ص 271
ولا بإشارته ولا بدلالته ولا بمقتضاه، لانه ليس من جملة ما لا يستغنى عنه حتى يكون
مقتضيا إياه، فإثبات النفي به بعد هذا لا يكون إلا إثبات الحكم بلا دليل والاحتجاج
بلا حجة وذلك باطل على ما نثبته في بابه إن شاء الله تعالى. ونحن إذا قلنا يثبت
بالمطلق حكم الاطلاق وبالمقيد حكم التقييد فقد عملنا بكل دليل بحسب الامكان،
والتفاوت بين العمل بالدليل وبين العمل بلا دليل لا يخفى على كل متأمل. ومن هذا
الجنس ما قاله الشافعي رحمه الله: إن الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده، والنهي عن
الشيء يكون أمرا بضده، وقد بينا فساد هذا الكلام فيما سبق. ومن هذه الجملة قول بعض
العلماء: إن العام يختص بسببه، وعندنا هذا على أربعة أوجه: أحدها: أن يكون السبب
منقولا مع الحكم نحو ما روي أن النبي (ص) سها فسجد، وأن ماعزا زنى فرجم، ونحو قوله
تعالى: *(إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه)* وهذا يوجب تخصيص الحكم بالسبب
المنقول لانه لما نقل معه فذلك تنصيص على أنه بمنزلة العلة للحكم المنصوص، وكما لا
يثبت الحكم بدون علية لا يبقى بدون العلة مضافا إليها بل البقاء بدونها يكون مضافا
إلى علة أخرى. والثاني: أن لا يكون السبب منقولا ولكن المذكور مما لا يستقل بنفسه
ولا يكون مفهوما بدون السبب المعلوم به، فهذا يتقيد به أيضا نحو قول الرجل أليس لي
عندك كذا فيقول بلى، أو يقول أكان من الامر كذا فيقول نعم أو أجل. فهذه الالفاظ لا
تستقل بنفسها مفهومة المعنى فتتقيد بالسؤال المذكور الذي كان سببا لهذا الجواب حتى
جعل إقرارا بذلك، وباعتبار أصل اللغة بلى موضوع للجواب عن صيغة نفي فيه معنى
الاستفهام، كما قال تعالى: *(ألست بربكم قالوابلى)* ونعم جواب لما هو محض
الاستفهام، قال تعالى: *(فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم)* وأجل تصلح لهما.
وقد تستعمل بلى ونعم في جواب ما ليس باستفهام على أن يقدر فيه معنى الاستفهام، أو
يكون مستعارا عنه. هذا مذهب أهل اللغة.
ص 272
فأما محمد رحمه الله فقد ذكر في كتاب الاقرار مسائل بناها على هذه الكلمات من غير
استفهام في السؤال أو احتمال استفهام وجعلها إقرارا صحيحا بطريق الجواب، وكأنه ترك
اعتبار حقيقة اللغة فيها لعرف الاستعمال. والثالث: أن يكون مستقلا بنفسه مفهوم
المعنى ولكنه خرج جوابا للسؤال وهو غير زائد على مقدار الجواب، فبهذا يتقيد بما سبق
ويصير ما ذكر في السؤال كالمعاد في الجواب لانه بناء عليه. وبيان هذا فيما إذا قال
لغيره تعال تغد معي فقال إن تغديت فعبدي حر، فهذا يختص بذلك الغداء، ولو قالت له
امرأته إنك تغتسل في هذه الدار الليلة من جنابة فقال إن اغتسلت فعبدي حر فإنه يختص
بذلك الاغتسال المذكور في السؤال. والرابع: أن يكون مستقلا بنفسه زائدا على ما يتم
به الجواب بأن يقول: إن تغديت اليوم أو إن اغتسلت الليلة، فموضع الخلاف هذا الفصل.
فعندنا لا يختص مثل هذا العام بسببه، لان في تخصيصه به إلغاء الزيادة وفي جعله نصا
مبتدأ اعتبار الزيادة التي تكلم بها، وإلغاء الحال والعمل بالكلام لا بالحال،
فإعمال كلامه مع إلغاء الحال أولى من إلغاء بعض كلامه، وفيما لا يستقل بنفسه قيدناه
بالسبب باعتبار أن الكل صار بمنزلة المذكور وبمنزلة كلام واحد فلا يجوز إعمال بعضه
دون البعض، ففي هذا الموضع لان لا يجوز إعمال بعض كلامه وإلغاء البعض كان أولى، إلا
أن يقول نويت الجواب فحينئذ يدين فيما بينه وبين الله تعالى وتجعل تلك الزيادة
للتوكيد. وعلى قول بعض العلماء هذا يحمل على الجواب أيضا باعتبار الحال فيكون ذلك
عملا بالمسكوت وتركا للعمل بالدليل، لان الحال مسكوت عنه والاستدلال بالمسكوت يكون
استدلالا بلا دليل، فكيف يجوز باعتباره ترك العمل بالدليل وهو المنصوص؟ والدليل على
صحة ما قلنا إن بين أهل التفسير اتفاقا أن نزول آية الظهار كان بسبب خولة ثم لم
يختص الحكم بها، ونزول آية القذف كان بسبب قصة عائشة رضي الله عنها ثم لم يختص بها،
ونزول آية اللعان كان بسبب ما قال سعد بن عبادة ثم لم يختص به، ودخل رسول الله (ص)
المدينة
ص 273
فوجدهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن
معلوم إلى أجل معلوم فقد كان سبب هذا النص إسلامهم إلى أجل مجهول ثم لم يختص هذا
النص بذلك السبب. وأمثلة هذا كثير، فعرفنا أن العام لا يختص بسببه. ومن هذه الجملة
تخصيص العام بغرض المتكلم، فإن من الناس من يقول يختص الكلام بما يعلم من غرض
المتكلم لانه يظهر بكلامه غرضه، فيجب بناء كلامه في العموم والخصوص والحقيقة
والمجاز على ما يعلم من غرضه، ويجعل ذلك الغرض كالمذكور. وعلى هذا قالوا: الكلام
المذكور للمدح والذم والثناء والاستثناء لا يكون له عموم، لانا نعلم أنه لم يكن غرض
المتكلم به العموم. وعندنا هذا فاسد لانه ترك موجب الصيغة بمجرد التشهي وعمل
بالمسكوت، فإن الغرض مسكوت عنه، فكيف يجوز العمل بالمسكوت وترك العمل بالمنصوص
باعتباره؟ ولكن العام يعرف بصيغته فإذا وجدت تلك الصيغة وأمكن العمل بحقيقتها يجب
العمل، والامكان قائم مع استعمال الصيغة للمدح والذم (فإن المدح العام والثناء
العام من عادة أهل اللسان، وكذلك الاستثناء والذم) واعتبار الغرض اعتبار نوع احتمال
ولاجله لا يجوز ترك العمل بحقيقة الكلام. ومن ذلك ما قاله بعض الاحداث من الفقهاء:
إن القرآن في النظم يوجب المساواة في الحكم، وبيان هذا في قوله تعالى: *(فلا رفث
ولا فسوق ولا جدال في الحج)* فإن هذه جمل قرن بعضها ببعض بحرف النظم وهو الواو
وقالوا يستوي حكمها في الحج. وقال بعض أصحابنا في قوله تعالى: *(أقيموا الصلاة
وآتوا الزكاة)* إن ذلك يوجب سقوط الزكاة عن الصبي، لان القران في النظم دليل
المساواة في الحكم فلا تجب الزكاة على من لا تجب عليه الصلاة. وعندنا هذا فاسد وهو
من جنس العمل بالمسكوت وترك العمل بالدليل لاجله، فإن كلا من الجمل معلوم بنفسه
وليس في واو النظم دليل المشاركة بينهما في الحكم إنما ذلك في واو العطف، وفرق ما
بينهما أن واو النظم تدخل بين جملتين كل واحدة منهما تامة بنفسها مستغنية عن خبر
الآخر كقول الرجل جاءني زيد وتكلم عمرو فذكر الواو بينهما لحسن النظم به
ص 274
لا للعطف. وبيان هذا في قوله تعالى: *(لنبين لكم ونقر في الارحام ما نشاء)* وقال
تعالى: *(فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمحو الله الباطل)* وأما واو العطف فإنه يدخل
بين جملتين أحدهما ناقص والآخر تام بأن لا يكون خبر الناقص مذكورا فلا يكون مفيدا
بنفسه، ولا بد من جعل الخبر المذكور للاول خبرا للثانية حتى يصير مفيدا، كقول الرجل
جاءني زيد وعمرو، فهذا الواو للعطف، لانه لم يذكر لعمرو خبرا ولا يمكن جعل (هذا)
الخبر الاول خبرا له إلا بأن يجعل الواو للعطف حتى يصير ذلك الخبر كالمعاد لان موجب
العطف الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر، فمن قال بالقول الاول فقد ذهب
إلى التسوية بين واو العطف وواو النظم باعتبار أن الواو في أصل اللغة للعطف، وموجب
العطف الاشتراك، ومطلق الاشتراك يقتضي التسوية، فذلك دليل على أن القران في النظم
يوجب المساواة في الحكم. ثم الاصل أنا نفهم من خطاب صاحب الشرع ما يتفاهم من
المخاطبات بيننا، ومن يقول امرأته طالق وعبده حر إن دخل الدار فإنه يقصد الاشتراك
بين المذكورين في التعليق بالشرط، وذلك يفهم من كلامه حتى يجعل الكل متعلقا بالشرط
وإن كان كل واحد من الكلامين تاما لكونه مبتدأ وخبرا مفهوم المعنى بنفسه، فعليه
يحمل أيضا مطلق كلام صاحب الشرع. ولكنا نقول: المشاركة في الخبر عند واو العطف
لحاجة الجملة الناقصة إلى الخبر لا لعين الواو، وهذه الحاجة تنعدم في واو النظم،
لان كل واحد من الكلامين تام بما ذكر له من الخبر فكان هذا الواو ساكتا عما يوجب
المشاركة فإثبات المشاركة به يكون استدلالا بالمسكوت، يوضحه أنه لو كانت المشاركة
تثبت باعتبار هذا الواو لثبتت في خبر كل جملة إذ ليس خبر إحدى الجملتين بذلك بأولى
من الآخر، وهذا خلاف ما عليه إجماع أهل اللسان، فأما إذا قال امرأته طالق وعبده حر
إن دخل الدار فكل واحد منهما تام في نفسه إيقاعا لا تعليقا بالشرط، والتعليق تصرف
سوى الايقاع، ففيما يرجع إلى التعليق إحدى الجملتين ناقصة فأثبتنا المشاركة بينهما
في حكم التعليق بواو العطف، حتى إذا لم يذكر الشرط وكان كلامه إيقاعا لم تثبت
المشاركة بينهما في الخبر وجعل واو النظم
ص 275
لتحسين الكلام به فإنه مستعمل كما بينا، ولهذا لو قال: لفلان علي مائة دينار ولفلان
ألف درهم إلا عشرة يجعل الاستثناء من آخر المالين ذكرا لان بالاستثناء لا يخرج
الكلام من أن يكون إقرارا وباعتبار الاقرار كل واحد من الجملتين تامة فيكون الواو
للنظم وينصرف الاستثناء إلى ما يليه خاصة. وعلى هذا قلنا في قوله تعالى: *(وأولئك
هم الفاسقون إلا الذين تابوا)* إن هذا الواو للنظم حتى ينصرف الاستثناء إلى سمة
الفسق دون ما تقدمه. والشافعي يجعل هذا الواو للعطف والواو الذي في قوله: *(ولا
تقبلوا لهم)* للنظم حتى يكون الاستثناء منصرفا إليهما دون الجلد فلا يسقط الجلد
بالتوبة. والصحيح ما قلنا: فإن من حيث الصيغة معنى العطف يتحقق في قوله تعالى:
*(ولا تقبلوا)* ولا يتحقق في قوله تعالى: *(وأولئك هم الفاسقون)* لان قول القائل
اجلس ولا تتكلم يكون عطفا صحيحا فكذلك قوله تعالى: *(فاجلدوا)*. *(ولا تقبلوا)* لان
كل واحد منهما خطاب للائمة، فأما قوله تعالى: *(وأولئك هم الفاسقون)* ليس بخطاب
للائمة ولكن إخبار عن وصف القاذفين فلا يصلح معطوفا على ما هو خطاب فجعلناه للنظم،
وكذلك من حيث المعنى قوله تعالى: *(ولا تقبلوا)* صالح لان يكون متمما للحد معطوفا
على الجلد، فإن إهدار قوله في الشهادات شرعا مؤلم كالجلد وهذا الالم عند العقلاء
يزداد على ألم الجلد فيصلح متمما للحد زاجرا عن سببه ولهذا خوطب به الائمة فإن
إقامة الحد إليهم، فأما قوله تعالى: *(وأولئك هم الفاسقون)* فمعناه العاصون وذلك
بيان لجريمة القاذف فلا يصلح جزاء على القذف حتى يكون متمما للحد، بل المقصود به
إزالة إشكال كان يقع عسى وهو أن القذف خبر متميل، وربما يكون حسبة إذا كان الرامي
صادقا وله أربعة من الشهود والزاني مصر فكان يقع الاشكال أنه لما كان سببا لوجوب
عقوبة تندرئ بالشبهات فأزال الله هذا الاشكال بقوله: *(وأولئك هم الفاسقون)* أي
العاصون بهتك ستر العفة من غير فائدة حين عجزوا عن إقامة أربعة من الشهداء، وإليه
أشار في قوله تعالى: *(فإن لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون)* ويتبين
بهذا التحقيق أن العمل بالنص كما يوجبه فيما قلنا فإنا جعلنا العجز عن إقامة أربعة
من الشهداء
ص 276
مضموما إلى القذف ليتحقق بهما السبب الموجب للعقوبة، كما هو موجب حرف ثم فإنه
للتعقيب مع التراخي، وجعلنا الواو في قوله تعالى: *(ولا تقبلوا)* للعطف فكان رد
الشهادة متمما للحد كما هو موجب واو العطف، وجعلنا الواو في قوله تعالى: *(وأولئك)*
للنظم كما هو مقتضى صيغة الكلام. والشافعي ترك العمل بحرف ثم وجعل نفس القذف موجبا
للحد، وجعل الواو في قوله تعالى: *(ولا تقبلوا)* للنظم، وفي قوله: *(وأولئك)* للعطف
وكل ذلك مخالف لمقتضى صيغة الكلام، فكان الصحيح ما قلناه. ومن هذه الجملة حكم الجمع
المضاف إلى جماعة نحو قوله تعالى: *(خذ من أموالهم صدقة)* وقوله تعالى: *(وأحل لكم
ما وراء ذلكم)* فإن من الناس من يقول حكمة حقيقة الجماعة في حق كل واحد ممن أضيف
إليهم وزعموا أن حقيقة الكلام هذا فإن المضاف إلى جماعة يكون مضافا إلى كل واحد
منهم، وإذا كانت الصيغة التي بها حصلت الاضافة صيغة الجماعة وبها يثبت الحكم في كل
واحد منهم ما هو مقتضى هذه الصيغة قولا بحقيقة الكلام، ألا ترى أن الاضافة لو حصلت
بصيغة الفرد تثبت في كل واحد منهم الحكم الذي هو موجب تلك الصيغة. وعندنا هذا فاسد
وهو من جنس القول بالمسكوت، ولكن مقتضى هذه الصيغة مقابلة الآحاد بالآحاد على ما
قال في الجامع: إذا قال لامرأتين له إذا ولدتما ولدين فأنتما طالقان فولدت كل واحدة
منهما ولدا طلقتا، وكذلك إذا قال إذا حضتما حيضتين أو قال إذا دخلتما هاتين الدارين
فدخلت كل واحدة منهما دارا فهما طالقان، ولا يشترط دخول كل واحدة منهما في الدارين
جميعا، وما قلناه هو المعلوم من مخاطبات الناس، فإن الرجل يقول لبس القوم ثيابهم
وحلقوا رؤوسهم وركبوا دوابهم، وإنما يفهم من ذلك أن كل واحد منهم لبس ثوبه وركب
دابته وحلق رأسه، والدليل عليه قول الشاعر: وإنا نرى أقدامنا في نعالهم وآنفنا بين
اللحى والحواجب والمراد ما قلنا وكتاب الله يشهد به، قال تعالى: *(جعلوا أصابعهم في
آذانهم واستغشوا ثيابهم)* والمراد أن كل واحد منهم جعل أصبعه في أذنه لا في آذان
الجماعة واستغشى ثوبه، وقال تعالى: *(فقد صغت قلوبكما)* والمراد في حق كل
ص 277
واحدة منهما قلبها، وقال تعالى: *(فاقطعوا أيديهما)* والمراد قطع يد واحدة من كل
واحد منهما لا قطع جميع ما يسمى يدا من كل واحد منهما لاتفاقنا على أن بالسرقة
الواحدة لا تقطع إلا يد واحدة من السارق، وقد بينا أن مطلق الكلام محمول على ما
يتفاهمه الناس في مخاطباتهم فهو اعتبار الصيغة بدون الاضافة، والمنصوص عليه الصيغة
مع الاضافة إلى الجماعة ومع الاضافة إلى الجماعة موجب الصيغة حقيقة ليس ما ادعوا بل
موجبه ما قلنا، لان ما ادعوا يثبت بدون الاضافة إلى الجماعة (وما قلنا لا يثبت بدون
الاضافة إلى الجماعة) فعرفنا أن حقيقة العمل بالمنصوص فيما قلنا، وفيما قالوا ترك
العمل بالدليل المنصوص وعمل بالمسكوت فيكون فاسدا. هذا بيان الطريق فيما هو فاسد من
وجوه العمل بالمنصوص كما ذهب إليه بعض الناس، وقد بينا الطريق الصحيح من ذلك في أول
الباب، فمن فهم الطريقين يتيسر عليه تمييز الصحيح من الاستدلال بجميع النصوص
والفاسد، وإن خفي عليه شيء فهو يخرج بالتأمل على ما بينا من كل طريق، والله أعلم.
باب: بيان الحجة الشرعية وأحكامها

قال رضي الله عنه: اعلم بأن الحجة لغة اسم من قول
القائل: حج، أي غلب، ومنه يقال: لج فحج، ويقول الرجل: حاججته فحججته، أي ألزمته
بالحجة فصار مغلوبا، ثم سميت الحجة في الشريعة، لانه يلزمنا حق الله تعالى بها على
وجه ينقطع بها العذر، ويجوز أن يكون مأخوذا من معنى الرجوع إليه، كما قال القائل:
يحجون بيت الزبرقان المزعفرا أي يرجعون إليه، ومنه: حج البيت، فإن الناس يرجعون
إليه معظمين له، قال تعالى: *(وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا)* والمثابة المرجع
فسميت الحجة لوجوب الرجوع إليها من حيث العمل بها شرعا، ويستوي إن كانت موجبة
ص 278
للعلم قطعا أو كانت موجبة للعمل دون العلم قطعا، لان الرجوع إليها بالعمل بها واجب
شرعا في الوجهين على ما نبينه في باب خبر الواحد والقياس إن شاء الله تعالى.
والبينة كالحجة فإنها مشتقة من البيان وهو أن يظهر للقلب وجه الالزام بها سواء كان
ظهورا موجبا للعلم أو دون ذلك لان العمل يجب في الوجهين، ومنه قوله تعالى: *(فيه
آيات بينات)*: أي علامات ظاهرات. والبرهان كذلك فإنه مستعمل استعمال الحجة في لسان
الفقهاء. وأما الآية فمعناها لغة: العلامة، قال الله تعالى: *(فيه آيات بينات)*
وقال القائل: وغير آيها العصر ومطلقها في الشريعة ينصرف إلى ما يوجب العلم قطعا،
ولهذا سميت معجزات الرسل آيات، قال الله تعالى: *(ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات)*
وقال تعالى: *(فاذهبا بآياتنا)*. فإن قيل: من الناس من جحد رسالة الرسل بعد رؤية
المعجزات والوقوف عليها ولو كانت موجبة للعلم قطعا لما أنكرها أحد بعد المعاينة؟
قلنا: هذه الآيات لا توجب العلم خبرا فإنها لو أوجبت ذلك انعدم الثواب والعقاب بها
أصلا وإنما توجب العلم باعتبار التأمل فيها عن إنصاف لا عن تعنت، ومع هذا التأمل
يثبت العلم بها قطعا وإنما جحدها من جحدها للاعراض عن هذا التأمل كما ذكر الله
تعالى في قوله: *(وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه)* وفي قوله: *(لا تسمعوا
لهذا القرآن والغوا فيه)* وقد كان فيهم من جحد تعنتا بعدما علم يقينا كما قال
تعالى: *(وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا)* وأما الدليل فهو فعيل من فاعل
الدلالة، بمنزلة عليم من عالم، ومنه قولهم: يا دليل المتحيرين، أي هاديهم إلى ما
يزيل الحيرة عنهم، ومنه سمي دليل القافلة، أي هاديهم إلى الطريق فسمي باسم فعله،
وفي الشريعة هو اسم لحجة منطق يظهر به ما كان خفيا فإن ما قدمناه يكون موجبا تارة
ومظهرا تارة، والدليل خاص لما هو مظهر. فإن قيل: أليس أن الدخان دليل على النار
والبناء دليل على الباني ولا نطق
ص 279
هناك؟ قلنا: إنما يطلق الاسم على ذلك مجازا بحصول معنى الظهور عنده، كما قال تعالى:
*(قالتا أتينا طائعين)* وقال تعالى: *(فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه)* وقال
القائل: وعظتك أحداث صمت، وكل ذلك مجاز. ثم الدليل مجازا كان أو حقيقة يكون مظهرا
ظهورا موجبا للعلم به أو دون ذلك. والشاهد كالدليل سواء كان مظهرا على وجه يثبت
العلم به أو لا يثبت به علم اليقين بمنزلة الشهادات على الحقوق في مجالس الحكام.
قال رضي الله عنه: ثم اعلم بأن الاصول في الحجج الشرعية ثلاثة: الكتاب والسنة،
والاجماع، والاصل الرابع وهو القياس هو المعنى المستنبط من هذه الاصول الثلاثة. وهي
تنقسم قسمين: قسم موجب للعلم قطعا، ومجوز غير موجب للعلم، وإنما سميناه مجوزا لانه
يجب العمل به والاصل أن العمل بغير علم لا يجوز، قال تعالى: *(ولا تقف ما ليس لك به
علم)* فسميناه مجوزا باعتبار أنه يجب العمل به وإن لم يكن موجبا للعلم قطعا. فأما
الموجب للعلم من الحجج الشرعية أنواع أربعة: كتاب الله، وسنة رسول الله (ص) المسموع
منه والمنقول عنه بالتواتر، والاجماع. والاصل في كل ذلك لنا السماع من رسول الله
(ص) فإنه هو الذي أسمعنا ما أوحي إليه من القرآن بقراءته علينا، والمنقول عنه بطريق
متواتر بمنزلة المسموع عنه في وقوع العلم به على ما نبينه، وكذلك الاجماع فإن إجماع
هذه الامة إنما كانت حجة موجبة للعلم بالسماع من رسول الله (ص) أن الله تعالى لا
يجمع أمته على الضلالة، والسماع منه موجب للعلم لقيام الدلالة على أن الرسول عليه
السلام يكون معصوما عن الكذب والقول بالباطل. فهذا بيان قولنا إن الاصل في ذلك كله
السماع من رسول (ص).
فصل: في بيان الكتاب وكونه حجة

قال رضي الله عنه: اعلم بأن
الكتاب هو القرآن المنزل على رسول الله (ص)، المكتوب في دفات المصاحف، المنقول
إلينا على الاحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا، لان ما دون المتواتر لا يبلغ درجة
العيان ولا يثبت بمثله القرآن مطلقا، ولهذا قالت الامة لو صلى بكلمات تفرد بها ابن
مسعود لم تجز صلاته، لانه لم يوجد
ص 280
فيه النقل المتواتر، وباب القرآن باب يقين وإحاطة فلا يثبت بدون النقل المتواتر
كونه قرآنا، وما لم يثبت أنه قرآن فتلاوته في الصلاة كتلاوة خبر فيكون مفسدا
للصلاة. فإن قيل: بكونه معجزا يثبت أنه قرآن بدون النقل المتواتر. قلنا: لا خلاف أن
ما دون الآية غير معجز، وكذلك الآية القصيرة، ولهذا لم يجوز أبو يوسف ومحمد رحمهما
الله الصلاة إلا بقراءة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة لان المعجز السورة وأقصر السور
ثلاث آيات يعني الكوثر. وأبو حنيفة رحمه الله قال: الواجب بالنص قراءة ما تيسر من
القرآن وبالآية القصيرة يحصل ذلك فيتأدى فرض القراءة وإن كان يكره الاكتفاء بذلك،
وجاء فيما ذكرنا أن ما دون الآية والآية القصيرة ليس بمعجز وهو قرآن يثبت به العلم
قطعا، فظهر أن الطريق فيه النقل المتواتر مع أن كونه معجزا دليل على صدق الرسول (ص)
فيما يخبر به، وليس بدليل في نفسه على أنه كلام الله لجواز أن يقدر الله تعالى
رسوله على كلام يعجز البشر عن مثله، كما أقدر عيسى على إحياء الموتى، وعلى أن يخلق
من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله. فعرفنا أن الطريق فيه النقل
المتواتر. وإنما اعتبرنا الاثبات في دفات المصاحف لان الصحابة رضي الله عنهم إنما
أثبتوا القرآن في دفات المصاحف لتحقيق النقل المتواتر فيه، ولهذا أمروا بتجريد
القرآن في المصاحف وكرهوا التعاشير وأثبتوا في المصاحف ما اتفقوا عليه ثم نقل إلينا
نقلا متواترا فثبت به العلم قطعا، ولما ثبت بهذا الطريق أنه كلام الله تعالى ثبت
أنه حجة موجبة للعلم قطعا لعلمنا يقينا أن كلام الله لا يكون إلا حقا. فإن قيل:
فالتسمية نقلت إلينا مكتوبة في المصاحف بقلم الوحي لمبدأ الفاتحة ومبدأ كل سورة سوى
سورة براءة، ثم لم تجعلوها آية من الفاتحة ولا من أول كل سورة مع النقل المتواتر من
الوجه الذي قررتم؟ قلنا: قد ذكر أبو بكر الرازي رحمه الله أن الصحيح من المذهب
عندنا أن التسمية آية منزلة من القرآن لا من أول السورة ولا من آخرها ولهذا كتبت
للفصل بين السور في المصحف بخط على حدة لتكون
ص 281
الكتابة بقلم الوحي دليلا على أنها منزلة للفصل، والكتابة بخط على حدة دليلا على
أنها ليست من أول السورة، وظاهر ما ذكر في الكتاب علماؤنا يشهد به فإنهم قالوا ثم
يفتتح القراءة ويخفي بسم الله الرحمن الرحيم فقد قطعوا التسمية عن التعوذ وأدخلوها
في القراءة، ولكن قالوا لا يجهر بها لانه ليس من ضرورة كونها آية من القرآن الجهر
بها بمنزلة الفاتحة في الاخريين، وإنما قالوا يخفي بها ليعلم أنها ليست بآية من أول
الفاتحة فإن المتعين في حق الامام الجهر بالفاتحة والسورة في الاوليين، وعلى هذا
نقول يكره للجنب والحائض قراءة التسمية على قصد قراءة القرآن، لان من ضرورة كونها
آية من القرآن حرمة القراءة على الجنب والحائض، ولكن لا يتأدى بها فرض القراءة في
الركعة عند أبي حنيفة رحمه الله لاشتباه الآثار واختلاف العلماء وأدنى درجات
الاختلاف المعتبر إيراث الشبهة به، وما كان فرضا مقطوعا به لا يتأدى بما فيه شبهة،
ولسنا نعني الشبهة في كونها من القرآن بل في كونها آية تامة فإنه لا خلاف في أنها
من القرآن في قوله تعالى: *(وإنه بسم الله الرحمن الرحيم)*. فإن قيل: فقد أثبتم
بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: فصيام ثلاثة أيام متتابعات، كونه قرآنا في حق العمل
به ولم يوجد فيه النقل المتواتر ولم تثبتوا في التسمية مع النقل المتواتر كونها آية
من القرآن في حكم العمل وهو وجوب الجهر بها في الصلاة وتأدي القراءة بها. قلنا: نحن
ما أثبتنا بقراءة ابن مسعود كون تلك الزيادة قرآنا وإنما جعلنا ذلك بمنزلة خبر رواه
عن رسول الله (ص) لعلمنا أنه ما قرأ بها إلا سماعا من رسول الله (ص) وخبره مقبول في
وجوب العمل به، وبمثل هذا الطريق لا يمكن إثبات هذا الحكم في التسمية، لان برواية
الخبر وإن علم صحته لا يثبت حكم جواز الصلاة، ولانه ليس من ضرورة كونها آية من
القرآن وجوب الجهر بها على ما بينا أن الفاتحة لا يجهر بها في الاخريين، وما كان
ثبوته بطريق الاقتضاء يتقدر الحكم فيه بقدر الضرورة لانه لا عموم للمقتضى. ثم قال
كثير من مشايخنا إن إعجاز القرآن في النظم وفي المعنى جميعا خصوصا على قول أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله حيث قالا: بالقراءة بالفارسية في الصلاة لا يتأدى فرض القراءة
وإن كان مقطوعا به أنه هو المراد، لان الفرض قراءة المعجز وذلك في النظم والمعنى
جميعا. قال رضي الله عنه: والذي يتضح لي أنه ليس مرادهم من هذا أن
ص 282
المعنى بدون النظم غير معجز، فالادلة على كون المعنى معجزا ظاهرة: منها أن المعجز
كلام الله (وكلام الله تعالى) غير محدث ولا مخلوق والالسنة كلها محدثة العربية
والفارسية وغيرهما، فمن يقول الاعجاز لا يتحقق إلا بالنظم فهو لا يجد بدا من أن
يقول بأن المعجز محدث وهذا مما لا يجوز القول به، والثاني أن النبي عليه السلام بعث
إلى الناس كافة (وآية نبوته القرآن الذي هو معجز فلا بد من القول بأنه حجة له على
الناس كافة) ومعلوم أن عجز العجمي عن الاتيان بمثل القرآن بلغة العرب لا يكون حجة
عليه فإنه يعجز أيضا عن الاتيان بمثل شعر امرئ القيس وغيره بلغة العرب وإنما يتحقق
عجزه عن الاتيان بمثل القرآن بلغته، فهذا دليل واضح على أن معنى الاعجاز في المعنى
تام، ولهذا جوز أبو حنيفة رحمه الله القراءة بالفارسية في الصلاة، ولكنهما قالا في
حق من لا يقدر على القراءة بالعربية الجواب هكذا، وهو دليل على أن المعنى عندهما
معجز فإن فرض القراءة ساقط عمن لا يقدر على قراءة المعجز أصلا ولم يسقط عنه الفرض
أصلا بل يتأدى بالقراءة بالفارسية، فأما إذا كان قادرا على القراءة بالعربية لم
يتأد الفرض في حقه بالقراءة بالفارسية عندهما لا لانه غير معجز ولكن لان متابعة
رسول الله (ص) والسلف في أداء هذا الركن فرض في حق من يقدر عليه، وهذه المتابعة في
القراءة بالعربية، إلا أن أبا حنيفة اعتبر هذا في كراهة القراءة بالفارسية فأما في
تأدي أصل الركن بقراءة القرآن فإنه اعتبر ما قررناه.
فصل: في بيان حد المتواتر من الاخبار

وموجبها المتواتر ما اتصل بنا عن رسول الله (ص) بالنقل المتواتر. مأخوذ من
قول القائل: تواترت الكتب إذا اتصلت بعضها ببعض في الورود متتابعا، وحد ذلك أن
ينقله قوم لا يتوهم اجتماعهم وتواطؤهم على الكذب لكثرة عددهم وتباين أمكنتهم عن قوم
مثلهم هكذا إلى أن يتصل برسول الله (ص)، فيكون أوله كآخره وأوسطه كطرفيه، وذلك نحو
نقل أعداد الركعات وأعداد الصلوات
ص 283
ومقادير الزكاة والديات وما أشبه ذلك، وهذا لان الاتصال لا يتحقق إلا بعد انقطاع
شبهة الانفصال، وإذا انقطعت شبهة الانفصال ضاهى ذلك المسموع من رسول الله (ص)، لان
الناس على همم شتى، وذلك يبعثهم على التباين في الاهواء والمرادات، فلا يردهم عن
ذلك إلى شيء واحد إلا جامع أو مانع، وليس ذلك إلا اتفاق صنعوه، أو سماع اتبعوه،
فإذا انقطعت تهمة الاختراع لكثرة عددهم وتباين أمكنتهم تعين جهة السماع، ولهذا كان
موجبا علم اليقين عند جمهور الفقهاء. ومن الناس من يقول الخبر لا يكون حجة أصلا.
ولا يقع العلم به بوجه، وكيف يقع العلم به والمخبرون هم الذين تولوا نقله؟ وإنما
وقوع العلم بما ليس من صنع البشر ويكون خارجا عن مقدورهم، فأما ما يكون من صنع
البشر ويتحقق منهم الاجتماع على اختراعه قلوا أو كثروا فذلك لا يكون موجبا للعلم
أصلا، هذا قول فريق ممن ينكر رسالة المرسلين، وهذا القائل سفيه يزعم أنه لا يعرف
نفسه ولا دينه ولا دنياه ولا أمه ولا أباه، بمنزلة من ينكر العيان من السوفسطائية
فلا يكون الكلام معه على سبيل الاحتجاج والاستدلال، فكيف يكون ذلك وما يثبت
بالاستدلال من العلم دون ما ثبت بالخبر المتواتر؟ فإن هذا يوجب علما ضروريا
والاستدلال لا يوجب ذلك، وإنما الكلام معه من حيث التقرير عند العقلاء بما لا يشك
هو ولا أحد من الناس في أنه مكابرة وجحد لما يعلم اضطرارا، بمنزلة الكلام مع من
يزعم أنه لا حقيقة للاشياء المحسوسة. فنقول: إذا رجع الانسان إلى نفسه علم أنه
مولود اضطرارا بالخبر، كما علم أن ولده مولود بالمعاينة وعلم أن أبويه كانا من جنسه
بالخبر كما علم أن أولاده من جنسه بالعيان، وعلم أنه كان صغيرا ثم شابا بالخبر، كما
علم ذلك من ولده بالعيان، وعلم أن السماء والارض كانتا قبله على هذه الصفة بالخبر،
كما يعلم أنهما على هذه الصفة للحال بالعيان، وعلم أن آدم أبو البشر على وجه لا
يتمكن فيه شبهة، فمن أنكر شيئا من هذه الاشياء فهو مكابر جاحد لما هو معلوم ضرورة
بمنزلة من أنكر العيان. ولا نقول: إن هذا العلم يحصل بفعل المخبرين بل بما هو من
صنع الله تعالى، وهو أنه خلق الخلق أطوارا، على طباع مختلفة وهمم متباينة يبعثهم
على ذلك الاختلاف والتباين، فالاتفاق بعد ذلك مع الاسباب الموجبة للاختلاف لا يكون
إلا بجامع يجمعهم على ذلك كما قررنا، وفيه حكمة
ص 284
بالغة وهو بقاء الاحكام بعد وفاة المرسلين على ما كانت عليه في حياتهم، فإن النبوة
ختمت برسولنا (ص) وقد كان مبعوثا إلى الناس كافة وقد أمرنا بالرجوع إليه والتيقن
بما يخبر به، قال تعالى: *(فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)* وهذا
الخطاب يتناول الموجودين في عصره والذين يؤمنون به إلى قيام الساعة، ومعلوم أن
الطريق في الرجوع إليه ليس إلا الرجوع إلى ما نقل عنه بالتواتر، فبهذا يتبين أن هذا
كالمسموع منه في حياته، وقد قامت الدلالة على أنه كان رسول
الله (ص) لا يتكلم إلا بالحق خصوصا فيما يرجع إلى بيان الدين، فيثبت منه بالسماع
علم اليقين. ومن الناس من يقول إن ما يثبت بالتواتر علم طمأنينة القلب لا علم
اليقين، ومعنى هذا أنه يثبت العلم به مع بقاء توهم الغلط أو الكذب ولكن لرجحان جانب
الصدق تطمئن القلوب إليه فيكون ذلك علم طمأنينة مثل ما يثبت بالظاهر لا علم اليقين.
قالوا لان التواتر إنما يثبت بمجموع آحاد، ومعنى احتمال الكذب ثابت في خبر كل واحد
من تلك الآحاد فبالاجتماع لا ينعدم هذا الاحتمال، بمنزلة اجتماع السودان على شيء لا
يعدم صفة السواد الموجود في كل واحد منهم قبل الاجتماع، وهذا لانه كما يتوهم أن
يجتمعوا على الصدق فيما ينقلون يتوهم أن يجتمعوا على الكذب، إذ الخبر يحتمل كل واحد
من الوصفين على السواء، ألا ترى أن النصارى واليهود اتفقوا على قتل عيسى عليه
السلام وصلبه، ونقلوا ذلك فيما بينهم نقلا متواترا وقد كانوا أكثر منا عددا، ثم كان
ذلك كذبا لا أصل له، والمجوس اتفقوا على نقل معجزات زرادشت وقد كانوا أكثر منا
عددا، ثم كان ذلك كذبا لا أصل له. فعرفنا أن احتمال التواطؤ على الكذب لا ينتفي
بالنقل المتواتر ومع بقائه لا يثبت علم اليقين، فإنما الثابت به علم طمأنينة بمنزلة
من يعلم حياة رجل ثم يمر بداره فيسمع النوح ويرى آثار التهيؤ لغسل الميت ودفنه
فيخبرونه أنه قد مات ويعزونه ويعزيهم فيتبدل بهذا الحادث العلم الذي كان (له)
حقيقة، ويعلمه ميتا على وجه طمأنينة القلب مع احتمال أن ذلك
ص 285
كله حيلة منهم وتلبيس لغرض كان لاهله في ذلك، فهذا مثله. وهذا قول رذل أيضا فإن هذا
القائل إنه لا يعلم الرسل عليهم السلام حقيقة ولا يصح إيمانه ما لم يعرف الرسل
حقيقة، فهو بمنزلة من يزعم أنه لا يعرف الصانع حقيقة، فعرفنا أنه مفسد لدينه
باختيار هذا القول، ثم هو جاحد لما يعلمه كل عاقل ضرورة، فإنا إذا رجعنا إلى موضع
المعرفة وهو القلب ووجدنا أن المعرفة بالمتواتر من الاخبار يثبت على الوجه الذي
يثبت بالعيان، لانا نعلم أن في الدنيا مكة وبغداد بالخبر على وجه ليس فيه احتمال
الشك كما نعلم بلدتنا بالمعاينة، ونعرف الجهة إلى مكة يقينا بالخبر كما نعرف الجهة
إلى منازلنا يقينا بالمعاينة، ومن أراد الخروج من هذه البلدة إلى بخارى يأخذ في
السير إلى ناحية المغرب، كما أن من أراد أن يخرج إلى كاشغر يأخذ في السير إلى ناحية
المشرق ولا يشك في ذلك أحد ولا يخطئه بوجه وإنما عرف ذلك بالخبر فلو لم يكن ذلك
موجبا علم اليقين لكان هو مخاطرا بنفسه وماله خصوصا في زمان الخوف فينبغي أن يكون
فعله ذلك خطأ، وفي اتفاق الناس كلهم على خلافه ما يدفع زعم هذا الزاعم. وما استدلوا
به من نقل النصارى واليهود قتل المسيح وصلبه فهو وهم، لان النقل المتواتر لم يوجد
في ذلك، فإن النصارى إنما نقلوا ذلك عن أربعة نفر كانوا مع المسيح في بيت، إذ
الحواريون كانوا قد اختفوا أو تفرقوا حين هم اليهود بقتلهم، وإنما بقي مع المسيح
أربعة نفر يوحنا ويوقنا ومتن ومارقيش، ويتحقق من هذه الاربعة التواطؤ على ما هو كذب
لا أصل له، وقد بينا أن حد التواتر ما يستوي طرفاه ووسطه، واليهود إنما نقلوا ذلك
عن سبعة نفر كانوا دخلوا البيت الذي كان فيه المسيح، وأولئك يتحقق منهم التواطؤ على
الكذب، وقد روي أنهم كانوا لا يعرفون المسيح حقيقة حتى دلهم عليه رجل يقال له
يهوذا، وكان يصحبه قبل ذلك فاجتعل منهم ثلاثين درهما، وقال إذا رأيتموني أقبل رجلا
فاعلموا أنه صاحبكم، وبمثل هذا لا يحصل ما هو حد التواتر. فإن قيل: الصلب قد شاهده
الجماعة التي لا يتصور منهم التواطؤ على الكذب عادة فيتحقق ما هو حد التواتر في
الاخبار بصلبه. قلنا: لا كذلك، فإن فعل الصلب
ص 286
إنما تناوشوه عدد قليل من الناس ثم سائر الناس يعتمدون خبرهم أن المصلوب فلان
وينظرون إليه من بعد من غير تأمل فيه ففي الطباع نفرة عن التأمل في المصلوب والحلي
تتغير به أيضا فيتمكن فيه الاشتباه باعتبار هذه الوجوه، فعرفنا أنه كما لا يتحقق
النقل المتواتر في قتله لا يتحقق في صلبه، والثاني أن النقل المتواتر منهم في قتل
رجل علموه عيسى وصلبه، وهذا النقل موجب علم اليقين فيما نقلوه ولكن لم يكن الرجل
عيسى وإنما كان مشبها به، كما قال تعالى: *(ولكن شبه لهم)* وقد جاء في الخبر أن
عيسى عليه السلام قال لمن كان معه: من يريد منكم أن يلقي الله شبهي عليه فيقتل وله
الجنة؟ فقال رجل: أنا، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه فقتل ورفع عيسى إلى السماء.
فإن قيل: هذا القول في نهاية من الفساد لان فيه قولا بإبطال المعارف أصلا وبتكذيب
العيان، وإذا جوزتم هذا فما يؤمنكم من مثله فيما ينقل بالتواتر عن رسول الله (ص) أن
السامعين إنما سمعوا ذلك من رجل كان عندهم أنه محمد (ص) ولم يكن إياه وإنما ألقى
الله شبهه على غيره، ومع هذا القول لا يتحقق الايمان بالرسل لمن يعانيهم لجواز أن
يكون شبه الرسل ملقى على غيرهم، كيف والايمان بالمسيح كان واجبا عليهم في ذلك الوقت
فمن ألقي عليه شبه المسيح فقد كان الايمان به واجبا بزعمكم، وفي هذا قول بأن الله
تعالى أوجب على عباده الكفر بالحجة فأي قول أقبح من هذا؟ قلنا. الامر ليس كما
توهمتم فإن إلقاء شبه المسيح على غيره غير مستبعد في القدرة ولا في الحكمة بل فيه
حكمة بالغة وهو دفع شر الاعداء عن المسيح فقد كانوا عزموا على قتله وفي هذا دفع عنه
مكرو القتل بوجه لطيف، ولله لطائف في دفع الاذى عن الرسل عليهم السلام، والذين
قصدوه بالقتل قد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون به فألقى شبهه على غيره على سبيل
الاستدراج لهم ليزدادوا طغيانا ومرضا إلى مرضهم، ومثل ذلك لا يتوهم في حق قوم يأتون
الرسل ليؤمنوا به ويتعظوا بوعظه، فظهر أن الفاسد قول من يقول بأن هذا يؤدي إلى
إبطال المعارف والتكذيب بالرسل، ويرد ظاهر قوله تعالى: *(ولكن شبه لهم)* وبيان أن
هذا غير مستبعد
ص 287
في القدرة غير مشكل فإن إلقاء الشبه دون إيجاد الاصل لا محالة، وقد ظهر إبليس عليه
اللعنة مرة في صورة شيخ من أهل نجد ومرة في صورة سراقة بن مالك وكلم المشركين فيما
كانوا هموا به في باب رسول الله (ص)، وفيه نزل قوله تعالى: *(وإذ يمكر بك الذين
كفروا)* الآية، ورأت عائشة رضي الله عنها دحية الكلبي مع رسول الله (ص) فلما أخبرته
بذلك قال كان معي جبريل عليه السلام، ورأى ابن عباس رضي الله عنهما جبريل أيضا في
صورة دحية الكلبي، ورأته الصحابة حين أتى رسول الله (ص) في صورة أعرابي ثائر الرأس
يسأله معالم الدين، فعرفنا أن مثل هذا غير مستبعد في زمن الرسل، وأرى الله تعالى
المشركين في أعين المسلمين قليلا يوم بدر مع كثرة عددهم لانه لو أراهم كثرتهم
وعدتهم لامتنعوا من قتالهم فأراهم بصفة القلة حتى رغبوا في قتالهم وقتلوهم كما قال
تعالى: *(ليقضي الله أمرا كان مفعولا)* فعرفنا أن مثله غير مستبعد. فأما نقل المجوس
ما نقلوه عن زرادشت فذلك كله تخييلات بمنزلة فعل المشعوذين أو لعب النساء والصبيان
إلا ما ينقل أنه أدخل قوائم فرس الملك كشتاسب في بطنه ثم أخرجه وهذا إنما ينقل أنه
فعله في مجلس الملك بين يدي خواصه وأولئك يتصور منهم الاجتماع على الكذب فلا يثبت
(به) النقل المتواتر، كيف وقد روي أن الملك لما اختبره وعلم خبثه ودهاءه وواطأه على
أن يؤمن به ويجعل هو أحد أركان دينه دعاه الناس إلى تعظيم الملوك وتحسين أفعالهم
ومراعاة حقوقهم في كل حق وباطل، ويكون هو من ورائه بالسيف يجبر الناس على الدخول في
دينه، وحملهم على هذه المواطأة حاجتهم إلى ذلك، فإنه لم يكن لذلك الملك بيت قديم في
الملك فكان الناس لا يعظمونه، فاحتالوا بهذه الحيلة، ثم نقلوا عنه أمورا بعد ذلك
بين يدي الملك وخاصته، وكل ذلك كذب لا أصل له. فإن قيل: مثل هذه المواطأة لا تنكتم
عادة فكيف انكتم في ذلك الوقت حتى اتفقوا على الايمان به وكذلك من بعدهم إلى زمان
طويل وجعلوا ينقلون ذلك نقلا
ص 288
متواترا؟ قلنا: إنما لا تنكتم المواطأة التي تكون بين جمع عظيم فأما ما يكون بين
الملك وخواصه تنكتم، فإنهم رصد لحفظ الاسرار وإنما يخصهم الملك بهذا الشرط لان
تدبير الملك لا يتم مستويا إلا بحفظ الاسرار، وهذا معروف في عادة أهل كل زمان أن
المواطأة التي تكون بين الملك وخواصه لا تظهر للعوام، فعرفنا أنه لا يوجد النقل
الموجب لعلم اليقين في شيء من هذه الاخبار. فأما أصحاب رسول الله (ص) ورضي عنهم فقد
كانوا من قبائل مختلفة وكانوا عددا لا يتوهم اجتماعهم وتواطؤهم على الاختراع عادة
لكثرتهم، فعرفنا أن ما نقلوه عنه بمنزلة المسموع منه في كونه موجبا علم اليقين،
لانه لما انتفى تهمة احتمال المواطأة تعين جهة السماع. فإن قيل: مع هذا توهم
الاتفاق على الكذب غير منقطع لانه ليس شرط التواتر اجتماع أهل الدنيا وإذا اجتمع
أهل بلدة أو عامتهم على شيء يثبت به التواتر، كيف وقد نقل الاخبار عن رسول الله (ص)
أصحابه وهم كانوا عسكره لما تحقق منهم الاجتماع على صحبته مع تباين أمكنتهم، فذلك
يوهم الاتفاق منهم على نقل ما لا أصل له؟ قلنا: مثل هذا الاتفاق من الجمع العظيم
خلاف العادة وهو نادر غاية وعادة والبناء على ما هو معتاد البشر، ألا ترى أن
المعجزات توجب العلم بالنبوة قطعا لكونها خارجة عن حد معتاد البشر، ولو أن واحدا
قال في زماننا صعدت السماء وكلمت الملائكة نقطع القول بأنه كاذب لكون ما يخبر به
خارجا عما هو المعتاد، والتوهم بعد ذلك غير معتبر، ولهذا قلنا لو شهد شاهدان على
رجل أنه طلق امرأته يوم النحر بمكة وآخران أنه أعتق عبده في ذلك اليوم بعينه بكوفة
لا تقبل الشهادة، لان كون الانسان في يوم واحد بمكة وكوفة مستحيل عادة فيسقط ما
وراءه من التوهم، يوضحه أنه لو كان هنا توهم الاتفاق على الكذب لظهر ذلك في عصرهم
أو بعد ذلك إذا تطاول الزمان، فقد كانوا ثلاثين ألفا أو أكثر والمواطأة فيما بين
مثل هذا الجمع العظيم لا ينكتم عادة بل يظهر، كيف وقد اختلط بهم المنافقون وجواسيس
الكفرة، كما قال تعالى: *(وفيكم سماعون لهم)* وقد كان في المسلمين أيضا من يلقي إلى
الكفار
ص 289
بالمودة ويظهر لهم سر رسول الله (ص) في الحرب وغيره، والانسان يضيق صدره عن سره حتى
يفشيه إلى غيره ويستكتمه، ثم السامع يفشيه إلى غيره حتى يصير ظاهرا عن قريب، فلو
كان هنا توهم المواطأة لظهر ذلك، فالقول بأنه كان بينهم مواطأة وانكتم أصلا شبه
المحال، وهو بمنزلة قول من يزعم أن الكفار عارضوا القرآن بمثله ثم انكتم ذلك فإن
هذا الكلام بالاتفاق بين المسلمين شبه المحال، لان النبي عليه السلام تحداهم في
محافلهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو سورة منه فلو قدروا على ذلك لما أعرضوا عنه
إلى بذل النفوس والاموال والحرم في غزواته، ولو عارضوه به لما خفي ذلك، فقد كان
المشركون يومئذ أكثر من المسلمين، ولو لم يظهر الآن فيما بين المسلمين لظهر في ديار
الشرك إذ لا خوف لهم، وتلك المعارضة حجة لهم لو كانت، والانسان على نقل الحجة يكون
أحرص منه على نقل الشبهة، كيف وقد نقلت كلام مسليمة ومخاريق المتنبئين من غير أن
يكون لشيء من ذلك أصل، فكما تبين بهذا التقرير انقطاع توهم المعارضة، وكون القرآن
حجة موجبة للعلم قطعا فكذلك ينقطع هذا التوهم في المتواتر من الاخبار. فإن قيل:
لكونه خلاف العادة أثبتنا علم طمأنينة القلب به ولكون الاتفاق متوهما لم نثبت به
علم اليقين كما ذكرنا من حال من رأى آثار الموت في دار إنسان وأخبر بموته. قلنا:
طمأنينة القلب في الاصل إنما تكون بمعرفة حقيقة الشيء، فإن امتنع ثبوت ذلك في موضع
فذلك لغفلة من الناظر حيث اكتفى بالظاهر، ولو تأمل وجد في طلب الباطن لظهر عنده
التلبيس والفساد، كما يكون في حق المخبر بموت الميت، وإنما تتحقق هذه الغفلة في
موضع يكون وراء ما غايته حد آخر، بمنزلة ما يراه النائم في منامه، فإن عنده أن ما
يراه هو الحقيقة في ذلك الوقت، ولكن لما كان وراء هذا الحد حد آخر للمعرفة فوقه وهو
ما يكون في حالة اليقظة، فباعتبار هذه المقابلة يظهر أن ما يراه في النوم لم يكن
موجبا للمعرفة حقيقة، فأما هنا ليس وراء الطمأنينة الثابتة بخبر التواتر حد آخر
للعلم فوقه على ما بينا أن الثابت بخبر التواتر والثابت بالمعاينة في وقوع العلم به
سواء، فالموجب للعلم هنا معنى في قوة الدليل وهو انقطاع
ص 290
توهم المواطأة ومثل هذا كلما ازداد المرء التأمل فيه ازداد يقينا، فالتشكيك فيه
يكون دليل نقصان العقل بمنزلة التشكيك في حقائق الاشياء المحسوسة، والطمأنينة التي
تكون باعتبار كمال العقل تكون عبارة عن معرفة الشيء حقيقة لا محالة. وبهذا يتبين
فساد قولهم إنه ليس في الجماعة إلا اجتماع الافراد، لان مثل هذه الطمأنينة لا تثبت
بخبر الفرد وتوهم الكذب في ذلك الخبر غير خارج عن حد المعتاد. ثم هذا باطل فإن
الواحد منا يمكنه أن يتكلم بحروف الهجاء كلها، وهل لقائل أن يقول لقدرته على ذلك
يتوهم منه أن يأتي بمثل القرآن ففيه تلك الحروف بعينها، وكذلك الغبي منا يمكنه أن
يتكلم بكل حكمة من شعر امرئ القيس وغيره ثم لا يقول أحد إنه لقدرته على ذلك يقدر
على (إنشاء) قصيدة مثل تلك القصيدة، وقد يتكلم الانسان عن ظن وفراسة فيصيب مرة ثم
لا يقول أحد إنه يصيب في كل ما يتكلم (به) بهذا الطريق اعتبارا للجملة بالفرد،
واتفاق مثل هذا الجمع على الصدق كان بجامع جمعهم عليه وهو دعاء الدين والمروءة على
الصدق، وإنما تدعي انقطاع توهم اتفاقهم مع اختلاف الطبائع والاهواء من غير جامع
يجمعهم على ذلك، فأما عند وجود الجامع فهو موافق للمعتاد. فإن قيل: لو تواتر الخبر
عند القاضي بأن الذي في يد زيد ملك عمرو لم يقض له بالملك بدون إقامة البينة، ولو
ثبت له علم اليقين بذلك لتمكن من القضاء به. قلنا: هذا أولا يلزم الخصم فإنه يثبت
علم طمأنينة القلب بخبر التواتر، وبه يتمكن من القضاء لان بشهادة الشاهدين لا يثبت
فوق ذلك. فأما عندنا فيحتمل أن يقال بأنه يقضي لانه مأمور شرعا بأن يقضي بالعلم
ويحتمل أن لا يقضي، بمنزلة ما لو صار معلوما له بمعاينة السبب قبل أن يقلد القضاء
فيما ثبت مع الشبهات وفيما يندرئ بالشبهات من الحدود التي هي لله تعالى، وإن صار
معلوما له بعدما قلد القضاء لم يقض به ما لم تشهد
ص 291
الشهود، وعلم اليقين يثبت له بمعاينة السبب لا محالة، ألا ترى أن الشاهد لو قال
أخبر لم يجز للقاضي أن يقضي بقوله، وفيما يرجع إلى العلم لا فرق بين قوله أشهد وبين
قوله أخبر، فعرفنا أن في باب القضاء تعتبر الشرائط سوى العلم بالشئ ليتمكن القاضي
من القضاء به. ثم المذهب عند علمائنا أن الثابت بالمتواتر من الاخبار علم ضروري
كالثابت بالمعاينة. وأصحاب الشافعي يقولون: الثابت به علم يقين ولكنه مكتسب لا
ضروري بمنزلة ما يثبت من العلم بالنبوة عند معرفة المعجزات، فإنه علم يقين ولكنه
مكتسب لا ضروري، وهذا لان فيما يكون ضروريا لا يتحقق الاختلاف فيما بين الناس، وإذا
وجدنا الناس مختلفين في ثبوت علم اليقين بالخبر المتواتر عرفنا أنه مكتسب. ولكنا
نقول: هذا فاسد فإنه لو كان طريق هذا العلم الاكتساب لاختص به من يكون من أهل
الاكتساب، ورأينا أنه لا يختص هذا العلم بمن يكون من أهل الاكتساب، فكل واحد منا في
صغره كان يعلم أباه وأمه بالخبر كما يعلمه بعد البلوغ ولو كان طريقه الاكتساب لتمكن
المرء من أن يترك هذا الاكتساب فلا يقع له العلم، وبالاتفاق العلم الذي يحصل بخبر
التواتر لا يتمكن المرء من دفعه بكسب يباشره أو بالامتناع من اكتسابه، فعرفنا أنه
ثابت ضرورة. فأما المعجزة فهناك يحتاج إلى (أن) تميز المعجزة من المخرقة، وتمييز ما
يكون في حد مقدور البشر مما يكون خارجا من ذلك، ولا طريق إلى هذا التمييز إلا
بالاستدلال، فعرفنا أن العلم الثابت به طريقه طريق الاستدلال، وقد بينا أنه لا خلاف
بين من لهم عقول كاملة في العلم الواقع بخبر المتواتر وإنما الاختلاف ناشئ من نقصان
العقل لبعض الناس وترك التأمل وذلك دليل وسواس يعتري بعض الناس كما يكون في المعلوم
بالحواس، وبالاتفاق لا يعتبر هذا الاختلاف في المعلوم بالحواس ويكون العلم الواقع
به ضروريا، فكذلك في المعلوم بخبر التواتر. ثم اختلف مشايخنا فيما هو متواتر الفرع
آحاد الاصل من الاخبار وهو الذي تسميه الفقهاء في حيز التواتر والمشهور من الاخبار،
فكان أبو بكر
ص 292
الرازي رحمه الله يقول هذا أحد قسمي المتواتر على معنى أنه يثبت به علم اليقين
ولكنه علم اكتساب كما قال أصحاب الشافعي في القسم الآخر، وكان عيسى بن أبان رحمه
الله يقول لا يكون المتواتر إلا ما يوجب العلم ضروريا، فأما النوع الثاني فهو مشهور
وليس بمتواتر وهو الصحيح عندنا. وبيان هذا النوع في كل حديث نقله عن رسول الله (ص)
عدد يتوهم اجتماعهم على الكذب ولكن تلقته العلماء بالقبول والعمل به، فباعتبار
الاصل هو من الآحاد، وباعتبار الفرع هو متواتر، وذلك نحو خبر المسح على الخفين،
وخبر تحريم المتعة بعد الاباحة، وخبر تحريم نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها،
وخبر حرمة التفاضل في الاشياء الستة وما أشبه ذلك. أما أبو بكر الرازي كان يقول لما
تواتر نقل هذا الخبر إلينا من قوم لا يتوهم اجتماعهم على الكذب فقد أوجب لنا ذلك
علم اليقين وانقطع به توهم الاتفاق في الصدر الاول، لان الذين تلقوه بالقبول والعمل
به لا يتوهم اتفاقهم على القبول إلا بجامع جمعهم على ذلك وليس ذلك إلا تعين جانب
الصدق في الذين كانوا أهلا من رواته، ولكن إنما عرفنا هذا بالاستدلال فلهذا سمينا
العلم الثابت به مكتسبا وإن كان مقطوعا به، بمنزلة العلم بمعرفة الصانع، ألا ترى أن
النسخ يثبت بمثل هذه الاخبار، فإنه يثبت بها الزيادة على كتاب الله تعالى والزيادة
على النص نسخ ولا يثبت نسخ ما يوجب علم اليقين إلا بمثل ما يوجب علم اليقين. وجه
قول عيسى أن ما يكون موجبا علم اليقين فإنه يكفر جاحده كما في المتواتر الذي يوجب
العلم ضرورة، وبالاتفاق لا يكفر جاحد المشهور من الاخبار، فعرفنا أن الثابت به علم
طمأنينة القلب لا علم اليقين وهذا لانه وإن تواتر نقله من الفريق الثاني والثالث
فقد بقي فيه شبهة توهم الكذب عادة باعتبار الاصل، فإن رواته عدد يسير وعلم اليقين
إنما يثبت إذا اتصل بمن هو معصوم عن الكذب، على وجه لا يبقى فيه شبهة الانفصال، وقد
بقي هنا شبهة الانفصال باعتبار الاصل فيمنع ثبوت علم اليقين به، يقرره أن العلم
الواقع لنا بمثل هذا النقل إنما يكون قبل التأمل في شبهة الانفصال، فأما عند التأمل
في هذه الشبهة يتمكن نقصان فيه، فعرفنا أنه علم طمأنينة، فأما العلم الواقع بما هو
متواتر بأصله وفرعه فهو يزداد قوة بالتأمل فيه،
ص 293
ثم قد بينا أن التفاوت يظهر عند المقابلة فإذا لم يكن وراء القسم الاول حد آخر
عرفنا أن الثابت به علم ضرورة، ولما كان وراء القسم الثاني حد آخر عرفنا أن الثابت
به علم طمأنينة. ولكن مع هذا تجوز الزيادة على النص بهذا النوع من الاخبار، لان
العلماء لما تلقته بالقبول والعمل به كان دليلا موجبا فإن الاجماع من العصر الثاني
والثالث دليل موجب شرعا، فلهذا جوزنا به الزيادة على النص، ولكن مع هذا بقي فيه
شبهة توهم الانفصال فلا يكفر جاحده، وما هذا إلا نظير ما تقدم بيانه، فإن العلم
بكون المسيح عليه السلام مبعوثا إلى بني إسرائيل ثابت بالنقل المتواتر أصلا وفرعا
على وجه لم يبق فيه توهم الشبهة لاحد، ثم بنقلهم المتواتر أنه قتل أو صلب لا يثبت
العلم، لان ذلك آحاد الاصل متواتر الفرع كما قررنا. فإن قيل: (فكان ينبغي) أن يثبت
به طمأنينة القلب كما أثبتم هنا. قلنا: إنما لم نثبت لانه اعترض ما هو أقوى منه
فيما يرجع إلى العلم وهو إخبار علام الغيوب بأنهم ما قتلوه يقينا، والحجج التي تثبت
بها طمأنينة القلب إذا اعترض عليها ما هو أقوى لم يبق علم طمأنينة القلب بها. ثم
ذكر عيسى رحمه الله أن هذا النوع من الاخبار ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يضلل جاحده
ولا يكفر وذلك نحو خبر الرجم، وقسم لا يضلل جاحده ولكن يخطأ ويخشى عليه المأثم وذلك
نحو خبر المسح بالخف وخبر حرمة التفاضل، وقسم لا يخشى على جاحده المأثم ولكن يخطأ
في ذلك وهو الاخبار التي اختلف فيها الفقهاء في باب الاحكام. وهذا الذي قاله صحيح
بناؤه على تلقي العلماء إياه بالقبول ثم العمل بموجبه فإن خبر الرجم اتفق عليه
العلماء من الصدر الاول والثاني، وإنما خالف فيه الخوارج وخلافهم لا يكون قدحا في
الاجماع، ولهذا قال يضلل جاحده. فأما خبر المسح ففيه شبهة الاختلاف في الصدر الاول،
فإن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم كانا يقولان سلوا هؤلاء الذين يرون المسح هل مسح
رسول الله (ص) بعد سورة المائدة؟ والله ما مسح رسول الله (ص) بعد سورة المائدة، وقد
ص 294
نقل رجوعهما عن ذلك أيضا وكذلك خبر الصرف فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه
كان يجوز التفاضل مستدلا بقوله (ص): لا ربا إلا في النسيئة وقد نقل رجوعه عن ذلك،
فلشبهة الاختلاف في الصدر الاول قلنا بأنه لا يضلل جاحده ولكن يخشى عليه المأثم،
ولان باعتبار رجوعهم يثبت الاجماع (وقد ثبت الاجماع) على قبوله من الصدر الثاني
والثالث ولا يسع مخالفة الاجماع، فلهذا يخشى على جاحده المأثم. وأما النوع الثالث
فقد ظهر فيه الاختلاف في كل قرن فكل من ترجح عنده جانب الصدق فيه بدليل عمل به وكان
له أن يخطئ صاحبه ولكن لا يخشى عليه المأثم في ذلك لانه صار إليه عن اجتهاد، والاثم
في الخطأ موضوع عن المجتهد على ما نبينه إن شاء الله تعالى. وأما الغريب المستنكر
فإنه يخشى المأثم على العامل به، وذلك نحو خبر القتل في القسامة وخبر القضاء
بالشاهد واليمين، لانه مخالف لظاهر القرآن وقد ترك العلماء في القرن الاول والثاني
العمل به فبه يقرب من الكذب، كما أن المشهور يقرب من الصدق بتلقيهم إياه بالقبول
والعمل به، فكما يخشى المأثم هناك على ترك العمل به لقربه من الصدق فكذلك يخشى على
من يعمل بالغريب المستنكر لقربه من الكذب، والثابت بمثله مجرد الظن ومن الظن ما
يأثم المرء باتباعه، قال تعالى: *(وظننتم ظن السوء)* وقال تعالى: *(إن بعض الظن
إثم)* وهو نظير من يصير إلى التحري عند اشتباه القبلة فيعمل به مع وجود الدليل
ويترك العمل بالدليل، ولا شك في تأثيم من يدع العمل بالدليل ويعمل بالظن، فهذا
مثله، والله أعلم. ذكر عيسى رحمه الله أنه ليس لما ينعقد به التواتر حد معلوم من
حيث العدد، وهو الصحيح، لان خبر التواتر يثبت علم اليقين ولا يوجد حد من حيث العدد
يثبت به علم اليقين وإذا انتقص منه بفرد لا يثبت علم اليقين. ولكنا نعلم أن بالعدد
اليسير لا يثبت ذلك لتوهم المواطأة بينهم وبالجمع العظيم يثبت ذلك لانعدام توهم
ص 295
المواطأة، فإنما يبني على هذا أنه متى كان المخبرون بحيث يؤمن تواطؤهم عادة يكون
خبرهم متواترا. والحدود نوعان: منه ما يكون متميز الاطراف والوسط كالمقادير في
الحدود الشرعية، ومنه ما يكون متميز الاطراف مشكل الوسط كالسير بالاميال والاكل
بالارطال. فهذا مما هو متميز الاطراف مشكل الوسط، والطريق فيه ما بينا.
فصل: في
بيان أن إجماع هذه الامة موجب للعلم

قال رضي الله عنه: اعلم أن إجماع هذه الامة
موجب للعلم قطعا كرامة لهم على الدين لا لانقطاع توهم اجتماعهم على الضلال بمعنى
معقول، فاليهود والنصارى والمجوس أكثر منا عددا وقد وجد منهم الاجماع على الضلالة،
ولان الاتفاق قد يتحقق من الخلف على وجه المتابعة للآباء من غير حجة كما أخبر الله
تعالى عن الكفرة بقوله تعالى: *(إنا وجدنا آباءنا على أمة)* وقال تعالى: *(اتخذوا
أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)* فعرفنا أنه إنما جعل اجتماع هذه الامة حجة
شرعا كرامة لهم على الدين. فهذا مذهب الفقهاء وأكثر المتكلمين. وقال النظام وقوم من
الامامية لا يكون الاجماع حجة موجبة للعلم بحال لانه ليس فيه إلا اجتماع الافراد
وإذا كان قول كل فرد غير موجب للعلم لكونه غير معصوم عن الخطأ فكذلك أقاويلهم بعدما
اجتمعوا لان توهم الخطأ لا ينعدم بالاجتماع، ألا ترى أن كل واحد منهم لما كان
إنسانا قبل الاجتماع فبعد الاجتماع هم ناس وكل واحد من القادرين حالة الانفراد لا
يصير عاجزا بعد الاجتماع، وكل واحد من العميان عند الانفراد لا يصير بصيرا
بالاجتماع، ولا تصير جملتهم أيضا بهذه الصفة بعد الاجتماع. وهذا الكلام ظاهر
التناقض والفساد فقد ثبت بالاجتماع ما لا يكون ثابتا عند الانفراد في المحسوسات
والمشروعات، فإن الافراد لا يقدرون على حمل خشبة ثقيلة وإذا اجتمعوا قدروا على ذلك،
واللقمة الواحدة من الطعام والقطرة من الماء لا تكون مشبعة ولا مروية ثم عند
الاجتماع تصير مشبعة ومروية، وهذا لان بالاجتماع يحدث ما لم يكن عند الانفراد وهو
الدليل الجامع لهم على
ص 296
ما اتفقوا عليه، وقد قررنا هذا في الخبر المتواتر، ومن أنكر كون الاجماع حجة موجبة
للعلم فقد أبطل أصل الدين فإن مدار أصول الدين ومرجع المسلمين إلى إجماعهم فالمنكر
لذلك يسعى في هدم أصل الدين. وسنقرر هذا في آخر الفصل. ثم الدليل على أن الاجماع من
هذه الامة حجة موجبة شرعا، وأنهم إذا اجتمعوا على شيء فالحق فيما اجتمعوا عليه
قطعا، وإذا اختلفوا في شيء فالحق لا يعدوهم أصلا الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله
تعالى: *(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)* وكلمة خير
بمعنى أفعل فيدل على النهاية في الخيرية وذلك دليل ظاهر على أن النهاية في الخيرية
فيما يجتمعون عليه، ثم فسر ذلك بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وإنما جعلهم
خير أمة بهذا، والمعروف المطلق ما هو حق عند الله تعالى، فأما ما يؤدي إليه اجتهاد
المجتهدين فإنه غير معروف مطلقا، إذ المجتهد يخطئ ويصيب ولكنه معروف في حقه على
معنى أنه يلزمه العمل به ما لم يتبين خطؤه، ففي هذا بيان أن المعروف المطلق ما
يجتمعون عليه. فإن قيل: هذا يقتضي كون كل واحد منهم آمرا بالمعروف كما ذكرنا في
موجب الجمع المضاف إلى جماعة وبالاجماع اجتهاد كل واحد منهم بانفراده لا يكون موجبا
للعلم قطعا. قلنا: لا بل المراد هنا أن جميع الامة أو أكثرهم بهذه الصفة، ونظيره
قوله تعالى: *(وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك)*. *(وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها)*
وكان ذلك من بعضهم. ويقال في بذلة الكلام: بنو هاشم حكماء، وأهل الكوفة فقهاء،
وإنما يراد بعضهم، فيتبين بهذا التحقيق أن المراد بيان أن الاكثر من هذه الامة إذا
اجتمعوا على شيء فهو المعروف مطلقا، وأنهم إذا اختلفوا في شيء فالمعروف المطلق لا
يعدو أقوالهم، وقال تعالى: *(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير
سبيل المؤمنين)* الآية، فقد جعل الله اتباع غير سبيل المؤمنين بمنزلة مشاقة الرسول
في استيجاب النار. ثم قول الرسول موجب للعلم قطعا فكذلك ما اجتمع عليه المؤمنون،
ولا يجوز أن يقال المراد اجتماع الخصلتين لان في ذكرهما دليلا على أن تأثير أحدهما
كتأثير الآخر، بمنزلة قوله تعالى: *(والذين لا يدعون مع الله
ص 297
إلها آخر)* إلى قوله: *(ومن يفعل ذلك يلق أثاما)* وأيد هذا قوله تعالى: *(ولم
يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة)* ففي هذا تنصيص على أن من اتخذ
وليجة من دون المؤمنين فهو بمنزلة من اتخذ وليجة من دون الرسول. وقال تعالى:
*(وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم)* وفيه تنصيص على أن المرضي عند الله ما هم
عليه حقيقة، ومعلوم أن الارتضاء مطلقا لا يكون بالخطأ وإن كان المخطئ معذورا وإنما
يكون بما هو الصواب، فعرفنا أن الحق مطلقا فيما اجتمعوا عليه. وقال تعالى: *(وكذلك
جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)* والوسط العدل المرضي قال تعالى:
*(أوسطهم)* أي أعدلهم وأرضاهم قولا، وقال القائل: هم وسط يرضى الانام بحكمهم أي
عدل، ففي الوصف لهم بالعدالة تنصيص على أن الحق ما يجتمعون عليه، ثم جعلهم شهداء
على الناس والشاهد مطلقا من يكون قوله حجة، ففي هذا بيان أن إجماعهم حجة على الناس
وأنه موجب للعلم قطعا، ولا معنى لقول من يقول الشهود في الحقوق عند القاضي وإن جعلت
شهادتهم حجة فإنها لا تكون موجبة للعلم قطعا، وهذا لان شهادتهم حجة في حق القاضي
باعتبار أنه مأمور بالقضاء بالظاهر فإن ما وراءه غيب عنه ولا طريق له إلى معرفته
فيكون حجة بحسب ذلك، وأما هنا فقد جعل الله تعالى هذه الامة شهداء على الناس بما هو
حق الله تعالى (على الناس وهو علام الغيوب لا تخفى عليه خافية فإن ما يكون حجة لحق
الله تعالى) على الناس ما يكون موصوفا بأنه حق قطعا، كيف وقد جعل الله شهادتهم على
الناس كشهادة الرسول عليهم، فقال تعالى: *(ويكون الرسول عليكم شهيدا)* وشهادة
الرسول حجة موجبة للعلم قطعا لانه معصوم عن القول بالباطل، فتبين بهذه المقابلة أن
شهادة الامة في حق الناس بهذه الصفة، ولا يجوز أن يقال هذا في حكم الآخرة لانه لا
تفصيل في الآية، ولان ما في الآخرة يكون أداء الشهادة في مجلس القضاء والقاضي علام
الغيوب عالم بحقائق الامور فما لم يكونوا عالمين بما هو الحق في الدنيا لا يصلحون
للاداء بهذه الصفة في الآخرة مع أن الشهادة في الآخرة مذكورة
ص 298
في الآيتين من كتاب الله تعالى في قوله تعالى: *(فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد
وجئنا بك على هؤلاء شهيدا)* وفي قوله تعالى: *(ويوم نبعث من كل أمة شهيدا)* الآية،
فتبين أن المراد بما تلونا الشهادة بحقوق الله تعالى على الناس في الدنيا. ولا يقال
كما وصف الله هذه الامة بأنهم شهداء فقد وصف به أهل الكتاب، قال تعالى: *(يأهل
الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء)* وقال تعالى: *(بما
استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء)* ثم لم يدل ذلك على أن إجماعهم موجب
للعلم وهذا لان الله تعالى إنما جعلهم شهداء بما أخذ الميثاق به عليهم وهو بيان نعت
رسول الله (ص) من كتابهم للناس، كما قال تعالى: *(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا
الكتاب لتبيننه)* الآية، ولو بينوا كان بيانهم حجة، إلا أنهم لما تعنتوا واشتغلوا
بالحسد وطلب الرياسة كفروا بذلك، وإنما سماهم أهل الكتاب باعتبار ما كانوا عليه من
قبل ولذلك جعلهم شهداء على حفظ الكتاب، فما لم يبدلوا كان قولهم حجة، ولكنهم حرفوا
وغيروا ذلك فلهذا لا يكون قولهم حجة، فأما هنا فقد جعل الله هذه الامة شهداء على
الناس، فعرفنا أن قولهم حجة في إلزام حقوق الله على الناس إلى قيام الساعة. ولا
يقال فقد ثبت حق الله بما لا يوجب العلم قطعا نحو خبر الواحد والقياس وهذا لان خبر
الواحد حجة باعتبار أنه كلام رسول الله (ص) وقوله حجة موجبة للعلم قطعا، ولكن امتنع
ثبوت العلم به لشبهة في النقل، واحتمل ذلك لضرورة فقدنا رسول الله (ص)، والقياس لا
يكون حجة لاثبات الحكم ابتداء بل بتعدية الحكم الثابت بالنص إلى محل لا نص فيه،
واحتمل ذلك لضرورة حاجتنا إلى ذلك، فأما هنا فقد جعل الله تعالى الامة شهداء على
الناس مطلقا، وذلك لا يكون إلا إذا كان الحق مطلقا فيما يشهدون به. فإن قيل: وصف
الله تعالى إياهم بهذا لا يكون دليلا على أنه لا يتوهم اجتماعهم على ما هو ضلالة،
كما في قوله تعالى: *(وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون)* ففيه بيان أنه خلقهم
للعبادة ثم لا يمنع ذلك توهم اجتماعهم على ترك العبادة. قلنا: اللام
ص 299
المذكور في قوله تعالى: *(ليكونوا)* يدل على أنه جعلهم بهذه الصفة كرامة لهم ليكون
قولهم حجة على الناس في حق الله، كما يقول إنه جعل الناس أحرارا ليكونوا أهلا للملك
فإنما يفهم منه أن الاهلية للملك ثابت لهم باعتبار الحرية، فهاهنا أيضا يفهم من
الآية أن قولهم حجة على الناس باعتبار صفة الوساطة لهم، وهكذا كان يقتضي ظاهر قوله
تعالى: *(إلا ليعبدون)* غير أنا لو حملنا على هذا الظاهر خرجت العبادة من أن ينالها
ثواب أو عقاب بتركها، لان ذلك يثبت باختيار يكون من العبد عند الاقدام عليه، فعرفنا
أن المراد من قوله: *(إلا ليعبدون)* إلا وعليهم العبادة لي. وبأن بترك الظاهر في
موضع لقيام الدليل لا يمنع العمل بالظاهر فيما سواه، وتبين أن ما نحن فيه نظير
شهادة الرسول علينا كما ذكره الله معطوفا على هذه الصفة لا نظير ما استشهدوا به.
وأما السنة فقد جاءت مستفيضة مشهورة في ذلك: فمنها حديث عمر رضي الله عنه أن رسول
الله (ص) قال: من سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من
الاثنين أبعد ومنها حديث معاذ رضي الله عنه قال رسول الله (ص): ثلاث لا يغل عليهن
قلب مسلم: إخلاص العمل لله تعالى، ومناصحة ولاة الامر، ولزوم جماعة المسلمين ومنها
قوله (ص): يد الله مع الجماعة فمن شذ شذ في النار وقال عليه السلام: من خالف
الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وقال عليه السلام: إن الله لا يجمع
أمتي على الضلالة ولما سئل عن الخميرة التي يتعاطاها الناس قال: ما رآه المسلمون
حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح والآثار في هذا
الباب كثيرة تبلغ حد التواتر، لان كل واحد منهم إذا روي حديثا في هذا الباب سمعه في
جمع ولم ينكر عليه أحد من ذلك الجمع فذلك بمنزلة المتواتر، كالانسان إذا رأى
القافلة بعد انصرافها من مكة وسمع من كل فريق واحدا يقول: قد حججنا، فإنه يثبت له
علم اليقين بأنهم حجوا في تلك السنة.
ص 300
وشيء من المعقول يشهد به، فإن الله تعالى جعل الرسول خاتم النبيين وحكم ببقاء
شريعته إلى يوم القيامة وأنه لا نبي بعده، وإلى ذلك أشار رسول الله (ص) في قوله: لا
تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من ناوأهم فلا بد من أن تكون شريعته
ظاهرة في الناس إلى قيام الساعة وقد انقطع الوحي بوفاته، فعرفنا ضرورة أن طريق بقاء
شريعته عصمة الله أمته من أن يجتمعوا على الضلالة فإن في الاجتماع على الضلالة رفع
الشريعة وذلك يضاد الموعود من البقاء، وإذا ثبت عصمة جميع الامة من الاجتماع على
الضلالة ضاهى ما أجمعوا عليه المسموع من رسول الله (ص) وذلك موجب للعلم قطعا، فهذا
مثله. وهذا معنى ما قلنا إن عند الاجتماع يحدث ما لم يكن ثابتا بالافراد، وهو نظير
القاضي إذا نفذ قضاء باجتهاد فإنه يلزم ذلك على وجه لا يحتمل النقض، وإن كان ذلك
فوق الاجتهاد وكان ذلك لصيانة القضاء الذي هو من أسباب الدين فلان يثبت هنا ما
ادعينا صيانة لاصل الدين كان أولى. فإن قيل: كيف يستقيم هذا وقد قال رسول الله (ص):
لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس وقال: لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الارض
الله؟ قلنا: في صحة هذا الحديث نظر هو في الظاهر مخالف لكتاب الله *(الله ولى الذين
آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور)* ومن كان الله وليه فهو ظاهر أبدا، ومعنى قوله
يخرجهم من الظلمات إلى النور: أي من ظلمات الكفر والباطل إلى نور الايمان والحق،
فذلك دليل على أن الحق ما يتفقون عليه في كل وقت، وقال تعالى: *(هو الذي يصلي عليكم
وملائكته)* الآية، ولو ثبت الحديث فالمراد بيان أن أهل الشر يغلبون في آخر الزمان
مع بقاء الصالحين المتمسكين بالحق فيهم، والمراد بالحديث الآخر بيان الحال بين نفخة
الفزع ونفخة البعث، فإن قيام الساعة عند نفخة البعث، وعند ذلك لم يبق في الارض من
بني آدم أحد حيا. ثم الكلام بعد هذا في سبب الاجماع، وركنه، وأهلية من ينعقد به
الاجماع، وشرطه، وحكمه.