الصفحة السابقة الصفحة التالية

أصول السرخسي

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 91

والاجتهاد فإنما يكون من رسول الله بهذا الطريق، فهو بمنزلة الثابت بالوحي لقيام الدليل على أنه يكون ثوابا لا محالة، فإنه كان لا يقر على الخطأ فكان ذلك منه حجة قاطعة، ومثل هذا من الامة لا يجعل بمنزلة الوحي، لان المجتهد يخطئ ويصيب، فقد علم أنه كان لرسول الله (ص) من صفة الكمال ما لا يحيط به إلا الله، فلا شك أن غيره لا يساويه في إعمال الرأي والاجتهاد في الاحكام. وهذا يبتنى على اختلاف العلماء في أنه عليه السلام هل كان يجتهد في الاحكام ويعمل بالرأي فيما لا نص فيه؟ فأبى ذلك بعض العلماء وقال: هذا الطريق حظ الامة، فأما حظ رسول الله (ص) هو العمل بالوحي من الوجوه التي ذكرنا. وقال بعضهم: قد كان يعمل بطريق الوحي تارة وبالرأي تارة، وبكل واحد من الطريقين كان يبين الاحكام. وأصح الاقاويل عندنا أنه عليه السلام فيما كان يبتلى به من الحوادث التي ليس فيها وحي منزل كان ينتظر الوحي إلى أن تمضي مدة الانتظار، ثم كان يعمل بالرأي والاجتهاد ويبين الحكم به فإذا أقر عليه كان ذلك حجة قاطعة للحكم. فأما الفريق الاول فاحتجوا بقوله تعالى: *(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)* وقال تعالى: *(قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي)* ولانه لا خلاف أنه كان لا يجوز لاحد مخالفة رسول الله عليه السلام فيما بينه من أحكام الشرع، والرأي قد يقع فيه الغلط في حقه وفي حق غيره، فلو كان يبين الحكم بالرأي لكان يجوز مخالفته في ذلك كما في أمر الحرب، فقد ظهر أنهم خالفوه في ذلك غير مرة واستصوبهم في ذلك، ألا ترى أنه لما أراد النزول يوم بدر دون الماء قال له الخباب بن المنذر رضي الله عنه: إن كان عن وحي فسمعا وطاعة، وإن كان عن رأي فإني أرى الصواب أن ننزل على الماء ونتخذ الحياض، فأخذ رسول الله (ص) برأيه ونزل على الماء. ولما أراد يوم الاحزاب أن يعطي المشركين شطر ثمار المدينة لينصرفوا قام سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما وقالا: إن كان هذا عن وحي فسمعا وطاعة، وإن كان عن رأي فلا نعطيهم إلا السيف، قد كنا نحن وهم في الجاهلية لم يكن لنا ولا لهم دين فكانوا لا يطمعون

ص 92

في ثمار المدينة إلا بشري أو بقري فإذا أعزنا الله تعالى بالدين نعطيهم الدنية لا نعطيهم إلا السيف. وقال عليه السلام: إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أصرفهم عنكم فإذا أبيتم أنتم وذاك ثم قال للذين جاءوا للصلح: اذهبوا فلا نعطيكم إلا السيف ولما قدم المدينة استقبح ما كانوا يصنعونه من تلقيح النخيل فنهاهم عن ذلك فأحشفت وقال: عهدي بثماركم بخلاف هذا فقالوا: نهيتنا عن التلقيح وإنما كانت جودة الثمر من ذلك. قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم وأنا أعلم بأمر دينكم فتبين أن الرأي منه كالرأي من غيره في احتمال الغلط، وبالاتفاق لا تجوز مخالفته فيما ينص عليه من أحكام الشرع، فعرفنا أن طريق وقوفه على ذلك ما ليس فيه توهم الغلط أصلا وذلك الوحي، ثم الرأي الذي فيه توهم الغلط إنما يجوز المصير إليه عند الضرورة وهذه الضرورة تثبت في حق الامة لا في حقه، فقد كان الوحي يأتيه في كل وقت، وما هذا إلا نظير التحري في أمر القبلة فإنه لا يجوز المصير إليه لمن كان بمكة معاينا للكعبة، ويجوز المصير إليه لمن كان نائيا عن الكعبة، لان من كان معاينا فالضرورة المحوجة إلى التحري لا تتحقق في حقه لوجود الطريق الذي لا يتمكن فيه تهمة الغلط وهو المعاينة، وكذلك حال رسول الله (ص) في العمل بالرأي في الاحكام، ولانه عليه السلام كان ينصب أحكام الشرع ابتداء والرأي لا يصلح لنصب الحكم به ابتداء وإنما هو لتعدية حكم النص إلى نظيره مما لا نص فيه كما في حق الامة، لانه لا يجوز لاحد استعمال الرأي في نصب حكم ابتداء، فعرفنا أنه إنما كان ينصب الحكم ابتداء بطريق الوحي دون الرأي، وهذا لان الحق في أحكام الشرع لله تعالى فإنما يثبت حق الله تعالى بما يكون موجبا للعلم قطعا والرأي لا يوجب ذلك، وبه فارق أمر الحرب والشورى في المعاملات، لان ذلك من حقوق العباد، فالمطلوب به الدفع عنهم أو الجر إليهم فيما تقوم به مصالحهم، واستعمال الرأي جائز في مثله لحاجة العباد إلى ذلك، فإنه ليس في وسعهم فوق ذلك، والله تعالى يتعالى عما يوصف به العباد من العجز أو الحاجة، فما هو حق الله تعالى لا يثبت ابتداء إلا بما يكون موجبا علم اليقين.

ص 93

والحجة للقول الثاني قوله تعالى: *(فاعتبروا يا أولي الابصار)* ورسول الله (ص) أولي الناس بهذا الوصف الذي ذكره عند الامر بالاعتبار، فعرفنا أنه داخل في هذا الخطاب، قال تعالى: *(ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)* وقد دخل في جملة المستنبطين من تقدم ذكره، فعرفنا أن الرسول من جملة الذين أخبر الله أنهم يعلمون بالاستنباط، وقال تعالى: *(ففهمناها سليمان)* والمراد أنه وقف على الحكم بطريق الرأي لا بطريق الوحي، لان ما كان بطريق الوحي فداود وسليمان عليهما السلام فيه سواء، وحيث خص سليمان عليه السلام بالفهم عرفنا أن المراد به بطريق الرأي، وقد حكم داود بين الخصمين حين تسوروا المحراب بالرأي، فإنه قال: *(لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه)* وهذا بيان بالقياس الظاهر. وقال النبي عليه السلام للخثعمية: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيت أكان يقبل منك؟ وهذا بيان بطريق القياس. وقال لعمر رضي الله عنه حين سأله عن القبلة للصائم: أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك؟ وقال في حرمة الصدقة على بني هاشم: أرأيت لو تمضمضت بالماء أكنت شاربه؟ وهذا بيان بطريق القياس في حرمة الاوساخ واستعمال المستعمل. وقال: إن الرجل ليؤجر في كل شيء حتى في مباضعة أهله فقيل له: يقضي أحدنا شهوته ثم يؤجر على ذلك؟ قال: أرأيتم لو وضع ذلك فيما لا يحل هل كان يأثم به؟ قالوا: نعم. قال: فكذلك يؤجر إذا وضعه فيما يحل وهذا بيان بطريق الرأي والاجتهاد. والدليل عليه أنه كان مأمورا بالمشاورة مع أصحابه، قال تعالى: *(وشاورهم في الامر)* وقد صح أنه كان يشاورهم في أمر الحرب وغير ذلك حتى روي أنه شاور أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في مفاداة الاسارى يوم بدر فأشار عليه أبو بكر بأن يفادي بهم، ومال رأيه إلى ذلك حتى نزل قوله تعالى: *(لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)* ومفاداة الاسير بالمال جوازه وفساده من أحكام الشرع ومما هو حق الله تعالى، وقد شاور فيه أصحابه وعمل فيه بالرأي إلى أن نزل الوحي بخلاف ما رآه، فعرفنا أنه كان يشاورهم في الاحكام كما في الحروب، وقد شاورهم فيما يكون جامعا لهم في أوقات الصلاة ليؤدوها بالجماعة، ثم لما جاء عبد الله بن زيد رضي الله عنه وذكر ما رأى في المنام من أمر الاذان

ص 94

فأخذ به وقال: (ألقها على بلال) ومعلوم أنه أخذ بذلك بطريق الرأي دون طريق الوحي، ألا ترى أنه لما أتى عمر وأخبره أنه رأى مثل ذلك قال الله أكبر هذا أثبت، ولو كان قد نزل عليه الوحي به لم يكن لهذا الكلام معنى، ولا شك أن حكم الاذان مما هو (من) حق الله ثم قد جوز العمل فيه بالرأي، فعرفنا أن ذلك جائز، ولا معنى لقول من يقول إنه إنما كان يستشيرهم في الاحكام لتطييب نفوسهم، وهذا لان فيما كان الوحي فيه ظاهرا معلوما ما كان يستشيرهم، وفيما كان يستشيرهم الحال لا يخلو إما أن كان يعمل برأيهم أو لا يعمل، فإن كان لا يعمل برأيهم وكان ذلك معلوما لهم فليس في هذه الاستشارة تطييب النفس ولكنها من نوع الاستهزاء وظن ذلك برسول الله (ص) محال، وإن كان يستشيرهم ليعمل برأيهم فلا شك أن رأيه يكون أقوى من رأيهم، وإذا جاز له العمل برأيهم فيما لا نص فيه فجواز ذلك برأيه أولى. ويتبين بهذا أنه إنما كان يستشيرهم لتقريب الوجوه وتحميس الرأي، على ما كان يقول: المشورة تلقيح العقول وقال: من الحزم أن تستشير ذا رأي ثم تطيعه ثم الاستنباط بالرأي إنما يبتنى على العلم بمعاني النصوص، ولا شك أن درجته في ذلك أعلى من درجة غيره، وقد كان يعلم بالمتشابه الذي لا يقف أحد من الامة بعده على معناه، فعرفنا بهذا أن له من هذه الدرجة أعلى النهاية، وبعد العلم بالطريق الذي يوقف به على الحكم المنع من استعمال ذلك نوع من الحجر، وتجويز استعمال ذلك نوع إطلاق وإنما يليق بعلو درجته الاطلاق دون الحجر. وكذلك ما يعلم بطريق الوحي فهو محصور متناه، وما يعلم بالاستنباط من معاني الوحي غير متناه. وقيل أفضل درجات العلم للعباد طريق الاستنباط، ألا ترى أن من يكون مستنبطا من الامة فهو على درجة ممن يكون حافظا غير مستنبط، فالقول بما يوجب سد باب ما هو أعلى الدرجات في العلم عليه شبه المحال، ولولا طعن المتعنتين لكان الاولى بنا الكف عن الاشتغال بإظهار هذا بالحجة، فقد كان درجته في العلم ما لا

ص 95

يحيط به إلا الله، وتمام معنى التعظيم في حق من هو دونه أن لا يشتغل بمثل هذا التقسيم في حقه، وإنما ذكرنا ذلك لدفع طعن المتعنتين. ثم ما بينه بالرأي إذا أقر عليه كان صوابا لا محالة فيثبت به علم اليقين، بخلاف ما يكون من غيره من البيان بالرأي، وهو نظير الالهام على ما أشرنا إليه في بيان الوحي الباطن، وأنه حجة قاطعة في حقه وإن كان الالهام في حق غيره لا يكون بهذه الصفة على ما نبينه في بابه. والدليل على هذه القاعدة ما روي أن خولة رضي الله عنها لما جاءت إليه تسأله عن ظهار زوجها منها قال: ما أراك إلا قد حرمت عليه فقالت: إني أشتكي إلى الله فأنزل الله تعالى قوله: *(قد سمع الله قول التي تجادلك)* الآية، فعرفنا أنه كان يفتي بالرأي في أحكام الشرع وكان لا يقر على الخطأ، وهذا لانا أمرنا باتباعه، قال تعالى: *(وما آتاكم الرسول فخذوه)* وحين بين بالرأي وأقر على ذلك كان اتباع ذلك فرضا علينا لا محالة، فعرفنا أن ذلك هو الحق المتيقن به، ومثل ذلك لا يوجد في حق الامة، فالمجتهد قد يخطئ ويقر على ذلك، فلهذا لم يكن الرأي في حق غيره موجبا علم اليقين ولا صالحا لنصب الحكم به ابتداء، بل لتعدية حكم النص إلى غير المنصوص عليه. والدليل عليه أنه قد ثبت بالنص عمله بالرأي فيما لم يقر عليه، وربما عوتب على ذلك وربما لم يعاتب. فمما عوتب عليه ما وقعت الاشارة إليه في قوله تعالى: *(عفا الله عنك لم أذنت لهم)* وفي قوله تعالى: *(عبس وتولى أن جاءه الاعمى)* ومما لم يعاتب عليه ما يروى أنه لما دخل بيته ووضع السلاح حين فرغ من حرب الاحزاب أتاه جبريل عليه السلام وقال: وضعت السلاح ولم تضعه الملائكة. وأمره بأن يذهب إلى بني قريظة. ومن ذلك أنه أمر أبا بكر رضي الله عنه بتبليغ سورة براءة إلى المشركين في العام الذي أمره فيه أن يحج بالناس، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: لا يبلغها إليهم إلا رجل منك. فبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أثره ليكون هو المبلغ للسورة إليهم، والقصة في ذلك معروفة، فبهذا يتبين أنه كان يعمل برأيه، وكان لا يقر إلا على ما هو الصواب، ولهذا كان لا تجوز مخالفته في ذلك لانه حين أقر عليه فقد حصل التيقن بكون الصواب فيه، فلا يسع لاحد أن يخالفه في ذلك. فأما قوله: *(وما ينطق عن الهوى)* فقد قيل: هذا فيما يتلو عليه من

ص 96

القرآن، بدليل أول السورة قوله تعالى: *(والنجم إذا هوى)*: أي والقرآن إذا أنزل. وقيل المراد بالهوى: هوى النفس الامارة بالسوء، وأحد لا يجوز على رسول الله (ص) اتباع هوى النفس أو القول به، ولكن طريق الاستنباط والرأي غير هوى النفس. وهذا أيضا تأويل قوله تعالى: *(قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي)* ثم في قوله: *(إن أتبع إلا ما يوحى إلي)* ما يوضح جميع ما قلنا، لان اتباع الوحي إنما يتم في العمل بما فيه الوحي بعينه، واستنباط المعنى فيه لاثبات الحكم في نظيره وذلك بالرأي يكون. ثم قد بينا أنه ما كان يقر إلا على الصواب فإذا أقر على ذلك كان ذلك وحيا في المعنى وهو يشبه الوحي في الابتداء على ما بينا، إلا أنا شرطنا في ذلك أن ينقطع طمعه عن الوحي، وهو نظير ما يشترط في حق الامة للعمل بالرأي العرض على الكتاب والسنة، فإذا لم يوجد في ذلك فحينئذ يصار إلى اجتهاد الرأي. ونظيره من الاحكام من كان في السفر ولا ماء معه وهو يرجو وجود الماء فعليه أن يطلب الماء ولا يعجل بالتيمم، وإن كان لا يرجو وجود الماء فحينئذ يتيمم ولا يشتغل بالطلب، فحال غير رسول الله ممن يبتلى بحادثة كحال من لا يرجو وجود الماء، لانه لا طمع له في الوحي فلا يؤخر العمل بالرأي والاجتهاد، ورسول الله (ص) كان يأتيه الوحي في كل ساعة عادة فكان حاله فيما يبتلى به من الحوادث كحال من يرجو وجود الماء، فلهذا كان ينتظر ولا يعجل بالعمل بالرأي، وكان هذا الانتظار في حقه بمنزلة التأمل في النص المؤول أو الخفي في حق غيره، ومدة الانتظار في ذلك أن ينقطع طمعه عن نزول الوحي فيه، بأن كان يخاف الفوت فحينئذ يعمل فيه بالرأي ويبينه للناس، فإذا أقر على ذلك كانت حجة قاطعة بمنزلة الثابت بالوحي.

ص 97

فصل في فعل النبي وقوله

 قال علماؤنا رحمهم الله: فعل النبي عليه السلام وقوله متى ورده وافقا لما هو في القرآن يجعل صادرا عن القرآن وبيانا لما فيه. وأصحاب الشافعي يقولون: يجعل ذلك بيان حكم مبتدأ حتى يقوم الدليل على خلافه. وعلى هذا قلنا: بيان النبي عليه السلام للتيمم في حق الجنب صادر عما في القرآن، وبه يتبين أن المراد من قوله تعالى: *(أو لامستم النساء)* الجماع دون المس باليد، وهم يجعلون ذلك بيان حكم مبتدأ ويحملون قوله *(أو لامستم النساء)* على المس باليد، قالوا: لانه يحتمل أن يكون ذلك صادرا عما في القرآن، ويحتمل أن يكون شرع الحكم ابتداء وهو في الظاهر غير متصل بالآية فيحمل على أنه بيان حكم مبتدأ باعتبار الظاهر، ولان في حمله على هذا زيادة فائدة، وفي حمله على ما قلتم تأكيد ما صار معلوما بالآية ببيانه فحمله على ما يفيد فائدة جديدة كان أولى. وحجتنا فيه قوله تعالى: *(إن هو إلا وحي يوحى)* ففي هذا تنصيص على أن قوله وفعله في حكم الشرع يكون عن وحي، فإذا كان ذلك ظاهرا معلوما في الوحي المتلو عرفنا أنه صادر عن ذلك، إذ لو لم نجعله صادرا عن ذلك احتجنا إلى إثبات وحي غير متلو فيه وإثبات الوحي من غير الحاجة ومع الشك لا يجوز. وقال تعالى: *(فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)*: أي ردوه إلى كتاب الله وقال تعالى: *(وأن احكم بينهم بما أنزل الله)* فإذا ظهر منه حكم في حادثة وذلك الحكم موجود فيما أنزل الله عرفنا أنه حكم فيه بما أنزل الله لانه ما كان يخالف ما أمر به، ولان الصحابة رضي الله عنهم فهموا ذلك من أفعاله، فإنهم حملوا قطعه يد السارق على الوجوب وأداءه الصلاة في مواقيتها على الوجوب، وقد بينا أن مطلق فعله لا يدل على ذلك، فلولا أنهم علموا أن فعله ذلك صادر عن الآيات الدالة على الوجوب نحو قوله تعالى: *(حافظوا على الصلوات)* وقوله تعالى: *(فاقطعوا أيديهما)* لاستفسروه وطلبوا منه بيان صفة فعله، وحيث لم يشتغلوا بذلك عرفنا أنهم علموا أن فعله ذلك منه صادر عن الآية، فأما دعواهم الاحتمال

ص 98

ساقط، فإن الظاهر أن ذلك منه صادر عن القرآن، لانه مأمور باتباع ما في القرآن كغيره. وقال تعالى: *(واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون)* فسقط اعتبار الاحتمال مع هذا الظاهر. وقولهم: فيه زيادة فائدة، ساقط فإن إثبات هذه الزيادة لا يمكن إلا بعد إثبات وحي بالشك ومن غير حاجة إليه، وقد بينا أن ذلك لا يجوز. فصل قال علماؤنا رحمهم الله: فعل النبي عليه السلام متى كان على وجه البيان لما في القرآن وحصل ذلك منه في مكان أو زمان فالبيان يكون واقعا بفعله وبما هو من صفاته عند الفعل، فأما المكان والزمان لا يكون شرطا فيه. وأصحاب الشافعي يقولون: البيان منه بالمداومة على فعل مندوب إليه في مكان أو على فعل واجب في مكان أو زمان يدل على أن ذلك المكان والزمان شرط فيه. وعلى هذا قلنا: إحرام النبي (ص) بالحج في أشهر الحج لا يكون بيانا في أن الاحرام تختص صحته بالوجود في أشهر الحج حتى يجوز الاحرام بالحج قبل أشهر الحج. وكذلك فعله ركعتي الطواف في مقام إبراهيم لا يكون بيانا أن ركعتي الطواف تختص بالاداء في ذلك المكان. وعلى قول الشافعي رحمه الله ينتصب الزمان شرطا ببيانه والمكان في أحد الوجهين أيضا، قال: لان مداومته على ذلك في مكان بعينه أو زمان بعينه لو لم يحمل على وجه البيان لم يبق له فائدة أخرى، وقد علمنا أنه ما داوم على ذلك إلا لفائدة، ثم قاس هذا بمداومته على فعل الصلوات المفروضة في الاوقات المخصوصة والامكنة الطاهرة، فإن ذلك بيان منه لوجوب مراعاة ذلك الزمان والمكان في أداء الفرائض، فكذلك في سائر أفعاله. ولكنا نقول: البيان إنما يحصل بفعله والمكان والزمان ليس من فعله في شيء، فما كان المكان والزمان إلا بمنزلة فعل غيره، وغيره وإن ساعده على ذلك الفعل فإن البيان يكون حاصلا بفعله لا بفعل غيره،

ص 99

فكذلك المكان الذي يوجد فيه الفعل أو الزمان الذي يوجد فيه الفعل لا يكون له حظ في حصول البيان به، بل بجعل البيان حاصلا بفعله فقط إلا أن يكون هناك أمر مجمل في حق الزمان محتاجا إلى البيان أو في حق المكان، كما في باب الصلاة فإنا نعلم فرضيتها في بعض الاوقات (المخصوصة) واختصاص جواز أدائها ببعض الامكنة بالنص فيكون فعله في الاوقات المخصوصة والامكنة الطاهرة بيانا للمجمل في ذلك كله، فأما فعله في باب الحج بيان لقوله تعالى: *(ولله على الناس حج البيت)* وذلك حاصل بالفعل لا بالوقت، لانه ليس فيه أمر مجمل لاختصاص عقد الاحرام بالحج ببعض الاوقات دون البعض، وما كان ذلك إلا نظير مباشرة الطهارة بالماء في الوقت، فإن ذلك كان بيانا منه لاصل الطهارة المأمور بها في الكتاب، ولم يكن بيانا في التخصيص في الوقت حتى تجوز الطهارة بالماء قبل دخول الوقت بلا خلاف.

 فصل: في بيان شرائع من قبلنا

 اختلف العلماء في هذا الفصل على أقاويل. فمنهم من قال: ما كان شريعة لنبي فهو باق أبدا حتى يقوم دليل النسخ فيه وكل من يأتي فعليه أن يعمل به على أنه شريعة ذلك النبي عليه السلام ما لم يظهر ناسخه. وقال بعضهم: شريعة كل نبي تنتهي ببعث نبي آخر بعده حتى لا يعمل به إلا أن يقوم الدليل على بقائه وذلك ببيان من النبي المبعوث بعده. وقال بعضهم: شرائع من قبلنا يلزمنا العمل به على أن ذلك شريعة لنبينا عليه السلام فيما لم يظهر دليل النسخ فيه، ولا يفصلون بين ما يصير معلوما من شرائع من قبلنا بنقل أهل الكتاب أو برواية المسلمين عما في أيديهم من الكتاب وبين ما ثبت من ذلك ببيان في القرآن أو السنة. وأصح الاقاويل عندنا أن ما ثبت بكتاب الله أنه كان شريعة من قبلنا أو ببيان من رسول الله (ص) فإن علينا العمل به على أنه شريعة لنبينا عليه السلام ما لم يظهر ناسخه، فأما ما علم بنقل أهل الكتاب أو بفهم المسلمين

ص 100

من كتبهم فإنه لا يجب اتباعه لقيام دليل موجب للعلم على أنهم حرفوا الكتب، فلا يعتبر نقلهم في ذلك لتوهم أن المنقول من جملة ما حرفوا، ولا يعتبر فهم المسلمين ذلك مما في أيديهم من الكتب لجواز أن يكون ذلك من جملة ما غيروا وبدلوا. والدليل على أن المذهب هذا أن محمدا قد استدل في كتاب الشرب على جواز القسمة بطريق المهايأة في الشرب بقوله تعالى: *(ونبئهم أن الماء قسمة بينهم)* وبقوله تعالى: *(هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم)* وإنما أخبر الله تعالى ذلك عن صالح عليه السلام، ومعلوم أنه ما استدل به إلا بعد اعتقاده بقاء ذلك الحكم شريعة لنبينا عليه السلام. واستدل أبو يوسف على جريان القصاص بين الذكر والانثى بقوله تعالى: *(وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)* وبه كان يستدل الكرخي على جريان القصاص بين الحر والعبد والمسلم والذمي، والشافعي في هذا لا يخالفنا، وقد استدل برجم النبي (ص) اليهوديين بحكم التوراة، كما نص عليه بقوله أنا أحق من أحيا سنة أماتوها على وجوب الرجم على أهل الكتاب وعلى أن ذلك صار شريعة لنبينا. ونحن لا ننكر ذلك أيضا ولكنا ندعي انتساخ ذلك بطريق زيادة شرط الاحصان لايجاب الرجم في شريعتنا، ولمثل هذه الزيادة حكم النسخ عندنا. وبين المتكلمين اختلاف في أن النبي عليه السلام قبل نزول الوحي (عليه) هل كان متعبدا بشريعة من قبله؟ فمنهم من أبى ذلك، ومنهم من توقف فيه، ومنهم من قال كان متعبدا بذلك، ولكن موضع بيان هذا الفصل أصول التوحيد، فإنا نذكر ههنا ما يتصل بأصول الفقه. فأما الفريق الاول قالوا: صفة الاطلاق في الشيء يقتضي التأبيد فيه إذا كان محتملا للتأبيد، فالتوقيت يكون زيادة فيه لا يجوز إثباته إلا بالدليل، ثم الرسول الذي كان الحكم شريعة له لم يخرج من أن يكون رسولا برسول آخر بعث بعده، فكذلك شريعته لا تخرج من أن تكون معمولا بها وإن بعث بعده رسول آخر ما لم يقم دليل النسخ فيه، ألا ترى أن علينا الاقرار بالرسل كلهم، وإلى ذلك وقعت الاشارة في قوله تعالى: *(والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته

ص 101

وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله)* فكذلك ما ثبت شريعة لرسول فما لم يظهر ناسخه فهو بمنزلة ما ليس فيه احتمال النسخ في كونه باقيا معمولا به، يوضحه أن ما ثبت شريعة لرسول فقد ثبتت الحقية فيه وكونه مرضيا عند الله، وبعث الرسل لبيان ما هو مرضي عند الله فما علم كونه مرضيا قبل بعث رسول آخر لا يخرج من أن يكون مرضيا ببعث رسول آخر، وإذا بقي مرضيا كان معمولا به كما كان قبل بعث الرسول الثاني، وبهذا تبين الفرق أن الاصل هو الموافقة في شرائع الرسل إلا أذا تبين تغيير حكم بدليل النسخ. فأما الفريق الثاني فقد استدلوا بقوله تعالى: *(لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)* وبقوله: *(وجعلناه هدى لبني إسرائيل)* فتخصيص بني إسرائيل يكون التوراة هدى لهم يكون دليلا على أنه لا يلزمنا العمل بما فيه إلا أن يقوم دليل يوجب العمل به في شريعتنا، ولان بعث الرسل لبيان ما بالناس حاجة إلى بيانه، وإذا لم تجعل شريعة رسول منتهية ببعث رسول آخر لم يكن بالناس حاجة إلى البيان عند بعث الثاني، لان ذلك مبين عندهم بالطريق الموجب للعلم، فمن هذا الوجه يتبين أن بعث رسول آخر دليل النسخ لشريعة كانت قبله، ولهذا جعلنا هذا كالنسخ فيما يحتمل النسخ دون ما لا يحتمل النسخ أصلا كالتوحيد وأصل الدين، ألا ترى أن الرسل عليهم السلام ما اختلفوا في شيء من ذلك أصلا ولا وصفا ولا يجوز أن يكون بينهم فيه خلاف، ولهذا انقطع القول ببقاء شريعة نبينا محمد (ص) إلى قيام الساعة لعلمنا بدليل مقطوع به أنه لا نبي بعده حتى يكون ناسخا لشريعته، يوضحه أن الانبياء عليهم السلام قبل نبينا أكثرهم إنما بعثوا إلى قوم مخصوصين ورسولنا هو المبعوث إلى الناس كافة على ما قال عليه السلام: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: بعثت إلى الاحمر والاسود، وقد كان النبي قبلي يبعث إلى قومه الحديث، فإذا ثبت أنه قد كان في المرسلين من يكون وجوب العمل بشريعته على أهل مكان دون أهل مكان آخر وإن كان ذلك مرضيا عند الله تعالى علمنا أنه يجوز أن يكون وجوب العمل به على أهل زمان دون أهل زمان آخر

ص 102

وإن كان (ذلك) منتهيا ببعث نبي آخر وقد كان يجوز اجتماع نبيين في ذلك الوقت في مكانين على أن يدعو كل واحد منهما إلى شريعته، فعرفنا أنه يجوز مثل ذلك في زمانين وأن المبعوث آخرا يدعو إلى العمل بشريعته ويأمر الناس باتباعه ولا يدعو إلى العمل بشريعة من قبله، فتعين الكلام في نبينا فإنه كان يدعو الناس إلى اتباعه كما قال تعالى: *(فاتبعوني يحببكم الله)* وإنما يأمر بالعمل بشريعته فلو بقيت شرائع من قبلنا معمولا بها بعد مبعثه لدعا الناس إلى العمل بذلك، ولكان يجب عليه أن يعلم ذلك أصحابه ليتمكنوا من العمل به ولو فعل ذلك لنقل إلينا نقلا مستفيضا والمنقول إلينا منعه إياهم عن ذلك، فإنه روي أنه (عليه الصلاة والسلام (لما رأى صحيفة في يد عمر سأله عنها فقال: هي التوراة. فغضب حتى احمرت وجنتاه وقال: أمتهوكون كما تهوكت اليهود والنصارى! والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي وبهذا اللفظ يتبين أن الرسول المتقدم ببعث رسول آخر يكون كالواحد من أمته في لزوم اتباع شريعته لو كان حيا، وعليه دل كتاب الله كما قال تعالى: *(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به)* فأخذ الميثاق عليهم بذلك من أبين الدلائل على أنهم بمنزلة أمة من بعث آخرا في وجوب اتباعه، وبهذا ظهر شرف نبينا عليه السلام فإنه لا نبي بعده فكان الكل ممن تقدم وممن تأخر في حكم المتبع له وهو بمنزلة القلب يطيعه الرأس ويتبعه الرجل. والفريق الثالث استدلوا بهذا الكلام أيضا ولكن بطريق أن ما كان شريعة لمن قبلنا يصير شريعة لنبينا (ص)، ومن تقدم في العمل به يكون متبعا له، وفي حكم العامل بشريعته من هذا الوجه، فإن الله تعالى قال: *(ملة أبيكم إبراهيم)* وقال تعالى *(قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم)* وقال تعالى *(وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا)* وما يكون منتهيا منسوخا لا يكون متبعا، فبهذه النصوص يتبين أنه متبع، وأنه ملة إبراهيم فلم يبق

ص 103

طريق سوى أن نقول قد صار ذلك شريعة لنبينا عليه السلام، ويجب على الناس العمل به بطريق أنه شريعة له حتى يقوم دليل نسخه في شريعته، ألا ترى أنه قد اجتمع نبيان في وقت واحد وفي مكان واحد فيمن قبلنا على أن كان أحدهما تبعا للآخر نحو هارون مع موسى، ولوط مع إبراهيم كما قال تعالى: *(فآمن له لوط)* فكانت الشريعة لاحدهما والآخر نبي مرسل وهو مأمور باتباعه والعمل بشريعته، ولا يجوز القول باجتماع نبيين في وقت واحد ومكان واحد على أن يكون لكل واحد منهما شريعة تخالف شريعة الآخر في وقت من الاوقات. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: *(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)* ومعلوم أن الهدى في أصل الدين وأحكام الشرع جميعا. فإن قيل: المراد به الامر بالاقتداء بهم في أصل الدين فإنه مبني على ما تقدم من قوله تعالى: *(فلما جن عليه الليل)* إلى قوله *(وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم)* إلى قوله تعالى: *(أولئك الذين هدى الله)* والدليل عليه أنه قد كان في المذكورين من لم يكن نبيا فإنه قال *(ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم)* ومعلوم أن الامر بالاقتداء في أحكام الشرع لا يكون في غير الانبياء وإنما يكون ذلك في أصل الدين، ولانه قد كان في شرائعهم الناسخ والمنسوخ، فالامر باللاقتداء بهم في الاحكام على الاطلاق يكون آمرا بالعمل بشيئين مختلفين متضادين وذلك غير جائز. قلنا: في الآية تنصيص على الاقتداء بهداهم وذلك يعم أصل الدين وأحكام الشرع، ألا ترى إلى قوله تعالى: *(آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)* أنه يدلنا على أن الهدى كل ما يجب الاتقاء فيه وما يكون المهتدي فيه متقيا، وقال تعالى: *(إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون)* والحكم إنما يكون بالشرائع، ولما سئل مجاهد عن سجدة ص قال: سجدها داود وهو ممن أمر نبيكم بأن يقتدي به، وتلا قوله تعالى: *(فبهداهم اقتده)* فبهذا تبين أن هذا أمر مبتدأ غير مبني على ما سبق فعمومه يتناول أصل الدين والشرائع جميعا. وقوله: فيها ناسخ ومنسوخ، قلنا: وفي شريعتنا أيضا ناسخ ومنسوخ ثم لم يمنع ذلك إطلاق القول بوجوب الاقتداء علينا برسول الله

ص 104

(ص) في شريعته. وقوله: قد كان فيهم من ليس بنبي، لا كذلك فقد ألحق به من البيان ما يعلم به أن المراد الانبياء وهو قوله تعالى: *(واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم أولئك الذين آتيناهم الكتاب)* مع أن الامر بالاقتداء يعلم أنه لا يتناول إلا من يعلم أنه مرضي الطريقة، مقتدي به من نبي أو ولي، والاولياء على طريقة الانبياء عليهم السلام في العمل بشرائعهم، فبهذا يتبين أن المراد هو الامر بالاقتداء بالانبياء عليهم السلام، ومعلوم أنه ما أمر بالاقتداء بهم في دعاء الناس إلى شريعتهم وإنما أمر بذلك على أن يدعو الناس إلى شريعته، فعرفنا بهذا أن ذلك كله صار شريعة له، بمنزلة الملك ينتقل من المورث إلى الوارث فيكون ذلك الملك بعينه مضافا إلى الوارث بعدما كان مضافا إلى المورث في حياته، وإلى ذلك وقعت الاشارة في قوله تعالى: *(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)* فأما قوله: *(لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)* قد عرفنا يقينا أنه ليس المراد به المخالفة في المنهاج في الكل بل ذلك مراد في البعض وهو ما قام الدليل فيه على انتساخه. وقوله: *(هدى لبني إسرائيل)* لا يدل على أنه ليس بهدى لغيرهم، كقوله تعالى: *(هدى للمتقين)* والقرآن هدى للناس أجمع، وأيد هذا دعاء رسول الله عليه الصلاة والسلام بالتوراة وطلب حكم الرجم منه للعمل به، وقوله: أنا أحق من أحيا سنة أماتوها فإن إحياء سنة أميتت إنما يكون بالعمل بها، فعرفنا أن التوراة هدى لبني إسرائيل ولغيرهم، وأيد جميع ما ذكرنا قوله تعالى: *(مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه)* ولا معنى لذلك سوى أن ما فيه يصير شريعة لنبينا بما أنزل عليه من الكتاب إلا ما ثبت نسخه، وهذا هو القول الصحيح عندنا، إلا أنه قد ظهر من أهل الكتاب الحسد وإظهار العداوة مع المسلمين فلا يعتمد قولهم فيما يزعمون أنه من شريعتهم وأن ذلك قد انتقل إليهم بالتواتر، ولا تقبل شهادتهم في ذلك لثبوت كفرهم وضلالهم فلم يبق لثبوت ذلك طريق سوى نزول القرآن به أو بيان الرسول له، فما وجد فيه هذا الطريق فعلينا فيه الاتباع والعمل به حتى يقوم دليل

ص 105

النسخ، وأيد ما ذكرنا قوله تعالى: *(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)*. *(فأولئك هم الظالمون)* ومعلوم أنهم ما كانوا يمتنعون من العمل بأحكام التوراة وإنما كانوا يمتنعون من العمل به على طريق أنه شريعة رسولنا فإنهم كانوا لا يقرون برسالته وقد سماهم الله كافرين ظالمين ممتنعين من الحكم بما أنزل الله. وكذلك قال تعالى: *(وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)* وإنما سماهم فاسقين لتركهم العمل بما في الانجيل على أنه شريعة محمد (ص)، فبهذا يتبين أن ذلك كله قد صار شريعة لنبينا عليه السلام وأنه يجب اتباعه والعمل به على أنه شريعة نبينا. وفي قوله تعالى: *(وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله)* تنصيص على أنه معمول به. وقال تعالى: *(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا)* إلى قوله: *(أن أقيموا الدين)* والدين اسم لكل ما يدان الله به فتدخل الاحكام في ذلك، ويظهر أن ذلك كله قد صار شريعة لنبينا فيجب اتباعه والعمل به إلا ما قام دليل النسخ فيه.

 فصل: في تقليد الصحابي إذا قال قولا ولا يعرف له مخالف

 حكى أبو عمرو بن دانيكا الطبري عن أبي سعيد البردعي رحمه الله أنه كان يقول: قول الواحد من الصحابة مقدم على القياس يترك القياس بقوله، وعلى هذا أدركنا مشايخنا. وذكر أبو بكر الرازي عن أبي الحسن الكرخي رحمه الله: أنه كان يقول: أرى أبا يوسف يقول في بعض مسائله: القياس كذا إلا أني تركته للاثر، وذلك الاثر قول واحد من الصحابة. فهذه دلالة بينة من مذهبه على تقديم قول الصحابي على القياس. قال: وأما أنا فلا يعجبني هذا المذهب. وهذا الذي ذكره الكرخي عن أبي يوسف موجود في كثير من المسائل عن أصحابنا، فقد قالوا في المضمضة والاستنشاق: إنهما سنتان في القياس في الجنابة والوضوء جميعا تركنا

ص 106

القياس لقول ابن عباس وقالوا في الدم إذا ظهر على رأس الجرح ولم يسل فهو ناقض للطهارة في القياس تركناه لقول ابن عباس، وقالوا في الاغماء: إذا كان يوما وليلة أو أقل فإنه يمنع قضاء الصلوات في القياس تركناه لفعل عمار بن ياسر رضي الله عنهما، وقالوا في إقرار المريض لوارثه إنه جائز في القياس تركناه لقول ابن عمر رضي الله عنهما. وقال: أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فيمن اشترى شيئا على أنه (إن) لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما فالعقد فاسد في القياس تركناه لاثر يروى عن ابن عمر. وقال أبو حنيفة: إعلام قدر رأس المال فيما يتعلق العقد على قدره شرط لجواز السلم بلغنا نحو ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، وخالفه أبو يوسف ومحمد بالرأي. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا ضاع العين في يد الاجير المشترك بما يمكن التحرز عنه فهو ضامن لاثر روي فيه عن علي رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة: لا ضمان عليه، فأخذ بالرأي مع الرواية بخلافه عن علي. وقال محمد: لا تطلق الحامل أكثر من واحدة للسنة بلغنا ذلك عن ابن مسعود وجابر رضي الله عنهما. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف بالرأي: إنها تطلق ثلاثا للسنة. فعرفنا أن عمل علمائنا بهذا في مسائلهم مختلف. ول‍ لشافعي في المسألة قولان كان يقول في القديم: يقدم قول الصحابي على القياس، وهو قول مالك، وفي الجديد كان يقول: يقدم القياس في العمل به على قول الواحد والاثنين من الصحابة، كما ذهب إليه الكرخي. وبعض أهل الحديث يخصون بترك القياس في مقابلة قولهم الخلفاء الراشدين، ويستدلون بقوله عليه السلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وبقوله عليه السلام: اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر فظاهر الحديثين يقتضي وجوب اتباعهما وإن خالفهما غيرهما من الصحابة، ولكن يترك هذا الظاهر عند ظهور الخلاف بقيام الدليل، فبقي حال ظهور قولهما من غير مخالف لها على ما يقتضيه الظاهر. وأما الكرخي فقد احتج بقوله تعالى: *(فاعتبروا يا أولي الابصار)* والاعتبار هو العمل بالقياس والرأي فيما لا نص فيه، وقال تعالى: *(فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)* يعني إلى الكتاب والسنة، وقد دل عليه

ص 107

حديث معاذ حين قال له رسول الله (ص): بم تقضي؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: اجتهد رأيي. فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضى به رسوله فهذا دليل على أنه ليس بعد الكتاب والسنة شيء يعمل به سوى الرأي. قال: ولا حجة لكم في قوله عليه السلام: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم لان المراد الاقتداء بهم في الجري على طريقهم في طلب الصواب في الاحكام لا في تقليدهم وقد كانت طريقتهم العمل بالرأي والاجتهاد، ألا ترى أنه شبههم بالنجوم وإنما يهتدي بالنجم من حيث الاستدلال به على الطريق بما يدل عليه لا أن نفس النجم يوجب ذلك، وهو تأويل قوله: اقتدوا بالذين من بعدي وعليكم بسنة الخلفاء من بعدي فإنه إنما يعني سلوك طريقهم في اعتبار الرأي والاجتهاد فيما لا نص فيه، وهذا هو المعنى، فقد ظهر من الصحابة الفتوى بالرأي ظهورا لا يمكن إنكاره، والرأي قد يخطئ فكان فتوى الواحد منهم محتملا مترددا بين الصواب والخطأ، ولا يجوز ترك الرأي بمثله كما لا يترك بقول التابعي، وكما لا يترك أحد المجتهدين في عصر رأيه بقول مجتهد آخر. والدليل على أن الخطأ محتمل في فتواهم ما روي أن عمر سئل عن مسألة فأجاب فقال رجل: هذا هو الصواب. فقال: والله ما يدري عمر أن هذا هو الصواب أو الخطأ ولكني لم آل عن الحق. وقال ابن مسعود رضي الله عنه فيما أجاب به في المفوضة: وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان. فعرفنا أنه قد كان جهة الخطأ محتملا في فتواهم، ولا يقال هذا في إجماعهم موجود إذا صدر عن رأي ثم كان حجة، لان الرأي إذا تأيد بالاجماع تتعين جهة الصواب فيه بالنص، قال عليه السلام: إن الله لا يجمع أمتي على الضلالة ألا ترى أن إجماع أهل كل عصر يجعل حجة بهذا الطريق وإن لم يكن قول الواحد منهم مقدما على الرأي في العمل به، ولانه لم يظهر منهم دعاء الناس إلى أقاويلهم، ولو كان قول الواحد منهم مقدما على الرأي لدعا الناس إلى قوله كما كان رسول الله (ص) يدعو الناس إلى العمل بقوله، وكما كانت الصحابة تدعو الناس إلى العمل بالكتاب والسنة وإلى العمل

ص 108

بإجماعهم فيما أجمعوا عليه، إذ الدعاء إلى الحجة واجب، ولان قول الواحد منهم لو كان حجة لم يجز لغيره مخالفته بالرأي كالكتاب والسنة، وقد رأينا أن بعضهم يخالف بعضا برأيه فكان ذلك شبه الاتفاق منهم على أن قول الواحد منهم لا يكون مقدما على الرأي. ولا يدخل على هذا إجماعهم، فإن مع بقاء الواحد منهم مخالفا لا ينعقد الاجماع، وبعد ما ثبت الاجماع باتفاقهم لو بدا لاحدهم فخالف لم يعتد بخلافه أيضا على ما بينا أن انقراض العصر ليس بشرط لثبوت حكم الاجماع، وأن مخالفة الاجماع بعد انعقاده كمخالفة النص. وجه ما ذهب إليه أبو سعيد البردعي وهو الاصح أن فتوى الصحابي فيه احتمال الرواية عمن ينزل عليه الوحي، فقد ظهر من عادتهم أن من كان عنده نص فربما روى وربما أفتى على موافقة النص مطلقا من غير الرواية، ولا شك أن ما فيه احتمال السماع من صاحب الوحي فهو مقدم على محض الرأي، فمن هذا الوجه تقديم قول الصحابي على الرأي بمنزلة تقديم خبر الواحد على القياس، ولئن كان قوله صادرا عن الرأي فرأيهم أقوى من رأي غيرهم، لانهم شاهدوا طريق رسول الله (ص) في بيان أحكام الحوادث وشاهدوا الاحوال التي نزلت فيها النصوص والمحال التي تتغير باعتبارها الاحكام، فبهذه المعاني يترجح رأيهم على رأي من لم يشاهد شيئا من ذلك، وعند تعارض الرأيين إذا ظهر لاحدهما نوع ترجيح وجب الاخذ بذلك، فكذلك إذا وقع التعارض بين رأي الواحد منا ورأي الواحد منهم يجب تقديم رأيه على رأينا لزيادة قوة في رأيه، وهكذا نقول في المجتهدين في زماننا، فإن على أصل أبي حنيفة إذا كان عند مجتهد أن من يخالفه في الرأي أعلم بطريق الاجتهاد، وأنه مقدم عليه في العلم فإنه يدع رأيه لرأي من عرف زيادة قوة في اجتهاده، كما أن العامي يدع رأيه لرأي المفتي المجتهد لعلمه بأنه متقدم عليه فيما يفصل به بين الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه، وعلى قول أبي يوسف ومحمد لا يدع المجتهد في زماننا رأيه لرأي من هو مقدم عليه في الاجتهاد من أهل عصره لوجود المساواة بينهما في الحال وفي معرفة طريق الاجتهاد، ولكن هذا لا يوجد فيما بين المجتهد منا والمجتهد من الصحابة، فالتفاوت بينهما في الحال لا يخفى

ص 109

وفي طريق العلم كذلك فهم قد شاهدوا أحوال من ينزل عليه الوحي وسمعوا منه، وإنما انتقل إلينا ذلك بخبرهم وليس الخبر كالمعاينة. فإن قيل: أليس أن تأويل الصحابي للنص لا يكون مقدما على تأويل غيره ولم يعتبر فيه هذه الاحوال فكذلك في الفتوى بالرأي؟ قلنا: لان التأويل يكون بالتأمل في وجوه اللغة ومعاني الكلام، ولا مزية لهم في ذلك الباب على غيرهم ممن يعرف من معاني اللسان مثل ذلك. فأما الاجتهاد في الاحكام إنما يكون بالتأمل في النصوص التي هي أصل في أحكام الشرع، وذلك يختلف باختلاف الاحوال ولاجله تظهر لهم المزية بمشاهدة أحوال الخطاب على غيرهم ممن لم يشاهد، ولا يقال هذه أمور باطنة وإنما أمرنا ببناء الحكم على ما هو الظاهر، لان بناء الحكم على الظاهر مستقيم عندنا ولكن في موضع يتعذر اعتبارهما جميعا، فأما عند المقابلة لا إشكال أن اعتبار الظاهر والباطن جميعا يتقدم على مجرد اعتبار الظاهر (وفي الاخذ بقول الصحابي اعتبارهما وفي العمل بالرأي اعتبار الظاهر) فقط هذا مع ما لهم من الفضيلة بصحبة رسول الله (ص) والتفقه في الدين سماعا منه، وشهادة رسول الله (ص) لهم بالخيرية بعده وتقديمهم في ذلك على من بعدهم بقوله: خير الناس قرني الحديث، وقال: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه فعرفنا أنهم يوفقون لاصابة الرأي ما لا يوفق غيرهم لمثله فيكون رأيهم أبعد عن احتمال الخطأ من رأي من بعدهم، ولا حجة في قوله تعالى: *(فاعتبروا)* لان تقديم قولهم بهذا الطريق نوع من الاعتبار فالاعتبار يكون بترجيح أحد الدليلين بزيادة قوة فيه، وكذلك قوله تعالى: *(فردوه إلى الله والرسول)* لان في تقديم فتوى الصحابي رد الحكم إلى أمر الرسول عليه السلام، لان الرسول عليه السلام قد دعا الناس إلى الاقتداء بأصحابه بقوله بأيهم اقتديتم اهتديتم وإنما كان لا يدعو الواحد منهم غيره إلى قوله لان ذلك الغير إن أظهر قولا بخلاف قوله فعند تعارض القولين منهما تتحقق المساواة بينهما وليس أحدهما بأن يدعو صاحبه إلى قوله بأولى من الآخر، وإن لم يظهر منه قول بخلاف ذلك فهو لا يدري

ص 110

لعله إذا دعاه إلى قوله أظهر خلافه فلا يكون قوله حجة عليه، فأما بعدما ظهر القول عن واحد منهم وانقرض عصرهم قبل أن يظهر قول بخلافه من غيره فقد انقطع احتمال ما ثبت به المساواة من الوجه الذي قررنا فيكون قوله حجة، وإنما ساغ لبعضهم مخالفة البعض لوجود المساواة بينهم فيما يتقوى به الرأي، وهو مشاهدة أحوال التنزيل ومعرفة أسبابه. ولا خلاف بين أصحابنا المتقدمين والمتأخرين أن قول الواحد من الصحابة حجة فيما لا مدخل للقياس في معرفة الحكم فيه، وذلك نحو المقادير التي لا تعرف بالرأي، فإنا أخذنا بقول علي رضي الله عنه في تقدير المهر بعشرة دراهم، وأخذنا بقول أنس في تقدير أقل الحيض بثلاثة أيام وأكثره بعشرة أيام، وبقول عثمان بن أبي العاص في تقدير أكثر النفاس بأربعين يوما، وبقول عائشة رضي الله عنها في أن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين، وهذا لان أحدا لا يظن بهم المجازفة في القول، ولا يجوز أن يحمل قولهم في حكم الشرع على الكذب، فإن طريق الدين من النصوص إنما انتقل إلينا بروايتهم، وفي حمل قولهم على الكذب والباطل قول بفسقهم، وذلك يبطل روايتهم فلم يبق إلا الرأي أو السماع ممن ينزل عليه الوحي ولا مدخل للرأي في هذا الباب، فتعين السماع وصار فتواه مطلقا كروايته عن رسول الله (ص)، ولا شك أنه لو ذكر سماعه من رسول الله لكان ذلك حجة لاثبات الحكم به فكذلك إذا أفتى به ولا طريق لفتواه إلا السماع، ولهذا قلنا: إن قول الواحد منهم فيما لا يوافقه القياس يكون حجة في العمل به، كالنص يترك القياس به، حتى إن في شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن أخذنا بقول عائشة رضي الله عنها في قصة زيد بن أرقم رضي الله عنه وتركنا القياس، لان القياس لما كان مخالفا لقولها تعين جهة السماع في فتواها، وكذلك أخذنا بقول ابن عباس رضي الله عنهما في النذر بذبح الولد إنه يوجب ذبح شاة لانه قول يخالف القياس فتتعين فيه جهة السماع، وأخذنا بقول ابن

ص 111

مسعود رضي الله عنه في تقدير الجعل لراد الآبق من مسيرة سفر بأربعين درهما، لانه قول بخلاف القياس وهو إطلاق الفتوى منه فيما لا يعرف بالقياس فتتعين جهة السماع. فإن قيل: هذا المعنى يوجد في قول التابعي، فإنه لا يظن المجازفة في القول بالمجتهد في كل عصر، ولا يجوز حمل كلامه على الكذب قصدا، ومع ذلك لا تتعين جهة السماع لفتواه عند الاطلاق حتى لا يكون حجة فيما لا يستدرك بالقياس كما لا يكون حجة فيما يعرف بالقياس. قلنا: قد بينا أن قول الصحابي يكون أبعد عن احتمال الغلط وقلة التأمل فيه من قول غيره، ثم احتمال اتصال قولهم بالسماع يكون بغير واسطة، فقد صحبوا من كان ينزل عليه الوحي وسمعوا منه، واحتمال اتصال قول من بعدهم بالسماع يكون بواسطة النقل وتلك الواسطة لا يمكن إثباتها بغير دليل وبدونها لا يثبت اتصال قوله بالسماع بوجه من الوجوه، فمن هذا الوجه يقع الفرق بين قول الصحابي وبين قول من هو دونه فيما لا مدخل للقياس فيه. فإن قيل: قد قلتم في المقادير بالرأي من غير أثر فيه، فإن أبا حنيفة قدر مدة البلوغ بالسن بثماني عشرة سنة أو سبع عشرة سنة بالرأي، وقدر مدة وجوب دفع المال إلى السفيه الذي لم يؤنس منه الرشد بخمس وعشرين سنة بالرأي، وقدر أبو يوسف ومحمد مدة تمكن الرجل من نفي الولد بأربعين يوما بالرأي، وقدر أصحابنا جميعا ما يطهر به البئر من النزح عند وقوع الفأرة فيه بعشرين دلوا، فهذا يتبين فساد قول من يقول إنه لا مدخل للرأي في معرفة المقادير، وأنه تتعين جهة السماع في ذلك إذا قاله صحابي. قلنا: إنما أردنا بما قلنا المقادير التي تثبت لحق الله ابتداء دون مقدار يكون فيما يتردد بين القليل والكثير والصغير والكبير، فإن المقادير في الحدود والعبادات نحو أعداد الركعات في الصلوات مما لا يشكل على أحد أنه لا مدخل

ص 112

للرأي في معرفة ذلك فكذلك ما يكون بتلك الصفة مما أشرنا إليه فأما ما استدللتم به فهو من باب الفرق بين القليل والكثير فيما يحتاج إليه، فإنا نعلم أن ابن عشر سنين لا يكون بالغا وأن ابن عشرين سنة يكون بالغا، ثم التردد فيما بين ذلك فيكون هذا استعمال الرأي في إزالة التردد، وهو نظير معرفة القيمة في المغصوب والمستهلك ومعرفة مهر المثل والتقدير في النفقة فإن للرأي مدخلا في معرفة ذلك من الوجه الذي قلنا، وكذلك حكم دفع المال إلى السفيه فإن الله تعالى قال *(فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم)* وقال: *(ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا)*. فوقعت الحاجة إلى معرفة الكبير على وجه يتيقن معه بنوع من الرشد وذلك مما يعرف بالرأي، فقدر أبو حنيفة ذلك بخمس وعشرين سنة لانه يتوهم أن يصير جدا في هذه المدة، ومن صار فرعه أصلا فقد تناهى في الاصلية فيتيقن له بصفة الكبر ويعلم إيناس الرشد منه باعتبار أنه بلغ أشده، فإنه قيل في تفسير الاشد المذكور في سورة يوسف عليه السلام إنه هذه المدة، وكذلك ما قال أبو يوسف ومحمد فإنه يتمكن من النفي بعد الولادة بساعة أو ساعتين لا محالة ولا يتمكن من النفي بعد سنة أو أكثر، فإنما وقع التردد فيما بين القليل والكثير من المدة فاعتبر الرأي فيه بالبناء على أكثر مدة النفاس. فأما حكم طهارة البئر بالنزح فإنما عرفناه بآثار الصحابة، فإن فتوى علي وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما في ذلك معروفة، مع أن ذلك من باب الفرق بين القليل من النزح والكثير، وقد بينا أن للرأي مدخلا في معرفة هذا كله في قول ظهر عن صحابي ولم يشتهر ذلك في أقرانه، فإنه بعدما اشتهر إذا لم يظهر النكير عن أحد منهم كان ذلك بمنزلة الاجماع وقد بينا الكلام فيه، وما اختلف فيه الصحابة فقد بينا أن الحق لا يعدو أقاويلهم حتى لا يتمكن أحد من أن يقول بالرأي قولا خارجا عن أقاويلهم، وكذلك لا يشتغل بطلب التاريخ بين أقاويلهم ليجعل المتأخر ناسخا للمتقدم كما يفعل في الآيتين والخبرين، لانه لما ظهر الخلاف بينهم ولم نجز المحاجة بسماع من صاحب الوحي فقد انقطع احتمال التوقيف فيه وبقي مجرد القول بالرأي والرأي

ص 113

لا يكون ناسخا للرأي، ولهذا لم يجز نسخ أحد القياسين بالآخر، ولكن طريق العمل طلب الترجيح بزيادة قوة لاحد الاقاويل، فإن ظهر ذلك وجب العمل بالراجح، وإن لم يظهر يتخير المبتلي بالحادثة في الاخذ بقول أيهما شاء بعد أن يقع في أكثر رأيه أنه هو الصواب، وبعد ما عمل بأحد القولين لا يكون له أن يعمل بالقول الآخر إلا بدليل، وقد بينا (لك) هذا في باب المعارضة. هذا الذي بينا هو النهاية في الاخذ بالسنة حقيقتها وشبهتها ثم العمل بالرأي بعده، وبذلك يتم الفقه على ما أشار إليه محمد بن الحسن في أدب القاضي فقال: لا يستقيم العمل بالحديث إلا بالرأي، ولا يستقيم العمل بالرأي إلا بالحديث. وأصحابنا هم المتمسكون بالسنة والرأي في الحقيقة، فقد ظهر منهم من تعظيم السنة ما لم يظهر من غيرهم ممن يدعي أنه صاحب الحديث، لانهم جوزوا نسخ الكتاب بالسنة لقوة درجتها، وجوزوا العمل بالمراسيل، وقدموا خبر المجهول على القياس، وقدموا قول الصحابي على القياس، لان فيه شبهة السماع من الوجه الذي قررنا، ثم بعد ذلك كله عملوا بالقياس الصحيح وهو المعنى الذي ظهر أثره بقوته. فأما الشافعي رحمه الله حين لم يجوز العمل بالمراسيل فقد ترك كثيرا من السنن، وحين لم يقبل رواية المجهول فقد عطل بعض السنة أيضا، وحين لم ير تقليد الواحد من الصحابة فقد جوز الاعراض عما فيه شبهة السماع، ثم جوز العمل بقياس الشبه وهو مما لا يجوز أن يضاف إليه الوجوب بحال، فما حاله إلا كحال من لم يجوز العمل بالقياس أصلا، ثم يعمل باستصحاب الحال فحمله ما صار إليه من الاحتياط على العمل بلا دليل وترك العمل بالدليل. وتبين أن أصحابنا هم القدوة في أحكام الشرع أصولها وفروعها، وأن بفتواهم اتضح الطريق للناس إلا أنه بحر عميق لا يسلكه كل سابح، ولا يستجمع شرائطه كل طالب، والله الموفق.

ص 114

فصل: في خلاف التابعي هل يعتد به مع إجماع الصحابة

 لا خلاف أن قول التابعي لا يكون حجة على وجه يترك القياس بقوله، فقد روينا عن أبي حنيفة أنه كان يقول: ما جاءنا عن التابعين زاحمناهم. ولا خلاف أن من لم يدرك عصر الصحابة من التابعين أنه لا يعتد بخلافه في إجماعهم، فأما من أدرك عصر الصحابة من التابعين كالحسن وسعيد بن المسيب والنخعي والشعبي رضي الله عنهم فإنه يعتد بقوله في إجماعهم عندنا حتى لا يتم إجماعهم مع خلافه، وعلى قول الشافعي لا يعتد بقوله مع إجماعهم. وعلى هذا قال أبو حنيفة لا يثبت إجماع الصحابة في الاشعار، لان إبراهيم النخعي كان يكرهه وهو ممن أدرك عصر الصحابة فلا يثبت إجماعهم دون قوله. وجه قول الشافعي أن إجماع الصحابة حجة بطريق الكرامة لهم ولا مشاركة للتابعي معهم في السبب الذي استحقوا به زيادة الكرامة، وذلك صحبة رسول الله عليه السلام، ومشاهدة أحوال الوحي، ولهذا لم نجعل التابعي الذي أدرك عصرهم بمنزلتهم في الاحتجاج بقوله، فكذلك لا يقدح قوله في إجماعهم كما لا يقدح قول من لم يدرك عصر الصحابة في إجماعهم، ولان صاحب الشرع أمرنا بالاقتداء بهم، وندب إلى ذلك بقوله عليه السلام: بأيهم اقتديتم اهتديتم وهذا لا يوجد في حق التابعي وإن أدرك عصرهم فلا يكون مزاحما لهم، وإنما ينعدم انعقاد الاجماع بالمزاحم. وحجتنا في ذلك أنه لما أدرك عصرهم وسوغوا له اجتهاد الرأي والمزاحمة معهم في الفتوى والحكم بخلاف رأيهم قد صار هو كواحد منهم فيما يبتني على اجتهاد الرأي، ثم الاجماع لا ينعقد مع خلاف واحد منهم، فكذلك لا ينعقد مع خلاف التابعي الذي أدرك عصرهم، لانه من علماء ذلك العصر، فشرط انعقاد الاجماع أن لا يكون أحد من أهل العصر مخالفا لهم. وبيان هذا أن عمر وعليا رضي الله عنهما قلدا شريحا القضاء بعدما ظهر منه مخالفتهما في الرأي، وإنما قلداه القضاء ليحكم برأيه. فإن قيل: لا كذلك، بل قلداه القضاء ليحكم بقولهما أو بقول بعض الصحابة

ص 115

سواهما. قلنا: قد روي أن عمر كتب إلى شريح: اقض بما في كتاب الله، فإن لم تجد فبسنة رسول الله، فإن لم تجد فاجتهد برأيك. فإن قيل: معنى قوله: (فاجتهد برأيك) في آرائنا وأقاويلنا. قلنا: هذه زيادة على النص وهي تنزل منزلة النسخ فلا يكون تأويلا، وقد صح أن عليا رضي الله عنه تحاكم إلى شريح وقضى عليه بخلاف رأيه في شهادة الولد لوالده ثم قلده القضاء في خلافته، وابن عباس رضي الله عنهما رجع إلى قول مسروق في النذر بذبح الولد فأوجب عليه شاة بعدما كان يوجب عليه مائة من الابل، وعمر رضي الله عنه أمر كعب بن سور أن يحكم برأيه بين الزوجين فجعل لها ليلة من أربع ليال وكان ذلك خلاف رأي عمر. قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: تذاكرنا مع ابن عباس وأبي هريرة عدة مرات عدة الحامل المتوفى عنها زوجها فقال ابن عباس: تعتد بأبعد الاجلين، وقلت: تعتد بوضع الحمل، فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، وعن مسروق أن ابن عباس رضي الله عنهما صنع طعاما لاصحاب عبد الله بن مسعود فجرت المسائل، وكان ابن عباس يخطئ في بعض فتاويه فما منعهم من أن يردوا عليه إلا كونهم على طعامه. وسئل ابن عمر عن مسألة فقال: سلوا عنها سعيد بن جبير فهو أعلم بها مني. وكان أنس بن مالك إذا سئل عن مسألة فقال سلوا عنها مولانا الحسن. فظهر أنهم سوغوا اجتهاد الرأي لمن أدرك عصرهم ولا معتبر بالصحبة في هذا الباب، ألا ترى أن إجماع أهل كل عصر حجة وإن انعدمت الصحبة لهم، وأنه قد كان في الصحابة الاعراب الذين لم يكونوا من أهل الاجتهاد في الاحكام فكان لا يعتبر قولهم في الاجماع مع وجود الصحبة، فعرفنا أن هذا الحكم إنما يبتنى على كونه من علماء العصر، وممن يجتهد في الاحكام ويعتد بقوله. ثم الصحابة فيما بينهم كانوا متفاضلين في الدرجة،

ص 116

فإن درجة الخلفاء الراشدين فوق درجة غيرهم في الفضيلة ولم يدل ذلك على أن الاجماع الذي هو حجة يثبت بدون قولهم، وكما أمر رسول الله بالاقتداء بالصحابة فقد أمر بالاقتداء بالخلفاء الراشدين لسائر الصحابة بقوله عليه السلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي وأمر بالاقتداء بأبي بكر وعمر بقوله عليه السلام: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ثم هذا لا يدل على أن إجماعهم يكون حجة قاطعة مع خلاف سائر الصحابة.

 فصل: في حدوث الخلاف بعد الاجماع باعتبار معنى حادث

 فمذهب علمائنا أن الاتفاق متى حصل في شيء على حكم ثم حدث فيه معنى اختلفوا لاجله في حكمه، فالاجماع المتقدم لا يكون حجة فيه. وقال بعض العلماء ذلك الاجماع حجة فيه يجب التمسك به حتى يوجد إجماع آخر بخلافه. وبيان هذا في الماء الذي وقع فيه نجاسة ولم يتغير أحد أوصافه، فإن الاجماع الذي كان على طهارته قبل وقوع النجاسة فيه لا يكون حجة لاثبات صفة الطهارة فيه بعد وقوع النجاسة فيه، وعند بعضهم يكون حجة. وكذلك المتيمم إذا أبصر الماء في خلال الصلاة فالاجماع المنعقد على صحة شروعه في الصلاة قبل أن يبصر الماء لا يكون حجة لبقاء صلاته بعدما أبصر الماء، وعند بعضهم يكون حجة. وكذلك بيع أم الولد فالاجماع المنعقد على جواز بيعها قبل الاستيلاد لا يكون حجة لجواز بيعها بعد الاستيلاد عندنا، وعند بعضهم يكون حجة. ويقولون: قد انعقد الاجماع على حكم في هذا العين فنحن على ما كنا عليه من الاجماع حتى ينعقد إجماع آخر له، لان الشيء لا يرفعه ما هو دونه ولا شك أن الخلاف دون الاجماع، يوضحه أن التمسك باليقين وترك المشكوك فيه أصل في الشرع، فإن النبي عليه السلام أمر الشاك في الحدث بأن لا ينصرف من صلاته حتى يستيقن بالحدث، لانه على يقين من الطهارة وهو في شك من الحدث. وكذلك أمر الشاك في الصلاة بأن يأخذ بالاقل لكونه متيقنا به. وكذلك في الاحكام نقول اليقين لا يزال بالشك حتى إذا شك في طلاق امرأته لم يقع الطلاق عليها. وكذلك الاقرار بالمال لا يثبت مع الشك، لان براءة الذمة يقين باعتبار الاصل

ص 117

فلا يزول المتيقن بالشك، وهذا لان اليقين كان معلوما في نفسه ومع الشك لا يثبت للعلم فلا يجوز ترك العمل بالعلم لاجل ما ليس بعلم. وأصحابنا قالوا: هذا مذهب باطل، فإن الاجماع كان ثابتا في عين على حكم لا لانه عين وإنما كان ذلك لمعنى وقد حدث معنى آخر خلاف ذلك ومع هذا المعنى الحادث لم يكن الاجماع قط فكيف يستقيم استصحابه؟ وبه نبطل نحن على ما كنا عليه، فإنا لم نكن على الاجماع مع هذا المعنى قط. ثم لا يخلو: إما أن تكون الحجة نفس الاجماع، أو الدليل الذي نشأ منه الاجماع قبل حدوث هذا المعنى فيه، فإن كان نفس الاجماع فبعد الخلاف الاجماع، وفي الموضع الذي لا إجماع لا يتحقق الاحتجاج بنفس الاجماع وإن كان الدليل الذي نشأ منه الاجماع، فما لم يثبت بقاء ذلك الدليل بعد اعتراض المعنى الحادث لا يتحقق الاستدلال بالاجماع. ثم يحتج عليهم بعين ما احتجوا به فنقول: قد تيقنا بالحدث المانع من جواز أداء الصلاة في أعضاء المحدث قبل استعمال هذا الماء الذي وقعت فيه النجاسة، فنحن على ما كنا عليه من اليقين، والاجماع لا يترك بالخلاف عند استعمال هذا الماء، واتفقنا على أن أداء الصلاة واجب على من أدرك الوقت فنحن على ذلك الاتفاق لا نتركه بأداء يكون منه بالتيمم بعدما أبصر الماء، لان سقوط الفرض بهذا الاداء مشكوك فيه، واتفقنا على أن الامة بعد ما حبلت من مولاها قد امتنع بيعها، فنحن على ذلك الاتفاق لا نتركه بالخلاف في جواز بيعها بعدما انفصل الولد عنها، وكل كلام يمكن أن يحتج به على الخصم بعينه في إثبات ما رام إبطاله به فهو باطل في نفسه، وهو نظير احتجاجنا على من يقول لا دليل على النافي في أحكام الشرع، وإنما الدليل على المثبت كما في الدعاوى، فإن البينة تكون على المثبت دون النافي، فنقول: من قال لا حكم فهو يثبت صحة اعتقاد نفي الحكم، وهذا منه إثبات حكم شرعي، وخصمه ينفي صحة هذا الاعتقاد فينبغي أن تكون الحجة عليه للاثبات لا على خصمه فإنه ينفي، وسنقرر هذا الكلام في موضعه، ثم نستدل بقوله تعالى: *(فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار)* وفي هذا تنصيص على ترك العمل بما كان متيقنا به عند حدوث معنى

ص 118

آخر وإن لم يكن ذلك المعنى متيقنا به، فإن كفرها قبل الهجرة كان متيقنا به وزوال ذلك بعد الهجرة إنما نعرفه بغالب الرأي لا باليقين، وليس هذا نظير ما استشهدوا به، لان هناك عند الشك في الطلاق لا نجد دليلا نعتمده في حكم الطلاق سوى ما تقدم، وكذلك عند الشك في وجوب المال لا نجد دليلا نعتمده سوى ما تقدم، وكذلك عند الشك في الحدث وعند الشك في أداء بعض الصلاة حتى إذا وجدنا فيه دليلا وهو التحري نقول بأنه يجب العمل بذلك الدليل، وهنا قد وجدنا دليلا نستدل به على الحكم بعد حدوث المعنى الحادث في العين فيجب العمل بذلك الدليل، ولا يجوز المصير إلى استصحاب ما كان قبل حدوث هذا المعنى، فاليقين إنما كان قبل وجود الدليل المغير، ومثله لا يكون يقينا بعد وجود الدليل المغير، وعلى هذا الاصل استصحاب العموم بعد حدوث الدليل المغير للحكم، فإنه لا يجوز لاحد أن يستدل على إباحة قتل المستأمن بقوله تعالى: *(فاقتلوا المشركين)* لان حكم هذا العام كان ثابتا قبل وجود الدليل المغير فلا يجوز الاستدلال به بعد ذلك في موضع فيه خلاف، وهو أن المستأمن إذا جعل نفسه طليعة للمشركين يخبرهم بعورات المسلمين فإنه لا يباح قتله استدلالا بقوله تعالى: *(فاقلتوا المشركين)* عندنا، وعند بعضهم يجوز قتله باعتبار هذه الحجة، والكلام في هذا مثل الكلام في الفصل الاول، والله أعلم.

 

 باب القياس

 قال رضي الله عنه: مذهب الصحابة ومن بعدهم من التابعين والصالحين والماضين من أئمة الدين رضوان الله عليهم جواز القياس بالرأي على الاصول التي تثبت أحكامها بالنص لتعدية حكم النص إلى الفروع جائز مستقيم يدان الله به، وهو مدرك من مدارك أحكام الشرع ولكنه غير صالح لاثبات الحكم به ابتداء، وعلى قول أصحاب الظواهر هو غير صالح لتعدية حكم النص به إلى ما لا نص فيه والعمل باطل أصلا في أحكام الشرع. وأول من أحدث هذا القول إبراهيم النظام، وطعن في السلف لاحتجاجهم بالقياس ونسبهم بتهوره إلى خلاف ما وصفهم الله به، فخلع به ربقة الإسلام من عنقه، وكان ذلك منه إما للقصد إلى إفساد طريق المسلمين عليهم،

ص 119

أو للجهل منه بفقه الشريعة، ثم تبعه على هذا القول بعض المتكلمين ببغداد، ولكنه تحرز عن الطعن في السلف فرارا من الشنعة التي لحقت النظام، فذكر طريقا آخر لاحتجاج الصحابة بالقياس هو دليل على جهله، وهو أنه قال: ما جرى بين الصحابة لم يكن على وجه الاحتجاج بالقياس وإنما كان على وجه الصلح والتوسط بين الخصوم وذكر المسائل لتقريب ما قصدوه من الصلح إلى الافهام. وهذا مما لا يخفى فساده على من تأمل أدنى تأمل فيما نقل عن الصحابة في هذا الباب. ثم نشأ بعده رجل متجاهل يقال له داود الاصبهاني فأبطل العمل بالقياس من غير أن وقف على ما هو مراد كل فريق ممن كان قبله، ولكنه أخذ طرفا من كل كلام ولم يشتغل بالتأمل فيه ليتبين له وجه فساده، قال: القياس لا يكون حجة، ولا يجوز العمل به في أحكام الشرع وتابعه على ذلك أصحاب الظواهر الذين كانوا مثله في ترك التأمل، وروى بعضهم هذا المذهب عن قتادة ومسروق وابن سيرين، وهو افتراء عليهم، فقد كانوا أجل من أن ينسب إليهم القصد إلى مخالفة رسول الله (ص) وأصحابه فيما هو طريق أحكام الشرع بعد ما ثبت نقله عنهم. ثم قال بعض نفاة القياس: دلائل العقل لا تصلح لمعرفة شيء من أمور الدين بها والقياس يشبه ذلك. وقال بعضهم: لا يعمل بالدلائل العقلية في أحكام الشرع أصلا وإن كان يعمل بها في العقليات. وقال بعضهم: لا يعمل بها إلا عند الضرورة ولا ضرورة في أحكام الشرع لامكان العمل بالاصل الذي هو استصحاب الحال. وهذا أقرب أقاويلهم إلى القصد فيحتاج في تبين وجه الفساد فيه إلى إثبات أن القياس حجة أصلية في تعدية الاحكام لا حجة ضرورية، وإلى أنه مقدم في الاحتجاج به على استصحاب الحال. ولكن نبدأ ببيان شبهتهم، فإنهم استدلوا بظاهر آيات من الكتاب، منها قوله تعالى: *(أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم)* وفي المصير إلى الرأي لاثبات حكم في محل قول بأن الكتاب غير كاف. وقال

ص 120

تعالى: *(ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)* وقال تعالى: *(ما فرطنا في الكتاب من شيء)* وقال تعالى: *(ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين)* ففيها بيان أن الاشياء كلها في الكتاب إما في إشارته أو دلالته أو في اقتضائه أو في نصه، فإن لم يوجد في شيء من ذلك فبالابقاء على الاصل الذي علم ثبوته بالكتاب وهو دليل مستقيم، قال تعالى: *(قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه)* الآية، فقد أمره بالاحتجاج بأصل الاباحة فيما لا يجد فيه دليل الحرمة في الكتاب، وهذا مستمر على أصل من يقول الاباحة في الاشياء أصل، وعلى أصلنا الذي نقول: إنما نعرف كل شيء بالكتاب، وهذا معلوم بقوله تعالى: *(هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا)* فإن الاضافة بلام التمليك تكون أدل على إثبات صفة الحل من التنصيص على الاباحة فلم يبق الرأي بعد هذا إلا لتعرف الحكمة والوقوف على المصلحة فيه عاقبة وذلك مما لا مجال للرأي في معرفته، فإن المصلحة في العاقبة عبارة عن الفوز والنجاة، وما به الفوز والنجاة في الآخرة لا يمكن الوقوف عليه بالرأي، وإنما الرأي لمعرفة المصالح العاجلة التي يعلم جنسها بالحواس ثم نستدرك نظائرها بالرأي، وهذا مثل ما قلتم إن تعليل النصوص بعلة لا يتعدى إلى الفروع باطل، لانها خالية عن إثبات الحكم بها فالحكم في المنصوص ثابت بالنص فلا يكون في هذا التعليل إلا تعرف وجه الحكمة والوقوف على المصلحة في العاقبة والرأي لا يهتدي إلى ذلك. ومنها قوله تعالى: *(يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)* وقال تعالى: *(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)* *(الظالمون)* *(الفاسقون)* والعمل بالرأي فيه تقدم بين يدي الله ورسوله وهو حكم بغير ما أنزل الله، فإن طريقة الاستنباط بآرائنا وما يبدو لنا من آرائنا لا يكون مما أنزل الله في شيء، إنما المنزل كتاب الله وسنة رسوله، فقد ثبت أنه ما كان ينطق إلا عن وحي، كما قال تعالى: *(إن هو إلا وحي يوحى)* وقال تعالى *(لتبين للناس ما نزل إليهم)* وإنما الحكم بالرأي من جملة ما قال الله تعالى: *(ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام)* الآية، واستدلوا بآثار: فمن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لم يزل بنو إسرائيل على طريقة مستقيمة حتى كثر فيهم أولاد السبايا، فقاسوا ما لم يكن بما  

الصفحة السابقة الصفحة التالية

أصول السرخسي

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب