ص 121
قد كان فضلوا وأضلوا وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: تعمل هذه الامة برهة
بالكتاب ثم برهة بالسنة ثم برهة بالرأي، فإذا فعلوا ذلك ضلوا وقال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء الدين، أعيتهم السنة أن يحفظوها
فقالوا برأيهم فضلوا وأضلوا. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إياكم وأرأيت وأرأيت!
فإنما هلك من كان قبلكم في أرأيت وأرأيت. وقال النبي عليه السلام: من فسر القرآن
برأيه فليتبوأ مقعده من النار وإنما أراد به إعمال الرأي للعمل به في الاحكام، فإن
إعمال الرأي للوقوف على معنى النص من حيث اللسان فقه مستقيم، ويكون العمل به عملا
بالنص لا بالرأي. وبيان هذا فيما اختلف فيه ابن عباس وزيد رضي الله عنهم في زوج
وأبوين فقال ابن عباس: للام ثلث جميع المال، فإن الله تعالى قال: *(فلامه الثلث)*
والمفهوم من إطلاق هذه العبارة ثلث جميع المال. وقال زيد: للام ثلث ما بقي، لان في
الآية بيان أن للام ثلث ما ورثه الابوان، فإنه قال: *(وورثه أبواه فلامه الثلث)*
وميراث الابوين هو الباقي بعد نصيب الزوج فللام ثلث ذلك. هذا ونحوه عمل بالكتاب لا
بالرأي فيكون مستقيما. ومن حيث المعقول يستدلون بأنواع من الكلام: أحدها من حيث
الدليل وهو أن في القياس شبهة في أصله، لان الوصف الذي تعدى به الحكم غير منصوص
عليه ولا هو ثابت بإشارة النص ولا بدلالته ولا بمقتضاه، فتعيينه من بين سائر
الاوصاف بالرأي لا ينفك عن شبهة، والحكم الثابت به من إيجاب أو إسقاط أو تحليل أو
تحريم محض حق الله تعالى، ولا وجه لاثبات ما هو حق الله بطريق فيه شبهة، لان من له
الحق موصوف بكمال القدرة يتعالى عن أن ينتسب إليه العجز أو الحاجة إلى إثبات حقه
بما فيه شبهة، ولا وجه لانكار هذه الشبهة فيه، فإن القياس لا يوجب العلم قطعا
بالاتفاق وكان ذلك باعتبار أصله، وعلى هذا التقرير يكون هذا استدلالا بقوله تعالى:
*(ولا تقف ما ليس لك به علم)* وبقوله تعالى: *(ولا تقولوا على الله إلا الحق)* ولا
يدخل على هذا أخبار الآحاد، فإن
ص 122
أصله قول رسول الله (ص) وهو موجب للعلم قطعا، وإنما تتمكن الشبهة في طريق الانتقال
إلينا، وقد كان قول رسول الله حجة قبل الانتقال إلينا بهذا الطريق، فلشبهة تتمكن في
الطريق لا يخرج الحديث من أن يكون حجة موجبة للعلم، وهو كالنص المؤول، فإن الشبهة
تتمكن في تأويلنا، فلا يخرج النص من أن يكون حجة موجبة للعلم. ومنهم من قرر هذا
الكلام من وجه آخر وقال: تعيين وصف في المنصوص بالرأي لاضافة الحكم إليه يشبه قياس
إبليس لعنه الله على ما أخبر الله تعالى عنه: *(أأسجد لمن خلقت طينا)* وكذلك
التمييز بين هذا الوصف وسائر الاوصاف في إثبات حكم الشرع أو الترجيح بالرأي يشبه ما
فعله إبليس كما أخبر الله تعالى عنه: *(خلقتني من نار وخلقته من طين)* فلا يشك أحد
في أن ذلك كان باطلا ولم يكن حجة، فالعمل بالرأي في أحكام الشرع لا يكون عملا
بالحجة أيضا. ونوع آخر من حيث المدلول فإنه طاعة لله تعالى ولا مدخل للرأي في معرفة
ما هو طاعة لله، ولهذا لا يجوز إثبات أصل العبادة بالرأي، وهذا لان الطاعة في إظهار
العبودية والانقياد، وما كان التعبد مبنيا على قضية الرأي بل طريقه طريق الابتلاء،
ألا ترى أن من المشروعات ما لا يستدرك بالرأي (أصلا) كالمقادير في العقوبات
والعبادات، ومنه ما هو خلاف ما يقتضيه الرأي وما هذه صفته فإنه لا يمكن معرفته
بالرأي فيكون العمل بالرأي فيه عملا بالجهالة لا بالعلم، وكيف يمكن إعمال الرأي فيه
والمشروعات متباينة في أنفسها يظهر ذلك عند التأمل في جميعها، والقياس عبارة عن رد
الشيء إلى نظيره، يقال: قس النعل بالنعل: أي احذه به. فكيف يتأتى هذا مع التباين؟
يوضحه أن العلل التي تعدى الحكم بها من المنصوص عليه إلى غيره متعددة مختلفة
ولاجلها اختلف العلماء في طريق التعدية، وما يكون بهذه الصفة فإنه يتعذر تعيين واحد
منها للعمل إلا بما يوجب العلم قطعا وهو النص، ولهذا جوزنا العمل بالعلة المنصوص
عليها، كما في قوله عليه السلام: الهرة ليست بنجسة إنما هي من الطوافين عليكم
والطوافات فأثبتنا هذا الحكم في غيرها من حشرات البيت لان العلة
ص 123
منصوص عليها، فأما بالرأي فلا يمكن الوقوف على ما هو العلة عينا فيكون العمل به
باطلا. ولا يدخل عليه الاخبار فإنه لا اختلاف فيها في الاصل، لانه كلام رسول الله
(ص) وقد بينا أنه قال ذلك عن وحي، وقد علمنا بالنص أنه لا اختلاف فيما هو من عند
الله، قال تعالى: *(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)* وإنما
الاختلاف في الاخبار من جهة الرواة، والحجة هو الخبر لا الراوي. وما كان الاختلاف
فيما بين الرواة إلا نظير اشتباه الناسخ من المنسوخ في كتاب الله فإن ذلك متى ارتفع
بما هو الطريق في معرفته يكون العمل بالناسخ واجبا. ويكون ذلك عملا بالنص لا
بالتاريخ، فكذلك في الاخبار. وتحت ما قررنا فائدتان بهما قوام الدين ونجاة
المؤمنين: إحداهما المحافظة على نصوص الشريعة، فإنها قوالب الاحكام. والثاني التبحر
في معاني اللسان فإن معانيه جمة غائرة لا يفضل عمر المرء عن التأمل فيها إذا أراد
الوقوف عليها، ولا يتفرغ للعمل بالهوى الذي ينشأ منه الزيغ عن الحق والوقوع في
البدعة، وما يحصل به التحرز عن البدع واجبا أحكام الشرع فلا شك أن قوام الدين ونجاة
المؤمنين يكون فيه. ولا يدخل على شيء مما ذكرنا إعمال الرأي في أمر الحرب وقيم
المتلفات ومهر النساء والوقوف على جهة الكعبة. أما على الوجه الاول فلان هذا كله من
حقوق العباد، ويليق بحالهم العجز والاشتباه فيما يعود إلى مصالحهم العاجلة فيعتبر
فيه الوسع ليتيسر عليهم الوصول إلى مقاصدهم، وهذا في غير أمر القبلة ظاهر وكذلك في
أمر القبلة، فإن الاصل فيه معرفة جهات أقاليم الارض وذلك من حقوق العباد. وعلى
الثاني فلان الاصل فيما هو من حقوق العباد ما يكون مستدركا بالحواس، وبه يثبت علم
اليقين كما ثبت بالكتاب والسنة، ألا ترى أن الكعبة جهتها تكون محسوسة في حق من
عاينها، وبعد البعد منها بإعمال الرأي يمكن تصييرها كالمحسوسة. وكذلك أمر الحرب،
فالمقصود صيانة النفس عما يتلفها أو قهر الخصم وأصل ذلك محسوس، وما هو إلا نظير
التوقي عن تناول سم الزعاف لعلمه أنه متلف، والتوقي عن الوقوع على السيف
ص 124
والسكين لعلمه أنه ناقض للبنية، فعرفنا أن أصل ذلك محسوس، فإعمال الرأي فيه للعمل
يكون في معنى العمل بما لا شبهة في أصله. ثم في هذه المواضع الضرورة تتحقق إلى
إعمال الرأي، فإنه عند الاعراض عنه لا نجد طريقا آخر وهو دليل العمل به، فلاجل
الضرورة جوزنا به العمل بالرأي فيه، وهنا الضرورة لا تدعو إلى ذلك لوجود دليل في
أحكام الشرع للعمل به على وجه يغنيه عن إعمال الرأي فيه وهو اعتبار الاصل الذي
قررنا. ولا يدخل على شيء مما ذكرنا إعمال الرأي والتفكر في أحوال القرون الماضية
وما لحقهم من المثلات والكرامات، لان ذلك من حقوق العباد، فالمقصود أن يمتنعوا مما
كان مهلكا لمن قبلهم حتى لا يهلكوا، أو أن يباشروا ما كان سببا لاستحقاق الكرامة
لمن قبلهم حتى ينالوا مثل ذلك، وهو في الاصل من حقوق العباد بمنزلة الاكل الذي
يكتسب به المرء سبب إبقاء نفسه، وإتيان الاناث في محل الحرث بطريقه ليكتسب به سبب
إبقاء النسل. ثم طريق ذلك الاعتبار بالتأمل في معاني اللسان، فإن أصله الخبر وذلك
مما يعلم بحاسة السمع، ثم بالتأمل فيه يدرك المقصود وليس ذلك من حكم الشريعة في
شيء، فقد كان الوقوف على معاني اللغة في الجاهلية وهو باق اليوم بين الكفرة الذين
لا يعلمون حكم الشريعة. وعلى هذا يخرج أيضا ما أمر به رسول الله عليه السلام من
المشورة مع أصحابه، فإن المراد أمر الحرب وما هو من حقوق العباد، ألا ترى أن المروي
عن رسول الله (ص) أنه شاورهم في ذلك ولم ينقل أنه شاورهم قط في حقيقة ما هم عليه
ولا فيما أمرهم به من أحكام الشرع، وإلى هذا المعنى أشار بقوله عليه السلام: إذا
أتيتكم بشيء من أمر دينكم فاعملوا به، وإذا أتيتكم بشيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم
بأمر دنياكم أو كلاما هذا معناه. وهذا بيان شبه الخصوم في المسألة. والحجة لجمهور
العلماء دلائل الكتاب والسنة والمعقول، وهي كثيرة جدا قد أورد أكثرها المتقدمون من
مشايخنا، ولكنا نذكر من كل نوع طرفا مما هو أقوى في الاعتماد عليه.
ص 125
فمن دلائل الكتاب قوله تعالى *(فاعتبروا يا أولي الابصار)* حكي عن ثعلب قال:
الاعتبار في اللغة هو: رد حكم الشيء إلى نظيره ومنه يسمى الاصل الذي يرد إليه
النظائر عبرة، ومن ذلك قوله تعالى *(إن في ذلك لعبرة لاولي الابصار)* والرجل يقول:
اعتبرت هذا الثوب بهذا الثوب أي سويته به في التقدير، وهذا هو حد القياس، فظهر أنه
مأمور به بهذا النص. وقيل الاعتبار: التبيين ومنه قوله تعالى: *(إن كنتم للرؤيا
تعبرون)*: أي تبينون، والتبيين الذي يكون مضافا إلينا هو إعمال الرأي في معنى
المنصوص ليتبين به الحكم في نظيره. فإن قيل: الاعتبار هو التأمل والتفكر فيما أخبر
الله تعالى مما صنعه بالقرون الماضية. قلنا: هذا مثله ولكنه غير مأمور به لعينه بل
ليعتبر حاله بحالهم فيزجروا عما استوجبوا به ما استوجبوا من العقاب، إذ المقصود من
الاعتبار هو أن يتعظ بالعبرة، ومنه يقال السعيد من وعظ بغيره. وبيان ما قلنا في
القصاص، فإن الله تعالى يقول: *(ولكم في القصاص حياة)* وهو في العيان ضد الحياة،
ولكن فيه حياة بطريق الاعتبار في شرعه واستبقائه، أما الحياة في شرعه وهو أن من قصد
قتل غيره فإذا تفكر في نفسه أنه متى قتله قتل به انزجر عن قتله فتكون حياة لهما،
والحياة في استبقائه أن القاتل عمدا يصير حربا لاولياء القتيل لخوفه على نفسه منهم،
فالظاهر أنه يقصد قتلهم ويستعين على ذلك بأمثاله من السفهاء ليزيل الخوف عن نفسه،
فإذا استوفى الولي القصاص منه اندفع شره عنه وعن عشيرته فيكون حياة لهم من هذا
الوجه، لان إحياء الحي في دفع سبب الهلاك عنه، قال تعالى: *(ومن أحياها فكأنما أحيا
الناس جميعا)* وإذا تبين هذا المعنى فنقول: لا فرق بين حكم هو هلاك في محل باعتبار
معنى هو كفر، وبين حكم هو تحريم أو تحليل في محل باعتبار معنى هو قدر وجنس،
فالتنصيص على الامر بالاعتبار في أحد الموضعين يكون تنصيصا على الامر به في الموضع
الآخر. فإن قيل: الكفر في كونه علة لما استوجبوه منصوص عليه، وكذلك القتل في كونه
علة للقصاص، ونحن لا ننكر هذا الاعتبار في العلة التي هي منصوصة
ص 126
فذلك نحو ما روي أن ماعزا رضي الله عنه زنا وهو محصن فرجم، فإنا نثبت هذا الحكم
بالزنا بعد الاحصان في حق غير ماعز، وإنما ننكر هذا في علة مستنبطة بالرأي نحو
الكيل والجنس فإنكم تجعلونه علة الربا في الحنطة بالرأي، إذ ليس في نص الربا ما
يوجب تعيين هذا الوصف من بين سائر أوصاف المحل دلالة ولا إشارة. قلنا: نحن لا نثبت
حكم الربا في الفروع بعلة القدر والجنس إلا من الوجه الذي ثبت حكم الرجم في حق غير
ماعز بعلة الزنا بعد الاحصان، فإن ماعزا إحصانه كان موجودا قبل الزنا ثم لما ظهر
منه الزنا سأل رسول الله (ص) عن إحصانه فلما ظهر إحصانه عنده أمر برجمه، فعرفنا
يقينا أن علة ما أمر به هو ما ظهر عنده، والزنا يصلح أن يكون علة لذلك، لان المأمور
به عقوبة والزنا جريمة يستوجب بها العقوبة، والاحصان لا يصلح أن يكون علة، لانها
خصال حميدة، وبها يستفيد المرء كمال الحال وتتم عليه النعمة، فلا يصلح علة للعقوبة،
ولكن تتغلظ الجناية بالزنا بعد وجودها، لان بحسب زيادة النعمة يزداد غلظ الجريمة،
ألا ترى أن الله تعالى هدد نساء رسوله بضعف ما هدد به سائر النساء فقال تعالى: *(من
يأت منكن بفاحشة)* الآية وكان ذلك لزيادة النعمة عليهن، وبتغلظ الجريمة تتغلظ
العقوبة فيصير رجما بعد أن كان جلدا في حق غير المحصن، فعرفنا أن الاحصان حال في
الزاني يصير الزنا باعتباره موجبا للرجم فكان شرطا، وبمثل هذا الطريق تثبت علة
الربا في موضع النص ثم تعدى الحكم به إلى الفروع، فإن النص قوله عليه السلام:
الحنطة بالحنطة: أي بيعها، وقوله: مثل بمثل تفسير على معنى أنه إنما يكون بيعا في
حال ما يكون مثلا بمثل (والفضل ربا): أي حراما بسبب الربا، فيثبت بالنص أن الفضل
محرم، وقد علمنا أنه ليس المراد كل فصل، فالبيع ما شرع إلا للاستفضال والاسترباح،
وإنما المراد الفضل الخالي عن العوض، لان البيع المشروع المعاوضة فلا يجوز أن يستحق
به فضلا خاليا عن العوض، ثم خلو الفضل عن العوض لا يظهر يقينا بعدد الحبات
والحفنات، ولا يظهر إلا بعد ثبوت المساواة قطعا في الوصف الذي صار به محلا للبيع
وهو المالية، وهذه المساواة إنما يتوصل إلى معرفتها شرعا وعرفا، والشرع إنما أثبت
هذه المساواة
ص 127
بالكيل لا بالحبات والحفنات، فإنه قال: (كيلا بكيل) وكذلك في عرف التجار إنما يطلب
المساواة بين الحنطة والحنطة بالكيل، وعند الاتلاف يجب ضمان المثل بالنص ويعتبر ذلك
بالكيل، فثبت بهذا الطريق أن العلة الموجبة للحرمة ما يكون مؤثرا في المساواة حتى
يظهر بعده الفضل الخالي عن المقابلة فيكون حراما، بمنزلة سائر الاشياء التي لها طول
وعرض إذا قوبل واحد بآخر وبقي فضل في أحد الجانبين يكون خاليا عن المقابلة. ثم
المساواة من حيث الذات لا تعرف إلا بالجنس، ومن حيث القدر على الوجه الذي هو معتبر
شرعا وعرفا. لا يعرف إلا بالكيل، وهذه المساواة لا يتيقن إلا بعد سقوط قيمة الجودة،
فأسقطنا قيمة الجودة منها عند المقابلة بجنسها بالنص، وهو قوله عليه الصلاة
والسلام: (جيدها ورديئها سواء) وبدليل شرعي وهو حرمة الاعتياض عنها بالنص، فإنه لو
باع قفيز حنطة جيدة بقفيز حنطة رديئة ودرهم على أن يكون الدرهم بمقابلة الجودة لا
يجوز، وما يكون مالا متقوما يجوز الاعتياض عنه شرعا إلا أن إسقاط قيمة الجودة يكون
شرطا لا علة، لانه لا تأثير لها في إحداث المساواة في المحل، والحكم الثابت بالنص
وجوب المساواة، فكان بمنزلة الاحصان لايجاب الرجم، والمساواة التي هي الحكم لما كان
يثبت بالقدر والجنس عرفنا أن هذين الوصفين هما العلة، وقد وجد التنصيص عليها في
حديث الربا بمنزلة الزنا فإنه منصوص عليه في حديث ماعز، وهو مؤثر في إيجاب الحكم،
فعرفنا أنه علة فيه، ثم بعد ما ثبت المساواة قطعا في صفة المالية باعتبار القدر إذا
كان في أحد الجانبين فضل فهو خال عن العوض فيكون ربا حراما لا يجوز أن يكون مستحقا
بالبيع، وإذا جعل مشروطا في البيع يفسد به البيع، وهذا فضل ظهر شرعا، ولو ظهر شرطا
بأن باع من آخر عبدا بعبد على أن يسلم إليه مع ذلك ثوبا قد عينه من غير أن يكون
بمقابلة الثوب عوض فإنه لا يجوز ذلك البيع، فكذلك إذا ثبت شرعا، ألا ترى أنه لما
ثبت شرعا استحقاق صفة السلامة عن العيب بمطلق البيع فإذا فات ذلك يثبت حق الرد،
بمنزلة ما هو ثابت شرطا بأن يشتري عبدا على
ص 128
أنه كاتب فيجده غير كاتب، وبهذا تبين أن ما صرنا إليه هو الاعتبار المأمور به، فإنه
تأمل في معنى النصوص لاضافة الحكم إلى الوصف الذي هو مؤثر فيه، بمنزلة إضافة الهلاك
إلى الكفر الذي هو مؤثر فيه، والرجم إلى الزنا الذي هو مؤثر فيه، وكل عاقل يعرف أن
قوام أموره بمثل هذا الرأي، فالآدمي ما سخر غيره ممن في الارض إلا بهذا الرأي، وما
ظهر التفاوت بينهم في الامور العاجلة إلا بالتفاوت في هذا الرأي فالمنكر له يكون
متعنتا. ومنها قوله تعالى: *(ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين
يستنبطونه منهم)* والاستنباط ليس إلا استخراج المعنى من المنصوص بالرأي. وقيل
المراد بأولي الامر أمراء السرايا، وقيل المراد العلماء وهو الاظهر، فإن أمراء
السرايا إنما يستنبطون بالرأي إذا كانوا علماء، واستنباط المعنى من المنصوص بالرأي
إما أن يكون مطلوبا لتعدية حكمه إلى نظائره وهو عين القياس، أو ليحصل به طمأنينة
القلب وطمأنينة القلب إنما تحصل بالوقوف على المعنى الذي لاجله ثبت الحكم في
المنصوص، وهذا لان الله تعالى جعل هذه الشريعة نورا وشرحا للصدور فقال: *(أفمن شرح
الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه)* والقلب يرى الغائب بالتأمل فيه، كما أن
العين ترى الحاضر بالنظر إليه، ألا ترى أن الله تعالى قال في بيان حال من ترك
التأمل: *(فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)* ثم في رؤية
العين لا إشكال أنه يحصل به من الطمأنينة فوق ما يحصل بالخبر، وإليه أشار رسول الله
(ص) في قوله: ليس الخبر كالمعاينة ونحن نعلم أن الضال عن الطريق (العادل) يكون ضيق
الصدر، فإذا أخبره مخبر بالطريق واعتقد الصدق في خبره يتبين في صدره بعض الانشراح،
وإنما يتم انشراح صدره إذا عاين أعلام الطريق العادل، فكذلك في رؤية القلب، فإنه
إذا تأمل في المعنى المنصوص حتى وقف عليه يتم به انشراح صدره، وتتحقق طمأنينة قلبه،
وذلك بالنور الذي جعله الله في قلب كل مسلم، فالمنع من هذا التأمل والامر بالوقوف
على مواضع النص من غير طلب المعنى فيه يكون نوع حجر ورفعا
ص 129
لتحقيق معنى انشراح الصدر وطمأنينة القلب الثابت بقوله تعالى: *(لعلمه الذين
يستنبطونه منهم)*. فإن قيل: كيف يستقيم هذا وعندكم القياس لا يوجب العلم والمجتهد
قد يخطئ وقد يصيب؟ قلنا: نعم ولكن يحصل له بالاجتهاد العلم من طريق الظاهر على وجه
يطمئن قلبه وإن كان لا يدرك ما هو الحق باجتهاده لا محالة، فهو نظير قوله تعالى:
*(فإن علمتموهن مؤمنات)* فإن المراد به العلم من حيث الظاهر. فإن قيل: كيف يستقيم
هذا وأكثر المشروعات بخلاف المعهود المعتاد بين الناس؟ قلنا: نعم هو بخلاف المعهود
المعتاد عند اتباع هوى النفس وإشارتها، وأما إذا ترك ذلك ورجع إلى ما ينبغي للعاقل
أن يرجع إليه فإنه يكون ذلك موافقا لما هو المعهود المعتاد عند العقلاء، فباعتبار
هذا التأمل يحصل البيان على وجه يطمئن القلب إليه في الانتهاء، واعتقاد الحقية في
النصوص فرض حق، وطلب طمأنينة القلب فيه حسن كما أخبر الله تعالى عن الخليل صلوات
الله عليه: *(قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)*. ومنها قوله تعالى: *(فإن تنازعتم في شيء
فردوه إلى الله والرسول)* فقد بينا أن المراد به القياس الصحيح، والرجوع إليه عند
المنازعة، وفيه بيان أن الرجوع إليه يكون بأمر الله وأمر الرسول. ولا يجوز أن يقال
المراد هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، لانه علق ذلك بالمنازعة، والامر بالعمل
بالكتاب والسنة غير متعلق بشرط المنازعة، ولان المنازعة بين المؤمنين في أحكام
الشرع قلما تقع فيما فيه نص من كتاب أو سنة، فعرفنا أن المراد به المنازعة فيما ليس
في عينه نص، وأن المراد هو الامر بالرد إلى الكتاب والسنة بطريق التأمل فيما هو مثل
ذلك الشيء من المنصوص، وإنما تعرف هذه المماثلة بإعمال الرأي وطلب المعنى فيه. ثم
الاخبار عن رسول الله (ص) وعن الصحابة في هذا الباب أكثر من أن تحصى، وأشهر من أن
تخفى.
ص 130
فوجه من ذلك ما علمنا رسول الله (ص) من طريق المقايسة، على ما روي أنه قال لعمر حين
سأله عن القبلة في حالة الصوم: أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك؟ وهذا
تعليم المقايسة فإن بالقبلة يفتتح طريق اقتضاء الشهوة، ولا يحصل بعينه اقتضاء
الشهوة، كما أن بإدخال الماء في الفم يفتتح طريق الشرب ولا يحصل به الشرب. وقال
للخثعمية: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت تقضينه؟ فقالت: نعم، قال: فدين الله أحق
وهذا تعليم المقايسة وبيان بطريق إعمال الرأي. وقال للذي سأله عن قضاء رمضان
متفرقا، أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم والدرهمين أكان يقبل منك؟ قال: نعم،
فقال: الله أحق بالتجاوز وقال للمستحاضة: إنه دم عرق انفجر فتوضئي لكل صلاة فهذا
تعليم للمقايسة بطريق أن النجس لما سال حتى صار ظاهرا ووجب غسل ذلك الموضع للتطهير
وجب تطهير أعضاء الوضوء به. وقال عليه السلام: الهرة ليست بنجسة لانها من الطوافين
عليكم والطوافات وهذا تعليم للمقايسة باعتبار الوصف الذي هو مؤثر في الحكم فإن
الطوف مؤثر في معنى التخفيف، ودفع صفة النجاسة لاجل عموم البلوى والضرورة، فظهر أنه
علمنا القياس والعمل بالرأي كما علمنا أحكام الشرع، ومعلوم أنه ما علمنا ذلك لنعمل
به في معارضة النصوص، فعرفنا أنه علمنا ذلك لنعمل به فيما لا نص فيه. ووجه آخر أنه
عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه بذلك، فإنه قال لمعاذ رضي الله عنه حين وجهه إلى
اليمن: بم تقضي؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: بسنة رسول
الله. قال فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: اجتهد رأيي. قال: الحمد لله الذي وفق
رسول رسوله لما يرضى به رسوله وقال لابي موسى رضي الله عنه حين وجهه إلى اليمين:
اقض بكتاب الله، فإن لم تجد فبسنة رسول الله، فإن لم تجد فاجتهد رأيك وقال لعمرو بن
العاص رضي الله عنه: اقض بين هذين قال: على ماذا أقضي؟ فقال على أنك إن اجتهدت
فأصبت
ص 131
فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة واحدة فلو لم يكن اجتهاد الرأي فيما لا نص فيه
مدركا من مدارك أحكام الشرع لما أمر به رسول الله (ص) بحضرته. ووجه آخر أنه عليه
السلام كان يشاور أصحابه في أمور الحرب تارة، وفي أحكام الشرع تارة، ألا ترى أنه
شاورهم في أمر الاذان والقصة فيه معروفة، وشاورهم في مفاداة الاسارى يوم بدر حتى
أشار أبو بكر رضي الله عنه عليه بالفداء وأشار عمر رضي الله عنه بالقتل فاستحسن ما
أشار به كل واحد منهما برأيه حتى شبه أبا بكر في ذلك بإبراهيم من الانبياء حيث قال:
*(ومن عصاني فإنك غفور رحيم)* وبميكائيل من الملائكة فإنه ينزل بالرحمة، وشبه عمر
بنوح من الانبياء عليهم السلام حيث قال: *(لا تذر على الارض من الكافرين ديارا)*
وبجبريل من الملائكة فإنه ينزل بالعذاب، ثم مال إلى رأي أبي بكر. فإن قيل: ففي ذلك
نزل قوله: *(لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم)* الآية، ولو كان مستحسنا لما
عوتبوا عليه. قلنا: العتاب ما كان في المشورة بل فيما نص الله عليه بقوله: *(لمسكم
فيما أخذتم)* ثم هذا إنما يلزم من يقول إن كل مجتهد مصيب ونحن لا نقول بهذا، ولكن
نقول إعمال الرأي والمشورة مستحسن، ثم المجتهد قد يخطئ وقد يصيب كما في هذه
الحادثة، فقد شاورهما رسول الله واجتهد كل واحد منهم رأيه، ثم أصاب أحدهما دون
الآخر، وبهذا تبين أن قوله: *(وشاورهم في الامر)* ليس في الحرب خاصة، ولكن يتناول
كل ما يتأتى فيه إعمال الرأي، وقال رسول الله (ص) لابي بكر وعمر رضي الله عنهما
يوما وقد شاورهما في شيء: قولا فإني فيما لم يوح إلي مثلكما وقد تركهم رسول الله
على المشاورة بعده في أمر الخلافة حين لم ينص على أحد بعينه مع علمه أنه لا بد لهم
من ذلك، ولما شاوروا فيه تكلم كل واحد برأيه إلى أن استقر الامر على ما قاله عمر
بطريق المقايسة والرأي، فإنه قال: ألا ترضون لامر
ص 132
دنياكم بمن رضي به رسول الله لامر دينكم. يعني الامامة للصلاة، واتفقوا على رأيه،
وأمر الخلافة من أهم ما يترتب عليه أحكام الشرع، وقد اتفقوا على جواز العمل فيه
بطريق القياس، ولا معنى لقول من يقول إن كان هذا قياسا فهو منتقض، فإن رسول الله
(ص) قد استخلف عبد الرحمن بن عوف ليصلي بالناس ولم يكن ذلك دليل كونه خليفة بعده،
وذلك لان عمر رضي الله عنه أشار إلى الاستدلال على وجه لا يرد هذا النقض وهو أنه في
حال توفر الصحابة وحضور جماعتهم ووقوع الحاجة إلى الاستخلاف، خص أبا بكر بأن يصلي
بالناس بعدما راجعوه في ذلك وسموا له غيره، كل هذا قد صار معلوما بإشارة كلامه وإن
لم ينص عليه، ولم يوجد ذلك في حق عبد الرحمن ولا في حق غيره. ثم عمر جعل الامر شورى
بعده بين ستة نفر، فاتفقوا بالرأي على أن يجعلوا الامر في التعيين إلى عبد الرحمن
بعدما أخرج نفسه منها فعرض على علي أن يعمل برأي أبى بكر وعمر فقال: أعمل بكتاب
الله، وبسنة رسول الله، ثم أجتهد رأيي، وعرض على عثمان هذا الشرط أيضا فرضي به
فقلده، وإنما كان ذلك منه عملا بالرأي لانه علم أن الناس قد استحسنوا سيرة العمرين،
فتبين بهذا أن العمل بالرأي كان مشهورا متفقا عليه بين الصحابة، ثم محاجتهم بالرأي
في المسائل لا تخفى على أحد، فإنهم تكلموا في مسألة الجد مع الاخوة، وشبهه بعضهم
بواد يتشعب منه نهر، وبعضهم بشجرة تنبت غصنا، وقد بينا ذلك في فروع الفقه. وكذلك
اختلفوا في العول وفي التشريك فقال كل واحد منهم فيه بالرأي، وبالرأي اعترضوا على
قول عمر رضي الله عنه في عدم التشريك حين قالوا: هب أن أبانا كان حمارا، حتى رجع
عمر إلى التشريك، فعرفنا أنهم كانوا مجمعين على جواز العمل بالرأي فيما لا نص فيه،
وكفى بإجماعهم حجة. فإن قيل: كيف يستقيم هذا وقد قال أبو بكر رضي الله عنه: أي سماء
تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى برأيي. وقال عمر رضي الله عنه:
إياكم وأصحاب الرأي. وقال علي رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف
أولى بالمسح من ظاهره. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إياكم وأرأيت
ص 133
وأرأيت. قلنا: أما القول بالرأي عن أبي بكر رضي الله عنه فهو أشهر من أن يمكن
إنكاره، لانه قال في الكلالة: أقول قولا برأيي، فإن يك صوابا فمن الله، وإن يك خطأ
فمني ومن الشيطان. وما رووا عنه قد اختلفت فيه الرواية فقال في بعضها: إذا قلت في
كتاب الله تعالى بخلاف ما أراد الله. ولئن ثبت ما رووا فإنما استبعد قوله بالرأي
فيما فيه نص بخلاف النص، وهذا لا يجوز منه ولا من غيره ولا يظن به. وأما عمر رضي
الله عنه: فالقول عنه بالرأي أشهر من الشمس، وبه يتبين أن مراده بذم الرأي عند
مخالفة النص أو الاعراض عن النص فيما فيه نص والاشتغال بالرأي الذي فيه موافقة هوى
النفس، وإلى ذلك أشار في قوله: أعيتهم السنة أن يحفظوها. والقول بالرأي عن علي رضي
الله عنه مشهور، فإنه قال: اجتمع رأيي ورأي عمر على حرمة بيع أمهات الاولاد ثم رأيت
أن أرقهن. وبهذا يتبين أن مراده بقوله: لو كان الدين بالرأي: أصل موضوع الشرع، وبه
نقول، فإن أصل أحكام الشرع غير مبني على الرأي ولهذا لا يجوز إثبات الحكم به
ابتداء. وقد اشتهر القول بالرأي عن ابن مسعود حيث قال في المفوضة: أجتهد رأيي.
فعرفنا أن مراده ذم السؤال على وجه التعنت بعدما يتبين الحق أو التكلف فيما لا
يحتاج المرء إليه، وهو نظير قوله عليه السلام: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان
قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم والآثار التي ذكرها محمد في أول أدب
القاضي كلها دليل على أنهم (كانوا) مجمعين على العمل بالرأي، فإنه بدأ بحديث عمر
حين كتب إلى أبي موسى: اعرف الامثال والاشباه وقس الامور عند ذلك. وذكر عن ابن
مسعود رضي الله عنه أنه قال: لقد أتى علينا زمان لسنا نسأل ولسنا هنالك. الحديث.
فاتضح بما ذكرنا اتفاقهم على العمل بالرأي في أحكام الشرع. فأما من طعن في السلف من
نفاة القياس لاحتجاجهم بالرأي في الاحكام فكلامه كما قال الله تعالى: *(كبرت كلمة
تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا)
ص 134
* لان الله تعالى أثنى عليهم في غير موضع من كتابه كما قال تعالى: *(محمد رسول الله
والذين معه)* الآية، ورسول الله (ص) وصفهم بأنهم خير الناس فقال: خير الناس قرني
الذين أنا فيهم والشريعة إنما بلغتنا بنقلهم، فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للاسلام
دواؤه السيف إن لم يتب. ومن قال منهم إن القول بالرأي كان من الصحابة على طريق
التوسط والصلح دون إلزام الحكم فهو مكابر جاحد لما هو معلوم ضرورة، لان الذين نقلوا
إلينا ما احتجوا به من الرأي في الاحكام قوم عالمون عارفون بالفرق بين القضاء
والصلح فلا يظن بهم أنهم أطلقوا لفظ القضاء فيما كان طريقه طريق الصلح بأن لم
يعرفوا الفرق بينهما أو قصدوا التلبيس، ولا ينكر أنه كان في ذلك ما هو بطريق الصلح،
كما قال ابن مسعود حين تحاكم إليه الاعرابي مع عثمان: أرى أن يأتي هذا واديه فيعطي
به ثم إبلا مثل إبله وفصلانا مثل فصلانه. فرضي بذلك عثمان. وفي قوله فرضي به، بيان
أن هذا كان بطريق الصلح، فعرفنا أن فيما لم يذكر مثل هذا اللفظ أو ذكر لفظ القضاء
والحكم فالمراد به الالزام، وقد كان بعض ذلك على سبيل الفتوى، والمفتي في زماننا
يبين الحكم للمستفتي ولا يدعوه إلى الصلح إلا نادرا، فكذلك في ذلك الوقت، وقد كان
بعض ذلك بيانا فيما لم يكن فيه خصومة أولا تجري فيه الخصومة كالعبادات والطلاق
والعتاق، نحو اختلافهم في ألفاظ الكنايات، واعتبار عدد الطلاق بالرجال والنساء وما
أشبه ذلك، فعرفنا أن قول من قال لم يكن ذلك منهم إلا بطريق الصلح والتوسط، منكر من
القول وزور. ومنهم من قال: كانوا مخصوصين بجواز العمل والفتوى بالرأي كرامة لهم،
كما كان رسول الله مخصوصا بأن قوله موجب للعلم قطعا، ألا ترى أنه قد ظهر منهم العمل
فيما فيه نص بخلاف النص بالرأي وبالاتفاق ذلك غير جائز لاحد بعدهم، فعرفنا أنهم
كانوا مخصوصين بذلك. وبيان هذا فيما روي أن رسول الله (ص) خرج لصلح بين الانصار
فأذن بلال وأقام فتقدم أبو بكر رضي الله عنه للصلاة، فجاء رسول الله وهو في الصلاة
- الحديث، إلى أن قال:
ص 135
فأشار على أبي بكر أن أثبت في مكانك، ورفع أبو بكر رضي الله عنه يديه وحمد الله ثم
استأخر وتقدم رسول الله، وكانت سنة الامامة لرسول الله (ص) معلوما بالنص، ثم تقدم
أبو بكر بالرأي، وقد أمره أن يثبت في مكانه نصا، ثم استأخر بالرأي. ولما أراد رسول
الله أن يتقدم للصلاة على ابن أبي المنافق جذب عمر رضي الله عنه رداءه، وفي رواية
استقبله وجعل يمنعه من الصلاة عليه والاستغفار له وكان ذلك منه بالرأي، ثم نزل
القرآن على موافقة رأيه، يعني قوله تعالى: *(ولا تصل على أحد منهم مات أبدا)* ولما
أراد علي أن يكتب كتاب الصلح عام الحديبية كتب: هذا ما صالح محمد رسول الله وسهيل
بن عمرو على أهل مكة. قال سهيل: لو عرفناك رسولا ما حاربناك، اكتب محمد بن عبد
الله، فأمر رسول الله عليا أن يمحو رسول الله فأبى علي رضي الله عنه ذلك حتى أمره
أن يريه موضعه فمحاه رسول الله بيده وكان هذا الاباء من علي بالرأي في مقابلة النص.
وقد كان الحكم للمسبوق أن يبدأ بقضاء ما سبق به ثم يتابع الامام، حتى جاء معاذ يوما
وقد سبقه رسول الله ببعض الصلاة فتابعه فيما بقي ثم قضى ما فاته، فقال له رسول
الله: ما حملك على ما صنعت؟ قال: وجدتك على شيء فكرهت أن أخالفك عليه. فقال: سن لكم
معاذ سنة حسنة فاستنوا بها وكان هذا منه عملا بالرأي في موضع النص ثم استصوبه رسول
الله في ذلك. وأبو ذر حين بعثه رسول الله مع إبل الصدقة إلى البادية أصابته جنابة
فصلى صلوات بغير طهارة إلى أن جاء إلى رسول الله الحديث إلى أن قال له: التراب
كافيك ولو إلى عشر حجج ما لم تجد الماء وكان ذلك منه عملا بالرأي في موضع النص.
وكذلك عمرو بن العاص أصابته جنابة في ليلة باردة فتيمم وأم أصحابه مع وجود الماء
وكان ذلك منه عملا بالرأي في موضع النص ثم لم ينكر عليه رسول الله (ص) ذلك، فعرفنا
أنهم كانوا مخصوصين بذلك. وكذلك ظهر منهم الفتوى بالرأي فيما لا يعرف بالرأي من
المقادير نحو حد الشرب كما قال علي رضي الله عنه فإنه ثبت بآرائنا. ولا وجه لذلك
إلى الحمل على معنى الخصوصية.
ص 136
والجواب أن نقول: هذا الكلام عند التأمل فيه من جنس الطعن عليهم لا بيان الكرامة
لهم، لان كرامتهم إنما تكون بطاعة الله وطاعة رسوله، فالسعي لاظهار مخالفة منهم في
أمر الله وأمر الرسول يكون طعنا فيهم، ومعلوم أن رسول الله ما وصفهم بأنهم خير
الناس إلا بعد علمه بأنهم أطوع الناس له، وأظهر الناس انقيادا لامره وتعظيما لاحكام
الشرع، ولو جاز إثبات مخالفة الامر بالرأي لهم بطريق الكرامة والاختصاص بناء على
الخيرية التي وصفهم بها رسول الله لجاز مثل ذلك لمن بعدهم بناء على ما وصفهم الله
به بقوله تعالى: *(كنتم خير أمة أخرجت للناس)* الآية، ولو جاز ذلك في فتاويهم لجاز
فيما نقلوا إلينا من أحكام الشرع، فتبين أن هذا من جنس الطعن، وأنه لا بد من طلب
التأويل فيما كان منهم في صورة الخلاف ظاهرا بما هو تعظيم وموافقة في الحقيقة. ووجه
ذلك بطريق الفقه أن نقول: قد كان من الامور ما فيه احتمال معنى الرخصة والاكرام أو
معنى العزيمة والالزام، ففهموا أن ما اقترن به من دلالة الحال أو غيره مما يتبين به
أحد المحتملين، ثم رأوا التمسك بما هو العزيمة أولى لهم من الترخص بالرخصة، وهذا
أصل في أحكام الشرع. وبيان هذا في حديث الصديق، فإن إشارة رسول الله (ص) له بأن
يثبت في مكانه كان محتملا معنى الاكرام له ومعنى الالزام، وعلم بدلالة الحال أنه
على سبيل الترخص والاكرام له، فحمد الله تعالى على ذلك، ثم تأخر تمسكا بالعزيمة
الثابتة بقوله تعالى: *(لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)* وإليه أشار بقوله: ما كان
لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله (ص). وكذلك كان تقدمه للامامة قبل أن
يحضر رسول الله، فإن التأخير إلى أن يحضر كان رخصة، ومراعاة حق الله في أداء الصلاة
في الوقت المعهود كان عزيمة، فإنما قصد التمسك بما هو العزيمة لعلمه أن رسول الله
عليه السلام كان يستحسن ذلك منه، فعرفنا أنه ما قصد إلا تعظيم أمر الله وتعظيم رسول
الله فيما باشره
ص 137
بالرأي. وكذلك فعل عمر رضي الله عنه بالامتناع من الصلاة على من شهد الله بكفره وهو
العزيمة، لان الصلاة على الميت المسلم يكون إكراما له وذلك لا يشك فيه إذا كان
المصلي عليه رسول الله (ص)، إلا أن التقدم للصلاة عليه كان بطريق حسن العشرة،
ومراعاة قلوب المؤمنين من قراباته، فجذب عمر رداءه تمسكا بما هو العزيمة، وتعظيما
لرسول الله لا قصدا منه إلى مخالفته. وكذلك حديث علي فإنه أبى أن يمحو ذلك تعظيما
لرسول الله وهو العزيمة، وقد علم أن رسول الله ما قصد بما أمر به إلا تتميم الصلح
لما رأى فيه من الحظ للمسلمين بفراغ قلوبهم، ولو علم علي أن ذلك كان أمرا بطريق
الالزام لمحاه من ساعته، ألا ترى أنه قال لرسول الله (ص): إنك ستبعثني في أمر
أفأكون فيه كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال: بل الشاهد يرى ما
لا يرى الغائب فبهذا تبين أنه عرف بأن ذلك الامر منه لم يكن إلزاما ورأى إظهار
الصلابة في الدين بمحضر من المشركين عزيمة فتمسك به، ثم الرغبة في الصلح مندوب إليه
الامام بشرط أن يكون فيه منفعة للمسلمين، وتمام هذه المنفعة في أن يظهر الامام
المسامحة والمساهلة معهم فيما يطلبون، ويظهر المسلمون القوة والشدة في ذلك، ليعلم
العدو أنهم لا يرغبون في الصلح لضعفهم، فلاجل هذا فعل علي رضي الله عنه ما فعله،
وكأنه تأويل قوله تعالى: *(ولا تهنوا ولا تحزنوا)* وكذلك حديث معاذ رضي الله عنه،
فإن السنة التي كانت في حق المسبوق من البداية بما فاته، فيها احتمال معنى الرخصة
ليكون الاداء عليه أيسر، فوقف معاذ على ذلك وعرف أن العزيمة متابعة رسول الله (ص)،
واعتقاد الغنيمة فيما أدركه معه، فاشتغل بإحراز ذلك أولا تمسكا بالعزيمة لا مخالفة
للنص. وكذلك حديث أبي ذر إن صح أنه أدى صلاته في تلك الحالة بغير طهارة، فإن في حكم
التيمم للجنب بعض الاشتباه في النص باعتبار القراءتين *(أو لامستم)* *(أو لامستم
النساء)* فلعله كان عنده أن
ص 138
المراد المس باليد وأنه لا يجوز التيمم للجنب كما هو مذهب عمر وابن مسعود رضي الله
عنهما، ثم رأى أن بسبب العجز يسقط عنه فرض الطهارة في الوقت، وأن أداء الصلاة في
الوقت عزيمة، فاشتغل بالاداء تعظيما لامر الله وتمسكا بالعزيمة. وكذلك حديث عمرو بن
العاص، فإنه رأى أن فرض الاغتسال ساقط عنه لما يلحقه من الحرج بسبب البرد أو لخوفه
الهلاك على نفسه، وقد ثبت بالنص أن التيمم مشروع لدفع الحرج، فعرفنا أنه ليس في شيء
من هذه الآثار معنى يوهم مخالفة النص من أحد منهم، وأنهم في تعظيم رسول الله كما
وصفهم الله به. وأما حد الشرب فإنما أثبتوه استدلالا بحد القذف، على ما روي أن عبد
الرحمن بن عوف قال لعمر: يا أمير المؤمنين إذا شرب هذي وإذا هذي افترى، وحد
المفترين في كتاب الله ثمانون جلدة. ثم الحكم الثابت بالاجماع لا يكون محالا به على
الرأي، وقد بينا أن الاجماع يوجب علم اليقين والرأي لا يوجب ذلك، ثم هذا دعوى
الخصوصية من غير دليل، ومن لا يرى إثبات شيء بالقياس فكيف يرى إثبات مجرد الدعوى من
غير دليل والكتاب يشهد بخلاف ذلك، فالناس في تكليف الاعتبار المذكور في قوله تعالى:
*(فاعتبروا يا أولي الابصار)* سواء، وهم كانوا أحق بهذا الوصف، وهذا أقوى ما نعتمده
من الدليل المعقول في هذه المسألة، فإنه لا فرق بين التأمل في إشارات النص فيما
أخبر الله به عن الذين لحقهم المثلات بسبب كفرهم كما قال تعالى: *(هو الذي أخرج
الذين كفروا من أهل الكتاب)* الآية، لنعتبر بذلك وننزجر عن مثل ذلك السبب، وبين
التأمل في إشارات النص في حديث الربا ليعرف به أن المحرم هو الفضل الخالي عن العوض،
فثبت ذلك الحكم بعينه في كل محل يتحقق فيه الفضل الخالي عن العوض مشروطا في البيع
كالارز والسمسم والجص وما أشبه ذلك وقد قررنا هذا، يوضحه أن التأمل في معنى النص
الثابت بإشارة صاحب الشرع بمنزلة التأمل في معنى اللسان
ص 139
الثابت بوضع واضع اللغة، ثم التأمل في ذلك للوقوف على طريق الاستعارة حتى يجعل ذلك
اللفظ مستعارا في محل آخر بطريقه، جائز مستقيم من عمل الراسخين في العلم، فكذلك
التأمل في معاني النص لاثبات حكم النص في كل موضع علم أنه مثل المنصوص عليه، وهذا
لنوعين من الكلام: أحدهما أن الله تعالى نص على أن القرآن تبيان لكل شيء بقوله
تعالى: *(ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)* ولا يتمكن أحد من أن يقول كل شيء في
القرآن باسمه الموضوع له في اللغة، فعرفنا أنه تبيان لكل شيء بمعناه الذي يستدرك به
حكمه، وما ثبت بالنص فإما أن يقال هو ثابت بصورة النص لا غير، أو بالمعنى الذي صار
معلوما بإشارة النص، والاول باطل، فإن الله تعالى قال: *(فلا تقل لهما أف)* ثم أحد
لا يقول إن هذا نهي عن صورة التأفيف دون الشتم والضرب. وكذلك قوله تعالى: *(ولا
يظلمون نقيرا)* وقوله تعالى: *(من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه
بدينار)* فعرفنا أن ثبوت الحكم باعتبار المعنى الذي وقعت الاشارة إليه في النص. ثم
ذلك المعنى نوعان: جلي، وخفي، ويوقف على الجلي باعتبار الظاهر، ولا يوقف على الخفي
إلا بزيادة التأمل وهو المراد بقوله: *(فاعتبروا)* وبعدما ثبت لزوم اعتبار ذلك
المعنى بالنص وإثبات الحكم في كل محل قد وجد فيه ذلك المعنى يكون إثباتا بالنص لا
بالرأي وإن لم يكن صيغة النص متناولا، إلا ترى أن الحكم بالرجم على ماعز لم يكن
حكما على غيره باعتبار صورته ولكن باعتبار المعنى الذي لاجله توجه الحكم عليه
بالرجم كان ذلك بيانا في حق سائر الاشخاص بالنص. والثاني أنه ما من حادثة إلا وفيها
حكم لله تعالى من تحليل أو تحريم أو إيجاب أو إسقاط، ومعلوم أن كل حادثة لا يوجد
فيها نص، فالنصوص معدودة متناهية ولا نهاية لما يقع من الحوادث إلى قيام الساعة،
وفي تسميته حادثة إشارة إلى أنه لا نص فيها، فإن ما فيه النص يكون أصلا معهودا.
وكذلك الصحابة ما اشتغلوا باعتماد نص في كل حادثة (طلبا أو رواية، فعرفنا أنه لا
يوجد نص في كل حادثة)
ص 140
وقد لزمنا معرفة حكم الحادثة بالحجة بحسب الوسع فإما أن يكون الحجة استنباط المعنى
من النصوص، أو استصحاب الحال كما قالوا، ومعلوم أنه ليس في استصحاب الحال إلا عمل
بلا دليل ولا دليل جهل، والجهل لا يصلح أن يكون حجة باعتبار الاصل، وهو أيضا مما لا
يوقف عليه، فمن المحتمل أن لا يكون عند بعض الناس فيه دليل ويكون عند بعضهم،
والقياس من الوجه الذي قررنا حجة وإن كان لا يوجب علم اليقين، ألا ترى أن الشرع جوز
لنا الاقدام على المباحات لقصد تحصيل المنفعة، يعني المسافرة للتجارة والمحاربة
للعدو والغلبة على الاعداء بغالب الرأي، والاجتهاد في أمر القبلة والاشتغال
بالمعالجة لتحصيل صفة البرء، وكل ذلك إقدام من غير بناء على ما يوجب علم اليقين، ثم
هو حسن في بعض المواضع واجب في بعض المواضع. وكذلك تقويم المتلفات، واعتقاد المعروف
في النفقات والمتعة، فإن ذلك منصوص عليه، ثم الاقدام عليه بالرأي جائز فكان ذلك
عملا بالحجة، فتبين أن القياس من نوع العمل بما هو حجة في الاصل ولكنه دون الثابت
من الحكم بالنص، فلا يصار إليه إلا في وضع لا يوجد فيه نظر. فأما استصحاب الحال فهو
عمل بالجهل فلا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة المحضة بمنزلة تناول الميتة.
وسنقرر هذا في بابه إن شاء الله تعالى. فبهم التقرير يتبين أن نفاة القياس يتمسكون
بالجهل، وأن فقهاء الامصار يعلمون بما هو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال. وأما
استدلالهم بقوله تعالى: *(أو لم يكفهم؟)* قلنا نحن نقول بأن ما أنزل من الكتاب كذلك
ولكن الاحتجاج بالقياس مما أنزل في الكتاب إشارة وإن كان لا يوجد فيه نصا فإنه
الاعتبار المأمور به من قوله تعالى: *(فاعتبروا)* وبهذا يتبين أن الحكم به حكم بما
أنزل الله فيضعف به استدلالهم بقوله تعالى: *(ومن لم يحكم بما أنزل الله)* وبه
يتبين أنه من جملة ما تناوله قوله تعالى: *(تبيانا لكل شيء)* وقوله تعالى: *(ولا
رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين)* وقد قيل المراد بالكتاب هنا اللوح المحفوظ، وبهذا
يتبين أن العمل بالقياس
ص 141
لا يكون تقدما بين يدي الله ورسوله بل هو ائتمار بأمر الله وأمر رسوله، وسلوك طريق
قد علم رسول الله أمته بالوقوف به على أحكام الشرع، وهذا لانا إنما نثبت الحكم في
الفروع بالعلة المؤثرة، والعلة ما صارت مؤثرة بآرائنا بل بجعل الله إياها مؤثرة،
وإنما إعمال الرأي في تمييز الوصف المؤثر من سائر أوصاف الاصل وإظهار التأثير فيه
فلا يكون العمل فيه عملا بالرأي، إنما التقدم بين يدي الله ورسوله فيما ذهب إليه
الخصم من القول بأن العمل بالقياس باطل، لانه لا يجد ذلك في كتاب الله نصا، وهو لا
يجوز الاستنباط ليقف به على إشارة النص فيكون ذلك قولا بغير حجة، ثم يكون عاملا في
الاحكام بلا دليل، وقد بينا أن هذا لا يصلح أن يكون حجة أصلية. وأما قوله: *(ولا
تقف ما ليس لك به علم)* فالمذكور هو علم منكر في موضع النفي والنكرة في موضع النفي
تعم، فاستعمال الرأي يثبت نوع علم من طريق الظاهر وإن كان لا يثبت علم اليقين،
وبالاتفاق علم اليقين ليس بشرط لوجوب العمل ولا لجوازه، فإن العمل بخبر الواحد واجب
ولا يثبت به علم اليقين، والعمل بالرأي في الحرب جائز، وفي باب القبلة عند الاشتباه
واجب، وفي المعالجة بالادوية جائز وإن كان شيء من ذلك لا يوجب علم اليقين، وهذا لان
التكليف بحسب الوسع وليس في وسعنا تحصيل علم اليقين في حكم كل حادثة، والحرج مدفوع،
ففي إثبات الحجر عن إعمال الرأي في الحوادث التي لا نص فيها من الحرج ما لا يخفى.
ثم لا إشكال أن ما يثبت من العلم بطريق القياس فوق ما يثبت باستصحاب الحال، لان
استصحاب الحال إنما يكون دليلا عندهم لعدم الدليل المغير، وذلك مما لا يعلم يقينا،
قد يجوز أن يكون الدليل المغير ثابتا وإن لم يبلغ المبتلى به، ولهذا لا تقبل البينة
على النفي في باب الخصومات وتقبل على الاثبات باعتبار طريق لا يوجب علم اليقين، فإن
الشهادة بالملك لظاهر اليد أو اليد مع التصرف تكون مقبولة وإن كانت لا توجب علم
اليقين. فأما قوله تعالى: *(ولا تقولوا على الله إلا الحق)* قلنا ما يظهر عند
استعمال الرأي بالوصف المؤثر حق في حقنا وإن كنا لا نعلم أنه هو الحق عند الله
تعالى، ألا ترى أن المتحري في باب القبلة يلزمه التوجه إلى الجهة التي يستقر عليها
الرأي، ومعلوم أنه لا يلزمه مباشرة ما ليس بحق أصلا،
ص 142
فعرفنا أنه حق عندنا وإن كنا لا نقطع القول بأنه الحق عند الله تعالى، فقد يصيب
المجتهد ذلك باجتهاده وقد يخطئ، ثم التكليف بحسب الوسع وليس في وضعنا الوقوف على ما
هو حق عند الله لا محالة، وإنما الذي في وسعنا طلبه بطريق الاعتبار الذي أمرنا به
وبعد إصابة ذلك الطريق يلزمنا العمل به فكذلك في الاحكام، وما أشاروا إليه من الفرق
بين ما هو محض حق الله تعالى وبين ما فيه حق العباد ليس بقوي، لان المطلوب هنا جهة
القبلة لاداء ما هو محض حق الله تعالى والله تعالى موصوف بكمال القدرة، ومع ذلك
أطلق لنا العمل بالرأي فيه، إما لتحقيق معنى الابتلاء، أو لانه ليس في وسعنا ما هو
أقوى من ذلك بعد انقطاع الادلة الظاهرة، وهذا المعنى بعينه موجود في الاحكام، ثم
الاحتمال الذي يبقى بعد استعمال الرأي بمنزلة الاحتمال في خبر الواحد، فإن قول صاحب
الشرع موجب علم اليقين وإنما يثبت في حقنا العلم والعمل به إذا بلغنا ذلك، وفي
البلوغ والاتصال برسول الله (ص) احتمال، فكذلك الحكم في المنصوص ثابت بالنص على وجه
يوجب علم اليقين، وفيه معنى هو مؤثر في الحكم شرعا ولكن في بلوغ الآراء وإدراك ذلك
المعنى نوع احتمال، فلا يمنع ذلك وجوب العمل به عند انعدام دليل هو أقوى منه، ولهذا
شرطنا للعمل بالرأي أن تكون الحادثة لا نص فيها من كتاب ولا سنة، فتبين أن فيما
قلنا مبالغة في المحافظة على النصوص بظواهرها ومعانيها، فإنه ما لم يقف على النصوص
لا يعرف أن الحادثة لا نص فيها وما لم يقف على معاني النصوص لا يمكنه أن يرد
الحادثة إلى ما يكون مثلها من النصوص، ثم مع ذلك فيه تعميم المعنى في الفروع وتعظيم
ما هو حق الله تعالى، فإن اعتقاد الحقية في الحكم المنصوص ثابت بالنص، ومعنى شرح
الصدر وطمأنينة القلب ثابت بالوقوف على المعنى. ولا معنى لاستدلالهم باختلاف أحكام
النصوص، لانا إنما نجوز استعمال الرأي عند معرفة معاني النصوص وإنما يكون هذا فيما
يكون معقول المعنى، فأما فيما لا يعقل المعنى فيه فنحن لا نجوز إعمال الرأي لتعدية
الحكم إلى ما لا نص فيه، وسيأتيك بيان هذا في شرط القياس، ويتبين بهذا أن مراد رسول
الله
ص 143
(ص) بذم الرأي فيما رووا من الآثار الرأي الذي ينشأ عن متابعة هوى النفس، أو الرأي
الذي يكون المقصود منه رد المنصوص نحو ما فعله إبليس، فأما الرأي الذي يكون المقصود
به إظهار الحق من الوجه الذي قلنا لا يكون مذموما، ألا ترى أن الله تعالى أمر به في
إظهار قيمة الصيد بقوله: *(يحكم به ذوا عدل منكم)* فإن رسول الله (ص) قد علم ذلك
أصحابه والصحابة عن آخرهم أجمعوا على استعماله من غير نكير من أحد منهم على من
استعمله، فكيف يظن بهم الاتفاق على ما ذمه رسول الله أو جعله مدرجة الضلال، هذا شيء
لا يظنه إلا ضال، والله أعلم.
فصل: في بيان ما لا بد للقياس من معرفته

قال رضي الله
عنه: وذلك معنى القياس لغة، فالصورة بلا معنى يكون فاسدا من الدعوى، ثم شرطه فإن
وجود الشيء على وجه يكون معتبرا شرعا لا يكون إلا بوجود شرطه، ثم ركنه فقوام الشيء
يكون بركنه، ثم حكمه فإن الشيء إنما يخرج من حد العبث والسفه إلى حد الحكمة بكونه
مفيدا، وذلك إنما يكون بحكمه، ثم بالدفع بعد ذلك فإن تمام الالزام إنما يتبين
بالعجز عن الدفع. فأما الاول فهو معرفة القياس لغة، فنقول: للقياس تفسير هو المراد
بصيغته، ومعنى هو المراد بدلالته، بمنزله فعل الضرب فإن له تفسيرا هو المعلوم
بصورته وهو إيقاع الخشبة على جسم، ومعنى هو المراد بدلالته وهو الايلام. فأما تفسير
صيغة القياس فهو التقدير، يقال: قس النعل بالنعل: أي قدره به، وقاس الطبيب الجرح
إذا سبره بالمسبار ليعرف مقدار غوره، وبهذا يتبين أن معناه لغة في الاحكام: رد
الشيء إلى نظيره ليكون مثلا له في الحكم الذي وقعت الحاجة إلى إثباته، ولهذا يسمى
ما يجري بين المناظرين مقايسة، لان كل واحد منهما يسعى ليجعل جوابه في الحادثة مثلا
لما اتفقا على كونه أصلا بينهما، يقال: قايسته مقايسة وقياسا، ويسمى ذلك نظرا أيضا
إذ لا يصاب إلا بالنظر عن إنصاف، ويسمى ذلك اجتهادا مجازا أيضا لان ببذل المجهود
يحصل هذا المقصود.
ص 144
وأما المعنى الذي هو المراد بدلالته، وهو أنه مدرك من مدارك أحكام الشرع، ومفصل من
مفاصله، وإنما يتبين هنا ببسط الكلام فنقول: إن الله تعالى ابتلانا باستعمال الرأي
والاعتبار، وجعل ذلك موضوعا على مثال ما يكون بين العباد مما شرعه من الدعوى
والبينات، فالنصوص شهود على حقوق الله تعالى وأحكامه بمنزلة الشهود في الدعاوى،
ومعنى النصوص (شهادته، بمنزلة) شهادة الشاهد، ثم لا بد من صلاحية الشاهد بكونه حرا
عاقلا بالغا، فكذلك لا بد من صلاحية النص لكونه شاهدا بكونه معقول المعنى، ولا بد
من صلاحية الشهادة بوجود لفظها، فكذلك لا بد من صلاحية الوصف الذي هو بمنزلة
الشهادة، وذلك بأن يكون ملائما للحكم أو مؤثرا فيه على ما نبين الاختلاف فيه، ولا
بد مما هو قائم مقام الطالب فيه وهو القائس، ولا بد من مطلوب وهو الحكم الشرعي،
فالمقصود تعدية الحكم إلى الفروع، ولا بد من مقضي عليه وهو عقد القلب ليترتب عليه
العمل بالبدن إن كان يحاج نفسه، وإن كان يحاج غيره فلا بد من خصم هو كالمقضي عليه
من حيث إنه يلزمه الانقياد له، ولا بد من قاض فيه وهو القلب بمنزلة القاضي في
الخصومات، ثم بعد اجتماع هذه المعاني يتمكن المشهود عليه من الدفع كما في الدعوى
المشهود عليه يتمكن من الدفع بعد ظهور الحجة فإن تمام الالزام إنما يتبين بالعجز عن
الدفع، وربما يخالفنا في بعض هذا الشافعي وغيره من العلماء أيضا.
فصل: في تعليل الاصول

قال فريق من العلماء: الاصول غير معلولة في الاصل ما لم يقم الدليل على كونه
معلولا في كل أصل. وقال فريق آخر: هي معلولة إلا بدليل مانع، والاشبه بمذهب الشافعي
رحمه الله أنها معلولة في الاصل إلا أنه لا بد لجواز التعليل في كل أصل من دليل
مميز، والمذهب عند علمائنا أنه لا بد مع هذا من قيام دليل يدل على كونه معلولا في
الحال، وإنما يتبين هذا في مسألة
ص 145
الذهب والفضة، فإن استدلال من يستدل من أصحابنا على كون الحكم الثابت فيهما معلولا
بأن الاصول في الاصل معلولة لا يكون صحيحا حتى يثبت بالدليل أن النص الذي فيهما
معلول في الحال. وحجة الفريق الاول أن الحكم في المنصوص قبل التعليل ثابت بصيغة
النص وفي التعليل تغيير لذلك الحكم حتى يكون ثابتا بالوصف الذي هو المعنى في
المنصوص، فيكون ذلك بمنزلة المجاز من الحقيقة، ولا يجوز العدول عن الحقيقة إلى
المجاز إلا بدليل، بل أولى، فالمجاز أحد نوعي اللسان والمعنى الذي يستنبط من
المنصوص ليس من نوع اللسان في شيء، يوضحه أن المعاني تتعارض في المنصوص وباعتبار
المعارضة لا يتعين وصف منها بل كل وصف يحتمل أن يكون هو المعنى الموجب للحكم فيه
والمحتمل لا يكون حجة، ولا بد من ترجيح بعض الاوصاف عند الاشتغال بالتعليل،
والترجيح بعد المعارضة لا يكون إلا بالدليل، على أنا نفهم من خطاب الشرع ما نفهم من
مخاطباتنا، ومن يقول لغيره أعتق عبدي، هذا لم يكن له أن يصير إلى التعليل في هذا
الامر، فكذلك في مخاطبات الشرع لا يجوز المصير إلى التعليل حتى يقوم الدليل. وحجة
الفريق الثاني أن الدليل الذي دل على صحة القياس وجواز العمل به يكون دليلا على
جواز التعليل في كل أصل، فإن ما هو طريق التعليل وهو الوقوف على معنى النص والوصف
الذي هو صالح لان يكون علة للحكم موجود في كل نص، فيكون جواز التعليل أصلا في كل
نص، وتكون صفة الصلاحية أصلا في كل وصف، فيكون التعليل به أصلا ما لم يظهر المانع،
بمنزلة العمل بالاخبار، فإن وجوب العمل بكل خبر ثبت عن صاحب الشرع هو الاصل حتى
يمنع منه مانع، ولا تتحقق المعارضة الموجبة للتوقف بمجرد اختلاف الآثار عند إمكان
العمل بالكل، فكذلك لا تثبت المعارضة الموجبة للتوقف عند كثرة أوصاف الاصل مع إمكان
العمل بالكل إلا أن يمنع من ذلك مانع، وليس هذا نظير خطاب العباد في معاملاتهم، فإن
ذلك مما لا نشتغل فيه
ص 146
بطلب المعنى، لجواز أن يكون خاليا عن معنى مؤثر وعن حكمة حميدة بخلاف خطاب الشرع،
ألا ترى أن هناك وإن كان التعليل فيه منصوصا لا يصار إلى التعدية، فإنه لو قال أعتق
عبدي هذا فإنه أسود لم يكن له أن يعدي الحكم بهذا التعليل إلى غيره، وفي خطاب الشرع
فيما يكون التعليل منصوصا يثبت حكم التعدية بالاتفاق، كقوله عليه السلام: الهرة
ليست بنجسة لانها من الطوافين عليكم والطوافات ودعواهم أن في التعليل تغيير الحكم
كلام باطل، فإن الحكم في المنصوص بعد التعليل ثابت بالنص كما كان قبل التعليل،
وإنما التعليل لتعدية الحكم إلى محل آخر لا نص فيه على ما نبينه في فصل الشرط،
فعرفنا أن أثر التعليل في المنصوص من حيث شرح الصدر وطمأنينة القلب، وذلك تقرير
للحكم لا تغيير كالوقوف على معنى اللسان. وقولهم إن في كل وصف احتمالا، قلنا: لا
كذلك بل الاصل في النصوص وجوب التعليل لتعميم الحكم على ما قررنا، فبعد هذا في كل
وصف احتمال أنه ليس بمراد بعد قيام الدليل على كونه حجة (وما ثبت حجة بالدليل فإنه
لا يخرج بالاحتمال من أن يكون حجة) وإنما يثبت ذلك بالدليل المانع. وأما الشافعي
فإنه يقول: قد علمنا بالدليل أن علة النص أحد أوصافه لا كل وصف منه، فإن الصحابة
اختلفوا في الفروع باختلافهم في الوصف الذي هو علة في النص، فكل واحد منهم ادعى أن
العلة ما قاله، وذلك اتفاق منهم أن أحد الاوصاف هو العلة، ثم ذلك الوصف مجهول
والمجهول لا يصلح استعماله مع الجهالة لتعدية الحكم فلا بد من دليل التمييز بينه
وبين سائر الاوصاف حتى يجوز التعليل به، فإنه لا يجوز التعليل بسائر الاوصاف لاتفاق
الصحابة على ذلك وعلمنا ببطلان التعليل في مخالفة الاجماع. ثم على أصله التعليل
تارة يكون للمنع من التعدية، وتارة يكون لاثبات التعدية، ولا شك أن الوصف الذي به
يثبت الحجر عن التعدية غير الوصف الذي يثبت به حكم التعدية، فما لم يتميز أحد
الوصفين من الآخر بالدليل لا يجوز تعليل النص.
ص 147
وأما علماؤنا فقد شرطوا الدليل المميز، ولكن بطريق آخر سوى ما ذكره الشافعي على ما
نذكره في بابه (إن شاء الله) وشرطوا قبل ذلك أن يقوم الدليل في الاصل على كونه
معلولا في الحال، لان النصوص نوعان: معلول، وغير معلول، والمصير إلى التعليل في كل
نص، بعد زوال هذا الاحتمال، وذلك لا يكون إلا بدليل يقوم في النص على كونه معلولا
في الحال. وإنما نظيره مجهول الحال إذا شهد، فإنه ما لم نثبت حريته بقيام الدليل
عليه لا تكون شهادته حجة في الالزام، وقبل ثبوت ذلك بالدليل الحرية ثابتة بطريق
الظاهر، ولكن هذا يصلح للدفع لا للالزام، فكذلك الدليل الذي دل في كل نص على أنه
معلول ثابت من طريق الظاهر وفيه احتمال، فما لم يثبت بالدليل الموجب لكون هذا النص
معلولا لا يجوز المصير إلى تعليله لتعدية الحكم إلى الفروع، ففيه معنى الالزام، وهو
نظير استصحاب الحال، فإنه يصلح حجة للدفع لا للالزام لبقاء الاحتمال فيه. فإن قيل:
أليس أن الاقتداء برسول الله (ص) في أفعاله جائز ما لم يقم الدليل المانع، وقد ظهرت
خصوصيته في بعض الافعال، ثم لم يوجب ذلك الاحتمال في كل فعل حتى يقال لا يجوز
الاقتداء به إلا بعد قيام الدليل؟ قلنا: رسول الله (ص) إمام مقتدى به، ما بعث إلا
ليأخذ الناس بهديه وهداه، فيكون الاقتداء به هو الاصل وإن كان قد يجوز أن يكون هو
مخصوصا ببعض الاشياء، ولكن الخصوصية في حقه بمنزلة دليل التخصيص في العموم والعمل
بالعام مستقيم حتى يقوم دليل التخصيص، فكذلك الاقتداء به في أفعاله. فأما هنا
فاحتمال كون النص غير معلول ثابت في كل أصل مثل احتمال كونه معلولا، فيكون هذا
بمنزلة المجمل فيما يرجع إلى الاحتمال، والعمل بالمجمل لا يكون إلا بعد قيام دليل
هو بيان، فكذلك تعليل الاصول، يوضحه أن هناك
ص 148
قد قام الدليل الموجب لعلم اليقين على جواز الاقتداء به مطلقا، وهو قوله تعالى:
*(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)* وههنا الدليل هو صلاحية الوصف الموجود في
النص، وذلك إنما يعلم بالرأي فلا ينعدم به احتمال كون النص غير معلول، لانا قد بينا
أن في تعليل النص معنى الابتلاء، والابتلاء بما يكون غير معلول من النصوص أظهر،
وبعدما تحققت المساواة في معنى الابتلاء لا بد من قيام الدليل في المنصوص على أنه
معلول للحال. وبيان هذا في الذهب والفضة، فإن حكم الربا ثابت فيهما بالنص وهو معلول
عندنا بعلة الوزن. وأنكر الشافعي هذا فيحتاج إلى أن يثبت بالدليل أنه معلول. وفيه
نوعان من الدليل: أحدها قوله عليه السلام: يد بيد ففيه إيجاب التعيين وهو متعد إلى
الفروع لانه لا بد من تعيين أحد البدلين في كل عقد، فإن الدين بالدين حرام بالنص
وذلك ربا، كما قال عليه السلام: إنما الربا في النسيئة ثم وجوب التعيين في البدل
الآخر هنا لاشتراط المساواة، فالمساواة في البدلين عند اتفاق الجنس شرط بقوله عليه
السلام: مثل بمثل وعند اختلاف الجنس المساواة في العينية شرط بقوله عليه الصلاة
والسلام: وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد وهذا حكم متعد
إلى الفروع، فإن الشافعي يشترط التقايض في بيع الطعام بالطعام مع اختلاف الجنس بهذا
النص، ونحن لا نجوز بيع قفيز من حنطة بعينها بقفيز من شعير بغير عينه غير مقبوض في
المجلس وإن كان موصوفا وحل التفاضل بينهما، لان بترك التعيين في المجلس ينعدم
المساواة في اليد باليد، وشرطنا القبض في رأس مال السلم في المجلس لتحقيق معنى
التعيين، فعرفنا أنه معلول، والتعليل بالثمنية يمنع التعدية، فباعتبار كونه معلولا
يكون متعديا إلى الفروع، فالوصف الذي يمنع التعدية لا يقدح فيه ولا يخرجه من أن
يكون شاهدا، بمنزلة صفة الجهل في الشاهد فإنه لا يكون طعنا في شهادته لانه لا يخرج
به من أن يكون أهلا للولاية، والشهادة تبتنى على ذلك، بخلاف صفة الرق فإن الطعن به
يمنع العمل بشهادته حتى تثبت حريته بالحجة، لانه يخرج به من أن يكون أهل الولاية
والصلاحية للشهادة تبتنى على
ص 149
ذلك. ومثال هذا أيضا ما قاله الشافعي في تحريم الخمر إنه معلول من غير قيام الدليل
فيه على كونه معلولا، بل الدليل من النص دال على أنه غير معلول، وهو قوله عليه
السلام: حرمت الخمر لعينها والسكر من كل شراب وإثبات الحرمة وصفة النجاسة في بعض
الاشربة المسكرة لا يكون تعدية للحكم الثابت في الخمر، ألا ترى أنه لا يثبت على ذلك
الوجه حتى لا يكفر مستحله، ولا يكون التقدير في النجاسة فيه كالتقدير في الخمر،
وإنما تلك حرمة ثابتة باعتبار نوع من الاحتياط، فلا يتبين به كون النص معلولا. ثم
تعليل النص قد يكون تارة بالنص، نحو قوله تعالى: *(كيلا يكون دولة بين الاغنياء
منكم)* وقول النبي عليه السلام لبريرة: ملكت بضعك فاختاري وقد يكون بفحوى النص كقول
النبي عليه السلام في السمن الذي وقعت فيه فأرة: إن كان جامدا فألقوها وما حولها
وكلوا ما بقي، وإن مائعا فأريقوه فإن في هذا إشارة إلى أنه معلول بعلة مجاورة
النجاسة إياه. وكذلك خبر الربا من هذا النوع كما بينا، وقد يكون بالاستدلال بحكم
النص كقوله عليه السلام في دم الاستحاضة: إنه دم عرق انفجر فتوضئي لكل صلاة. وقد
يكون على اتفاق القائلين بالقياس على كونه معلولا، فعند وجود شيء من هذه الادلة في
النص سقط اعتبار احتمال كونه غير معلول.
فصل: في ذكر شرط القياس

وإنما قدمنا الشرط
لان الشرعيات لا تصير موجودة بركنها قبل وجود الشرط، ألا ترى أن من أراد النكاح فلا
بد له من أن يبدأ بإحضار الشهود، ومن أراد الصلاة لم يجد بدا من البداية بالطهارة
وستر العورة. وهذه الشروط خمسة: أحدها أن لا يكون حكم الاصل مخصوصا به بنص آخر،
والثاني أن لا يكون معدولا به عن القياس، والثالث أن لا يكون التعليل للحكم الشرعي
الثابت بالنص بعينه حتى يتعدى به إلى فرع هو نظيره ولا نص
ص 150
فيه، والرابع أن يبقى الحكم في المنصوص بعد التعليل على ما كان قبله، والخامس أن لا
يكون التعليل متضمنا إبطال شيء من ألفاظ المنصوص. أما الاول: فلان التعليل لتعدية
الحكم، وذلك يبطل التخصيص الثابت بالنص، فكان هذا تعليلا في معارضة النص لدفع حكمه
والقياس في معارضة النص باطل. وأما الثاني: فلان التعليل يكون مقايسة والحكم
المعدول به عن القياس الثابت بالنص لا مدخل للقياس فيه على موافقة النص، ولا معتبر
بالقياس فيه على مخالفة النص، لان المقصود بالتعليل إثبات الحكم به في الفرع
والقياس ينفي هذا الحكم، ولا يتحقق الاثبات بحجة النفي كما لا يتحقق التحليل بما هو
حجة التحريم. وأما الثالث: فلان المقايسة إنما تكون بين شيئين ليعلم به أنهما مثلان
فلا تصور له في شيء واحد ولا في شيئين مختلفين لا تتحقق المماثلة بينهما، فإذا لم
يتعد الحكم بالتعليل عن المنصوص عليه يكون شيئا واحدا لا تتحقق فيه المقايسة، وإذا
كانا مختلفين لا يصيران بالتعليل مثلين، ومحل الانفعال شرط كل فعل وقول كمحل هو حي
فإنه شرط ليكون صدمه ضربا وقطعه قتلا، واشتراط كونه حكما شرعيا، لان الكلام في
القياس على الاصول الثابتة شرعا، وبمثل هذا القياس لا يعرف إلا حكم الشرع، فإن الطب
واللغة لا يعرف بمثل هذا القياس. وأما الرابع: فلان العمل بالقياس يكون بعد النص،
وفي الحكم الثابت بالنص لا مدخل للقياس في التغيير كما لا مدخل له في الابطال، فإذا
لم يبق حكم النص بعد التعليل في المنصوص على ما كان قبله كان هذا بيانا مغيرا لحكم
النص أو مبطلا له، ولا معتبر بالقياس في معارضة النص. وأما الخامس: فلان النص مقدم
على القياس بلفظه ومعناه، فكما لا يعتبر