ص 61
مشروعا ويجوز أن لا يكون، فكان النسخ فيه بيانا لمدة بقاء الحكم وذلك جائز باعتبار
ما بينا من المعنيين: أحدهما أن معنى الابتلاء والمنفعة للعباد في شيء يختلف
باختلاف الاوقات واختلاف الناس في أحوالهم. والثاني أن دليل الايجاب غير موجب
للبقاء بمنزلة البيع يوجب الملك في المبيع للمشتري ولا يوجب بقاء الملك بل بقاؤه
بدليل آخر مبق أو بعدم دليل المزيل وهو موجب الثمن في ذمة المشتري ولا يوجب بقاء
الثمن في ذمته لا محالة، ولا يكون في النسخ تعرضا للامر ولا للحكم الذي هو موجبه،
وامتناع جواز النسخ فيما تقدم من الاقسام كان لاجتماع معنى القبح والحسن، وإنما
يتحقق ذلك في وقت واحد لا في وقتين، حتى إن ما يكون حسنا لعينه لا يجوز أن يكون
قبيحا لعينه بوجه من الوجوه. فإن قيل: أليس أن الخليل (ص) أمر بذبح ولده وكان الامر
دليلا على حسن ذبحه ثم انتسخ ذلك فكان منهيا عن ذبحه مع قيام الامر حتى وجب ذبح
الشاة فداء عنه، ولا شك أن النهي عن ذبح الولد الذي به يثبت الانتساخ كان دليلا على
قبحه وقد قلتم باجتماعهما في وقت واحد. قلنا: لا كذلك فإنا لا نقول بأنه انتسخ
الحكم الذي كان ثابتا بالامر، وكيف يقال به وقد سماه الله محققا رؤياه بقوله تعالى:
*(وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا)*: أي حققت ما أمرت به. وبعد النسخ لا
يكون هو محققا ما أمر به، ولكنا نقول الشاة كانت فداء كما نص الله عليه في قوله:
*(وفديناه بذبح عظيم)* على معنى أنه يقدم على الولد في قبول حكم الوجوب بعد أن كان
الايجاب بالامر مضافا إلى الولد حقيقة، كمن يرمي سهما إلى غيره فيفديه آخر بنفسه
بأن يتقدم عليه حتى ينفذ فيه بعد أن يكون خروج السهم من الرامي إلى المحل الذي
قصده، وإذا كان فداء من هذا الوجه كان هو ممتثلا للحكم الثابت بالامر فلا يستقيم
القول بالنسخ فيه، لان ذلك يبتنى على النهي الذي هو ضد الامر، فلا يتصور اجتماعهما
في وقت واحد. فإن قيل: فإيش الحكمة في إضافة الايجاب إلى الولد إذا لم يجب به ذبح
الولد؟ قلنا: فيه تحقيق معنى الابتلاء في حق الخليل عليه السلام حتى يظهر منه
الانقياد والاستسلام والصبر على ما به من حرقة القلب على ولده، وفي حق الولد بالصبر
والمجاهدة على معرة الذبح إلى حال المكاشفة. وفيه إظهار معنى الكرامة والفضيلة
ص 62
للخليل عليه السلام بالاسلام لرب العالمين، وللولد بأن يكون قربانا لله، وإليه أشار
الله تعالى في قوله: *(فلما أسلما)* ثم استقر حكم الوجوب في الشاة بطريق الفداء
للولد كما قال: *(وفديناه بذبح عظيم)* والفداء اسم لما يكون واجبا بالسبب الموجب
للاصل فيه يتبين انعدام النسخ هنا لانعدام ركنه فإنه بيان مدة بقاء الواجب، وحين
وجبت الشاة فداء كان الواجب قائما والولد حرام الذبح، فعرفنا أنه لا وجه للقول بأنه
كان نسخا. ثم على مذهب علمائنا يجوز نسخ الاخف بالاثقل كما يجوز نسخ الاثقل بالاخف.
وذكر الشافعي في كتاب الرسالة أن الله تعالى فرض فرائض أثبتها وأخرى نسخها رحمة
وتخفيفا لعباده، فزعم بعض أصحابه أنه أشار بهذا إلى وجه الحكمة في النسخ. وقال
بعضهم بل أراد به أن الناسخ أخف من المنسوخ وكان لا يجوز نسخ الاخف بالاثقل،
واستدلوا فيه بقوله تعالى: *(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها)* وبالاتفاق
ليس المراد أن الناسخ أفضل من المنسوخ، فعرفنا أن المراد أنه خير من حيث إنه أخف،
وعليه نص في موضع آخر فقال: *(الآن خفف الله عنكم)* الآية. ولكنا نستدل بقوله:
*(يمحو الله ما يشاء ويثبت)* فالتقييد بكون الناسخ أخف من المنسوخ يكون زيادة على
هذا النص من غير دليل، ثم المعنى الذي دل على جواز النسخ وهو ما أشرنا إليه من
الابتلاء والنقل إلى ما فيه منفعة لنا عاجلا أو آجلا لا يفصل بينهما، فقد يكون
المنفعة تارة في النقل إلى ما هو أخف على البدن، وتارة في النقل إلى ما هو أشق على
البدن، ألا ترى أن الطبيب ينقل المريض من الغذاء إلى الدواء تارة، ومن الدواء إلى
الغذاء تارة بحسب ما يعلم من منفعته فيه. ثم هو بيان مدة بقاء الحكم على وجه لو كان
مقرونا بالامر لكان صحيحا مستقيما، وفي هذا لا فرق بين الاثقل والاخف، ولا حجة لهم
في قوله: *(الآن خفف الله عنكم)* فإن النسخ في ذلك الحكم بعينه كان نقلا من الاثقل
إلى الاخف، وهذا يدل على أن كل نسخ يكون بهذه الصفة، ألا ترى أن حد الزنا كان في
الابتداء هو الحبس والاذى باللسان ثم انتسخ ذلك بالجلد والرجم. ولا شك أن الناسخ
أثقل على البدن. وجاء عن معاذ وابن عمر رضي الله عنهم في قوله تعالى: *(وأن تصوموا
خير لكم)* أن حكمه كان هو التخيير للصحيح بين الصوم والفدية ثم انتسخ ذلك بفرضية
الصوم عزما بقوله تعالى: *(فمن شهد منكم الشهر فليصمه)* وانتسخ حكم إباحة الخمر
بالتحريم وهو أشق على
ص 63
البدن. ثم لا شك أنه قد افترض على العباد بعض ما كان مشروعا لا بصفة الفرضية وإلزام
ما كان مباحا يكون أشق لا محالة. وبهذا يتبين أنه ليس المراد من قوله: *(نأت بخير
منها)* الاخف على البدن، فإن الحج ما كان لازما قبل نزول قوله تعالى: *(ولله على
الناس حج البيت)* وكان كل مسلم مندوبا إلى أدائه ثم صار الاداء لازما بهذه الآية
وهذا أشق على البدن، يوضحه أن ترك الخروج للحج يكون أخف على البدن من الخروج، ولا
إشكال أن الخروج إلى أداء الحج بعد التمكن خير من الترك. فبهذا يتبين ضعف
استدلالهم.
فصل: في بيان شرط النسخ

قال رضي الله عنه: اعلم بأن شرط جواز النسخ
عندنا هو التمكن من عقد القلب، فأما الفعل أو التمكن من الفعل فليس بشرط، وعلى قول
المعتزلة التمكن من الفعل شرط. وحاصل المسألة أن النسخ بيان لمدة عقد القلب والعمل
بالبدن تارة، ولاحدهما وهو عقد القلب على الحكم تارة، فكان عقد القلب هو الحكم
الاصلي فيه، والعمل بالبدن زيادة يجوز أن يكون النسخ بيانا للمدة فيه ويجوز أن لا
يكون عندنا. وعلى قولهم النسخ يكون بيانا لمدة الحكم في حق العمل به وذلك لا يتحقق
إلا بعد الفعل أو التمكن منه حكما، لان الترك بعد التمكن فيه تفريط من العبد فلا
ينعدم به معنى بيان مدة العمل بالنسخ. قالوا لان العمل هو المقصود بالامر والنهي،
ألا ترى أن ورودهما بذكر الفعل معنى قول القائل افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا. وتحقيق
معنى الابتلاء في الفعل أيضا، فعرفنا أنه هو المقصود والنسخ قبل التمكن من الفعل لا
يكون إلا بطريق البداء، ألا ترى أن الانسان يقول قد أمرت عبدي أن يفعل غدا كذا ثم
بدا لي فنهيته عنه. وهذا لانه إنما ينتهي عما أمر بفعله قبل التمكن من الفعل، بأن
يظهر له من حال المأمور به ما لم يكن معلوما حين يأمره به لعلمنا أنه بالامر إنما
طلب من المأمور إيجاد الفعل بعد التمكن منه لا قبله، إذ التكليف لا يكون إلا بحسب
الوسع، والبداء على الله تعالى لا يجوز، يقرره أن القول بجواز النسخ قبل التمكن
يؤدي إلى أن يكون الشيء الواحد حسنا وقبيحا في وقت واحد، لان الامر دليل على حسن
فعل المأمور به عند الامكان، والنهي قبل التمكن
ص 64
دليل على قبح فعله في ذلك الوقت بعينه، يوضحه أن النسخ بيان مدة بقاء الحكم على وجه
يجوز أن يكون مقرونا بالامر، ولهذا جاز النسخ في الامر والنهي دون الخبر، والنسخ
قبل التمكن لا يصح مقرونا بالامر، فإنه لا يستقيم أن يقول افعل كذا إلى أن لا يكون
متمكنا منه ثم لا يفعله بعد ذلك، فعرفنا أن النسخ قبل التمكن لا يجوز. وحجتنا في
ذلك الحديث المشهور إن الله تعالى فرض على عباده خمسين صلاة في ليلة المعراج، ثم
انتسخ ما زاد على الخمس لسؤال رسول الله (ص) فكان ذلك نسخا قبل التمكن من الفعل إلا
أنه كان بعد عقد القلب عليه، فرسول الله (ص) هو الاصل لهذه الامة ولا شك أنه عقد
قلبه على ذلك، ولا معنى لقولهم إن الله تعالى ما فرض ذلك عزما وإنما جعل ذلك إلى
رأي رسوله ومشيئته، لان في الحديث أن رسول الله عليه السلام سأل التخفيف عن أمته
غير مرة وما زال يسأل ذلك ويجيبه ربه إليه حتى انتهى إلى الخمس، فقيل له: لو سألت
التخفيف أيضا فقال: أنا أستحي من ربي وفي هذا بيان أنه لم يكن ذلك مفوضا إلى
اختياره بل كان نسخا على وجه التخفيف بسؤاله بعد الفرضية. ومنهم من استدل بقوله:
*(فقدموا بين يدي نجواكم صدقة)* إلى قوله *(فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم)* فإن
هذا نسخ الامر قبل الفعل، ولكنهم يقولون كان هذا النسخ بعد التمكن من الفعل وإن كان
قبل مباشرة الفعل ولا خلاف في جواز ذلك، والاصح هو الاول، ولان النسخ جائز بعد وجود
جزء مما تناوله الامر بالفعل، فإن قول القائل افعلوا كذا في مستقبل أعماركم يجوز
نسخه بالنهي عنه بعد مضي جزء من العمر، ولولا النسخ لكان أصل الكلام متناولا لجميع
العمر، فبالنسخ يتبين أنه كان المراد الابتلاء بالعمل في ذلك الجزء خاصة ولا يتوهم
فيه معنى البداء أو الجهل بعاقبة الامر، فكذلك النسخ بعد عقد القلب على الحكم،
واعتقاد الحقية فيه قبل التمكن من العمل يكون بيانا أن المراد كان عقد القلب عليه
إلى هذا الوقت واعتقاده الفرضية فيه دون مباشرة العمل، وإنما يكون مباشرة العمل
مقصودا لمن ينتفع به، والله يتعالى عن ذلك، وإنما المقصود فيما يأمر الله به عباده
الابتلاء، والابتلاء بعزيمة القلب
ص 65
واعتقاد الحقية لا يكون دون الابتلاء بالعمل وربما يكون ذلك أهم، ألا ترى أن في
المتشابه ما كان الابتلاء إلا بعقد القلب عليه واعتقاد الحقية فيه. وكذلك في المجمل
الذي لا يمكن العمل به إلا بعد البيان يكون الابتلاء قبل البيان بعقد القلب عليه
واعتقاد الحقية فيه، ويكون ذلك حسنا لا يشوبه من معنى القبح شيء، فكذلك الامر الذي
يرد النسخ عقيبه قبل التمكن من الفعل، ويعتبر هذا بإحياء الشخص، فقد تبين انتهاء
مدة حياته بالموت قبل أن يصير منتفعا بحياته إما في بطن أمه بأن ينفصل ميتا أو بعد
الانفصال قبل أن ينتفع بحياته، وأحد لا يقول إنه يتمكن فيه معنى البداء أو إنه
يجتمع فيه معنى الحسن والقبح، يوضحه أن الواحد منا قد يأمر عبده ومقصوده من ذلك أن
يظهر عند الناس حسن طاعته وانقياده له ثم ينهاه عن ذلك بعد حصول هذا المقصود قبل أن
يتمكن من مباشرة الفعل، ولا يجعل ذلك دليل البداء منه وإن كان ممن يجوز عليه
البداء، فلان لا يجعل النسخ قبل التمكن من الفعل بعد عزم القلب واعتقاد الحقية
موهما للبداء في حق من لا يجوز عليه البداء أولى، وإنما يجتمع الحسن والقبح في شيء
واحد إذا كان مأمورا به ومنهيا عنه في وقت واحد، وذلك لا يكون، مع أن الحسن مطلقا
ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، يقرره أن تمام الحسن على ما يزعمون إنما
يظهر عند مباشرة العمل والاطلاق يقتضي صفة الكمال، ثم بالاتفاق يجوز النسخ بعد
التمكن من الفعل قبل حقيقة الفعل، لان معنى الحسن فيه كامل من حيث عقد القلب
واعتقاد الحقية فيه فكذلك قبل التمكن، ولا نقول بأن مثل هذا البيان لا يجوز مقرونا
بالامر فإنه لو قال افعل كذا في وقت كذا (إن لم أنسخه عنك كان ذلك أمرا مستقيما
بمنزلة قوله افعل كذا في وقت كذا) إن تمكنت منه، وتكون الفائدة في الحال هو القبول
بالقلب واعتقاد الحقية فيه، فكذلك يجوز مثله بعد الامر بطريق النسخ، والله الموفق.
فصل: في بيان الناسخ

قال رضي الله عنه: اعلم بأن الحجج أربعة: الكتاب، والسنة، والاجماع،
ص 66
والقياس. ولا خلاف بين جمهور العلماء في أنه لا يجوز نسخ الكتاب والسنة بالقياس،
وكان ابن سريج من أصحاب الشافعي يجوز ذلك، والانماطي من أصحابه كان يقول لا يجوز
ذلك بقياس الشبه ويجوز بقياس مستخرج من الاصول، وكل قياس هو مستخرج من القرآن يجوز
نسخ الكتاب به، وكل قياس هو مستخرج من السنة يجوز نسخ السنة به، لان هذا في الحقيقة
نسخ الكتاب بالكتاب، ونسخ السنة بالسنة، فثبوت الحكم بمثل هذا القياس في الحقيقة
يكون محالا به على الكتاب والسنة. وهذا قول باطل باتفاق الصحابة، فقد كانوا مجمعين
على ترك الرأي بالكتاب والسنة، حتى قال عمر رضي الله عنه في حديث الجنين: كدنا أن
نقضي فيه برأينا وفيه سنة عن رسول الله (ص). وقال علي رضي الله عنه: لو كان الدين
بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره ولكني رأيت رسول الله يمسح على ظاهر
الخف دون باطنه. ولان القياس كيفما كان لا يوجب العلم فكيف ينسخ به ما هو موجب
للعلم قطعا، وقد بينا أن النسخ بيان مدة بقاء الحكم وكونه حسنا إلى ذلك الوقت، ولا
مجال للرأي في معرفة انتهاء وقت الحسن، وما ادعاه من أن هذا الحكم يكون ثابتا
بالكتاب فكلام ضعيف، فإن الوصف الذي به يرد الفرع إلى الاصل المنصوص عليه في الكتاب
والسنة غير مقطوع بأنه هو المعنى في الحكم الثابت بالنص، وأحد من القائسين لا يقول
بأن حكم الربا فيما عدا الاشياء الستة يكون ثابتا بالنص الذي فيه ذكر الاشياء
الستة. وأما النسخ بالاجماع فقد جوزه بعض مشايخنا بطريق أن الاجماع موجب علم اليقين
كالنص فيجوز أن يثبت النسخ به، والاجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور، وإذا
كان يجوز النسخ بالخبر المشهور كما أشرنا إليه في الزيادة على النص فجوازه بالاجماع
أولى. وأكثرهم على أنه لا يجوز ذلك، لان الاجماع عبارة عن اجتماع الآراء على شيء،
وقد بينا أنه لا مجال للرأي في معرفة نهاية وقت الحسن والقبح في الشيء عند الله
تعالى، ثم أوان النسخ حال حياة رسول الله (ص) لاتفاقنا على أنه لا نسخ بعده، وفي
حال حياته ما كان ينعقد الاجماع بدون رأيه، وكان الرجوع إليه فرضا، وإذا وجد البيان
منه فالموجب للعلم قطعا هو البيان المسموع
ص 67
منه، وإنما يكون الاجماع موجبا للعلم بعده ولا نسخ بعده، فعرفنا أن النسخ بدليل
الاجماع لا يجوز. ثم الاقسام بعد هذا أربعة: نسخ الكتاب بالكتاب، ونسخ السنة
بالسنة، ونسخ الكتاب بالسنة، ونسخ السنة بالكتاب. ولا خلاف بين العلماء في جواز
القسمين الاولين، ويختلفون في القسمين الآخرين. فعندنا يجوز نسخ الكتاب بالسنة
المتواترة أو المشهورة على ما ذكره الكرخي عن أبي يوسف أنه يجوز نسخ الكتاب بمثل
خبر المسح على الخفين وهو مشهور، وكذلك يجوز نسخ السنة بالكتاب. وعلى قول الشافعي
لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة ولا نسخ السنة بالكتاب، فإنه قال في كتاب الرسالة: وسنة
رسول الله (ص) لا ينسخها إلا سنة كما لا ينسخ الكتاب إلا الكتاب. فمن أصحابه من
يقول مراده نفي الجواز، ومنهم من يقول مراده نفي الوجود: أي لم يوجد في الشريعة نسخ
الكتاب بالسنة ولا نسخ السنة بالكتاب. فيحتاج إلى إثبات الفصلين بالحجة. فأما هو
احتج بقوله تعالى: *(قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى
إلي)* وفي هذا تنصيص على أنه كان متبعا لكل ما يوحى إليه ولم يكن مبدلا لشيء منه
والنسخ تبديل، قال تعالى: *(لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)* فأخبر أنه
مبين لما هو المنزل حتى يعمل الناس بالمنزل بعدما تبين لهم ببيانه، وفي تجويز نسخ
الكتاب بالسنة رفع هذا الحكم، لان العمل بالناسخ يكون، فإذا كان الناسخ من السنة لا
يكون العمل به عملا بالمنزل. وقوله تعالى: *(ولعلهم يتفكرون)*: أي يتفكرون في
المنزل ليعملوا به بعد بيانه، وفي الناسخ في المنسوخ التفكر في التاريخ بينهما
ليجعل المتقدم منسوخا بالمتأخر لا في المنزل ليعمل به، وقال تعالى: *(ما ننسخ من
آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها)* ولا شك أن السنة لا تكون مثلا للقرآن ولا
خيرا منه، والقرآن كلام الله غير محدث ولا مخلوق وهو معجز، والسنة كلام مخلوق وهو
غير معجز. فعرفنا أن نسخ الكتاب لا يجوز بالسنة، وقال عليه السلام: إذا روي لكم
ص 68
عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالف كتاب الله
فردوه ومع هذا البيان من رسول الله (ص) كيف يجوز نسخ الكتاب بالسنة؟! ولان ما قلته
أقرب إلى صيانة رسول الله عن طعن الطاعنين فيه، وبالاتفاق يجب المصير في باب بيان
أحكام الشرع إلى طريق يكون أبعد عن الطعن فيه. وبيان ذلك أنه إذا جاز منه أن يقول
ما هو مخالف للمنزل في الظاهر على وجه النسخ له فالطاعن يقول هو أول قائل وأول عامل
بخلاف ما يزعم أنه أنزل إليه فكيف يعتمد قوله فيه! وإذا ظهر منه قول ثم قرأ ما هو
مخالف لما ظهر منه من القول فالطاعن يقول قد كذبه ربه فيما قال فكيف نصدقه؟ وإلى
هذا أشار الله تعالى في قوله: *(وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا
إنما أنت مفتر)* ثم نفى عنه هذا الطعن بقوله: *(قل نزله روح القدس من ربك بالحق)*
ففي هذا بيان أنه ليس في نسخ الكتاب بالكتاب تعريضه للطعن، وفي نسخ الكتاب بالسنة
تعريضه للطعن من الوجه الذي قاله الطاعنون، فيجب سد هذا الباب لعلمنا أنه مصون عما
يوهم الطعن فيه. واستدل على نفي جواز نسخ (السنة) بالكتاب بقوله: *(ونزلنا عليك
الكتاب تبيانا لكل شيء)* والسنة شيء فيكون الكتاب تبيانا لحكمه لا رافعا له، وذلك
في أن يكون مؤيدا إن كان موافقا ومبينا للغلط فيها إن كان مخالفا، ولهذا لا يجوز
إلا عند وروده ليكون بيانا محضا، فإن رسول الله كان لا يقر على الخطأ، والبيان
المحض ما يكون مقارنا، ولان النبي عليه السلام إذا أمر بشيء وتقرر ذلك فقد توجه
علينا الامر من الله تعالى بتصديقه في ذلك واتباعه، فلا يجوز القول بأن ينزل في
القرآن بعد ذلك ما يكون مخالفا له حقيقة أو ظاهرا، فإن ذلك يؤدي إلى القول بأنه لا
يفترض تصديقه فيما يخبر به لجواز أن ينزل القرآن بخلافه وذلك خلاف النص وخلاف قول
المسلمين أجمع، يقرره أن السنة نوع حجة لاثبات حكم الشرع، والكتاب كذلك، وحجج الشرع
لا تتناقض وإنما يتأيد نوع منها بنوع
ص 69
آخر، لان في التناقض ما يؤدي إلى تنفير الناس عن قبوله، وما يستدل به على أنه من
عند غير الله، قال تعالى: *(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)*
فبهذا يتبين أن أحد النوعين يتأيد بالآخر، ولا يتمكن فيما بين النوعين تناقض،
والقول بجواز نسخ السنة بالكتاب والكتاب بالسنة يؤدي إلى هذا. وحجتنا في ذلك من
أصحابنا من استدل بقوله تعالى: *(كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية
للوالدين والاقربين)* ففي هذا تنصيص على أن الوصية للوالدين والاقربين فرض ثم انتسخ
ذلك بقوله عليه السلام: لا وصية لوارث وهذه سنة مشهورة. ولا يجوز أن يقال إنما
انتسخ ذلك بآية المواريث لان فيها إيجاب حق آخر لهم بطريق الارث وإيجاب حق بطريق
الارث لا ينافي حقا آخر ثابتا بطريق آخر، وبدون المنافاة لا يثبت النسخ. ولا يجوز
أن يقال لعل ناسخه مما أنزل في القرآن ولكن لم يبلغنا لانتساخ تلاوته مع بقاء حكمه،
لان فتح هذا الباب يؤدي إلى القول بالوقف في جميع أحكام الشرع، فإنه يقال: ما من
حكم إلا ويتوهم فيه أن يكون ناسخه قد نزل ثم لم يبلغنا لانتساخ تلاوته، ومع ذلك
يؤدي هذا إلى مذهب الروافض، فإنهم يقولون قد نزلت آيات كثيرة فيها تنصيص على إمامة
علي ولم يبلغنا ذلك، ويقولون إن لظاهر ما نزل من القرآن باطنا لا نعقله وقد كان
يعقله رسول الله (ص) وأهل بيته، فيزعمون أن كثيرا من الاحكام قد خفي علينا ويجب
الرجوع فيها إلى أهل البيت للوقوف على ذلك، وقد أجمع المسلمون على بطلان القول
بهذا، فكل سؤال يؤدي إلى القول بذلك فهو ساقط. ولكن هذا الاستدلال مع هذا ليس بقوي
من وجهين: أحدهما أن في آية المواريث تنصيصا على ترتيب الارث على وصية منكرة، فإنه
قال: *(من بعد وصية يوصى بها أو دين)* والتي كانت مفروضة من الوصية هي الوصية
المعهودة المعرفة بالالف واللام، فإنه قال: *(الوصية للوالدين)* فلو كانت تلك
الوصية باقية عند نزول آية المواريث لكان فيها ترتيب الميراث على الوصية المعهودة،
وفي التنصيص على ترتيب الارث على
ص 70
وصية مطلقة دليل نسخ الوصية المعهودة، لان الاطلاق بعد التقييد نسخ كما أن التقييد
بعد الاطلاق نسخ. والثاني أن النسخ في الشرع نوعان: أحدهما إثبات الحكم مبتدأ على
وجه يكون دليلا على انتهاء الوقت في حكم كان قبله. والثاني نسخ بطريق التحويل للحكم
من شيء إلى شيء، بمنزلة تحويل فرض التوجه عند أداء الصلاة من بيت المقدس إلى
الكعبة، وانتساخ الوصية للوالدين والاقربين بآية الميراث من النوع الثاني، فإن الله
تعالى فوض بيان نصيب كل فريق إلى من حضره الموت على أن يراعى الحدود في ذلك، ويبين
حصة كل واحد منهم بحسب قرابته، ثم تولى بيان ذلك بنفسه في آية المواريث، وإليه أشار
في قوله تعالى: *(يوصيكم الله)* وإنما تولى بيانه بنفسه لان الموصي ربما كان يقصد
إلى المضارة في ذلك، وإلى ذلك أشار في قوله تعالى: *(غير مضار وصية من الله)* وربما
كان لا يحسن التدبير في مقدار ما يوصى لكل واحد منهم بجهله فبين الله تعالى نصيب كل
واحد منهم على وجه يتيقن بأنه هو الصواب وأن فيه الحكمة البالغة، وإلى ذلك أشار في
قوله تعالى: *(لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا)* وما هذا إلا نظير من أمر غيره بإعتاق
عبده ثم يعتقه بنفسه فينتهي به حكم الوكالة لما باشره الموكل بنفسه، فهنا حين بين
الله تعالى نصيب كل قريب لم يبق حكم الوصية إلى الوالدين والاقربين لحصول المقصود
بأقوى الطرق، وإليه أشار النبي عليه السلام بقوله: إن الله تعالى أعطى كل ذي حق
حقه، ألا لا وصية لوارث وكان النسخ بهذا الطريق بمنزلة الحوالة، فإن الدين إذا تحول
من ذمة إلى ذمة حتى اشتغلت الذمة الثانية به فرغ منه الذمة الاولى وإن لم يكن بين
وجوب الدين في الذمتين معنى المنافاة كما يكون بطريق الكفالة. ولكنا نقول بهذا
الطريق يجوز أن يثبت انتهاء حكم وجوب الوصية للوالدين والاقربين، فأما انتهاء حكم
جواز الوصية لهم لا يثبت بهذا الطريق، ألا ترى أن بالحوالة وإن لم يبق الدين واجبا
في الذمة الاولى فقد بقيت الذمة محلا صالحا لوجوب الدين فيها، وليس من ضرورة انتفاء
وجوب الوصية لهم
ص 71
انتفاء الجواز كالوصية للاجانب. فعرفنا أنه إنما انتسخ انتفاء وجوب الوصية لهم
لضرورة نفي أصل الوصية لهم وذلك ثابت بالسنة، وهو قوله عليه السلام لا وصية لوارث
فمن هذا الوجه يتقرر الاستدلال بهذه الآية. ومنهم من استدل بحكم الحبس في البيوت
والاذى باللسان في حق الزاني، فإنه كان بالكتاب ثم انتسخ بالسنة، وهو قوله عليه
السلام البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة
وهذا ليس بقوي أيضا، فقد ثبت برواية عمر رضي الله عنه أن الرجم مما كان يتلى في
القرآن على ما قال: لولا أن الناس يقولون إن عمر زاد في كتاب الله لكتبت على حاشية
المصحف: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. الحديث، فإنما كان هذا نسخ الكتاب
بالكتاب. ثم الآية التي فيها بيان حكم الحبس والاذى باللسان فيها بيان توقيت ذلك
الحكم بما هو مجمل وهو قوله تعالى: *(أو يجعل الله لهن سبيلا)* فإنما بين رسول الله
(ص) ذلك المجمل، وإليه أشار في قوله عليه السلام خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا
ولا خلاف أن بيان المجمل في كتاب الله تعالى بالسنة يجوز. ومنهم من استدل بقوله
تعالى: *(فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا)* فإن هذا حكم منصوص في القرآن،
فقد انتسخ وناسخه لا يتلى في القرآن، فعرفنا أنه ثابت بالسنة. وهذا ضعيف أيضا. وبين
أهل التفسير كلام فيما هو المراد بهذه الآية، وأثبت ما قيل فيه أن من ارتدت زوجته
وهربت إلى دار الحرب فقد كان على المسلمين أن يعينوه من الغنيمة بما يندفع به
الخسران عنه، وذلك بأن يعطوه مثل ما ساق إليها من الصداق، وإلى ذلك وقعت الاشارة في
قوله تعالى: *(فعاقبتم)* أي عاقبتم المشركين بالسبي والاسترقاق واغتنام أموالهم.
وكان ذلك بطريق الندب على سبيل المساواة ولم ينتسخ هذا الحكم. فبهذا تبين أنه لا
يؤخذ نسخ حكم ثابت بالكتاب بحكم هو ثابت بالسنة ابتداء، وإنما يؤخذ من ذلك الزيادة
بالسنة على الحكم الثابت بالكتاب، نحو ما ذهب إليه الشافعي في ضم التغريب إلى الجلد
ص 72
في حد البكر، فإنه أثبته بقوله: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) ومثل هذه
الزيادة عندنا نسخ وعنده بيان بطريق التخصيص ولا يكون نسخا. فعلى هذا، الكلام يبتنى
على ذلك الاصل. وسنقرر هذا بعد هذا. ثم الحجة لاثبات جواز نسخ الكتاب بالسنة قوله
تعالى: *(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)* فإن المراد بيان حكم غير
متلو في الكتاب مكان حكم آخر، وهو متلو على وجه يتبين به مدة بقاء الحكم الاول
وثبوت حكم الثاني، والنسخ ليس إلا هذا. والدليل على أن المراد هذا لا ما توهمه
الخصم في بيان الحكم المنزل في الكتاب أنه قال تعالى: *(ما نزل إليهم)* ولو كان
المراد الكتاب لقال ما نزل إليك كما قال تعالى: *(بلغ ما أنزل إليك من ربك)*
والمنزل إلى الناس الحكم الذي أمروا باعتقاده والعمل به، وذلك يكون تارة بوحي متلو،
وتارة بوحي غير متلو، وهو ما يكون مسموعا من رسول الله (ص) مما يقال إنه سنته، فقد
ثبت بالنص أنه كان لا يقول ذلك إلا بالوحي قال تعالى: *(وما ينطق عن الهوى إن هو
إلا وحي يوحى)* ومعنى قوله: *(لعلهم يتفكرون)*: أي يتفكرون في حجج الشرع ليقفوا
بتفكرهم على الحكمة البالغة في كل حجة، أو ليعرفوا الناسخ من المنسوخ. ووجه الحكمة
في تبديل المنسوخ بالناسخ ما يترتب عليه من المنافع للمخاطبين في الدنيا والآخرة،
أو يتبين لهم إرادة اليسر والتوسعة للامر عليهم، أو ما يكون لهم فيه من عظيم
الثواب، وفي هذا كله لا فرق بين ما يكون ثبوته بوحي متلو وبين ما يكون ثبوته بوحي
غير متلو، وفيما تلا من الآية إشارة إلى ما قلنا فإنه قال تعالى: *(قل ما يكون لي
أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي)* فعرفنا أن المراد بيان أنه لا
يبدل شيئا من تلقاء نفسه بناء على متابعة الهوى وإنما يوحى إليه فيتبع ما يوحى إليه
ويبينه للناس فيما ليس بمنزل في القرآن، ولكن العبارة فيه مفوض إلى رسول الله (ص)
فيبينه بعبارته، وهو حكم ثابت من الله تعالى بدليل مقطوع به بمنزلة الحكم المتلو في
القرآن، ودليل كونه مقطوعا به ما قال إن تصديقنا
ص 73
إياه فرض علينا من الله تعالى، وكذلك أتباعه لازم بقوله تعالى: *(وما آتاكم الرسول
فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)* وقال تعالى: *(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني
يحببكم الله)* فبهذا التقرير يتبين أن بالوحي الذي هو غير متلو (يجوز أن يتبين مدة
بقاء الحكم المتلو كما يجوز أن يتبين ذلك بالوحي الذي هو متلو) والنسخ ليس إلا هذا،
ألا ترى أنا لو سمعنا رسول الله (ص) يقول لحكم هو ثابت بوحي متلو: قد كان هذا الحكم
ثابتا إلى الآن وقد انتهى وقته فلا تعملوا به بعده، يلزمنا تصديقه في ذلك والكف عن
العمل به، وتكفير من يكذبه في ذلك. فكذلك إذا ثبت ذلك عندنا بالنقل المتواتر عنه.
فإن قيل: مع هذا في الآية إشارة إلى (أن رسول الله مبين للحكم وفي النسخ بيان حكم
ورفع حكم مشروع وليس في الآية إشارة إلى) أنه رافع لحكم ثابت بوحي متلو. قلنا: نحن
نقول هو مبين ولكن في حق الحكم الاول مبين تأويلا وتبليغا وفي حق الحكم الثاني
تبليغا وتأويلا. وبيان هذا أنا قد ذكرنا أن الدليل الموجب لثبوت الحكم وهو الوحي
المتلو لا يكون موجبا بقاء الحكم وبالنسخ إنما يرتفع بقاء الحكم الاول، ولم يكن ذلك
ثابتا بوحي متلو حتى يكون في بيانه رفع الحكم المتلو مع أنه ليس في النسخ رفع الحكم
ولكنه بيان مدة بقاء الحكم، ثم الوقت لا يبقى بعد مضي وقته كما لو كان التوقيت فيه
مذكورا في النص المثبت، فعلى هذا التقرير يكون هو مبينا للوقت فيما هو منزل. فإن
قيل: فعلى هذا اختلاط البيان بالنسخ وبالاتفاق بين البيان والنسخ فرق. قلنا: لا
كذلك، فإن كلا واحد منهما في الحقيقة بيان إلا أن البيان المحض يجوز أن يكون مقترنا
بأصل الكلام، كدليل الخصوص في العموم، فإنه لا يكون إلا مقارنا، وبيان المجمل فإنه
يجوز أن يكون مقارنا. فأما النسخ (بيان) لا يكون
ص 74
إلا متأخرا. وبهذه العلامة يظهر الفرق بينهما، فأما أن يكون النسخ غير البيان فلا.
فإن قيل: الحكم الثابت بالسنة يضاف إلى رسول الله (ص) فيقال إنه سنته، وما يكون
طريقه الوحي فهو مضاف إلى الله تعالى كالثابت بالوحي المتلو، ففي إضافته إلى رسول
الله دليل على أنه ليس ببيان لما هو المنزل بطريق الوحي. وإذا تقرر هذا فنقول: في
النسخ بيان انتهاء مدة كون الحكم حسنا عند الله تعالى وذلك مما لا يمكن معرفته إلا
بوحي من الله، فكيف يجوز إثبات نسخ الكتاب بالسنة؟ قلنا: قد بينا أن ما بينه رسول
الله (ص) فإنما يبينه عن وحي، والاضافة إلى رسول الله (ص) لان العبارة في ذلك له،
فمن هذا الوجه يقال إنه سنته. فأما حقيقة الحكم من الله تعالى وقف عليه رسول الله
بطريق الوحي ثم بينه للناس. وبهذا يتبين أنه ما عرف انتهاء مدة الحسن في ذلك الحكم
إلا بوحي من الله تعالى، وما هو إلا نظير بيان رسول الله (ص) مدة الحياة لحي قد
أحياه الله تعالى، فإن أحدا لا يظن أنه بين ذلك من غير طريق الوحي، وما كانت
الاضافة إليه إلا نظير قوله تعالى: *(أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن
الخالقون؟)* فإن إضافة الامناء إلى العباد لا يمنع القول بأن الشخص مخلوق خلقه الله
تعالى، فكذلك إضافة السنة إلى رسول الله (ص) بطريق أنه ظهر لنا بعبارته لا يكون
دليلا على أن الحكم غير ثابت بطريق الوحي من الله تعالى، وكما أن الكتاب والسنة كل
واحد منهما حجة موجبة للعلم فآيات الكتاب كلها حجة موجبة للعلم. ثم القول بجواز نسخ
الكتاب بالكتاب لا يؤدي إلى القول بالتناقض في الحجة فكذلك في السنن، فإن جواز نسخ
السنة بالسنة لا يؤدي إلى التناقض وتطرق الطاعنين إلى الطعن في رسول الله (ص)،
فكذلك جواز نسخ الكتاب بالسنة لا يؤدي إلى ذلك بل يؤدي ذلك إلى تعظيم رسول الله
(ص)، وإلى قرب منزلته من حيث إن الله تعالى فوض بيان الحكم الذي هو وحي في الاصل
إليه ليبينه بعبارته، وجعل لعبارته من الدرجة ما يثبت به مدة الحكم الذي هو ثابت
بوحي متلو حتى
ص 75
يتبين به انتساخه. والدليل عليه أنه لا خلاف بيننا وبين الخصم على جواز نسخ التلاوة
دون الحكم، ونسخ تلاوة الكتاب إنما يكون بغير الكتاب، إما بأن يرفع حفظه من القلوب،
أو لا يبقى أحد ممن كان يحفظه نحو صحف إبراهيم ومن تقدمه من الانبياء عليهم السلام،
وهذا نسخ الكتاب بغير الكتاب، وقد جاء في الحديث أن رسول الله (ص) قرأ في صلاته
سورة المؤمنين فأسقط منها آية ثم قال بعد الفراغ ألم يكن فيكم أبي فقال: نعم يا
رسول الله. فقال: هلا ذكرتنيها فقال: ظننت أنها نسخت. فقال: لو نسخت لانبأتكم بها
فقد اعتقد نسخ الكتاب بغير الكتاب ولم ينكر ذلك عليه رسول الله (ص)، فإذا ثبت جواز
نسخ التلاوة بغير الكتاب فكذلك جواز نسخ الحكم، لان وجوب التلاوة والعمل بحكمه كل
واحد منهما حكم ثابت بالكتاب. والدليل على جواز نسخ الحكم الثابت بالكتاب بغيره أن
قوله تعالى: *(لا يحل لك النساء من بعد)* قد انتسخ باتفاق الصحابة، على ما روي عن
ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما أنهما قالا: ما خرج رسول الله (ص) من الدنيا حتى
أبيح له النساء. وناسخ هذا لا يتلى في الكتاب، فعرفنا أنهم اعتقدوا جواز نسخ الكتاب
بغير الكتاب. فأما قوله تعالى: *(نأت بخير منها أو مثلها)* فهو يخرج على ما ذكرنا
من التقرير، فإن كل واحد من الحكمين ثابت بطريق الوحي، وشارعه علام الغيوب وإن كانت
العبارة في أحدهما من حيث الظاهر لرسول الله، فيستقيم إطلاق القول بأن الحكم الثاني
مثل الاول أو خير منه على معنى زيادة الثواب والدرجة فيه، أو كونه أيسر على العباد،
أو أجمع لمصالحهم عاجلا وآجلا، إلا أن الوحي المتلو نظمه معجز والذي هو غير متلو
نظمه ليس بمعجز، لانه عبارة مخلوق، وهو عليه السلام وإن كان أفصح العرب فكلامه ليس
بمعجز، ألا ترى أنه ما تحدى الناس إلى الاتيان بمثل كلامه كما تحداهم إلى الاتيان
بمثل سورة من القرآن. ولكن حكم النسخ لا يختص بالمعجز، ألا ترى أن النسخ يثبت بما
دون الآية وبآية واحدة، واتفاق العلماء على صفة الاعجاز في سورة وإن تكلموا فيما
دون
ص 76
السورة. فعرفنا أن حكم النسخ لا يختص بالمعجز. وما روي من قوله عليه السلام:
فاعرضوه على كتاب الله تعالى فقد قيل هذا الحديث لا يكاد يصح، لان هذا الحديث بعينه
مخالف لكتاب الله تعالى، فإن في الكتاب فرضية اتباعه مطلقا، وفي هذا الحديث فرضية
اتباعه مقيدا بأن لا يكون مخالفا لما يتلى في الكتاب ظاهرا. ثم ولئن ثبت فالمراد
أخبار الآحاد لا المسموع منه بعينه أو الثابت عنه بالنقل المتواتر، وفي اللفظ ما دل
عليه وهو قوله عليه السلام: إذا روي لكم عني حديث ولم يقل إذا سمعتم مني، وبه نقول
إن بخبر الواحد لا يثبت نسخ الكتاب، لانه لا يثبت كونه مسموعا من رسول الله (ص)
قطعا ولهذا لا يثبت به علم اليقين، على أن المراد بقوله: وما خالف فردوه عند
التعارض إذا جعل التاريخ بينهما حتى لا يوقف على الناسخ والمنسوخ منهما فإنه يعمل
بما في كتاب الله تعالى، ولا يجوز ترك ما هو ثابت في كتاب الله نصا عند التعارض،
ونحن هكذا نقول، وإنما الكلام فيما إذا عرف التاريخ بينهما. والدليل على جواز نسخ
السنة بالكتاب قوله تعالى: *(ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)* فإن السنة شيء
ومطلقها يحتمل التوقيت والتأبيد فناسخها يكون مبينا معنى التوقيت فيها، والله تعالى
بين أن القرآن تبيان لكل شيء فبه يظهر جواز نسخ السنة بالكتاب. والدليل عليه جواز
نسخ السنة بالسنة، فإن كل واحد منهما ثابت بوحي غير متلو فإذا جاز نسخ السنة بوحي
غير متلو فلان يجوز نسخها بوحي متلو كان أولى. والدليل على وجود ذلك أن النبي عليه
السلام بعدما قدم المدنية كان يصلي إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، وهذا الحكم ليس
يتلى في القرآن وإنما يثبت بالسنة ثم انتسخ بقوله تعالى: *(فول وجهك شطر المسجد
الحرام)*. فإن قيل: لا كذلك بل ثبوت هذا الحكم بالكتاب، فإنه كان في شريعة من
قبلنا، وعندي شريعة من قبلنا تلزمنا حتى يقوم الدليل على انتساخه، وهذا حكم ثابت
بالكتاب وهو قوله تعالى: *(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)* قلنا: عندك شريعة
من قبلنا تلزمنا بطريق أنه تصير شريعة لنا بسنة رسول الله قولا أو عملا
ص 77
فلا يخرج بهذا من أن يكون نسخ السنة بالكتاب، مع أن الناسخ ما كان في شريعة من
قبلنا قد ثبت بفعل رسول الله حين كان بمكة فإنه كان يصلي إلى الكعبة، ثم بعدما قدم
المدينة لما صلى إلى بيت المقدس انتسخت السنة بالسنة، ثم لما نزلت فرضية التوجه إلى
الكعبة انتسخت السنة بالكتاب، ولا خلاف أن ما كان في شريعة من قبلنا ثبت انتساخه في
حقنا بقول أو فعل من رسول الله (ص) بخلافه وهذا نسخ الكتاب بالسنة. والدليل عليه أن
النبي عليه السلام صالح قريشا عام الحديبية على أن يرد عليهم من جاءه منهم مسلما ثم
انتسخ بقوله: *(فلا ترجعوهن إلى الكفار)* الآية، وهذا نسخ السنة بالكتاب. وكذلك حكم
إباحة الخمر في الابتداء فإنه كان ثابتا بالسنة ثم انتسخ بالكتاب، وهو قوله تعالى:
*(فاجتنبوه)* وحكم حرمة الاكل والشرب والجماع بعد النوم في زمان الصوم كان ثابتا
بالسنة ثم انتسخ بقوله تعالى: *(فالآن باشروهن)* الآية. ولهذا أمثلة كثيرة. وأما
نسخ الكتاب بالكتاب فنحو وجوب الصفح والاعراض عن المشركين، فإنه كان ثابتا بالكتاب
وهو قوله تعالى: *(فاصفح الصفح الجميل)* ثم انتسخ ذلك بالكتاب بقوله تعالى:
*(فاقتلوا المشركين)* وحرمة فرار الواحد مما دون العشرة من المشركين حكما ثابتا
بالكتاب وهو قوله: *(وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا)* ثم انتسخ بالكتاب وهو قوله:
*(الآن خفف الله عنكم)*. وأما نسخ السنة بالسنة فبيانه فيما روي عن رسول الله (ص)
قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه. وكنت
نهيتكم عن لحوم الاضاحي أن تمسكوها فوق ثلاثة أيام فأمسكوا وادخروا ما بدا لكم.
وكنت نهيتكم عن الشرب في الدباء والحنتم والمزفت فاشربوا في الظروف فإن الظروف لا
تحل شيئا ولا تحرمه، ولا تشربوا مسكرا ثم إنما يجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة أو
المشهورة على وجه لو جهل التاريخ بينهما يثبت حكم التعارض. فأما بخبر الواحد لا
يجوز النسخ بعد رسول الله (ص)، لان التعارض به لا يثبت بينه وبين الكتاب، فإنه لا
يعلم بأنه كلام رسول الله عليه السلام لتمكن الشبهة في طريق النقل، ولهذا لا يوجب
العلم، فلا يتبين به أيضا مدة بقاء الحكم الثابت بما يوجب علم اليقين. فأما في حياة
رسول الله (ص)
ص 78
فقد كان يجوز أن يثبت نسخ الكتاب بخبر الواحد، ألا ترى أن أهل قباء تحولوا في خلال
الصلاة من جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة بخبر الواحد ولم ينكر عليهم ذلك رسول
الله. وهذا لان في حياته كان احتمال النسخ والتوقيت قائما في كل حكم لان الوحي كان
ينزل حالا فحالا، فأما بعده فلا احتمال للنسخ ابتداء. ولا بد من أن يكون ما يثبت به
النسخ مستندا إلى حال حياته بطريق لا شبهة فيه، وهو النقل المتواتر أو ما يكون في
حيز التواتر على الوجه الذي قررنا فيما سبق، والله أعلم.
فصل: في بيان وجوه النسخ

وهذه وجوه أربعة: نسخ التلاوة والحكم جميعا، ونسخ الحكم مع بقاء التلاوة، ونسخ رسم
التلاوة مع بقاء الحكم، والنسخ بطريق الزيادة على النص. فأما الوجه الاول: فنحو صحف
إبراهيم ومن تقدمه من الرسل عليهم السلام، فقد علمنا بما يوجب العلم حقيقة أنها قد
كانت نازلة تقرأ ويعمل بها، قال تعالى: *(إن هذا لفي الصحف الاولى صحف إبراهيم
وموسى)* وقال تعالى: *(وإنه لفي زبر الاولين)* ثم لم يبق شيء من ذلك في أيدينا
تلاوة ولا عملا به فلا طريق لذلك سوى القول بانتساخ التلاوة والحكم فيما يحتمل ذلك.
وله طريقان: إما صرف الله تعالى عنها القلوب، وإما موت من يحفظها من العلماء لا إلى
خلف. ثم هذا النوع من النسخ في القرآن كان جائزا في حياة رسول الله عليه السلام
بقوله تعالى: *(سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله)* فالاستثناء دليل على جواز ذلك.
وقال تعالى: *(ما ننسخ من آية أو ننسها)* وقال: *(ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا
إليك)* فأما بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز هذا النوع من النسخ في
القرآن عند المسلمين. وقال بعض الملحدين ممن يتستر بإظهار الإسلام وهو قاصد إلى
إفساده هذا جائز بعد وفاته أيضا، واستدل في ذلك بما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله
عنه كان يقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم.. وأنس رضي الله عنه كان يقول:
ص 79
قرأنا في القرآن: بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا. وقال عمر رضي
الله عنه: قرأنا آية الرجم في كتاب الله ووعيناها. وقال أبي بن كعب: إن سورة
الاحزاب كانت مثل سورة البقرة أو أطول منها. والشافعي لا يظن به موافقة هؤلاء في
هذا القول، ولكنه استدل بما هو قريب من هذا في عدد الرضعات، فإنه صحح ما يروى عن
عائشة رضي الله عنها: وإن مما أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس
رضعات معلومات، وكان ذلك مما يتلى في القرآن بعد وفاة رسول الله (ص) - الحديث.
والدليل على بطلان هذا القول قوله تعالى: *(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)*
ومعلوم أنه ليس المراد الحفظ لديه، فإن الله تعالى يتعالى من أن يوصف بالنسيان
والغفلة، فعرفنا أن المراد الحفظ لدينا، فالغفلة والنسيان متوهم منا وبه ينعدم
الحفظ إلا أن يحفظه الله عز وجل، ولانه لا يخلو شيء من أوقات بقاء الخلق في الدنيا
عن أن يكون فيما بينهم ما هو ثابت بطريق الوحي فيما ابتلوا به من أداء الامانة التي
حملوها، إذ العقل لا يوجب ذلك وليس به كفاية بوجه من الوجوه، وقد ثبت أنه لا ناسخ
لهذه الشريعة بوحي ينزل بعد وفاة رسول الله عليه السلام، ولو جوزنا هذا في بعض ما
أوحي إليه لوجب القول بتجويز ذلك في جميعه فيؤدي إلى القول بأن لا يبقى شيء مما ثبت
بالوحي بين الناس في (حال) بقاء التكليف، وأي قول أقبح من هذا! ومن فتح هذا الباب
لم يأمن أن يكون بعض ما في أيدينا اليوم أو كله مخالف لشريعة رسول الله، بأن نسخ
الله ذلك بعده وألف بين قلوب الناس على أن ألهمهم ما هو خلاف شريعته، فلصيانة الدين
إلى آخر الدهر أخبر الله تعالى أنه هو الحافظ لما أنزله على رسوله، وبه يتبين أنه
لا يجوز نسخ شيء منه بعد وفاته بطريق الاندراس وذهاب حفظه من قلوب العباد، وما ينقل
من أخبار الآحاد شاذ لا يكاد يصح شيء منها، ويحمل قول من قال في آية الرجم إنه في
كتاب الله: أي في حكم الله تعالى، كما قال تعالى *(كتاب الله عليكم)*: (أي حكم الله
عليكم) وحديث عائشة لا يكاد يصح
ص 80
لانه قال في ذلك الحديث وكانت الصحيفة تحت السرير فاشتغلنا بدفن رسول الله فدخل
داجن البيت فأكله، ومعلوم أن بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب، ولا يتعذر عليهم إثباته
في صحيفة أخرى، فعرفنا أنه لا أصل هذا الحديث. فأما الوجهان الآخران فهما جائزان في
قول الجمهور من العلماء، ومن الناس من يأبى ذلك. قالوا لان المقصود بيان الحكم،
وإنزال المتلو كان لاجله، فلا يجوز رفع الحكم مع بقاء التلاوة لخلوه عما هو
المقصود، ولا يجوز نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، لان الحكم لا يثبت بدون السبب ولا
يبقى بدون بقاء السبب أيضا. ومنهم من يقول يجوز نسخ الحكم مع بقاء التلاوة ولا يجوز
نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، فإنه لا شك في وجوب الاعتقاد في المتلو أنه قرآن وأنه
كلام الله تعالى، كيف يصح أن يعتقد فيه خلاف هذا في شيء من الاوقات والقول بنسخ
التلاوة يؤدي إلى هذا، فكان هذا نوعا من الاخبار التي لا يجوز فيها النسخ. فأما
دليلنا على وجود نسخ الحكم مع بقاء التلاوة قوله تعالى: *(فأمسكوهن في البيوت)* فإن
الحبس في البيوت والاذى باللسان كان حد الزنا وقد انتسخ هذا الحكم مع بقاء التلاوة.
وكذلك قوله تعالى: *(متاعا إلى الحول غير إخراج)* فإن تقدير عدة الوفاة بحول كان
منزلا وانتسخ هذا الحكم مع بقاء التلاوة. وقوله تعالى: *(فقدموا بين يدي نجواكم
صدقة)* فإن حكم هذا قد انتسخ بقوله: *(فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم)* وبقيت
التلاوة. وحكم التخيير بين الصوم والفدية قد انتسخ بقوله *(فليصمه)* وبقيت التلاوة
وهو قوله: *(وأن تصوموا خير لكم)* والدليل على جواز ذلك أنه يتعلق بصيغة التلاوة
حكمان مقصودان: أحدهما جواز الصلاة، والثاني النظم المعجز، وبعد انتساخ الحكم الذي
هو العمل به يبقى هذان الحكمان وهما مقصودان، ألا ترى أن بالمتشابه في القرآن إنما
يثبت هذان الحكمان فقط، وإذا حسن ابتداء رسم التلاوة لهذين الحكمين فالبقاء أولى.
وقد بينا أن
ص 81
الدليل الموجب لثبوت الحكم لا يكون موجبا للبقاء، وبالانتساخ إنما ينعدم بقاء
الحكم، وذلك ما كان مضافا إلى ما كان موجبا ثبوت الحكم، فانتهاء الحكم لا يمنع بقاء
التلاوة من هذا الوجه. وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فبيانه فيما قال علماؤنا: إن
صوم كفارة اليمين ثلاثة أيام متتابعة، بقراءة ابن مسعود: فصيام ثلاثة أيام
متتابعات. وقد كانت هذه قراءة مشهورة إلى زمن أبي حنيفة. ولكن لم يوجد فيه النقل
المتواتر الذي يثبت بمثله القرآن، وابن مسعود لا يشك في عدالته وإتقانه، فلا وجه
لذلك إلا أن نقول كان ذلك مما يتلى في القرآن كما حفظه ابن مسعود رضي الله عنه ثم
انتسخت تلاوته في حياة رسول الله (ص)، بصرف الله القلوب عن حفظها إلا قلب ابن مسعود
ليكون الحكم باقيا بنقله، فإن خبر الواحد موجب للعمل به وقراءته لا تكون دون
روايته، فكان بقاء هذا الحكم بعد نسخ التلاوة بهذا الطريق. والدليل على جوازه ما
بينا أن بقاء الحكم لا يكون ببقاء السبب الموجب له، فانتساخ التلاوة لا يمنع بقاء
الحكم، ألا ترى أن البيع موجب للملك ثم لو قطع المشتري ملكه بالبيع من غيره أو
أزاله بالاعتاق لم ينعدم ذلك البيع، لان البقاء لم يكن مضافا إليه. ثم قد بينا أن
حكم تعلق جواز الصلاة بتلاوته وحرمة قراءته على الجنب والحائض مقصود، وهو مما يجوز
أن يكون موقتا ينتهي بمضي مدته فيكون نسخ التلاوة بيان مدة ذلك الحكم، كما أن نسخ
الحكم بيان المدة فيه، وما توهمه بعضهم فهو غلط بين، فإن بعدما اعتقدنا في المتلو
أنه قرآن وأنه كلام الله تعالى لا نعتقد فيه أنه ليس بقرآن وأنه ليس بكلام الله
تعالى بحال من الاحوال، ولكن بانتساخ التلاوة ينتهي حكم تعلق جواز الصلاة به، وحرمة
قراءته على الجنب والحائض لضرورة أن الله تعالى رفع عنا تلاوته وحفظه وهو نظير ما
يقول، فإن رسول الله (ص) بعد ما قبض نعتقد فيه أنه رسول الله وأنه خاتم الانبياء
عليهم السلام على ما كان في حال حياته وإن أخرجه الله من بيننا بانتهاء مدة حياته
في الدنيا. وأيد جميع ما ذكرنا قوله تعالى: *(ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك)*
ثم قد بينا أنه يجوز إثبات الحكم ابتداء بوحي غير متلو فلان يجوز بقاء الحكم بعدما
انتسخ حكم التلاوة من الوحي المتلو كان أولى.
ص 82
وأما الوجه الرابع وهو الزيادة على النص فإنه بيان صورة ونسخ معنى عندنا سواء كانت
الزيادة في السبب أو الحكم، وعلى قول الشافعي هو بمنزلة تخصيص العام ولا يكون فيه
معنى النسخ حتى جوز ذلك بخبر الواحد والقياس. وبيان هذا في النفي مع الجلد، وقيد
صفة الايمان في الرقبة في كفارة الظهار واليمين. وجه قوله إن الرقبة اسم عام يتناول
المؤمنة والكافرة، فإخراج الكافرة منها يكون تخصيصا لا نسخا بمنزلة إخراج بعض
الاعيان من الاسم العام، ألا ترى أن بني إسرائيل استوصفوا البقرة وكان ذلك منهم طلب
البيان المحض دون النسخ، وبعدما بينها الله لهم امتثلوا الامر المذكور في قوله:
*(إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)* وهذا لان النسخ يكون برفع الحكم المشروع وفي
الزيادة تقرير الحكم المشروع وإلحاق شيء آخر به بطريق المحاورة، فإن إلحاق النفي
بالجلد لا يخرج الجلد من أن يكون مشروعا، وإلحاق صفة الايمان بالرقبة لا يخرج
الرقبة من أن تكون مستحقة الاعتاق في الكفارة. وهذا نظير حقوق العباد، فإن من ادعى
على غيره ألفا وخمسائة وشهد له شاهدان بألف وآخران بألف وخمسائة حتى قضى له بالمال
كله كان مقدار الالف مقضيا به بشهادتهم جميعا، وإلحاق الزيادة بالالف في شهادة
الآخر يوجب تقرير الاصل في كونه مشهودا به لا رفعه. فتبين بهذا أن الزيادة لا تتعرض
لاصل الحكم المشروع فلا يكون فيها معنى النسخ بوجه من الوجوه. ثم قد يكون بطريق
التخصيص وقد لا يكون، ولهذا لا يشترط فيها أن تكون مقرونة بالاصل كما يشترط ذلك في
دليل الخصوص، وحاجتنا إلى إثبات أن ذلك ليس بنسخ وقد أثبتناه بما قررنا. وحجتنا في
ذلك أن أكثر ما ذكره الخصم دليل على أن الزيادة بيان صورة، ونحن نسلم ذلك ولكنا
ندعي أنه نسخ معنى، والدليل على إثبات ذلك أن ما يجب حقا لله تعالى من عبادة أو
عقوبة أو كفارة لا يحتمل الوصف بالتجزي وليس للبعض منه حكم الجملة بوجه، فإن الركعة
من صلاة الفجر لا تكون فجرا والركعتين من صلاة الظهر في حق المقيم لا تكون ظهرا،
وكذلك المظاهر إذا صام شهرا ثم عجز فأطعم ثلاثين مسكينا لا يكون مكفرا به بالاطعام
ص 83
ولا بالصوم، ولهذا قلنا: القاذف إذا جلد تسعة وسبعين سوطا لا تسقط شهادته، لان الحد
ثمانون سوطا فبعضه لا يكون حدا. إذا تقرر هذا فنقول: الثابت بآية الزنا جلد وهو حد،
فإذا التحق النفي به يخرج الجلد من أن يكون حدا لانه يكون بعض الحد حينئذ وبعض الحد
ليس بحد، بمنزلة بعض العلة فإنه لا يوجب شيئا من الحكم الثابت بالعلة فكان نسخا من
هذا الوجه، وكذلك في الرقبة فإن مع الاطلاق التكفير بتحرير رقبة، وبعد القيد تحرير
رقبة بعض ما يتأدى به الكفارة. فعرفنا أنه نسخ وبه فارق حقوق العباد، فإنه مما
يحتمل الوصف بالتجزي فيمكن أن يجعل إلحاق الزيادة به تقريرا للمزيد عليه، حتى إن
فيما لا يحتمل التجزي من حقوق العباد الحكم كذلك أيضا، فإن البيع لما كان عبارة عن
الايجاب والقبول لم يكن الايجاب المحض بيعا، ونكاح أربع نسوة لما كان موجبا حرمة
النكاح عليه لا يثبت شيء من ذلك بنكاح امرأة أو امرأتين لان ليس بنكاح أربع نسوة،
وقد بينا في قصة بني إسرائيل أن ذلك كان بيانا صورة وكان نسخا معنى، كما أشار إليه
ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: شددوا فشدد الله عليهم. يدل عليه أن النسخ لبيان
مدة بقاء الحكم وإثبات حكم آخر، ثم الاطلاق ضد التقييد فكان من ضرورة ثبوت التقييد
انعدام صفة الاطلاق، وذلك لا يكون إلا بعد انتهاء مدة حكم الاطلاق وإثبات حكم هو
ضده وهو التقييد، وإذا كان إثبات حكم غير الاول على وجه يعلم أنه لم يبق معه الاول
نسخا فإثبات حكم هو ضد الاول أولى أن يكون نسخا بطريق المعنى، وبه فارق التخصيص فإن
التخصيص لا يوجب حكما فيما تناوله العام غير الحكم الاول، ولكن يبين أن العام لم
يكن متناولا لما صار مخصوصا منه، ولهذا لا يكون التخصيص إلا مقارنا، يقرره أن
التخصيص للاخراج والتقييد للاثبات، وأي مشابهة تكون بين الاخراج من الحكم وبين
إثبات الحكم. وهذا لان الاطلاق يعدم صفة التقييد والتقييد إيجاد لذلك الوصف، فبعد
ما ثبت التقييد لا يتصور بقاء صفة الاطلاق، ولا يكون الحكم ثابتا لما تناوله صيغة
الاطلاق، وإنما يكون ثابتا بالمقيد من اللفظ، فأما العام إذا خص منه شيء يبقى الحكم
ثابتا فيما وراءه بمقتضى لفظ العموم فقط،
ص 84
وإذا كان بقاء الحكم بما كان النص العام متناولا له عرفنا أن التخصيص لا يكون تعرضا
لما وراء المخصوص بشيء. وبيان هذا أن قوله تعالى: *(فاقتلوا المشركين)* وإن خص منه
أهل الذمة وغيرهم فمن لا أمان له يجب قتله لانه مشرك. وفي قوله: *(فتحرير رقبة)*
إذا قيدنا بصفة الايمان لا تتأدى الكفارة بما يتناوله اسم الرقبة بل بما يتناوله
اسم الرقبة المؤمنة. فعرفنا أنه في معنى النسخ وليس بتخصيص، ولان التخصيص يصرف فيما
كان اللفظ متناولا له باعتبار دليل الظاهر لولا دليل الخصوص، والتقييد تصرف فيما لم
يكن اللفظ متناولا له أصلا لولا التقييد، فإن اسم الرقبة لا يتناول صفتها من حيث
الايمان والكفر، فعرفنا أنه نسخ والنسخ في الحكم الثابت بالنص لا يكون بخبر الواحد
ولا بالقياس. وعلى هذا قلنا: لا تتعين الفاتحة للقراءة في الصلاة ركنا لانه زيادة
على ما ثبت بالنص، ولا تثبت الطهارة عن الحدث شرطا في ركن الطواف لانه زيادة على
النص، ولا يثبت النفي حدا مع الجلد في زنا البكر لانه زيادة، ولا يثبت اشتراط صفة
الايمان في كفارة اليمين والظهار لانه زيادة. وعلى هذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف
رحمهما الله: شرب القليل من الطلاء المثلث لا يكون حراما لان المحرم السكر بالنص،
وشرب القليل بعض العلة فيما يحصل به السكر فلا يكون مسكرا. وعلى هذا قال أصحابنا:
إذا وجد المحدث من الماء ما لا يكفيه لوضوئه أو الجنب ما لا يكفيه لاغتساله فإنه
يتيمم ولا يستعمل ذلك الماء، لان الواجب استعمال الماء الذي هو طهور، وهذا بمنزلة
بعض العلة في حكم الطهارة فلا يكون طهورا فوجوده لا يمنع التيمم. وعلى هذا قلنا:
إذا شهد أحد الشاهدين بالبيع بألف والآخر بالبيع بألف وخمسمائة لا تقبل الشهادة في
إثبات العقد بألف، وإن اتفق عليه الشاهدان ظاهرا لان الذي شهد بألف وخمسمائة قد جعل
الالف بعض الثمن وانعقاد البيع بجميع الثمن المسمى لا ببعضه، فمن هذا الوجه كل واحد
منهما في المعنى شاهد لعقد آخر والالف المذكور في شهادة الثاني كان بحيث يثبت به
العقد لولا وصل شيء آخر به بمنزلة التخيير في الطلاق والعتاق يصير شيئا آخر إذا
اتصل به التعليق بالشرط فحكم الزيادة يكون بهذه الصفة أيضا. والذي يقرر جميع ما
ذكرنا أن النسخ إنما يثبت بما لو جهل التاريخ فيه كان معارضا وهذا يتحقق في الاطلاق
والتقييد، فإنه لو جهل التاريخ بين النص المطلق والمقيد يثبت التعارض بينهما،
فعرفنا أنه عند معرفة التاريخ بينهما يكون
ص 85
التقييد في النص المطلق نسخا من حيث المعنى، ويجوز أن يرد النسخ على ما هو ناسخ كما
يجوز أن يرد النسخ على ما كان مشروعا ابتداء إذ المعنى لا يوجب الفرق بينهما. وبيان
هذا فيما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن حرمة مفاداة الاسير الثابت بقوله
تعالى: *(ما كان لنبي أن يكون له أسرى)* قد انتسخ بقوله تعالى: *(فإما منا بعد وإما
فداء)* ثم قال السدي: هذا قد انتسخ بقوله تعالى: *(فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)*
لان سورة براءة من آخر ما نزل فكان ناسخا للحكم الذي كان قبله. وكذلك حكم الحبس في
البيوت والاذى باللسان في كونه حدا قد انتسخ بقوله عليه السلام: (خذوا عني) الحديث.
ثم هذا الحكم انتسخ بنزول قوله تعالى: *(فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)* وبرجم
النبي عليه السلام ماعز بن مالك رضي الله عنه، واستقر الحكم على أن الحد الكامل في
حق غير المحصن مائة جلدة وفي حق المحصن الرجم. ومما اختلفوا في أنه نسخ أم لا حكم
الميراث، فقد كان التوريث بالحلف والهجرة ثابتا في الابتداء، قال تعالى: *(والذين
عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم)* وقال تعالى: *(إن الذين آمنوا وهاجروا)* إلى قوله:
*(أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا)* الآية، ثم انتسخ هذا عند بعض
العلماء بنزول قوله تعالى: *(وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من
المؤمنين والمهاجرين)* الآية. ومنهم من قال: هذا ليس بنسخ ولكن هذا تقديم وارث على
وارث فلا يكون نسخا، كتقديم الابن على الاخ في الميراث لا يكون نسخ التوريث
بالاخوة، وتقديم الشريك على الجار في استحقاق الشفعة لا يكون نسخ حكم الشفعة
بالجوار. والاصح أن نقول: هذا نسخ بعض الاحوال دون البعض، فإن قوله تعالى: *(فآتوهم
نصيبهم)* تنصيص على أن بالحلف يستحق النصيب من الميراث مع وجود القريب، ثم انتسخ
هذا الحكم بقوله تعالى: *(وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)* حتى لا
يستحق بالحلف شيئا مع وجود القريب أصلا. فعرفنا أن هذا الحكم قد انتهى في هذه
الحالة فكان نسخا وإن كان
ص 86
الارث بهذا السبب باقيا في غير هذه الحالة، وإلى ذلك أشار ابن مسعود رضي الله عنه
في قوله: يا معشر همدان إنه ليس حي من أحياء العرب أحرى أن يموت الرجل فيهم ولا
يعرف له نسب منكم فإذا كان ذلك فليضع ماله حيث أحب. والله أعلم.
باب: الكلام في
أفعال النبي عليه السلام

اعلم بأن أفعاله التي تكون عن قصد تنقسم أربعة أقسام:
مباح، ومستحب، وواجب، وفرض. وهنا نوع خامس وهو الزلة، ولكنه غير داخل في هذا الباب، لانه لا يصلح للاقتداء به في ذلك، وعقد الباب لبيان حكم الاقتداء به في أفعاله،
ولهذا لم يذكر في الجملة ما يحصل في حالة النوم والاغماء لان القصد لا يتحقق فيه
فلا يكون داخلا فيما هو حد الخطاب. وأما الزلة فإنه لا يوجد فيها القصد إلى عينها
أيضا، ولكن يوجد القصد إلى أصل الفعل. وبيان هذا أن الزلة أخذت من قول القائل: زل
الرجل في الطين إذا لم يوجد القصد إلى الوقوع ولا إلى الثبات بعد الوقوع، ولكن وجد
القصد إلى المشي في الطريق، فعرفنا بهذا أن الزلة ما تتصل بالفاعل عند فعله ما لم
يكن قصده بعينه، ولكنه زل فاشتغل به عما قصد بعينه، والمعصية عند الاطلاق إنما
يتناول ما يقصده المباشر بعينه وإن كان قد أطلق الشرع ذلك على الزلة مجازا. ثم لا
بد أن يقترن بالزلة بيان من جهة الفاعل أو من الله تعالى، كما قال تعالى مخبرا عن
موسى عليه السلام عند قتل القبطي: *(هذا من عمل الشيطان)* الآية، وكما قال تعالى:
*(وعصى آدم ربه فغوى)* الآية وإذا كان البيان يقترن به لا محالة علم أنه غير صالح
للاقتداء به. ثم اختلف الناس في أفعاله التي لا تكون عن سهو ولا من نتيجة الطبع على
ما جبل عليه الانسان ما هو موجب ذلك في حق أمته. فقال بعضهم: الواجب هو الوقف في
ذلك حتى يقوم الدليل. وقال بعضهم: بل يجب اتباعه والاقتداء به في جميع ذلك إلا ما
يقوم عليه دليل. وكان أبو الحسن الكرخي
ص 87
رحمه الله يقول: إن علم صفة فعله أنه فعله واجبا أو ندبا أو مباحا فإنه يتبع فيه
بتلك الصفة، وإن لم يعلم فإنه يثبت فيه صفة الاباحة، ثم لا يكون الاتباع فيه ثابتا
إلا بقيام الدليل. وكان الجصاص رحمه الله يقول بقول الكرخي رحمه الله إلا أنه يقول:
إذا لم يعلم فالاتباع له في ذلك ثابت حتى يقوم الدليل على كونه مخصوصا. وهذا هو
الصحيح. فأما الواقفون احتجوا فقالوا: لما أشكل صفة فعله فقد تعذر اتباعه في ذلك
على وجه الموافقة، لان ذلك لا يكون بالموافقة في أصل الفعل دون الصفة، فإنه إذا كان
هو فعل فعلا نفلا ونحن نفعله فرضا يكون ذلك منازعة لا موافقة، واعتبر هذا بفعل
السحرة مع ما رأوه من الكليم ظاهرا فإنه كان منازعة منهم في الابتداء، لان فعلهم لم
يكن بصفة فعله، فعرفنا أن الوصف إذا كان مشكلا لا تتحقق الموافقة في الفعل لا
محالة، ولا وجه للمخالفة فيجب الوقف فيه حتى يقوم الدليل. وهذا الكلام عند التأمل
باطل، فإن هذا القائل إن كان يمنع الامة من أن يفعلوا مثل فعله بهذا الطريق ويلومهم
على ذلك فقد أثبت صفة الحظر في الاتباع، وإن كان لا يمنعهم من ذلك ولا يلومهم عليه
فقد أثبت صفة الاباحة، فعرفنا أن القول بالوقف لا يتحقق في هذا الفصل. وأما الفريق
الثاني فقد استدلوا بالنصوص الموجبة للاقتداء برسول الله (ص) في أقواله وأفعاله،
نحو قوله تعالى: *(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)* وقوله تعالى: *(وأطيعوا
الله وأطيعوا الرسول)*، وقوله تعالى: *(فاتبعوني يحببكم الله)* وقوله تعالى:
*(الذين يتبعون الرسول النبي الامي)* إلى قوله: *(واتبعوه لعلكم تهتدون)* وقوله
تعالى: *(فليحذر الذين يخالفون عن أمره)*: أي عن سمته وطريقته. وقال تعالى: *(وما
أمر فرعون برشيد)* ففي هذه النصوص دليل على وجوب الاتباع علينا إلى أن يقوم الدليل
يمنع من ذلك. فأما الدليل لنا في هذا الفصل أن نقول: صح في الحديث أن النبي عليه
ص 88
السلام خلع نعليه في الصلاة فخلع الناس نعالهم، فلما فرغ قال: ما لكم خلعتم نعالكم
الحديث. فلو كان مطلق فعله موجبا للمتابعة لم يكن لقوله: ما لكم خلعتم نعالكم معنى.
وخرج للتراويح ليلة أو ليلتين فلما قيل له في ذلك قال: خشيت أن تكتب عليكم ولو كتبت
عليكم ما قمتم بها فو كان مطلق فعله يلزمنا الاتباع له في ذلك لم يكن لقوله: خشيت
أن تكتب عليكم معنى. ثم قد بينا أن الموافقة حقيقتها في أصل الفعل وصفته فعند
الاطلاق إنما يثبت القدر المتيقن به وهو صفة الاباحة، فإنه يترتب عليه التمكن من
إيجاد الفعل شرعا، فيثبت القدر المتيقن به (وهو صفة الاباحة) من الوصف، ويتوقف ما
وراء ذلك على قيام الدليل، بمنزلة رجل يقول لغيره: وكلتك بمالي فإنه يملك الحفظ،
لانه متيقن لكونه مراد الموكل، ولا يثبت ما سوى ذلك من التصرفات حتى يقوم الدليل،
يقرر ما ذكرنا أن الفعل قسمان: أخذ، وترك. ثم أحد قسمي أفعاله وهو الترك لا يوجب
الاتباع علينا إلا بدليل فكذلك القسم الآخر. وبيان هذا أنه حين كان الخمر مباحا قد
ترك رسول الله (ص) شربها أصلا، ثم ذلك لا يوجب علينا ترك الشرب فيما هو مباح، يوضحه
أن مطلق فعله لو كان موجبا للاتباع لكان ذلك عاما في جميع أفعاله ولا وجه للقول
بذلك، لان ذلك يوجب على كل أحد أن لا يفارقه آناء الليل والنهار ليقف على جميع
أفعاله فيقتدي به، لانه لا يخرج عن الواجب إلا بذلك، ومعلوم أن هذا مما لا يتحقق
ولا يقول به أحد. فعرفنا أن مطلق الفعل لا يلزمنا اتباعه في ذلك. فأما الآيات ففي
قوله: *(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)* دليل على أن التأسي به في أفعاله ليس
بواجب، لانه لو كان واجبا لكان من حق الكلام أن يقول عليكم، ففي قوله *(لكم)* دليل
على أن ذلك مباح لنا لا أن يكون لازما علينا. والمراد بالامر بالاتباع التصديق
والاقرار بما جاء به، فإن الخطاب بذلك لاهل الكتاب وذلك بين في سياق الآية، والمراد
بالامر ما يفهم من مطلق لفظ الامر عند
ص 89
الاطلاق، وقد تقدم بيان هذا في أول الكتاب. ثم قال الكرخي: قد ظهر خصوصية رسول الله
(ص) بأشياء لاختصاصه بما لا شركة لاحد من أمته معه في ذلك، فكل فعل يكون منه فهو
محتمل للوصف لجواز أن يكون هذا مما اختص هو به ويجوز أن يكون مما هو غير مخصوص به،
وعند احتمال الجانبين على السواء يجب الوقف حتى يقوم الدليل لتحقق المعارضة. ولكن
الصحيح ما ذهب إليه الجصاص، لان في قوله تعالى: *(لقد كان لكم في رسول الله أسوة
حسنة)* تنصيص على جواز التأسي به في أفعاله، فيكون هذا النص معمولا به حتى يقوم
الدليل المانع وهو ما يوجب تخصيصه بذلك، وقد دل عليه قوله تعالى: *(فلما قضى زيد
منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم)* وفي هذا بيان
أن ثبوت الحل في حقه مطلقا دليل ثبوته في حق الامة، ألا ترى أنه نص على تخصيصه فيما
كان هو مخصوصا به بقوله تعالى: *(خالصة لك من دون المؤمنين)* وهو النكاح بغير مهر،
فلو لم يكن مطلق فعله دليلا للامة في الاقدام على مثله لم يكن لقوله: *(خالصة لك)*
فائدة، فإن الخصوصية تكون ثابتة بدون هذه الكلمة، والدليل عليه أنه عليه السلام لما
قال لعبد الله بن رواحة حين صلى على الارض في يوم قد مطروا في السفر: ألم يكن لك في
أسوة؟ فقال: أنت تسعى في رقبة قد فكت وأنا أسعى في رقبة لم يعرف فكاكها. فقال: إني
مع هذا أرجو أن أكون أخشاكم لله ولما سألت امرأة أم سلمة عن القبلة للصائم فقالت:
إن رسول الله عليه السلام يقبل وهو صائم. فقالت لسنا كرسول الله قد غفر له ما تقدم
من ذنبه وما تأخر، ثم سألت أم سلمة رسول الله (ص) عن سؤالها فقال: هلا أخبرتها أني
أقبل وأنا صائم؟ فقالت: قد أخبرتها بذلك فقالت كذا. فقال: إني أرجو أن أكون أتقاكم
لله وأعلمكم بحدوده ففي هذا بيان أن اتباعه فيما يثبت من أفعاله أصل حتى يقوم
الدليل على كونه مخصوصا بفعله، وهذا لان الرسل أئمة يقتدى بهم، كما قال تعالى:
*(إني
ص 90
جاعلك للناس إماما)* فالاصل في كل فعل يكون منهم جواز الاقتداء بهم، إلا ما يثبت
فيه دليل الخصوصية باعتبار أحوالهم وعلو منازلهم، وإذا كان الاصل هذا ففي كل فعل
يكون مبهم بصفة الخصوص يجب بيان الخصوصية مقارنا به، إذ الحاجة إلى ذلك ماسة عند كل
فعل يكون (منهم) حكمه بخلاف هذا الاصل والسكوت عن البيان بعد تحقق الحاجة دليل
النفي، فترك بيان الخصوصية يكون دليلا على أنه من جملة الافعال التي هو فيها قدوة
أمته.
فصل: في بيان طريقة رسول الله (ص) في إظهار أحكام الشرع

قد بينا أنه كان
يعتمد الوحي فيما بينه من أحكام الشرع. والوحي نوعان: ظاهر، وباطن. فالظاهر منه
قسمان: (أحدهما) ما يكون على لسان الملك بما يقع في سمعه بعد علمه بالمبلغ بأنه
قاطعة، وهو المراد بقوله تعالى: *(قل نزله روح القدس من ربك بالحق)* وبقوله تعالى:
*(إنه لقول رسول كريم)* الآية، والآخر ما يتضح له بإشارة الملك من غير بيان بكلام،
وإليه أشار رسول الله (ص) في قوله: إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى
تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب والوحي الباطن هو: تأييد القلب على وجه
لا يبقى فيه شبهة ولا معارض ولا مزاحم، وذلك بأن يظهر له الحق بنور في قلبه من ربه
يتضح له حكم الحادثة به، وإليه أشار الله تعالى بقوله: *(لتحكم بين الناس بما أراك
الله)* وهذا كله مقرونا بالابتلاء، ومعنى الابتلاء هو: التأمل بقلبه في حقيقته حتى
يظهر له ما هو المقصود، وكل ذلك خاص لرسول الله تثبت به الحجة القاطعة، ولا شركة للامة في ذلك إلا أن يكرم الله به من شاء من أمته لحقه وذلك الكرامة للاولياء. وأما
ما يشبه الوحي في حق رسول الله (ص) فهو استنباط الاحكام من النصوص بالرأي