ص 241
الاولى أن يعجل أداءها قبل الصلاة وإن كان التأخير جائزا، ومنها أن وجوب الاداء
يتعلق بطلوع الفجر لان اليوم اسم للوقت من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وإنما يغنيه
عن المسألة في ذلك اليوم أداء فيه، ومنها أنه يتأدى الواجب بمطلق المال لانه اعتبر
الاغناء وذلك يحصل بالمال المطلق وربما يكون حصوله بالنقد أتم من حصوله بالحنطة
والشعير والتمر، ومنها أن الاولى أن يصرف صدقته إلى مسكين واحد لان الاغناء بذلك
يحصل وإذا فرقها على المساكين كان هذا في الاغناء دون الاول وما كان أكمل فيما هو
المنصوص عليه فهو أفضل، فهذه أحكام عرفناها بإشارة النص وهو معنى جوامع الكلم الذي
قال رسول الله (ص): أوتيت جوامع الكلم واختصر لي اختصارا هذا مثال بيان الثابت
بعبارة النص وإشارته من الكتاب والسنة. فأما الثابت بدلالة النص فهو ما ثبت بمعنى
النظم لغة لا استنباطا بالرأي، لان للنظم صورة معلومة ومعنى هو المقصود به،
فالالفاظ مطلوبة للمعاني وثبوت الحكم بالمعنى المطلوب باللفظ، بمنزلة الضرب له صورة
معلومة ومعنى هو المطلوب به وهو الايلام، ثم ثبوت الحكم بوجود الموجب له، فكما أن
في المسمى الخاص ثبوت الحكم باعتبار المعنى المعلوم بالنظم لغة فكذلك في المسمى
الخاص الذي هو غير منصوص عليه يثبت الحكم بذلك المعنى ويسمى ذلك دلالة النص، فمن
حيث إن الحكم غير ثابت فيه بتناول صورة النص إياه لم يكن ثابتا بعبارة النص، ومن
حيث إنه ثابت بالمعنى المعلوم بالنص لغة كان دلالة النص ولم يكن قياسا، فالقياس
معنى يستنبطه بالرأي مما ظهر له أثر في الشرع ليتعدى به الحكم إلى ما لا نص فيه لا
استنباط باعتبار معنى النظم لغة، كما في قوله (ص): الحنطة بالحنطة مثل بمثل جعلنا
الغلة هي الكيل والوزن بالرأي فإن ذلك لا تتناوله صورة النظم ولا معناها لغة، ولهذا
اختص العلماء بمعرفة الاستنباط بالرأي، ويشترك في معرفة دلالة النص كل من له بصر في
معنى الكلام لغة فقيها أو غير فقيه. ومثال ما قلنا في قوله تعالى: *(فلا تقل لهما
أف ولا تنهرهما)* فإن للتأفيف صورة معلومة ومعنى
ص 242
لاجله ثبتت الحرمة وهو الاذى حتى إن من لا يعرف هذا المعنى من هذا اللفظ أو كان من
قوم هذا في لغتهم إكرام لم تثبت الحرمة في حقه، ثم باعتبار هذا المعنى المعلوم لغة
تثبت الحرمة في سائر أنواع الكلام التي فيها هذا المعنى كالشتم وغيره وفي الافعال
كالضرب ونحوه، وكان ذلك معلوما بدلالة النص لا بالقياس، لان قدر ما في التأفيف من
الاذى موجود فيه وزيادة. ومثال هذا ما روي أن ماعزا زنى وهو محصن فرجم، وقد علمنا
أنه ما رجم لانه ماعز بل لانه زنى في حالة الاحصان، فإذا ثبت هذا الحكم في غيره كان
ثابتا بدلالة النص لا بالقياس. وكذلك أوجب رسول الله (ص) الكفارة على الاعرابي
باعتبار جنايته لا لكونه أعرابيا، فمن وجدت منه مثل تلك الجناية يكون الحكم في حقه
ثابتا بدلالة النص لا بالقياس، وهذا لان المعنى المعلوم بالنص لغة بمنزلة العلة
المنصوص عليها شرعا على ما قال رسول الله (ص) في الهرة: إنها ليست بنجسة إنها من
الطوافين عليكم والطوافات ثم هذا الحكم يثبت في الفأرة والحية بهذه العلة فلا يكون
ثابتا بالقياس بل بدلالة النص. وقال عليه السلام للمستحاضة: إنه دم عرق انفجر
فتوضئي لكل صلاة ثم ثبت ذلك الحكم في سائر الدماء التي تسيل من العروق فيكون ثابتا
بدلالة النص لا بالقياس، ولهذا جعلنا الثابت بدلالة النص كالثابت بإشارة النص وإن
كان يظهر بينهما التفاوت عند المقابلة، وكل واحد منهما ضرب من البلاغة أحدهما من
حيث اللفظ والآخر من حيث المعنى، ولهذا جوزنا إثبات العقوبات والكفارات بدلالة النص
وإن كنا لا نجوز ذلك بالقياس، فأوجبنا حد قطاع الطريق على الردء بدلالة النص، لان
عبارة النص المحاربة وصورة ذلك بمباشرة القتال ومعناها لغة قهر العدو والتخويف على
وجه ينقطع به الطريق، وهذا معنى معلوم بالمحاربة لغة والردء مباشر لذلك كالمقاتل
ولهذا اشتركوا في الغنيمة، فيقام الحد على الردء بدلالة النص من هذه الوجوه. وقال
أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يجب الحد في اللواطة على الفاعل والمفعول به بدلالة نص
الزنا، فالزنا اسم لفعل معنوي له غرض وهو اقتضاء الشهوة على قصد سفح الماء بطريق
حرام لا شبهة فيه وقد وجد هذا كله في اللواطة، فاقتضاء الشهوة بالمحل المشتهي وذلك
بمعنى الحرارة واللين، ألا ترى أن الذين لا يعرفون الشرع لا يفصلون بينهما، والقصد
منه السفاح
ص 243
لان النسل لا تصور له في هذا المحل، والحرمة هنا أبلغ من الحرمة في الفعل الذي يكون
في القبل فإنها حرمة لا تنكشف بحال، وإنما يبدل اسم المحل فقط فيكون الحكم ثابتا
بدلالة النص لا بطريق القياس. وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول هو قاصر في المعنى الذي
وجب الحد باعتباره، فإن الحد مشروع زجرا وذلك عند دعاء الطبع إليه ودعاء الطبع إلى
مباشرة هذا الفعل في القبل من الجانبين فأما في الدبر دعاء الطبع إليه من جانب
الفاعل لا من جانب المفعول به، وفي باب العقوبات تعتبر صفة الكمال لما في النقصان
من شبهة العدم، ثم في الزنا إفساد الفراش وإتلاف الولد حكما فإن الولد الذي يتخلق
من الماء في ذلك المحل لا يعرف له والد لينفق عليه، وبالنساء عجز عن الاكتساب
والانفاق ولا يوجد هذا المعنى في الدبر فإنما فيه مجرد تضييع الماء بالصب في غير
محل منبت وذلك قد يكون مباحا بطريق العزل، فعرفنا أنه دون الزنا في المعنى الذي
لاجله أوجب الحد ولا معتبر بتأكد الحرمة في حكم العقوبة، ألا ترى أن حرمة الدم
والبول آكد من حرمة الخمر، ثم الحد يجب بشرب الخمر ولا يجب بشرب الدم والبول
للتفاوت في معنى دعاء الطبع من الوجه الذي قررنا، ولهذا قلنا في قوله عليه السلام:
لا قود إلا بالسيف: إن القصاص يجب إذا حصل القتل بالرمح أو النشابة، لان لعبارة
النص معنى معلوما في اللغة وذلك المعنى كامل في القتل بالرمح والنشابة، وقد عرفنا
أن المراد بذكر السيف القتل به لا قبضه وإنما السيف آلة يحصل به القتل فإذا حصل
بآلة أخرى مثل ذلك القتل تعلق حكم القصاص به بدلالة النص لا بالقياس. ثم قال أبو
حنيفة رحمه الله: المعنى المعلوم بذكر السيف لغة أنه ناقض للبنية بالجرح وظهور أثره
في الظاهر والباطن، فلا يثبت هذا الحكم فيما لا يماثله في هذا المعنى وهو الحجر
والعصا. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: المعنى المعلوم به لغة أن النفس لا تطيق
احتماله ودفع أثره فيثبت الحكم بهذا المعنى في القتل بالمثقل ويكون ثابتا بدلالة
النص، قالا لان القتل نقض البنية وذلك بفعله لا تحتمله البنية مع صفة السلامة وهذا
المعنى في المثقل أظهر، فإن إلقاء حجر الرحى والاسطوانة على إنسان لا تحتمله البنية
بنفسها والقتل بالجرح لا تحتمله البنية بواسطة السراية، وإذا كان هذا أتم في المعنى
المعتبر كان ثبوت الحكم فيه
ص 244
بدلالة النص، كما في الضرب مع التأفيف. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: المعتبر في باب
العقوبات صفة الكمال في السبب لما في النقصان من شبهة العدم، والكمال في نقض البنية
بما يكون عاملا في الظاهر والباطن جميعا، فاعتبار مجرد عدم احتمال البنية إياه مع
صفة السلامة ظاهرا لتعدية الحكم غير مستقيم فيما يندرئ بالشبهات وإنما يستقيم ذلك
فيما يثبت بالشبهات كالدية والكفارة، فأما ما يندرئ بالشبهات ويعتبر فيه المماثلة
في الاستيفاء بالنص لا بد من اعتبار صفة الكمال فيه، ودليل النقصان حكم الذكاة فإنه
يختص بما ينقض البنية ظاهرا وباطنا، ولا يعتبر فيه مجرد عدم احتمال البنية إياه،
وما قاله إن الجرح وسيلة كلام لا معنى له فإننا لا نعني بفعل القتل الجناية على
الجسم ولا على الروح، إذ لا تتصور بالجناية على الروح من العباد، والجسم تبع
والمقصود هو النفس الذي هو عبارة عن الطبائع، فالجناية عليها إنما تتم بإراقة الدم
وذلك بعمل يكون جارحا مؤثرا في الظاهر والباطن جميعا، ولهذا كان الغرز بالابرة
موجبا للقصاص لانه مسيل للدم مؤثر في الظاهر والباطن إلا أنه لا يكون موجبا الحل في
الذكاة، لان المعتبر هنا تسييل جميع الدم المسفوح ليتميز به الطاهر من النجس، ولهذا
اختص بقطع الحلقوم والاوداج عند التيسر، ولم يثبت حكم الحل بالنار أيضا لانها تؤثر
في الظاهر حسما فلا يتميز به الطاهر من النجس بل يمتنع به من سيلان الدم. ومن ذلك
أن النبي عليه السلام لما أوجب الكفارة على الاعرابي بجنايته المعلومة بالنص لغة
أوجبنا على المرأة أيضا مثل ذلك بدلالة النص لا بالقياس، واحبنا في الافطار بالاكل
والشرب الكفارة ايضا بدلالة النص لا بالقياس، فإن الاعرابي سأل عن جنايته بقوله:
هلكت وأهلكت. وقد علمنا أنه لم يرد الجناية على البضع لان فعل الجماع حصل منه في
محل مملوك له فلا يكون جناية لعينه، ألا ترى أنه لو كان ناسيا لصومه لم يكن ذلك منه
جناية أصلا، فعرفنا أن جنايته كان على الصوم باعتبار تفويت ركنه الذي يتأدى به، وقد
علم أن ركن الصوم الكف
ص 245
عن اقتضاء شهوة البطن و(شهوة) الفرج ووجوب الكفارة للزجر عن الجناية على الصوم، ثم
دعاء الطبع إلى اقتضاء شهوة البطن أظهر منه إلى اقتضاء شهوة الفرج ووقت الصوم وقت
اقتضاء شهوة البطن عادة يعني النهر، فأما اقتضاء شهوة الفرج يكون بالليالي عادة
فكان الحكم ثابتا بدلالة النص من هذا الوجه، فإن الجماع آلة لهذه الجناية كالاكل
وقد بينا أنه لا معتبر بالآلة في المعنى الذي يترتب الحكم عليه وهو نظير قوله عليه
السلام: لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه وكما يصير معتقا
بالشراء يصير معتقا بقبول الهبة والصدقة فيه، لان الشراء سبب لما يتم به علة العتق
وهو الملك وقبول الهبة مثل الشراء في ذلك، ثم الجناية على الصوم بهذه الصفة تتم
منها بالتمكين كما تتم به من الرجل بالايلاج، ومعنى دعاء الطبع في جانبها كهو في
جانب الرجل فالكفارة تلزمها بدلالة النص لا بالقياس. ومن ذلك قوله عليه السلام للذي
أكل ناسيا في شهر رمضان: إن الله أطعمك وسقاك فتم على صومك ثم أثبتنا هذا الحكم في
الذي جامع ناسيا بدلالة النص، فإن تفويت ركن الصوم حقيقة لا يختلف بالنسيان والعمد
ولكن النسيان معنى معلوم لغة وهو أنه محمول عليه طبعا على وجه لا صنع له فيه ولا
لاحد من العباد فكان مضافا إلى من له الحق، والجماع في حالة النسيان مثل الاكل في
هذا المعنى فيثبت الحكم فيه بدلالة النص لا بالقياس، إذ المخصوص من القياس لا يقاس
عليه غيره. فإن قيل: الجماع ليس نظير الاكل من كل وجه، فإن وقت أداء الصوم وقت
الاكل عادة ووقت الاسباب المفضية إلى الاكل من التصرف في الطعام وغير ذلك فيبتلى
فيه بالنسيان غالبا وهو ليس بوقت الجماع عادة، والصوم أيضا يضعفه عن الجماع ولا
يزيد في شهوته كما يزيد في شهوة الاكل فينبغي أن يجعل الجماع من الناسي في الصوم
بمنزلة الاكل من الناسي في الصلاة لان كل واحد منهما نادر.
ص 246
قلنا: نعم في الجماع هذا النوع من التقصير ولكن فيه زيادة في دعاء الطبع إليه من
حيث إن الشبق قد يغلب على المرء على وجه لا يصبر عن الجماع وعند غلبة الشبق يذهب من
قلبه كل شيء سوى ذلك المقصود ولا يوجد مثل هذا الشبق في الاكل فتكون هذه الزيادة
بمقابلة ذلك القصور حتى تتحقق المساواة بينهما، ولكن لا تعتبر هذه الزيادة عند ذكر
الصوم في حق الكفارة، لان غلبة الشبق بهذه الصفة تنعدم بإباحة الجماع ليلا، ولانه
لا يكون إلا نادرا وصفة الكمال لا تبتنى على ما هو نادر وإنما تبتنى على ما هو
المعتاد، وإنما طريق القياس في هذا ما سلكه الشافعي رحمه الله حيث جعل المكره
والخاطئ بمنزلة الناسي باعتبار وصف العذر، فإن الكره والخطأ غير النسيان صورة
ومعنى، فالحكم الثابت بالنسيان لا يكون ثابتا بالخطأ والكره بدلالة النص بل يكون
بطريق القياس، وهو قياس فاسد، فإن الكره مضاف إلى غير من له الحق وهو المكره،
والخطأ مضاف إلى المخطئ أيضا وهو مما يتأتى عنه التحرز في الجملة فلم يكن في معنى
ما لا صنع للعباد فيه أصلا، ألا ترى أن المريض يصلي قاعدا ثم لا تلزمه الاعادة إذا
برأ بخلاف المقيد. ومن ذلك أن الله تعالى لما أوجب القضاء على المفطر في رمضان
بعذر، وهو المريض والمسافر، أوجبنا على المفطر بغير عذر بدلالة النص لا بالقياس،
فإن في الموضعين ينعدم أداء الصوم الواجب في الوقت والمرض والسفر عذر في الاسقاط لا
في الايجاب، فعرفنا أن وجوب القضاء عليهما لانعدام الاداء في الوقت بالفطر لغة وقد
وجد هذا المعنى بعينه إذا أفطر من غير عذر فيلزمه القضاء بدلالة النص. ثم قال
الشافعي رحمه الله: بهذا الطريق أوجبت الكفارة في قتل العمد، لان النص جاء بإيجاب
الكفارة في قتل الخطأ ولكن الخطأ عذر مسقط، فعرفنا أن وجوب الكفارة باعتبار أصل
القتل دون صفة الخطأ وذلك موجود في العمد وزيادة فتجب الكفارة في العمد بدلالة
النص، وبهذا الطريق أوجبت الكفارة في الغموس، لان في المعقود على أمر في المستقبل
وجبت الكفارة باعتبار جنايته، لما في الاقدام على الحنث من هتك حرمة اسم الله تعالى
وذلك موجود في الغموس وزيادة، فإنها محظورة لاجل الاستشهاد بالله تعالى كاذبا، وهذا
هو صفة الحظر في المعقودة على أمر في المستقبل بعد الحنث. ولكنا نقول: هذا
الاستدلال
ص 247
فاسد، لان الواجب بالنص الكفارة وهي اسم لعبادة فيها معنى العقوبة تبعا من حيث إنها
أوجبت جزاء ولكنها تتأدى بفعل هو عبادة والمقصود بها نيل الثواب ليكون مكفرا للذنب
وإنما يحصل ذلك بما هو عبادة كما قال تعالى: *(إن الحسنات يذهبن السيئات)* فيستدعي
سببا مترددا بين الحظر والاباحة، لان العقوبات المحضة سببها محظور محض والعبادات
المحضة سببها ما لا حظر فيه، فالمتردد يستدعي سببا مترددا وذلك في قتل الخطأ، فإنه
من حيث الصورة رمى إلى الصيد أو إلى الكافر وهو المباح، وباعتبار المحل يكون محظورا
لانه أصاب آدميا محترما، فأما العمد فهو محظور محض فلا يصلح سببا للكفارة، وكذلك
المعقودة على أمر في المستقبل فيها تردد، فإن تعظيم المقسم به في الابتداء وذلك
مندوب إليه ولهذا شرعت في بيعة نصرة الحق وفيها معنى الحظر أيضا، قال تعالى: *(ولا
تجعلوا الله عرضة لايمانكم)* وقال تعالى: *(واحفظوا أيمانكم)* والمراد الحفظ
بالامتناع عن اليمين فلكونها دائرة بين الحظر والاباحة تصلح سببا للكفارة، فأما
الغموس محظور محض لان الكذب بدون الاستشهاد بالله تعالى حرام ليس فيه شبهة الاباحة
فمع الاستشهاد بالله تعالى أولى، فكان الغموس باعتبار هذا المعنى كالزنا والردة فلا
يصلح سببا لوجوب الكفارة. ولا يدخل عليه القتل بالمثقل على قول أبي حنيفة فإنه موجب
لكفارة وإن كان محظورا محضا لان المثقل ليس بآلة للقتل بأصل الخلقة وإنما هو آلة
للتأديب، ألا ترى أن إجراءه للتأديب به والمحل قابل للتأديب مباح فلتمكن الشبهة من
حيث الآلة يصير الفعل في معنى الدائر ولهذا لم يجعله موجبا للعقوبة فجعله موجبا
للكفارة، ولا يدخل على هذا قتل الحربي المستأمن (عمدا) فإنه غير موجب للكفارة وإن
لم تمكن فيه شبهة حتى لم يكن موجبا للقصاص، لان امتناع وجوب القصاص هناك لانعدام
المماثلة بين المحلين لا لشبهة ولهذا يجب القصاص على المستأمن بقتل المستأمن. نص
عليه في السير الكبير. وإن كان امتناع وجوب القصاص لاجل الشبهة فتلك الشبهة في
المحل لا في الفعل وفي القصاص مقابلة المحل بالمحل ولهذا لا تجب الدية مع وجوب
القصاص، فأما الكفارة جزاء الفعل ولا شبهة في الفعل هناك بل هو محظور
ص 248
محض فلم يكن موجبا للكفارة، فأما في المثقل الشبهة في الفعل باعتبار أن الآلة ليست
بآلة القتل والفعل لا يتأتى بدون الآلة فاعتبرنا هذه الشبهة في القصاص والكفارة
جميعا. وقال الشافعي رحمه الله أيضا: يجب سجود السهو على من زاد أو نقص في صلاته
عمدا لان وجوب السجود عليه عند السهو باعتبار تمكن النقصان في صلاته وذلك موجود في
العمد وزيادة فيثبت الحكم فيه بدلالة النص. وقلنا: هذا الاستدلال فاسد لان السبب
الموجب بالنص شرعا هو السهو على ما قال عليه الصلاة والسلام: لكل سهو سجدتان بعد
السلام والسهو ينعدم إذا كان عامدا. فهذا هو المثال في بيان الثابت بدلالة النص.
والنوع الرابع وهو المقتضى، وهو عبارة عن زيادة على المنصوص عليه يشترط تقديمه
ليصير المنظوم مفيدا أو موجبا للحكم وبدونه لا يمكن إعمال المنظوم فكان المقتضى مع
الحكم مضافين إلى النص ثابتين به الحكم بواسطة المقتضى بمنزلة شراء القريب يثبت به
الملك والعتق على أن يكونا مضافين إلى الشراء العتق بواسطة الملك، فعرفنا أن الثابت
بطريق الاقتضاء بمنزلة الثابت بدلالة النص لا بمنزلة الثابت بطريق القياس، إلا أن
عند المعارضة الثابت بدلالة النص أقوى، لان النص يوجبه باعتبار المعنى لغة والمقتضى
ليس من موجباته لغة وإنما ثبت شرعا للحاجة إلى إثبات الحكم به ولا عموم للمقتضى
عندنا. وقال الشافعي: للمقتضى عموم لان المقتضى بمنزلة المنصوص في ثبوت الحكم به
حتى كان الحكم الثابت به كالثابت بالنص لا بالقياس فكذلك في إثبات صفة العموم فيه
فيجعل كالمنصوص. ولكنا نقول: ثبوت المقتضى للحاجة والضرورة حتى إذا كان المنصوص
مفيدا للحكم بدون المقتضى لا يثبت المقتضى لغة ولا شرعا والثابت بالحاجة يتقدر
بقدرها ولا حاجة إلى إثبات صفة العموم للمقتضى فإن الكلام مفيد بدونه، وهو نظير
تناول الميتة لما أبيح للحاجة تتقدر بقدرها وهو سد الرمق وفيما وراء ذلك من الحمل
والتمول والتناول إلى الشبع لا يثبت حكم الاباحة فيه، بخلاف المنصوص فإنه عامل
بنفسه فيكون بمنزلة حل الذكية يظهر في حكم التناول وغيره مطلقا، يوضحه أن المقتضى
تبع للمقتضي
ص 249
فإنه شرطه ليكون مفيدا وشرط الشيء يكون تبعه ولهذا يكون ثبوته بشرائط المنصوص فلو
جعل هو كالمنصوص خرج من أن يكون تبعا، والعموم حكم صيغة النص خاصة فلا يجوز إثباته
في المقتضى. وعلى هذا الاصل قلنا إذا قال لغيره أعتق عبدك عني على ألف درهم فأعتقه
وقع العتق عن الآمر وعليه الالف، لان الامر بالاعتاق عنه يقتضي تمليك العين منه
بالبيع ليتحقق الاعتاق عنه وهذا المقتضى يثبت متقدما ويكون بمنزلة الشرط لانه وصف
في المحل والمحل للتصرف كالشرط فكذا ما يكون وصفا للمحل، وإنما يثبت بشرط العتق لا
بشرط البيع مقصودا حتى يسقط اعتبار القبول فيه، ولو كان الآمر ممن لا يملك الاعتاق
لم يثبت البيع بهذا الكلام، ولو صرح المأمور بالبيع بأن قال بعته منك بألف درهم
وأعتقته لم يجز عن الآمر، وبهذا تبين أن المقتضى ليس كالمنصوص عليه فيما وراء موضع
الحاجة. وعلى هذا قال أبو يوسف إذا قال أعتق عبدك عني بغير شيء فأعتقه يقع العتق عن
الآمر، لان الملك بطريق الهبة يثبت هنا بمقتضى العتق فيثبت على شرائط العتق ويسقط
اعتبار شرطه مقصودا وهو القبض كما يسقط اعتبار القبول في البيع بل أولى، لان القبول
ركن في البيع والقبض شرط في الهبة فلما سقط اعتبار ما هو الركن لكونه ثابتا بمقتضى
العتق فلان يسقط اعتبار ما هو شرط أولى، ولهذا لو قال أعتق عبدك عني على ألف (درهم)
ورطل من خمر يقع العتق عن الآمر، ولو أكره المأمور على أن يعتق عبده عنه بألف درهم
يقع العتق عن الآمر، وبيع المكره فاسد والقبض شرط لوقوع الملك في البيع الفاسد ثم
سقط اعتباره إذا كان بمقتضى العتق. وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا المقتضى تبع
للمقتضي والقبض فعل ليس من جنس القول ولا هو دونه حتى يمكن إثباته تبعا له وبدون
القبض الملك لا يحصل بالهبة فلا يمكن تنفيذ العتق عن الآمر، ولا وجه لجعل العبد
قابضا نفسه للآمر لانه لا يسلم له بالعتق شيء من ملك المولى وإنما يبطل ملك المولى
ويتلاشى بالاعتاق، ولا وجه لاسقاط القبض هنا بطريق الاقتضاء لان العمل بالمقتضى
شرعي
ص 250
فإنما يعمل في إسقاط ما يحتمل السقوط دون ما لا يحتمل وشرط القبض لوقوع الملك في
الهبة لا يحتمل السقوط بحال بخلاف القبول في البيع فقد يحتمل السقوط، ألا ترى أن
الايجاب والقبول جميعا يحتمل السقوط حتى ينعقد البيع بالتعاطي من غير قول، فلان
يحتمل مجرد القبول السقوط كان أولى. ولو قال بعت منك هذا الثوب بعشرة فاقطعه فقطعه
ولم يقل شيئا كان البيع بينهما تاما، والفاسد من البيع معتبر بالجائز في الحكم لان
الفاسد لا يمكن أن يجعل أصلا يتعرف حكمه من نفسه، وإذا كان ما ثبت الملك به في
البيع الجائز يحتمل السقوط إذا كان ضمنا للعتق فكذلك ما يثبت به الملك في البيع
الفاسد. وبيان ما ذكرنا من الخلاف بيننا وبين الشافعي فيما إذا قال إن أكلت فعبدي
حر ونوى طعاما دون طعام، عنده تعمل نيته لان الاكل يقتضي مأكولا وذلك كالمنصوص عليه
فكأنه قال إن أكلت طعاما، ولما كان للمقتضي عموم على قوله عمل فيه نيته التخصيص،
وعندنا لا تعمل لانه لا عموم للمقتضى ونية التخصيص فيما لا عموم له لغو بخلاف ما لو
قال إن أكلت طعاما، وعلى هذا لو قال إن شربت أو قال إن لبست أو قال إن ركبت. وعلى
هذا قلنا لو قال إن اغتسلت الليلة ونوى الاغتسال من الجنابة لم تعمل نيته، بخلاف ما
لو قال إن اغتسلت غسلا فإن هناك نيته تعمل فيما بينه وبين الله تعالى. وكذلك لو
قال: إن اغتسل الليلة في هذه الدار وقال عنيت فلانا لم تعمل نيته لان الفاعل ليس في
لفظه وإنما يثبت بطريق الاقتضاء، بخلاف ما لو قال إن اغتسل أحد في هذه الدار
الليلة. وعلى هذا لو قال لامرأته اعتدي ونوى الطلاق فإن وقوع الطلاق بطريق الاقتضاء
لانها لا تعتد قبل تقدم الطلاق فيصير كأنه قال طلقتك فاعتدي ولكن ثبوته بطريق
الاقتضاء، ولهذا كان الواقع رجعيا ولا تعمل نيته الثلاث فيه، وبعد البينونة والشروع
في العدة يقع الطلاق بهذا اللفظ. وربما يستدل الشافعي رحمه الله بهذا في أن المقتضى
كالمنصوص عليه، وهو خارج على ما ذكرنا فإنا نجعله كالمنصوص عليه بقدر الحاجة وهو أن
يصير المنصوص مفيدا موجبا للحكم فأما فيما وراء ذلك فلا.
ص 251
قال رضي الله عنه: وقد رأيت لبعض من صنف في هذا الباب أنه ألحق المحذوف بالمقتضى
وسوى بينهما، فخرج على هذا الاصل قوله تعالى: *(واسأل القرية)* وقال المراد الاهل،
يثبت ذلك بمقتضى الكلام لان السؤال للتبيين فإنما ينصرف إلى من يتحقق منه البيان
ليكون مفيدا دون من لا يتحقق منه، وقال عليه السلام: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان
وما استكرهوا عليه ولم يرد به العين لانه يتحقق مع هذه الاعذار فلو حمل عليه كان
كذبا ولا إشكال أن رسول الله (ص) كان معصوما عن ذلك، فعرفنا بمقتضى الكلام أن
المراد الحكم. ثم حمله الشافعي على الحكم في الدنيا والآخرة قولا بالعموم في
المقتضى وجعل ذلك كالمنصوص عليه ولو قال رفع عن أمتي حكم الخطأ كان ذلك عاما، ولهذا
الاصل قال لا يقع طلاق الخاطئ والمكره ولا يفسد الصوم بالاكل مكرها. وقلنا لا عموم
للمقتضي وحكم الآخرة وهو الاثم مراد بالاجماع وبه ترتفع الحاجة ويصير الكلام مفيدا
فيبقى معتبرا في حكم الدنيا. كذلك قوله عليه الصلاة والسلام: الاعمال بالنيات ليس
المراد عين العمل فإن ذلك متحقق بدون النية وإنما المراد الحكم ثبت ذلك بمقتضى
الكلام. فقال الشافعي يعم ذلك حكم الدنيا والآخرة فيما يستدعي القصد والعزيمة من
الاعمال قولا بعموم المقتضى. وقلنا المراد حكم الآخرة وهو أن ثواب العمل بحسب
النية، لان ثبوته بطريق الاقتضاء ولا عموم للمقتضى. وعندي أن هذا سهو من قائله فإن
المحذوف غير المقتضى لان من عادة أهل اللسان حذف بعض الكلام للاختصار إذا كان فيما
بقي منه دليل على المحذوف، ثم ثبوت هذا المحذوف من هذا الوجه يكون لغة وثبوت
المقتضى يكون شرعا لا لغة، وعلامة الفرق بينهما أن المقتضى تبع يصح باعتباره
المقتضي إذا صار كالمصرح به والمحذوف ليس بتبع بل عند التصريح به ينتقل الحكم إليه
لا أن يثبت ما هو المنصوص، ولا شك أن ما ينقل غير ما يصحح المنصوص. وبيان هذا أن في
قوله أعتق عبدك عني محذوفا ويثبت التمليك بطريق الاقتضاء ليصح المنصوص، وفي قوله:
*(واسأل القرية)* الاهل محذوف للاختصار
ص 252
فإن فيما بقي من الكلام دليل عليه وعند التصريح بهذا المحذوف يتحول السؤال عن
القرية إلى الاهل لا أن يتحقق به المنصوص. وكذلك في قوله عليه الصلاة والسلام رفع
عن أمتي الخطأ فإن عند التصريح بالحكم يتحول الرفع إلى الحكم لا إلى ما وقع التنصيص
عليه مع المحذوف. وكذلك قوله عليه السلام: الاعمال بالنيات وإنما لم يثبت العموم
هنا لان المحذوف بمنزلة المشترك في أنه يحتمل كل واحد من الامرين على الانفراد ولا
عموم للمشترك فأما أن يجعل المحذوف ثابتا بمقتضى الكلام فلا. ويتبين من هذا أن ما
كان محذوفا ليس بطريق الاقتضاء فإنه بمنزلة الثابت لغة فإن كان بحيث يحتمل العموم
يثبت فيه صفة العموم. وعلى هذا ما إذا قال لامرأته أنت طالق أو طلقتك ونوى ثلاثا
فإن على قول الشافعي تعمل نيته، لان قوله طالق يقتضي طلاقا وذلك كالمنصوص عليه
فتعمل نيته الثلاث فيه قولا بالعموم في المقتضى. وقلنا نحن إن قوله طالق نعت فرد
ونعت الفرد لا يحتمل العدد والنية إنما تعمل إذا كان المنوي من محتملات اللفظ ولا
يمكن إعمال نية العدد باعتبار المقتضى لانه لا عموم للمقتضي، ولان المقتضى لا يجعل
كالمصرح به في أصل الطلاق فكيف يجعل كالمصرح به في عدد الطلاق؟ وبيانه أنه إذا قال
لامرأته زوري أباك أو حجي ونوى به الطلاق لم تعمل نيته ومعلوم أن ما صرح به يقتضي
ذهابا لا محالة، ثم لم يجعل بمنزلة قوله اذهبي حتى تعمل نيته الطلاق فيه، يقرره أن
قوله طالق نعت للمرأة فإنما يعتبر فيه من المقتضى ما يكون قائما بالموصوف والطلاق
من هذا اللفظ مقتضى هو ثابت بالواصف شرعا فإنه لا يكون صادقا في هذا الوصف بدون
طلاق يقع عليها فيجعل موقعا ليتحقق هذا الوصف منه صدقا، ومثل هذا المقتضى لا يكون
كالمصرح به شرعا بمنزلة الحال الذي هو قائم بالمخاطب وهو بعده عن موضع الحج وعن
الزيارة فإن اقتضاء الذهاب لما كان لذلك المعنى لا لما هو قائم بالمنصوص لا يجعل
كالمصرح به، بخلاف قوله أنت بائن فإن ذلك نعت فرد نصا حتى لا يسع نية العدد فيه لو
نوى اثنتين ولكن البينونة تتصل بالمحل في الحال، وهي نوعان: قاطعة للملك، وقاطعة
للحل
ص 253
الذي هو وصف المحل، فنية الثلاث إنما تميز أحد نوعي ما تناوله نص كلامه فأما الطلاق
لا يتصل بالمحل موجبا حكمه في الحال بل حكم انقطاع الملك به يتأخر إلى انقضاء العدة
وحكم انقطاع الحل به يتأخر إلى تمام العدة وإنما يوصف المحل للحال به لانعقاد العلة
(فيه) موجبا للحكم في أوانه وانعقاد العلة لا يتنوع فلم يكن المنوي من محتملات لفظه
أصلا. وعلى هذا قوله طلقتك فإن صيغة الخبر عن فعل ماض بمنزلة قوله ضربتك، فالمصدر
القائم بهذه الصيغة يكون ماضيا أيضا فلا يسع فيه معنى العموم بوجه، بخلاف قوله طلقي
نفسك فإن صيغته أمر بفعل في المستقبل لطلب ذلك الفعل منها، فالمصدر القائم بهذه
الصيغة يكون مستقبلا أيضا وذلك الطلاق فيكون بمنزلة غيره من أسماء الاجناس في
احتمال العموم والخصوص فبدون النية يثبت به أخص الخصوص على احتمال الكل، فإذا نوى
الثلاث عملت نيته لانه من محتملات كلامه، وإذا نوى اثنتين لم تعمل لانه لا احتمال
للعدد في صيغة كلامه، وعلى هذا لو قال إن خرجت ونوى الخروج إلى مكان بعينه لم تعمل
نيته ولو نوى السفر تعمل نيته، لان السفر نوع من أنواع الخروج وهو ثابت باعتبار
صيغة كلامه، ألا ترى أن الخروج لغير السفر بخلاف الخروج للسفر في الحكم، فأما
المكان فليس من صيغة كلامه في شيء وإن كان الخروج يكون إلى مكان لا محالة فلم تعمل
نية التخصيص فيه لما لم يكن من مقتضى صيغة الكلام بخلاف الاول. وكذلك لو قال إن
ساكنت فلانا ونوى المساكنة في مكان بعينه لم تعمل نيته أصلا، ولو نوى المساكنة في
بيت واحد تعمل نيته باعتبار أنه نوى أتم ما يكون من المساكنة فإن أعم ما يكون من
المساكنة في بلدة، والمطلق من المساكنة في عرف الناس في دار واحدة، وأتم ما يكون من
المساكنة في بيت واحد، فهذه النية ترجع إلى بيان نوع المساكنة الثابتة بصيغة كلامه
بخلاف تعين المكان. فإن قيل: أليس أنه لو قال لولد له أم معروفة وهو في يده: هذا
ابني ثم جاءت أمه بعد موت المدعي فصدقته وادعت ميراثها منه بالنكاح فإنه يقضى لها
بالميراث،
ص 254
ومعلوم أن النكاح بينهما بمقتضى دعوى النسب ثم يجعل كالتصريح به حتى يثبت النكاح
صحيحا ويجعل قائما إلى موت الزوج فيكون لها الميراث، فلو كان ثبوت المقتضى باعتبار
الحاجة فقط لما ثبتت هذه الاحكام لانعدام الحاجة فيها؟ قلنا: ثبوت النكاح هنا
بدلالة النص لا بمقتضاه، فإن الولد اسم مشترك إذ لا يتصور ولد فينا إلا بوالد
ووالدة، فالتنصيص على الولد يكون تنصيصا على الوالد والوالدة دلالة بمنزلة التنصيص
على الاخ يكون كالتنصيص على أخيه إذ الاخوة لا تتصور إلا بين شخصين وقد بينا أن
الثابت بدلالة النص يكون ثابتا بمعنى النص لغة لا أن يكون ثابتا بطريق الاقتضاء مع
أن اقتضاء النكاح هنا كاقتضاء الملك في قوله أعتق عبدك عني على ألف (درهم) وبعدما
ثبت العقد بطريق الاقتضاء يكون باقيا لا باعتبار دليل يبقى بل لانعدام دليل المزيل،
فعرفنا أنه منته بينهما بالوفاة وانتهاء النكاح بالموت سبب لاستحقاق الميراث.
وبعدما بينا هذه الحدود نقول: الثابت بمقتضى النص لا يحتمل التخصيص لانه لا عموم له
والتخصيص فيما فيه احتمال العموم، والثابت بدلالة النص لا يحتمل التخصيص أيضا لان
التخصيص بيان أن أصل الكلام غير متناول له وقد بينا أن الحكم الثابت بالدلالة ثابت
بمعنى النص لغة، وبعدما كان معنى النص متناولا له لغة لا يبقى احتمال كونه غير
متناول له وإنما يحتمل إخراجه من أن يكون موبجا للحكم فيه بدليل يعترض وذلك يكون
نسخا لا تخصيصا. وأما الثابت بإشارة النص فعند بعض مشايخنا رحمهم الله لا يحتمل
الخصوص أيضا لان معنى العموم فيما يكون سياق الكلام لاجله، فأما ما تقع الاشارة
إليه من غير أن يكون سياق الكلام له فهو زيادة على المطلوب بالنص ومثل هذا لا يسع
فيه معنى العموم حتى يكون محتملا للتخصيص. قال رضي الله عنه: والاصح عندي أنه يحتمل
ذلك، لان الثابت بالاشارة كالثابت بالعبارة من حيث إنه ثابت بصيغة الكلام، والعموم
باعتبار الصيغة، فكما أن الثابت بعبارة النص يحتمل التخصيص فكذلك الثابت بإشارته.
ص 255
فصل وقد عمل قوم في النصوص بوجوه هي فاسدة عندنا.

فمنها ما قال بعضهم إن التنصيص
على الشيء باسم العلم يوجب التخصيص وقطع الشركة بين المنصوص وغيره من جنسه في الحكم لانه لو لم يوجب ذلك لم يظهر للتخصيص فائدة وحاشا أن يكون شيء من كلام صاحب الشرع
غير مفيد، وأيد هذا قوله (ص) الماء من الماء فالانصار فهموا التخصيص من ذلك حتى
استدلوا به على نفي وجوب الاغتسال بالاكسال وهم كانوا أهل اللسان. وهذا فاسد عندنا
بالكتاب والسنة، فإن الله تعالى قال: *(منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا
فيهن أنفسكم)* ولا يدل ذلك على إباحة الظلم في غير الاشهر الحرم، وقال تعالى: *(ولا
تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله)* ثم لا يدل ذلك على تخصيص الاستثناء
بالغد دون غيره من الاوقات في المستقبل. وقال (ص): لا يبولن أحدكم في الماء الدائم
ولا يغتسلن فيه من الجنابة ثم لا يدل ذلك على التخصيص بالجنابة دون غيرها من أسباب
الاغتسال، والامثلة لهذا تكثر. ثم إن عنوا بقولهم إن التخصيص يدل على قطع المشاركة
وهو أن الحكم يثبت بالنص في المنصوص خاصة فأحد لا يخالفهم في هذا، فإن عندنا فيما
هو من جنس المنصوص الحكم يثبت بعلة النص لا بعينه، وإن عنوا أن هذا التخصيص يوجب
نفي الحكم في غير المنصوص فهو باطل، لانه غير متناول له أصلا فكيف يوجب نفيا أو
إثباتا للحكم فيما لم يتناوله؟ ثم سياق النص لايجاب الحكم ونفي الحكم ضده فلا يجوز
أن يكون من واجبات نص الايجاب، ولان المذهب عند فقهاء الامصار جواز تعليل النصوص
لتعدية الحكم بها إلى الفروع فلو كان التخصيص موجبا نفي الحكم في غير المنصوص لكان
التعليل باطلا لانه يكون ذلك قياسا في مقابلة النص، ومن لا يجوز
ص 256
العمل بالقياس فإنما لا يجوزه لاحتمال فيه بين أن يكون صوابا أو خطأ لا لنص يمنع
منه، بمنزلة العمل بخبر الفاسق فإنه لا يعمل بخبره لضعف في سنده لا لنص في خبره
مانع من العمل به، والانصار إنما استدلوا بلام التعريف التي هي مستغرقة للجنس أو
المعهود في قوله عليه الصلاة والسلام: الماء من الماء ونحن نقول به في الحكم الثابت
لعين الماء، وفائدة التخصيص عندنا أن يتأمل المستنبطون في علة النص فيثبتون الحكم
بها في غير المنصوص عليه من المواضع لينالوا به درجة المستنبطين وثوابهم وهذا لا
يحصل إذا ورد النص عاما متناولا للجنس. ويحكى عن الثلجي رحمه الله أنه كان يقول هذا
إذا لم يكن المنصوص عليه باسم العلم محصورا بعدد نصا نحو خبر الربا فإن كان محصورا
بعدد فذلك يدل على نفي الحكم فيما سواها، لان في إثبات الحكم فيما سواها إبطال
العدد المنصوص وذلك لا يجوز فبهذه الواسطة يكون موجبا للنفي. واستدل بقوله (ص): خمس
فواسق يقتلن في الحل والحرم وبقوله: أحلت لنا ميتتان ودمان فإن ذلك يدل على نفي
الحكم فيما عدا المذكور. والصحيح أن التنصيص لا يدل على ذلك في شيء من المواضع لما
بينا من المعاني. ثم ذكر العدد لبيان الحكم بالنص ثابت في العدد المذكور فقط وقد
بينا أن في غير المذكور إنما يثبت الحكم بعلة النص لا بالنص فلا يوجب ذلك إبطال
العدد المنصوص. ومنها ما قاله الشافعي رحمه الله إن التنصيص على وصف في المسمى
لايجاب الحكم يوجب نفي ذلك الحكم عند عدم ذلك الوصف بمنزلة ما لو نص على نفي الحكم
عند عدم الوصف. وعندنا النص موجب للحكم عند وجود ذلك الوصف ولا يوجب نفي ذلك الحكم
عند انعدامه أصلا. وبيان هذا في قوله تعالى: *(من فتياتكم المؤمنات)* فإن عنده
إباحة نكاح الامة (لما كان مقيدا بصفة الايمان بالنص أوجب النفي بدون هذا الوصف فلا
يجوز نكاح الامة الكتابية، وعندنا لا يوجب ذلك ولهذا جوزنا نكاح الامة) الكتابية،
وقال تعالى: *(من نسائكم اللاتي دخلتم بهن)* فقال الشافعي رحمه الله: لما ورد حرمة
الربيبة بسبب الدخول بامرأة مقيدة بوصف وهي أن تكون من نسائه أوجب ذلك نفي الحرمة
عند عدم
ص 257
ذلك الوصف فلا تثبت الحرمة بالزنا. وعندنا لا يوجب النص نفي الحكم عند انعدام الوصف
فتثبت الحرمة بالزنا، وفي الحديث أن النبي (ص) فرض صدقة الفطر على كل حر وعبد من
المسلمين فعلى مذهبه أوجب هذا النص نفي الحكم عند عدم الوصف فلا تجب الصدقة عن
العبد الكافر. وعندنا لا يوجب ذلك ولكن النص المختتم بهذا الوصف لا يتناول الكفار،
والنص المطلق وهو قوله: أدوا عن كل حر وعبد يتناولهم لانه غير مختتم بهذا التقييد
فيجب الاداء عن العبد الكافر بذلك النص، وهو بمنزلة من يقول لغيره أعتق عبيدي ثم
يقول أعتق البيض من عبيدي فلا يوجب ذلك النهي عن إعتاق غير البيض بعدما كان ثابتا
باللفظ المطلق. واستدل الشافعي رحمه الله لاثبات مذهبه عليه السلام: في خمس من
الابل السائمة شاة فإن ذلك يوجب نفي الزكاة في غير السائمة فكأنه قال ولا زكاة في
غير السائمة إذ لو لم يجعل كذلك فلا بد من إيجاب الزكاة في العوامل بخبر المطلق وهو
قوله عليه السلام: في خمس من الابل شاة وبالاجماع بيننا وبينكم لا تجب الزكاة في
غير السائمة، ولما نهى رسول الله (ص) عن ربح ما لم يضمن أفهمنا ذلك إباحة ربح ما قد
ضمن كأنه نص عليه، ولان النص لما أوجب الحكم في المسمى المشتمل على أوصاف مقيدا
بوصف من تلك الاوصاف صار ذلك الوصف بمنزلة الشرط لايجاب الحكم على معنى أنه لا يثبت
الحكم بالنص بعد وجود المسمى ما لم يوجد ذلك الوصف، فلولا ذكر الوصف لكان الحكم
ثابتا قبل وجوده وهذا أمارة الشرط، فإن قوله لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار لا
يكون موجبا وقوع الطلاق ما لم تدخل، وبدون هذا الشرط كان موجبا للطلاق قبل الدخول.
وقد يكون الوصف بمنزلة الشرط حتى لو قال لها إن دخلت الدار راكبة فأنت طالق كان
الركوب شرطا وإن كان مذكورا على سبيل الوصف لها. قال وقد ثبت من أصلي أن التقييد
بالشرط يفهمنا نفي الحكم عند عدم الشرط
ص 258
فكذلك التقييد بالوصف، وهذا بخلاف الاسم فإنه مذكور للتعريف لا لتعليق الحكم به
(فأما الوصف الذي هو ذكر للحال وهو معنوي يصلح أن يكون لتعليق الحكم به) فيكون
موجبا نفي الحكم عند عدمه دلالة، ولان بالاسم يثبت الحكم ابتداء كما ثبت بالعلة
بخلاف الوصف الذي هو في معنى الشرط. وسنقرر هذا الفرق في الفصل الثاني. واستدل
علماؤنا بقوله تعالى: *(وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك)* ثم التقييد
بهذا الوصف لا يوجب نفي الحل في اللاتي لم يهاجرن معه بالاتفاق، وقال تعالى: *(ولا
تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا)* ثم التقييد بهذا الوصف لا يفيد إباحة الاكل بدون
هذا الوصف، وقال تعالى: *(إنما أنت منذر من يخشاها)*. *(إنما تنذر من اتبع الذكر)*
وهو نذير للبشر، فعرفنا أن التقييد بالوصف لا يفهمنا نفي المنصوص عليه عند عدم ذلك
الوصف، ثم أكثر ما فيه أن الوصف المؤثر بمنزلة العلة للحكم ولا خلاف أن الحكم يثبت
بالعلة إذا وجدت فإن العلة لا توجب نفي الحكم عند انعدامها فكذلك الوصف المذكور في
النص يوجب ثبوت الحكم عند وجوده ولا يوجب نفي الحكم عند عدمه، ولهذا جعلنا الوصف
المؤثر إذا كان منصوصا عليه بمنزلة العلة للحكم الثابت بالنص فقلنا صفة السوم
بمنزلة العلة لايجاب الزكاة في خمس من الابل، ولهذا يضاف الزكاة إليها فيقال زكاة
السائمة، والواجبات تضاف إلى أسبابها حقيقة بمنزلة من يقول لغيره أعتق عبدي الصالح
أو طلق امرأتي البذيئة، فإن ذكر هذا الوصف دليل على أنه هو المؤثر للحكم. وبهذا
يتبين أن الوصف ليس في معنى الشرط كما زعم، وقوله إن دخلت راكبة إنما جعلنا الركوب
شرطا لكونه معطوفا على الشرط فإن حكم المعطوف حكم المعطوف عليه، فأما الوصف المقرون
بالاسم يكون بمنزلته والاسم ليس في معنى الشرط لاثبات الحكم فكذلك الوصف المقرون
به. ولو كان شرطا فعندنا تعليق الحكم بالشرط يوجب وجود الحكم
ص 259
عند وجود الشرط ولا يوجب النفي عند عدم الشرط بل ذلك باق على ما كان قبل التعليق
على ما نبينه، وإنما لا نوجب الزكاة في الحوامل باعتبار نص آخر وهو قوله عليه
السلام: لا زكاة في العوامل والحوامل أو باعتبار أن صفة السوم صار بمنزلة العلة في
حكم الزكاة على ما قررنا. وعلى هذا قال زفر رحمه الله فيمن له أمة ولدت ثلاثة أولاد
في بطون مختلفة فقال: الاكبر ابني يثبت نسب الآخرين منه، لان التنصيص على الدعوة
مقيدا بالاكبر لا موجب له في نفي نسب الآخرين، وقد تبين ثبوت نسب الاكبر منه أنها
كانت أم ولد له من ذلك الوقت وأم الولد فراش للمولى يثبت نسب ولدها منه بغير دعوة.
وعندنا لا يثبت نسب الآخرين منه لا للتقييد بالوصف فإنه لو أشار إلى الاكبر وقال
هذا ابني لا يثبت نسب الآخرين منه أيضا، ومعلوم أن التنصيص بالاسم لا يوجب نفي
الحكم في غير المسمى بذلك الاسم ولكن إنما لا يثبت نسبهما منه لان السكوت عن البيان
بعد تحقق الحاجة دليل النفي ويفترض على المرأة دعوة النسب فيما هو مخلوق من مائه،
لانه كما لا يحل له أن يدعي نسب (ما هو غير مخلوق من مائه لا يحل له أن ينفي نسب)
المخلوق من مائه، وقبل الدعوة النسب يثبت منه على سبيل الاحتمال حتى يملك نفيه
وإنما يصير مقطوعا به على وجه لا يملك نفيه بالدعوة فكان ذلك فرضا عليه. وإذا تقرر
بهذا تحقق الحاجة إلى البيان كان سكوته عن دعوة نسب الآخرين دليل النفي لا تخصيصه
الاكبر بالدعوة فلهذا لا يثبت نسبهما منه. وعلى هذا قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا
قال شهود الوارث لا نعلم له وارثا غيره في أرض كذا إن الشهادة تقبل، لان هذه
الزيادة لا توجب عليهم توارث آخر في غير ذلك الموضع، فكأنهم سكتوا عن ذكر هذه
الزيادة وقالوا لا نعلم له وارثا غيره. وأبو يوسف ومحمد قالا: لا تقبل هذه الشهادة
لا لانها توجب ذلك ولكن لتمكن التهمة فإنه يحتمل أنهما خصا ذلك المكان للتحرز عن
الكذب وعلمهما بوارث آخر له في غير ذلك المكان ولكن الشهادة ترد بالتهمة، فأما
الحكم
ص 260
لا يثبت نفيا ولا إيجابا بالتهمة بل بالحجة المعلومة. وأبو حنيفة رحمه الله يقول:
كما تحتمل هذه الزيادة ما قالا تحتمل المبالغة في التحرز عن الكذب باعتبار أنهما
تفحصا في ذلك الموضع دون سائر المواضع، ويحتمل تحقيق المبالغة في نفي وارث آخر أي
لا نعلم له وارثا آخر في موضع كذا مع أنه مولده ومنشؤه فأحرى أن لا يكون له وارث
آخر في موضع آخر، وبمثل هذا المحتمل لا تتمكن التهمة ولا يمنع العمل بشهادتهما.
ومنها أن الحكم متى تعلق بشرط بالنص فعند الشافعي رحمه الله ذلك النص يوجب انعدام
الحكم عند انعدام الشرط كما يوجب وجود الحكم عند وجود الشرط، وعندنا لا يوجب النص
ذلك بل يوجب ثبوت الحكم عند وجود الشرط فأما انعدام الحكم عند عدم الشرط فهو باق
على ما كان قبل التعليق. وبيان هذا في قوله تعالى: *(ومن لم يستطع منكم طولا أن
ينكح المحصنات المؤمنات)* الآية، فإن النص لما ورد بحل نكاح الامة معلقا بشرط عدم
طول الحرة جعل الشافعي ذلك كالتنصيص على حرمة نكاح الامة عند وجود طول الحرة.
وعندنا النص لا يوجب ذلك ولكن الحكم بعد هذا النص عند وجود طول الحرة على ما كان
عليه أن لو لم يرد هذا النص، وقال تعالى: *(ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات
بالله)* قال الشافعي لما تعلق بالنص درء العذاب عنها بشرط أن تأتي بكلمات اللعان
كان ذلك تنصيصا على إقامة الحد عليها إذا لم تأت بكلمات اللعان. وعندنا لا يوجب ذلك
حتى لا يقام عليها الحد وإن امتنعت من كلمات اللعان. وجه قول الشافعي أن التعليق
بالشرط يؤثر في الحكم دون السبب على اعتبار أنه لولا التعليق لكان الحكم ثابتا فإن
قوله لعبده أنت حر موجب عتقه في الحال لولا قوله إن دخلت الدار فبالتعليق يتأخر
نزول العتق ولا ينعدم أصل السبب. وبهذا تبين أن التعليق كما يوجب الحكم عند وجود
الشرط يوجب نفي الحكم قبل وجود الشرط، بمنزلة التأجيل وبمنزلة خيار الشرط في البيع
فإنه يدخل على الحكم دون السبب حتى يتأخر الحكم إلى سقوط الخيار مع قيام السبب، وهو
نظير التعليق الحسي، فإن تعليق القنديل بحبل من
ص 261
سماء البيت يمنع وصوله إلى موضع من الارض لولا التعليق ولا يعدم أصله، وبهذا فارق
الشرط العلة فإن الحكم يثبت ابتداء بوجود العلة فلا يكون انعدام الحكم قبل وجود
العلة مضافا إلى العلة باعتبار أنها نفت الحكم قبل وجودها بل انعدم لانعدام سببه،
فأما الشرط فمغير للحكم بعد وجود سببه فكان مانعا من ثبوت الحكم قبل وجوده كما كان
مثبتا وجود الحكم عند وجوده، وعلى هذا الاصل لم يجوز تعليق الطلاق والعتاق بالملك،
لان تأثير الشروط في منع حكم لولاه كان موجودا بسببه، ولولا التعليق هنا كان لغوا،
وشرط قيام الملك في المحل عند التعليق لان السبب لا يتحقق بدون الملك، وتأثير الشرط
في تأخير الحكم إلى وجوده بعد تقرر السبب بمنزلة الاجل، فيشترط قيام الملك في المحل
عند التعليق ليتقرر السبب ثم يتأخر الحكم إلى وجود الشرط بالتعليق، ولهذا لم يجوز
نكاح الامة لمن قدر على نكاح الحرة، لان الحل معلق بشرط عدم طول الحرة بالنص وذلك
يوجب نفي الحكم عند وجود طول الحرة كما يوجب إثباته عند عدم طول الحرة. هذا هو
المفهوم من الكلام فإن من يقول لغيره إن دخل عبدي الدار فأعتقه يفهم منه ولا تعتقه
إن لم يدخل الدار، والعمل بالنصوص واجب بمنظومها ومفهومها، ولهذا جوز تعجيل الكفارة
بعد اليمين قبل الحنث، لان السبب هو اليمين ولهذا تضاف الكفارة إليها، والاصل أن
الواجبات تضاف إلى أسبابها، فأما الحنث شرط يتعلق وجوب الاداء به، ويتضح هذا فيما
إذا قال إن فعلت كذا فعلي كفارة يمين، والتعليق بالشرط بمنزلة التأجيل عنده فلا
يمنع جواز التعجيل قبله بمنزلة الدين المؤجل إلا أن هذا في المالي دون البدني، لان
تأثير التعليق بالشرط في تأخير وجوب الاداء في الحقوق المالية الوجوب ينفصل عن
الاداء من حيث إن الواجب قبل الاداء مال معلوم كما في حقوق العباد، فأما في البدني
الواجب فعل يتأدى به فلا يتحقق انفصاله عن الاداء، وبالتعليق بالشرط يتأخر وجوب
الاداء فيتأخر تقرر السبب أيضا ضرورة، لان أحدهما لا ينفصل عن الآخر. ونظيره من
حقوق العباد الشراء مع الاستئجار، فإن بشراء العين يثبت الملك ويتم السبب قبل فعل
التسليم، وبالاستئجار لا يثبت الملك في المنفعة قبل الاستيفاء لانها لا تبقى وقتين،
ولا يتصور تسليمها بعد وجودها بل يقترن التسليم بالوجود، فإنما تصير معقودا عليها
مملوكا بالعقد عند الاستيفاء
ص 262
فكذلك في حقوق الله تعالى يفصل بين المالي والبدني من هذا الوجه، ألا ترى أن من قال
لله علي أن أتصدق بدرهم رأس الشهر فتصدق به في الحال جاز لهذا المعنى. ودليلنا على
أن التعليق بالشرط لا يوجب نفي الحكم قبله من الكتاب قوله تعالى: *(فإذا أحصن فإن
أتين بفاحشة)* الآية، ولا خلاف أنه يلزمها الحد المذكور جزاء على الفاحشة وإن لم
تحصن، وقال تعالى: *(فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا)* وحكم الكتابة لا ينتفي قبل هذا
الشرط. ثم حقيقة الكلام تبتنى على معرفة عمل الشرط فنقول: التعليق بالشرط تصرف في
أصل العلة لا في حكمها من حيث إنه يتبين بالتعليق أن المذكور ليس بسبب قبل وجود
الشرط ولكن بعرض أن يصير سببا عند وجوده، فأوان وجود الحكم ابتداء حال وجود الشرط
بمنزلة ما ذكره الخصم في العلة إلا أن فرق ما بينهما أن الحكم يوجد عند وجود الشرط
ابتداء ولكنه يضاف إلى العلة ثبوتا به وإلى الشرط وجودا عنده، فكما أن قبل وجود
العلة انعدام الحكم أصل غير مضاف إلى العلة فكذلك قبل وجود الشرط. وبيان هذا الكلام
من وجهين: أحدهما أن السبب هو الايقاع والمعلق بالشرط يمين وهي غير الايقاع وينتقض
اليمين إذا صار إيقاعا بوجود الشرط، والثاني أن صحة الايجاب باعتبار ركنه ومحله،
ألا ترى أن شطر البيع كما لا يكون سببا لانعدام تمام الركن فكذلك بيع الحر لا يكون
سببا لانه غير مضاف إلى محله، فكذلك في الطلاق والعتاق شطر الكلام الذي هو إيجاب
(كما لا يكون سببا فالكلام الذي هو إيجاب) ما لم يتصل بالمحل لا يكون سببا،
والتعليق بالشرط يمنع وصوله إلى المحل بالاتفاق ولكنه بعرض أن يتصل بالمحل إذا وجد
الشرط كما أن شرط البيع بعرض أن يصير سببا إذا وجد الشطر الثاني. وكذلك شطر النصاب
ليس بسبب للزكاة بمنزلة النصاب الكامل في ملك من ليس بأهل لوجوب الزكاة عليه وهو
الكافر ولكن بعرض أن يصير سببا. ونظيره من الحسيات الرمي فإن نفسه ليس بقتل ولكنه
بعرض أن يصير قتلا إذا اتصل بالمحل، وإذا كان هناك مجن منع وصوله إلى المحل فأحد لا
يقول بأن المجن مانع لما هو قتل ولكن لما كان يصير قتلا لو اتصل بالمحل عند
ص 263
عدم المجن فكذلك التعليق بالشرط في الحكميات. وبهذا تبين أنه وهم حيث جعل التعليق
كالتأجيل فإن التأجيل لا يمنع وصول السبب بالمحل لان سبب وجوب التسليم في الدين
والعين جميعا العقد، ومحل الدين الذمة، والتأجيل لا يمنع ثبوت الدين في الذمة ولا
ثبوت الملك في المبيع وإنما يؤخر المطالبة وهو محتمل السقوط فيسقط الاجل بالتعجيل
ويتحقق أداء الواجب، وهنا التعليق يمنع الوصول إلى المحل وقبل الوصول (إلى المحل)
لا يتم السبب ولا يتصور أداء الواجب قبل تمام السبب، ولهذا لم نجوز التكفير قبل
الحنث لان أدنى درجات السبب أن يكون طريقا إلى الحكم واليمين مانع من الحنث الذي
تعلق به وجوب الكفارة على ما قرره، فإنها موجبة للبر والبر يفوت بالحنث وفي الحنث
نقض اليمين، كما قال تعالى: *(ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها)* ويستحيل أن يقال في
شيء إنه سبب لحكم لا يثبت ذلك الحكم إلا بعد انتقاضه، فعرفنا أنه بعرض أن يصير سببا
عند وجود الشرط، فلهذا كان مضافا إليه وقبل أن يصير سببا لا يتحقق الاداء، وفرقه
بين المالي والبدني باطل، فإن بعد تمام السبب الاداء جائز في البدني والمالي جميعا
وإن تأخر وجوب الاداء كالمسافر إذا صام في شهر رمضان، وهذا لان الواجب لله على
العبد فعل هو عبادة، فأما المال ومنافع البدن فإنه يتأدى الواجب بهما فكما أن في
البدن مع تملق وجوب الاداء بالشرط لا يكون السبب تاما فكذلك في المالي، بخلاف حقوق
العباد فإن الواجب للعباد مال لا فعل لان المقصود ما ينتفع منه العبد أو يندفع عنه
الخسران به وذلك بالمال دون الفعل، ولهذا إذا ظفر بجنس حقه فاستوفى تم الاستيفاء
وإن لم يوجد فعل هو أداء ممن عليه. فأما حقوق الله تعالى واجبة بطريق العبادة ونفس
المال ليس بعبادة إنما العبادة اسم لعمل يباشره العبد بخلاف هوى النفس لابتغاء
مرضاة الله تعالى وفي هذا المالي والبدني سواء، وهذا التعليق لا يشبه بتعليق
القنديل بالحبل لان القنديل كان موجودا بذاته قبل التعليق، فعرفنا أن عمل التعليق
في تفريغ المكان الذي كان مشغولا به من الارض قبل التعليق، وهنا قبل التعليق ما كان
الحكم موجودا فكان تأثير التعليق في تأخير السببية للحكم إلى وجود
ص 264
الشرط، ولهذا جوزنا تعليق الطلاق والاعتاق بالملك لان المتعلق قبل وجود الشرط يمين
ومحل الالتزام باليمين الذمة فأما الملك في المحل إنما يشترط لايجاب الطلاق
والاعتاق، وهذا الكلام للحال ليس بإيجاب ولكنه بعرض أن يصير إيجابا، فإن تيقنا
بوجود الملك في المحل حين يصير إيجابا بوصوله إلى المحل صححنا التعليق باعتباره،
وإن لم نتيقن بذلك بأن كان الشرط مما لا أثر له في إثبات الملك في المحل شرطنا
الملك في الحال ليصير كلامه إيجابا عند وجود الشرط باعتبار الظاهر وهو أن ما علم
ثبوته فالاصل بقاؤه ولكن بهذا الظاهر دون الملك الذي يتيقن به عند وجود الشرط فصحة
التعليق باعتبار ذلك النوع دليل على صحة التعليق باعتبار هذا الملك بطريق أولى،
وليس التعليق كاشتراط الخيار في البيع فإن ذلك لا يدخل على أصل السبب لان البيع لا
يحتمل الحظر، وفي جعله متعلقا بشرط لا ندري أن يكون أو لا يكون حظر تام، ولهذا كان
القياس أن لا يجوز البيع مع خيار الشرط ولكن السنة جوزت ذلك لحاجة الناس باعتبار أن
الخيار دخل على الحكم دون السبب فإن الحكم يحتمل التأخير عن السبب فجعل الحكم
متعلقا بشرط إسقاط الخيار مع ثبوت السبب لان السبب محتمل للفسخ فيما هو المقصود وهو
دفع الضرر يحصل بهذا الطريق وهو أقل غررا، فأما الطلاق والعتاق فأصل السبب فيهما
يحتمل التعليق بالشرط فإذا وجد التعليق نصا يثبت الحظر الكامل فيهما بأن تعلق
صيرورتهما سببا بوجود الشرط. والدليل على الفرق من جهة الحكم أنه لو حلف أن لا يبيع
فباع بشرط الخيار حنث في يمينه. ولو حلف أن لا يطلق امرأته فعلق طلاقها بالشرط لم
يحنث ما لم يوجد الشرط، وعلى هذا جوزنا نكاح الامة لمن له طول الحرة لان التعليق
بالشرط لا يوجب نفي الحكم قبله فيجعل الحل ثابتا قبل وجود هذا الشرط بالآيات
الموجبة لحل الاناث للذكور. وهكذا نقول في قوله إن دخل عبدي الدار
ص 265
فأعتقه فإن ذلك لا يوجب نفي الحكم قبله حتى إنه لو كان قال أولا أعتق عبدي ثم قال
أعتقه إن دخل الدار جاز له أن يعتقه قبل الدخول بالامر الاول ولا يجعل هذا الثاني
نهيا عن الاول. (فإن قيل: لا خلاف أن الحكم المتعلق بالشرط يثبت عند وجود الشرط،
وإذا كان الحكم ثابتا هنا قبل وجود الشرط فكيف يتصور ثبوته عند وجود الشرط إذ لا
يجوز أن يكون الحكم الواحد ثابتا في الحال ومتعلقا بشرط منتظر؟ قلنا: حل الوطئ ليس
بثابت قبل النكاح ولكنه متعلق بشرط النكاح في الآيات التي ليس فيها هذا الشرط
الزائد ومتعلق بها وبهذا الشرط في هذه الآية، وإنما يتحقق ما ادعى من التضاد فيما
هو موجود فأما فيما هو متعلق فلا، لانه يجوز أن يكون الحكم متعلقا بشرط وذلك الحكم
بعينه متعلقا بشرط آخر قبله أو بعده، ألا ترى أن من قال لعبده إذا جاء يوم الخميس
فأنت حر ثم قال إذا جاء يوم الجمعة فأنت حر كان الثاني صحيحا وإن كان مجئ يوم
الجمعة لا يكون إلا بعد مجئ يوم الخميس حتى لو أخرجه من ملكه فجاء يوم الخميس ثم
أعاده إلى ملكه فجاء يوم الجمعة يعتق باعتبار التعليق الثاني). فإن قيل: مع هذا لا
يجوز أن يكون الشيء الواحد كمال الشرط لاثبات حكم وهو بعض الشرط لاثبات ذلك الحكم
أيضا، وما قلتم يؤدي إلى هذا فإن عقد النكاح كمال الشرط في سائر الآيات سوى قوله
تعالى: *(ومن لم يستطع منكم طولا)* وهو بعض الشرط في هذه الآية إذا قلتم بأن الحكم
يثبت ابتداء عند وجود هذا الشرط. قلنا: إنما لا يجوز هذا بنص واحد فأما بنصين فهو
جائز، ألا ترى أنه لو قال لعبده أنت حر إن أكلت ثم قال أنت حر إن أكلت وشربت صح كل
واحد منهما ويكون الاكل كمال الشرط بالتعليق الاول وبعض الشرط في التعليق الثاني
حتى لو باعه فأكل في غير ملكه ثم اشتراه فشرب فإنه يعتق لتمام الشرط في التعليق
الثاني وهو في ملكه. وعلى هذا الاصل قال زفر رحمه الله: إن التعليق لا يبطل بفوات
المحل، حتى لو قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ثم طلقها ثلاثا لم يبطل
التعليق،
ص 266
ولو قال لامته إن دخلت الدار فأنت حرة ثم أعتقها لم يبطل التعليق حتى إذا ارتدت
ولحقت بدار الحرب فسبيت وملكها ثم دخلت الدار عتقت، قال: لان التعليق بالشرط يمنع
الوصول إلى المحل والمتعلق بالشرط لا يكون طلاقا ولا سببا للطلاق قبل وجود الشرط،
واشتراط المحلية لتمام السبب وثبوت الحكم عند الوصول إليه بمنزلة اشتراط الملك فكما
لا يبطل التعليق بعد صحته بانعدام الملك في المحل بأن باع العبد أو أبان المرأة
وانقضت عدتها فكذلك لا يبطل بانعدام المحلية، وهذا لان توهم المحلية عند وجود الشرط
قائم كتوهم الملك، وإذا كان يصح ابتداء التعليق باعتبار توهم الملك عند وجود الشرط
في هذه اليمين لان الملك الموجود عند التعليق متوهم البقاء عند وجود الشرط لا متيقن
البقاء فلان يبقى التعليق صحيحا باعتبار هذا التوهم كان أولى، ألا ترى أن التعليق
بالملك يبقى باعتبار هذا المعنى حتى إذا قال لاجنبية كلما تزوجتك فأنت طالق ثلاثا
فتزوجها وطلقت ثلاثا ثم تزوجها ثانيا بعد زوج تطلق أيضا. ولكنا نقول بانعدام المحل
يبطل التعليق، لان صحة التعليق باعتبار المحلوف به وهو ما يصير طلاقا عند وجود
الشرط ولا تصور لذلك بدون المحل وبالتطليقات الثلاث تحقق فوات المحل، لان الحكم
الاصلي للطلاق زوال صفة الحل عن المحل ولا تصور لذلك بعد حرمة المحل بالتطليقات
الثلاث، فلانعدام المحلوف به من هذا الوجه يبطل التعليق لا لان المتعلق بالشرط
تطليقات ذلك الملك. وتحقيق هذا أنه لا بد لصحة التعليق من المحل (أيضا) حتى لا يصح
التعليق بالعتق مضافا إلى البهيمة، إلا أن قيام الملك في المحل لا يشترط لان
التعليق بالشرط ليس هو الطلاق المملوك، وإذا كانت صحة التعليق تستدعي المحل لم يبق
صحيحا بعد فوات المحل لان فيما يرجع إلى المحل البقاء بمنزلة الابتداء وتوهم
المحلية على الوجه الذي قال لا يعتبر لصحة التعليق في الابتداء فإنه لو قال لاجنبية
إن دخلت الدار فأنت طالق أو قال ذلك للمطلقة ثلاثا لم يصح التعليق وإن كان يتوهم
الملك والمحلية عند وجود الشرط فإذا لم يعتبر ذلك لصحة التعليق في الابتداء، لا
يعتبر لبقائه صحيحا، بخلاف ما إذا صرح بالاضافة إلى الملك، فإن اعتبار ذلك التعليق
بالتيقن بالملك والمحلية عند
ص 267
وجود الشرط. يوضحه أن المتعلق وإن لم تكن التطليقات المملوكة له ولكن في التعليق
شبهة ذلك على معنى أنه ما صح إلا باعتباره، بمنزلة الغصب فإن موجبه رد العين ولكن
فيه شبهة وجوب ضمان القيمة به، وقد اعتبرنا الشبهة حتى أثبتنا الملك عند تقرر
الضمان من وقت الغصب، فهنا أيضا لا بد من اعتبار هذه الشبهة، وبعدما أوقع الثلاث قد
ذهبت التطليقات المملوكة كلها فلهذا لا يبقى التعليق. ومن هذه الجملة ما قال
الشافعي رحمه الله: إن المطلق محمول على المقيد سواء كان في حادثة واحدة أو في
حادثتين، لان الشيء الواحد لا يجوز أن يكون مطلقا ومقيدا، والمطلق ساكت والمقيد
ناطق فكان هو أولى بأن يجعل أصلا ويبني المطلق عليه فيثبت الحكم مقيدا بهما كما في
نصوص الزكاة، فإن المطلق عن صفة السوم محمول على المقيد بصفة السوم في حكم الزكاة
بالاتفاق. وكذلك نصوص الشهادة، فإن المطلق عن صفة العدالة محمول على المقيد بها في
اشتراط العدالة في الشهادات كلها، وكذلك نصوص الهدايا فإن المطلق عن التبليغ وهو
هدي المتعة والقران محمول على المقيد بالتبليغ وهو جزاء الصيد، يعني قوله: *(هديا
بالغ الكعبة)* حتى يجب التبليغ في الهدايا كلها. وكذلك إذا كان في حادثتين لان
التقييد بالوصف بمنزلة التعليق بالشرط على ما قررنا، وكما أوجب نفي الحكم فيه قبل
وجود الشرط أوجب في نظيره استدلالا به، ولهذا شرط الايمان في الرقبة في كفارة
اليمين والظهار استدلالا بكفارة القتل، لان الكل كفارة بالتحرير فيكون بعضها نظير
بعض، بمنزلة الطهارة فإن تقييد الايدي بالمرافق في الوضوء جعل تقييدا في نظيره وهو
التيمم لان كل واحد منهما طهارة، وهذا بخلاف مقادير الكفارات والعبادات من الصلوات
وغيرها لان ثبوتها بالنصوص باسم العلم لا بالصفة التي تجري مجرى الشرط، وقد بينا أن
اسم العلم لا يوجب نفي الحكم قبل وجوده في المسمى به فكيف يوجب ذلك في غيره؟ ولا
يلزمني على هذا التتابع في صوم كفارة اليمين فإني لا أوجبه استدلالا بالمقيد
بالتتابع في صوم الظهار والقتل لان هذا المطلق يعارض فيه نظائره من النصوص، فمنها
مقيد بصفة التتابع ومنها مقيد بصفة التفرق يعني صوم المتعة، قال تعالى: *(وسبعة إذا
رجعتم)* حتى لو لم يفرق الصوم فيها لم يجز فلا يكون حملها على أحدهما بأولى من
الآخر ولاجل هذا التعارض أثبتنا فيها حكم الاطلاق. ثم هذا يلزمكم فإنكم أثبتم صفة
التتابع
ص 268
في صوم كفارة اليمين اعتبارا بالصوم المقيد بالتتابع في باب الكفارات فذلك يلزمكم
اشتراط صفة الايمان في الرقبة في كفارة اليمين اعتبارا بنظيرها في كفارة القتل.
وعندنا هذا أبعد من الاول لان العلة واحدة هناك والحكم مختلف، وهنا الحكم والعلة
جميعا مختلف فكيف يمكن تعرف حكم من حكم آخر أو تعرف علة من علة أخرى؟ ثم الدليل لنا
من الكتاب قوله تعالى: *(لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)* وفي الرجوع إلى
المقيد ليعرف منه حكم المطلق إقدام على هذا المنهي عنه لما فيه من ترك الابهام فيما
أبهم الله تعالى، وإليه أشار ابن عباس رضي الله عنهما قال: أبهموا ما أبهم الله
واتبعوا ما بين. وقال عمر رضي الله عنه: أم المرأة مبهمة فأبهموها. وإنما أراد
قوله: *(وأمهات نسائكم)* فإن حرمتها مطلقة وحرمة الربيبة مقيدة بقوله تعالى: *(من
نسائكم اللاتي دخلتم بهن)* وهذا غير مذكور على وجه الشرط بل على وجه الزيادة في
تعريف النساء فإن النساء المذكورة في قوله: *(وأمهات نسائكم)* معرف بالاضافة إلينا،
وفي قوله تعالى: *(من نسائكم اللاتي دخلتم بهن)* زيادة تعريف أيضا، بمنزلة قول
الرجل عبد امرأتي وعبد امرأتي البيضاء فلا يكون ذلك في معنى الشرط حتى يكون دليلا
على نفي الحكم قبل وجوده كما توهمه الخصم. وكذلك في كفارة القتل ذكر صفة الايمان في
الرقبة لتعريف الرقبة المشروعة كفارة لا على وجه الشرط. وإنما لا يجزئ الكافر لانها
غير مشروعة لا لانعدام شرط الجواز فيما هو مشروع كما لا تجزئ إراقة الدم وتحرير نصف
الرقبة، لان الكفارة ما عرفت إلا شرعا، فما ليس بمشروع لا يحصل به التكفير، وفي
الموضع الذي هو مشروع يحصل به التكفير، ولا شك أن انعدام كونه مشروعا في موضع لا
يوجب نفي كونه مشروعا في موضع آخر، ولو كان موجبا لذلك لم يجز العمل به مع النص
المطلق الذي هو دليل كونه مشروعا. وبهذا تبين أن فيما ذهب إليه قولا بتناقض الادلة
الشرعية أو ترك العمل ببعضها. ثم للمطلق حكم وهو الاطلاق، فإن للاطلاق معنى معلوما
وله حكم معلوم وللمقيد كذلك، فكما لا يجوز حمل المقيد على المطلق لاثبات حكم
الاطلاق فيه لا يجوز حمل المطلق على المقيد لاثبات حكم التقييد فيه، ولئن سلمنا
ص 269
أن القيد المذكور بمنزلة الشرط وأنه يوجب نفي الحكم قبله فيه فلا يوجب ذلك في غيره
ما لم تثبت المماثلة (بينهما ولا مماثلة) في المعنى بين أم المرأة وابنتها، لان أم
المرأة تبرز إلى زوج ابنتها قبل الزفاف عادة، والربيبة تمنع من ذلك بعد الزفاف فضلا
عما قبله. وكذلك لا مماثلة بين سبب كفارة القتل وبين سائر أسباب الكفارة فإن القتل
بغير حق لا يكون في معنى الجناية كالظهار أو اليمين، ولا مماثلة في الحكم أيضا،
فالرقبة عين في كفارة القتل ولا مدخل للاطعام فيها، والصوم مقدر بشهرين متتابعين،
وفي الظهار للاطعام مدخل عند العجز عن الصوم، وفي اليمين يتخير بين ثلاثة أشياء
ويكفي إطعام عشرة مساكين، وعند العجز يتأدى بصوم ثلاثة أيام، فمع انعدام المماثلة
في السبب والحكم كيف يجعل ما يدل على نفي الحكم في كفارة القتل دليلا على النفي في
كفارة اليمين والظهار، وإذا كان هو لا يعتبر الصوم في كفارة اليمين بالصوم في سائر
الكفارات في صفة التتابع لانعدام المماثلة فكيف يستقيم منه اعتبار الرقبة في كفارة
اليمين بالرقبة في كفارة القتل؟ وما ذكره من العذر باطل، فالمطلق في كفارة إنما
يحمل على المقيد في الكفارة أيضا وليس في صوم الكفارة مقيد بالتفرق، فإن صوم المتعة
ليس بكفارة بل هو نسك بمنزلة إراقة الدم الذي كان الصوم خلفا عنه، ثم هو غير مقيد
بالتفرق فإنه وإن فرقه قبل الرجوع لا يجوز ولكنه مضاف إلى وقت بحرف إذا، كما قال
تعالى: *(وسبعة إذا رجعتم)* والمضاف إلى وقت لا يجوز قبل ذلك الوقت كصوم رمضان قبل
شهود الشهر وصلاة الظهر قبل زوال الشمس. وعندنا شرط التتابع فيه ليس بحمل المطلق
على المقيد بل بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وقراءته
لا تكون دون خبر يرويه، وقد كان مشهور إلى عهد أبي حنيفة رحمه الله، وبالخبر
المشهور تثبت الزيادة على النص على ما نبينه. فإن قيل: لماذا لم تجعلوا قراءته كنص
آخر ثم عملتم بهما جميعا كما فعلتم في صدقة الفطر حيث أوجبتم الصدقة عن العبد
الكافر بالنص المطلق، وعن العبد المسلم بالنص المقيد؟ قلنا: لان الحكم هنا واحد وهو
تأدي الكفارة بالصوم فبعدما صار مقيدا
ص 270
بنص لا يبقى ذلك الحكم بعينه مطلقا. فأما في صدقة الفطر النصان في بيان السبب دون
الحكم وأحد السببين لا ينفي السبب الآخر، فيجوز أن يكون ملك العبد المطلق سببا
لوجوب صدقة الفطر بأحد النصين، وملك العبد المسلم سببا بالنص الآخر. وعلى هذا قال
أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله يجوز التيمم بكل ما هو من جنس الارض باعتبار النص
المطلق وهو قوله عليه السلام: جعلت لي الارض مسجدا وطهورا وبالتراب باعتبار النص
المقيد وهو قوله عليه السلام: التراب طهور المسلم لان المحل مختلف وإن كان الحكم
واحدا فيستقيم إثبات المحلية باعتبار كل نص في شيء آخر، فأما التيمم إلى المرافق
فلم نشترطه بحمل المطلق على المقيد، إذ لو جاز ذلك لكان الاولى إثبات التيمم في
الرأس والرجل اعتبارا بالوضوء، وإنما عرفنا ذلك بنص فيه وهو حديث الاسلع أن النبي
(ص) علمه التيمم ضربتين ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين وهو مشهور يثبت
بمثله التقييد، فإذا صار مقيدا لا يبقى ذلك الحكم بعينه مطلقا. فأما صفة السائمة في
الزكاة فهو ثابت بالنص المقيد وإنما لا نوجب الزكاة في غير السائمة لنص موجب للنفي
وهو قوله عليه السلام لا زكاة في العوامل لا باعتبار حمل المطلق على المقيد.
واشتراط العدالة في الشهادات باعتبار وجوب التوقف (وهو قوله تعالى: *(إن جاءكم فاسق
بنبأ فتبينوا)* أي توقفوا) في خبر الفاسق بالنص، وباعتبار قوله تعالى: *(ممن ترضون
من الشهداء)* والفاسق لا يكون مرضيا، لا بحمل المطلق على المقيد. واشتراط التبليغ
في الهدايا باعتبار النص الوارد فيه وهو أن الله تعالى بعد ذكر الهدايا قال: *(ثم
محلها إلى البيت العتيق)* أو بمقتضى اسم الهدي فإنه اسم لما يهدي إلى موضع. وبمجرد
اسم الكفارة لا تثبت المماثلة بين واجبات متفاوتة في أنفسها ليتعرف حكم بعضها من
بعض، كما لا تثبت المماثلة بين الصلوات في مقدار الركعات والشرائط نحو الخطبة
والجماعة في صلاة الجمعة حتى يعتبر بعضها ببعض وإن جمعها اسم الصلاة. وصار حاصل
الكلام أن النفي ضد الاثبات، فالنص الموجب لاثبات حكم لا يوجب ضد ذلك الحكم بعبارته