين الاوصاف في أن كل وصف منها صالح أن يكون علة
للحكم، وبعد ثبوت هذه المساواة فالدليل الذي يدل على فساد بعضها هو الدليل على فساد
ما بقي منها، لانه متى علم المساواة بين شيئين في الحكم ثم ظهر لاحدهما حكم بالدليل
فذلك الدليل يوجب مثل
ص 232
فيجازي بها مرة إذا أريد بها الشرط ولا يجازي بها مرة إذا أريد بها الوقت، وإذا
استعملت للشرط لم يكن فيها معنى الوقت، وهذا قول أبي حنيفة، وعلى قول نحويي البصرة
هي للوقت باعتبار أصل الوضع، وإن استعملت للشرط فهي لا تخلو عن معنى الوقت، بمنزلة
متى فإنها للوقت وإن كان قد يجازي بها، فإن المجازاة بها لازمة في غير موضع
الاستفهام والمجازاة بإذا جائزة غير لازمة، وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
وبيان المسألة ما إذا قال إذا لم أطلقك فأنت طالق أو إذا ما لم أطلقك، فإن عنى بها
الوقت تطلق في الحال، وإن عنى الشرط لم تطلق حتى تموت، وإن لم تكن له نية فعلى قول
أبي حنيفة لا تطلق حتى يموت، وعلى قولهما تطلق في الحال، قالا إن إذا تستعمل للوقت
غالبا وتقرن بما ليس فيه معنى الخطر، فإنه يقال الرطب إذا اشتد الحر والبرد إذا جاء
الشتاء، ولا يستقيم مكانها إن، قال تعالى: *(إذا الشمس كورت)* و*(إذا السماء
انفطرت)* وذلك كائن لا محالة، فعرفنا أنه لا ينفك عن معنى الوقت استعمالا. وتستعمل
في جواب الشرط، قال تعالى: *(وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون)* وما
يستعمل في المجازاة لا يكون محض الشرط، فعرفنا أنها بمعنى متى فإنها لا تنفك عن
معنى الوقت وإن كان المجازاة بها ألزم من المجازاة بإذا. وإذا ثبت هذا قلنا قد أضاف
الطلاق إلى وقت في المستقبل هو خال عن إيقاع الطلاق فيه عليها وكما سكت فقد وجد ذلك
الوقت فتطلق، ألا ترى أنه لو قال لامرأته إذا شئت فأنت طالق لم تتوقت المشيئة
بالمجلس بمنزلة قوله متى شئت، بخلاف قوله إن شئت، وأبو حنيفة رحمه الله اعتمد ما
قال أهل الكوفة إن إذا قد تستعمل بمحض الشرط، واستدل عليه الفراء بقول القائل:
استغن ما أغناك ربك بالغنى وإذا تصبك خصاصة فتحمل معناه إن تصبك خصاصة، فإن حمل على
معنى الشرط لم يقع الطلاق حتى يموت،
ص 233
وإن حمل على معنى الوقت وقع الطلاق في الحال والطلاق بالشك لا يقع. وعلى هذا قلنا
في قوله إذا شئت إنه لا يتوقت بالمجلس لان المشيئة صارت إليها بيقين، فلو جعلنا
الكلمة بمنزلة إن خرج الامر من يدها بالقيام، ولو جعلناها بمنزلة متى لم يخرج الامر
من يدها بالشك. وأما متى فهي للوقت باعتبار أصل الوضع ولكن لما كان الفعل يليها دون
الاسم جعلناها في معنى الشرط ولهذا صح المجازاة بها غير أنها لا تنفك عن معنى الوقت
بحال، فإذا قال لامرأته متى لم أطلقك فأنت طالق أو متى ما لم أطلقك فأنت طالق طلقت
كما سكت لوجود وقت بعد كلامه لم يطلقها فيه، ولهذا لم نذكر في حروف الشرط كلمة كل
لان الاسم يليها دون الفعل فإنها تجمع الاسماء ويستقيم أن يقال كل رجل ولا يستقيم
أن يقال كل دخل، وفيها معنى الشرط باعتبار أن الاسم الذي يتعقبها يوصف بفعل لا
محالة ليتم كل الكلام وذلك الفعل يصير في معنى الشرط حتى لا ينزل الجزاء إلا
بوجوده. بيانه فيما إذا قال كل امرأة أتزوجها وكل عبد أشتريه، وذكرنا في حروف الشرط
كلمة كلما لان الفعل يتعقبها دون الاسم. يقال كلما دخل وكلما خرج ولا يقال كلما
زيد. وقد قدمنا الكلام في بيان كلما ومن وما. ومما هو في معنى الشرط لو على ما يروى
عن أبي يوسف أنه إذا قال لامرأته أنت طالق لو دخلت الدار لم تطلق ما لم تدخل كقوله
إن دخلت لان لو تفيد معنى الترقب فيما يقرن به مما يكون في المستقبل فكان بمعنى
الشرط من هذا الوجه. ولو قال أنت طالق لو حسن خلقك عسى أن أراجعك تطلق في الحال لان
لو هنا إنما تقرن بالمراجعة التي تترقب في المستقبل فتخلو كلمة الايقاع عن معنى
الشرط. وأما لولا فهي بمعنى الاستثناء لانها تستعمل لنفي شيء بوجود غيره، قال
تعالى: *(ولولا رهطك لرجمناك)* وعلى هذا قال محمد رحمه الله في قوله أنت طالق لولا
دخولك الدار إنها لا تطلق وتجعل هذه الكلمة بمعنى الاستثناء، ذكره الكرخي رحمه الله
في المختصر.
ص 234
وبالاخرى إلى فروع أخر فلا يكون انعدام العلة مع بقاء الحكم في موضع ثابتا بالعلة
الاخرى دليل فساد العلة. فأما المفارقة فمن الناس من ظن أنها مفاقهة، ولعمري
المفارقة مفاقهة ولكن في غير هذا الموضع، فأما على وجه الاعتراض على العلل المؤثرة
تكون مجادلة لا فائدة فيها في موضع النزاع. وبيان هذا من وجوه ثلاثة: أحدها أن شرط
صحة القياس لتعدية الحكم إلى الفروع تعليل الاصل ببعض أوصافه لا بجميع أوصافه، وقد
بينا أنه متى كان التعليل بجميع أوصاف الاصل لا يكون مقايسة، فبيان المفارقة بين
الاصل والفرع بذكر وصف آخر لا يوجد ذلك في الفرع ويرجع إلى بيان صحة المقايسة، فأما
أن يكون ذلك اعتراضا على العلة فلا. ثم ذكر وصف آخر في الاصل يكون ابتداء دعوى
والسائل جاهل مسترشد في موقف المنكر إلى أن تتبين له الحجة لا في موضع الدعوى، وإن
اشتغل بإثبات دعواه فذلك لا يكون سعيا في إثبات الحكم المقصود وإنما يكون سعيا في
إثبات الحكم في الاصل وهو مفروغ عنه، ولا يتصل ما يثبته بالفرع إلا من حيث إنه
ينعدم ذلك المعنى في الفرع وبالعدم لا يثبت الاتصال، وقد بينا أن العدم لا يصلح أن
يكون موجبا شيئا، فكان هذا منه اشتغالا بما لا فائدة فيه. والثالث ما بينا أن الحكم
في الاصل يجوز أن يكون معلولا بعلتين ثم يتعدى الحكم إلى بعض الفروع بإحدى العلتين
دون الاخرى، فبان انعدام في الفرع الوصف الذي يروم به السائل الفرق، وإن سلم له أنه
علة لاثبات الحكم في الاصل فذلك لا يمنع المجيب من أن يعدي حكم الاصل إلى الفرع
بالوصف الذي يدعيه أنه علة للحكم، وما لا يكون قدحا في كلام المجيب فاشتغال السائل
به يكون اشتغالا بما لا يفيد، وإنما المفاقهة في الممانعة حتى يبين المجيب تأثير
علته، فالفقه حكمة باطنة، وما يكون مؤثرا في إثبات الحكم شرعا فهو الحكمة الباطنة،
والمطالبة به تكون مفاقهة،
ص 235
فأما الاعراض عنه والاشتغال بالفرق يكون قبولا لما فيه احتمال أن لا يكون حجة
لاثبات الحكم، واشتغالا بإثبات الحكم بما ليس بحجة أصلا في موضع النزاع وهو عدم
العلة، فتبين أن هذا ليس من المفاقهة في شيء، والله أعلم.
فصل: الممانعة

قال رضي
الله عنه: اعلم بأن الممانعة أصل الاعتراض على العلة المؤثرة من حيث إن الخصم
المجيب يدعي أن حكم الحادثة ما أجاب به، فإذا لم يسلم له ذلك يذكر وصفا يدعي أنه
علة موجبة للحكم في الاصل المجمع عليه وأن هذا الفرع نظير ذلك الاصل، فيتعدى ذلك
الحكم بهذا الوصف إلى الفرع، وفي هذا الحكم دعويان فهو أظهر في الدعوى من الاول، أي
حكم الحادثة، وإن كانت المناظرة لا تتحقق إلا بمنع دعوى السابق عرفنا أنها لا تتحقق
إلا بمنع هذه الدعاوى أيضا فيكون هو محتاجا إلى إثبات دعاويه بالحجة، والسائل منكر
فليس عليه سوى المطالبة لاقامة الحجة بمنزلة المنكر في باب الدعاوى والخصومات،
وإليه أشار صاحب الشرع (ص) حيث قال للمدعي: (ألك بينة) وبالممانعة يتبين العوارض
ويظهر المدعي من المنكر، والملزم من الدافع بعدما ثبت شرعا أن حجة أحدهما غير حجة
الآخر. ثم الممانعة على أربعة أوجه: ممانعة في نفس العلة، وممانعة في الوصف الذي
يذكر العلل أنه علة، وممانعة في شرط صحة العلة أنه موجود في ذلك الوصف، وممانعة في
المعنى الذي به صار ذلك الوصف علة للحكم. أما الممانعة في نفس العلة فكما بينا أن
كثيرا من العلل إذا تأملت فيها تكون احتجاجا بلا دليل، وذلك لا يكون حجة على الخصم
الاثبات.
ص 236

باب: بيان الاحكام الثابتة بظاهر النص دون القياس والرأي

قال رضي الله عنه: هذه الاحكام تنقسم أربعة أقسام: الثابت بعبارة النص، والثابت بإشارته، والثابت بدلالته،
والثابت بمقتضاه. فأما الثابت بالعبارة فهو ما كان السياق لاجله ويعلم قبل التأمل
أن ظاهر النص متناول له، والثابت بالاشارة ما لم يكن السياق لاجله لكنه يعلم
بالتأمل في معنى اللفظ من غير زيادة فيه ولا نقصان وبه تتم البلاغة ويظهر الاعجاز.
ونظير ذلك من المحسوس أن ينظر الانسان إلى شخص هو مقبل عليه ويدرك آخرين بلحظات
بصره يمنة ويسرة وإن كان قصده رؤية المقبل إليه فقط، ومن رمى سهما إلى صيد فربما
يصيب الصيدين بزيادة حذقه في ذلك للعمل، فإصابته الذي قصد منهما موافق للعادة،
وإصابة الآخر فضل على ما هو العادة حصل بزيادة حذقه ومعلوم أنه يكون مباشرا فعل
الاصطياد فيهما، فكذلك هنا الحكم الثابت بالاشارة والعبارة كل واحد منهما يكون
ثابتا بالنص وإن كان عند التعارض قد يظهر بين الحكمين تفاوت كما نبينه. وبيان هذين
النوعين في قوله تعالى: *(للفقراء المهاجرين)* فالثابت بالعبارة في هذه الآية نصيب
من الفئ لهم لان سياق الآية لذلك، كما قال تعالى في أول الآية: *(ما أفاء الله على
رسوله)* الآية، والثابت بالاشارة أن الذين هاجروا من مكة قد زالت أملاكهم عما خلفوا
بمكة لاستيلاء الكفار عليها، فإن الله تعالى سماهم فقراء والفقير حقيقة من لا يملك
المال لا من بعدت يده عن المال، لان الفقر ضد الغنى والغني من يملك حقيقة المال لا
من قربت يده من المال حتى لا يكون المكاتب غنيا حقيقة وإن كان في يده أموال، وابن
السبيل غني حقيقة وإن بعدت يده عن المال لقيام ملكه، ومطلق الكلام محمول على
حقيقته، وهذا حكم ثابت بصيغة الكلام من غير زيادة ولا نقصان، فعرفنا أنه ثابت
بإشارة النص ولكن لما كان لا يتبين ذلك إلا بالتأمل اختلف العلماء فيه لاختلافهم في
التأمل، ولهذا قيل: الاشارة من العبارة بمنزلة الكناية والتعريض من التصريح أو
بمنزلة المشكل من الواضح، فمنه ما يكون
ص 237
موجبا للعلم قطعا بمنزلة الثابت بالعبارة، ومنه ما لا يكون موجبا للعلم وذلك عند
اشتراك معنى الحقيقة والمجاز في الاحتمال مرادا بالكلام. ومن ذلك قوله تعالى:
*(وحمله وفصاله ثلاثون شهرا)* فالثابت بالعبارة ظهور المنة للوالدة على الولد لان
السياق يدل على ذلك، والثابت بالاشارة أن أدنى مدة الحمل ستة أشهر فقد ثبت بنص آخر
أن مدة الفصال حولان كما قال تعالى: *(وفصاله في عامين)* فإنما يبقى للحمل ستة أشهر
ولهذا خفي ذلك على أكثر الصحابة رضي الله عنهم واختص بفهمه ابن عباس رضي الله عنهما
فلما ذكر لهم ذلك قبلوا منه واستحسنوا قوله. ومن ذلك قوله تعالى: *(وعلى المولود له
رزقهن وكسوتهن بالمعروف)* فالثابت بالعبارة وجوب نفقتها على الوالد فإن السياق
لذلك، والثابت بالاشارة أحكام منها أن نسبة الولد إلى الاب لانه أضاف الولد إليه
بحرف اللام فقال: *(وعلى المولود له)* فيكون دليلا على أنه هو المختص بالنسبة إليه،
وهو دليل على أن للاب تأويلا في نفس الولد وماله، فإن الاضافة بحرف اللام دليل
الملك كما يضاف العبد إلى سيده فيقال هذا العبد لفلان، وإلى ذلك أشار رسول الله (ص)
بقوله: أنت ومالك لابيك ولثبوت التأويل له في نفسه وماله قلنا لا يستوجب العقوبة
بإتلاف نفسه ولا يحد بوطئ جاريته وإن علم حرمتها عليه، والمسائل على هذا كثيرة، وهو
دليل أيضا على أن الاب لا يشاركه في النفقة على الولد غيره لانه هو المختص بالاضافة
إليه والنفقة تبتني على هذه الاضافة كما وقعت الاشارة إليه في الآية، بمنزلة نفقة
العبد فهي إنما تجب على سيده لا يشاركه غيره فيها، وفيه دليل أيضا على أن استئجار
الام على الارضاع في حال قيام النكاح بينهما لا يجوز، لانه جعل النفقة لها عليه
باعتبار عمل الارضاع بقوله تعالى: *(والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين)* فلا
يستوجب بدلين باعتبار عمل واحد، وهو دليل أيضا على ما يستحق بعمل الارضاع من النفقة
والكسوة لا يشترط فيه إعلام الجنس والقدر وإنما يعتبر فيه المعروف فيكون دليلا لابي
حنيفة رحمه الله في جواز استئجار الظئر بطعامها وكسوتها.
ص 238
فصل: القلب والعكس

قال رضي الله عنه: تفسير القلب لغة: جعل أعلى الشيء أسفله وأسفله
أعلاه. من قول القائل: قلبت الاناء إذا نكسه، أو هو: جعل بطن الشيء ظهرا والظهر
بطنا. من قول القائل: قلبت الجراب إذا جعل باطنه ظاهرا وظاهره باطنا، وقلبت الامر
إذا جعله ظهرا لبطن. وقلب العلة على هذين الوجهين. وهو نوعان: أحدهما جعل المعلول
علة والعلة معلولا، وهذا مبطل للعلة، لان العلة هي الموجبة شرعا والمعلول هو الحكم
الواجب به فيكون فرعا وتبعا للعلة، وإذا جعل التبع أصلا والاصل تبعا كان ذلك دليل
بطلان العلة. وبيانه فيما قال الشافعي في الذمي إنه يجب عليه الرجم لانه من جنس من
يجلد بكره مائة فيرجم ثيبه كالمسلم. فيقلب عليه فنقول: في الاصل إنما يجلد بكره
لانه يرجم ثيبه فيكون ذلك قلبا مبطلا لعلته باعتبار أن ما جعل فرعا صار أصلا وما
جعله أصلا صار تبعا. وكذلك قوله: القراءة ركن يتكرر فرضا في الاوليين فيتكرر أيضا
فرضا في الاخريين كالركوع. وهذا النوع من القلب إنما يتأتى عند التعليل بحكم لحكم،
فأما إذا كان التعليل بوصف لا يرد عليه هذا القلب، إذ الوصف لا يكون حكما شرعيا
يثبت بحكم آخر. وطريق المخلص عن هذا القلب أن لا يذكر هذا على سبيل التعليل بل على
سبيل الاستدلال بأحد الحكمين على الآخر، فإن الاستدلال بحكم على حكم طريق السلف في
الحوادث، روينا ذلك عن النبي عليه السلام وعن الصحابة رضي الله عنهم، ولكن شرط هذا
الاستدلال أن يثبت أنهما نظيران متساويان فيدل كل واحد منهما على صاحبه، هذا على
ذاك في حال وذاك على هذا في حال، بمنزلة التوأم فإنه يثبت حرية الاصل لاحدهما أيهما
كان بثبوته للآخر، ويثبت الرق في أيهما كان بثبوته للآخر، وذلك نحو ما يقوله
علماؤنا رحمهم الله. وبيانه فيما قال علماؤنا: إن الصوم عبادة تلزم بالنذر فتلزم
بالشروع كالحج، فلا يستقيم قلبهم علينا، لان الحج إنما يلزم بالنذر لانه يلزم
بالشروع،
ص 239
لانا نستدل بأحد الحكمين على الآخر بعد ثبوت المساواة بينهما من حيث إن المقصود بكل
واحد منهما تحصيل عبادة زائدة هي محض حق الله تعالى، على وجه يكون المعنى فيها
لازما، والرجوع عنها بعد الاداء حرام، وإبطالها بعد الصحة جناية، فبعد ثبوت
المساواة بينهما يجعل هذا دليلا على ذاك تارة وذاك على هذا تارة. وكذلك قولنا في
الثيب الصغيرة من يكون موليا عليه في ماله تصرفا يكون موليا عليه في نفسه تصرفا
كالبكر، وفي البكر البالغة من لا يكون موليا عليه في ماله تصرفا لا يكون موليا عليه
في نفسه تصرفا كالرجل، يكون استدلالا صحيحا بأحد الحكمين على الآخر، إذ المساواة قد
تثبت بين التصرفين من حيث إن ثبوت الولاية في كل واحد منهما باعتبار حاجة المولى
عليه وعجزه عن التصرف بنفسه، فلا يستقيم قلبهم إذا ذكرنا هذا على وجه الاستدلال،
لان جواز الاستدلال بكل واحد منهما على الآخر يدل على قوة المشابهة والمساواة وهو
المقصود بالاستدلال، بخلاف ما علل به الشافعي، فإنه لا مساواة بين الجلد والرجم،
أما من حيث الذات فالرجم عقوبة غليظة تأتي على النفس والجلد لا، ومن حيث الشرط
الرجم يستدعي من الشرائط ما لا يستدعي عليه الجلد كالثيوبة. وكذلك لا مساواة بين
ركن القراءة وبين الركوع، فإن الركوع فعل هو أصل في الركعة، والقراءة ذكر هو زائد،
حتى إن العاجز عن الاذكار القادر على الافعال يؤدي الصلاة، والعاجز عن الافعال
القادر على الاذكار لا يؤديها، ويسقط ركن القراءة بالاقتداء عندنا وعند خوف فوت
الركعة بالاتفاق ولا يسقط ركن الركوع. وكذلك لا مساواة بين الشفع الثاني والشفع
الاول في القراءة، فإنه يسقط في الشفع الثاني شطر ما كان مشروعا في الشفع الاول وهو
قراءة السورة والوصف المشروع فيه في الشفع الاول وهو الجهر بالقراءة، ومع انعدام
المساواة لا يمكن الاستدلال بأحدهما على الآخر، والقلب يبطل التعليل على وجه
المقايسة. والنوع الثاني من القلب: هو جعل الظاهر باطنا بأن يجعل الوصف الذي
ص 240
في المصروف إليه وهي المسكنة وجعل الواجب فعل الاطعام فيكون ذلك دليلا على أنه
مشروع لاعتبار حاجة المحل، ثم هذه الحاجة تتجدد بتجدد الايام فجعلنا المسكين الواحد
في عشرة أيام بمنزلة عشرة مساكين في جواز الصرف إليه، ولهذا لم نجوز صرف جميع
الكفارة إلى مسكين واحد دفعة واحدة. فإن قيل: فقد جوزتم صرف الكسوة أيضا إلى مسكين
واحد في عشرة أيام والحاجة إلى الكسوة لا تتجدد (في) كل يوم وإنما ذلك في كل ستة
أشهر أو أكثر. قلنا قد بينا أن التكفير في الكسوة يحصل بالتمليك والحاجة التي تكون
باعتبار التمليك لا نهاية لها فتجعل متجددة حكما بتجدد الايام، ولهذا قال بعض
مشايخنا: إذا فرق الاطعام في يوم واحد يجوز أيضا وإن أدى الكل مسكينا واحدا لان
تجدد الحاجة بتجدد الوقت معلوم وحقيقتها يتعذر الوقوف عليه فيجعل باعتبار كل ساعة
كأن الحاجة متجددة حكما، ولكن هذا في التمليك فأما في التمكين لا يتحقق هذا،
وأكثرهم على أن في الكسوة يعتبر هذا المعنى الحكمي فأما في الطعام يعتبر بتجدد
الايام لان المنصوص عليه الاطعام وحقيقته في التمكين من الطعام، ومعنى تجدد الحاجة
إلى ذلك لا يتحقق إلا بتجدد الايام. ومن ذلك قوله (ص): أغنوهم عن المسألة في مثل
هذا اليوم فالثابت بالعبارة وجوب أداء صدقة الفطر في يوم العيد إلى الفقير والسياق
لذلك، والثابت بالاشارة أحكام: منها أنها لا تجب إلا على الغني لان الاغناء إنما
يتحقق من الغني، ومنها أن الواجب الصرف إلى المحتاج لان إغناء الغني لا يتحقق وإنما
يتحقق إغناء المحتاج، ومنها أنه ينبغي أن يعجل أداءها قبل الخروج إلى المصلى
ليستغني عن المسألة ويحضر المصلي فارغ القلب من قوت العيال فلا يحتاج إلى السؤال،
ولهذا قال أبو يوسف لا يجوز صرفها إلا إلى فقراء المسلمين، ففي قوله (في مثل هذا
اليوم) إشارة إلى ذلك، يعني أنه يوم عيد للفقراء والاغنياء جميعا وإنما يتم ذلك
للفقراء إذا استغنوا عن السؤال فيه. وقال أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما: هو كذلك
ولكن في هذا إشارة إلى الندب أن الاولى أن يصرفه إلى فقراء المسلمين كما أن