ص 151
القياس في معارضة النص بإبطال حكمه لا يعتبر في ممارسته بإبطال لفظه. وفي بعض هذه
الفصول يخالفنا الشافعي رحمه الله على ما نبينه. فأما المثال الاول وهو أن العدد
معتبر في الشهادات المطلقة بالنص، وقد فسر الله تعالى الشاهدين برجلين أو رجل
وامرأتين وذلك تنصيص على أدنى ما يكون من الحجة لاثبات الحق، ثم خص رسول الله (ص)
خزيمة رضي الله عنه بقبول شهادته وحده، فكان ذلك حكما ثبت بالنص اختصاصه به كرامة
له، فلم يجز تعليله أصلا حتى لا يثبت ذلك الحكم في شهادة غير خزيمة ممن هو مثله أو
دونه أو فوقه في الفضيلة لان التعليل يبطل خصوصيته. وكذلك رسول الله (ص) كان مخصوصا
بأن حل له تسع نسوة فقد ثبت بالنص أن الحل بالنكاح يقتصر على الاربعة ثم ظهرت
خصوصية رسول الله عليه الصلاة والسلام بالزيادة بنص آخر فلم يكن ذلك قابلا للتعليل.
وكذلك ظهرت خصوصيته بالنكاح (بغير مهر بالنص فلم يكن ذلك قابلا للتعليل. وقال
الشافعي: قد ظهرت خصوصيته بالنكاح) بلفظ الهبة بالنص وهو قوله تعالى: *(خالصة لك من
دون المؤمنين)* فلم يجز التعليل فيه لتعدية الحكم إلى نكاح غيره. ولكنا نقول:
المراد بالنص الموجب للتخصيص ملك البضع نكاحا بغير مهر، فإنه ذكر فعل الهبة وذلك
يقتضي مصدرا، ثم قوله تعالى: *(خالصة لك)* نعت ذلك المصدر: أي إن وهبت نفسها للنبي
هبة خالصة، بدليل قوله تعالى: *(قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم)*: أي من
الابتغاء بالمال المقدر، فالفرض عبارة عن التقدير وذلك في المال يكون لا في لفظ
النكاح والتزويج، أو المراد اختصاصه بالمرأة حتى لا تحل لاحد بعده فيتأدى هو بكون
الغير شريكا له في فراشها من حيث الزمان، وعليه دل قوله تعالى: *(وما كان لكم أن
تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا)* ألا ترى أن معنى الكرامة
بالاختصاص إنما تظهر فيما يتوهم فيه الحرج بإلزامه إياه وذلك
ص 152
لا يتحقق في اللفظ، فقد كان أفصح العرب لا يلحقه الحرج في لفظ النكاح والتزويج. ومن
هذه الجملة اشتراط الاجل في السلم، فإنه حكم ثابت بالنص في هذا العقد خاصا، وهو
قوله عليه السلام: من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم. فلا يجوز
المصير فيه إلى التعليل حتى يجوز السلم حالا بالقياس على البيع بعلة أنه نوع بيع،
لان الاصل في جواز البيع اشتراط قيام المعقود عليه في تلك العاقد والقدرة على
التسليم، حتى لو باع ما لا يملكه ثم اشتراه فسلمه لا يجوز، ثم ترك هذا الاصل في
السلم رخصة بالنص وهو ما روي أن النبي (ص): نهى عن بيع ما ليس عند الانسان ورخص في
السلم وهذا لان المسلم فيه غير مقدور التسليم للعاقد عند العقد، ولا يصير مقدور
التسليم له بنفس العقد، لان العقد سبب للوجوب عليه وقدرته على التسليم يكون بما له
لا بما عليه، ولكنه محتاج إلى مباشرة هذا العقد لتحصيل البدل مع عجزه عن تسليم
المعقود عليه في الحال، وقدرته على ذلك بعد مضي مدة معلومة بطريق العادة إما بأن
يكتسب أو يدرك غلاته بمجئ أوانه، فجوز الشرع هذا العقد مع عدم المعقود عليه في ملكه
رخصة لحاجته، ولكن بطريق يقدر على التسليم عند وجوب التسليم عادة وذلك بأن يكون
مؤجلا، فلم يجز التعليل فيه لكونه حكما خاصا ثبت الخصوصية فيه بالنص كما بينا.
وكذلك قلنا: المنافع لا تضمن بالاتلاف والغصب، لان وجوب الضمان يستدعي المالية
والتقوم في المتلف وذلك لا يسبق الاحراز ولا تصور للاحراز في المنافع، ثم ثبوت
المالية والتقوم فيها بالعقد حكم خاص ثبت بالنص، فلم يكن قابلا للتعليل. وكذلك
إثبات المعادلة بينهما وبين الاعيان في موجب العقد الفاسد، والصحيح حكم خاص فيها،
لانه لا مماثلة بين المنافع وبين الاعيان باعتبار الاصل، فالعين جوهر يقوم به
العرض، والمنفعة عرض يقوم بالجوهر،
ص 153
والمنافع لا تبقى وقتين والعين تبقى، وبين ما يبقى وبين ما لا يبقى تفاوت، فعرفنا
أن ثبوت المساواة بينهما في مقتضى العقد حكم خاص ثابت بالنص فلا يقبل التعليل.
وكذلك إلزام العقد على المنافع قبل وجودها حكم خاص ثبت للحاجة أو للضرورة، من حيث
إنه لا يتصور العقد عليها بعد الوجود، لان الموجود لا يبقى إلى وقت التسليم، وما لا
يتأتى فيه التسليم بحكم العقد لا يكون محلا للعقد، فلا يجوز تعدية هذا الحكم
بالتعليل إلى المحل الذي يتصور العقد عليه بعد الوجود، وهو نظير حل الميتة عند
المخمصة، فإن ثبوته لما كان بطريق الضرورة لم يجز تعليله لتعدية ذلك الحكم إلى محل
آخر. ومثال الفصل الثاني ما قال أبو حنيفة رحمه الله في جواز التوضي بنبيذ التمر،
فإنه حكم معدول به عن القياس بالنص فلم يكن قابلا للتعليل حتى لا يتعدى ذلك الحكم
(إلى سائر الانبذة، ووجوب الطهارة بالقهقهة في الصلاة حكم معدول به عن القياس بالنص
فلم يكن قابلا للتعليل حتى لا يتعدى الحكم) إلى صلاة الجنازة وسجدة التلاوة، لان
النص ورد في صلاة مطلقة وهي ما تشتمل على جميع أركان الصلاة. وكذلك بقاء الصوم مع
الاكل والشرب ناسيا، فإنه معدول به عن القياس بالنص، لان ركن الصوم ينعدم بالاكل مع
النسيان، والركن هو الكف عن اقتضاء الشهوات، وأداء العبادة بعد فوات ركنها لا
يتحقق، فعرفنا أنه عن معدول به عن القياس فلم يجز تعدية الحكم فيه إلى المخطئ
والمكره والنائم يصب في حلقه بطريق التعليل. فإن قيل: قد عديتم حكم النص إلى
الجماع، وقد ورد في الاكل والشرب وكان ذلك بطريق التعليل. قلنا: لا كذلك بل قد ثبت
بالنص المساواة بين الاكل والشرب والجماع في حكم الصوم، وإن ركن الصوم هو الكف عن
اقتضاء الشهوتين جميعا فيكون الحكم الثابت (بالنص)
ص 154
في أحدهما ثابتا في الآخر بالنص أيضا لا بالمقايسة، لانه ليس بينهما فرق في حكم
الصوم الشرعي سوى اختلاف الاسم، فإن الاقدام على كل واحد منهما فيه تفويت ركن
الصوم، لانه جناية على محل الفعل من بضع أو طعام، وهو نظير جزء الرقبة مع شق البطن
فإنهما فعلان مختلفان في الاسم، وكل واحد منهما قتل موجب للقود بالنص لا بالقياس.
وكذلك من به سلس البول يتوضأ لوقت كل صلاة كالمستحاضة، وكان الحكم في كل واحد منهما
ثابتا بالنص لا بالقياس، لان النص ورد عند استدامة العذر. وعلى هذا قلنا: من سبقه
الحدث في خلال الصلاة بأي وجه سبقه فإنه يتوضأ ويبني على صلاته بالنص، وذلك حكم
معدول به عن القياس، وإنما ورد النص في القئ والرعاف، ثم جعل ذلك ورودا في سائر
الاحداث الموجبة للوضوء ولم يجعل ورودا في الحدث الموجب للاغتسال لتحقق المغايرة
فيما بينهما. فإن قيل: فكذلك نقول في المكره والخاطئ، فالمساواة بينهما وبين الناسي
ثابت من حيث إن كل واحد منهما غير قاصد إلى الجناية على الصوم. قلنا: نعم ولكن هذا
إنما يستقيم إذا ثبت أن القصد معتبر في تفويت ركن الصوم، وإذا كان القصد لا يعتبر
في تحقق ركن الصوم حتى إن من كان مغمى عليه في جميع النهار يتأدى ركن الصوم منه،
فكذلك ترك القصد لا يمنع تحقق فوات ركن الصوم، وكذلك مع عدم القصد قد يتحقق فوات
ركن الصوم وانعدام الاداء به، فإن من أغمى قبل غروب الشمس وبقي كذلك إلى آخر الغد
فإنه لا يكون صائما، وإن انعدم منه القصد إلى ترك الصوم، ثم لا مساواة أيضا بين
الخاطئ والمكره وبين الناسي فيما يرجع إلى عدم القصد، فإن الخاطئ إنما انعدام القصد
منه باعتبار قصده إلى المضمضة، وإنما ابتلي بالشرب خطأ بطريق يمكن التحرز عنه. وأما
الناسي فانعدم القصد منه لعدم علمه بالصوم أصلا وذلك بنسيان لا صنع له فيه، وإليه
أشار عليه السلام في قوله: إن الله أطعمك وسقاك ولما كان سبب العذر ممن له الحق على
وجه لا صنع للعباد فيه استقام أن يجعل الركن باعتباره
ص 155
قائما حكما، فأما في المكره والنائم سبب العذر جاء من جهة العباد، والحق في أداء
الصوم لله فلم يكن هذا في (معنى) سبب كان ممن له الحق، ألا ترى أن المريض يصلي
قاعدا ثم لا تلزمه الاعادة إذا برأ، والمقيد يصلي قاعدا ثم تلزمه الاعادة إذا رفع
القيد عنه. وعلى هذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: الذي شج في صلاته لا يبني
بعد الوضوء، والذي ابتلي بقئ أو رعاف يبني على صلاته بعد الوضوء، لما أن ذلك حكم
معدول به عن القياس بالنص فلم يجز التعليل فيه، وما يبتنى على صنع العباد ليس نظير
ما لا صنع للعباد من كل وجه. ومن هذه الجملة قلنا: حل الذبيحة مع ترك التسمية ناسيا
حكم معدول به عن القياس بالنص، فلم يجز تعليله لتعدية الحكم إلى العامد ولا مساواة
بينهما، فالناسي معذور غير معرض عن ذكر اسم الله تعالى، والعامد جان معرض عن ذكر
اسم الله تعالى على الذبيحة. ومن أصحابنا من ظن أن المستحسنات كلها بهذه الصفة وليس
كما ظن، فالمستحسن قد يكون معدولا به عن القياس، وقد يكون ثابتا بنوع من القياس إلا
أنه قياس خفي على ما نبينه في بابه إن شاء الله تعالى. ومن أصحابنا من ظن أن في
الحكم الذي يكون ثابتا بالنص فيه معنى معقول، إلا أنه يعارض ذلك المعنى معان أخر
تخالفه، فالجواب فيه كذلك، إلا أنه لا يجوز التعليل فيه وليس كذلك، فإن الاصل
بمنزلة الراوي والوصف الذي به تعلل بمنزلة الحديث، وفي رواية الاخبار قد يقع
الترجيح باعتبار كثرة الرواة على ما بينا، ولكن به لا يخرج من أن تكون رواية الواحد
معتبرا، فعرفنا أنه متى كان النص معقول المعنى فإنه يجوز تعليله بذلك المعنى ليتعدى
الحكم به إلى فرع، وإن عارض ذلك المعنى معان أخر في الاصل، فإنه ليس من شرط التعليل
للتعدية اعتبار جميع معاني الاصل. وأما الفصل الثالث: فهو أعظم هذه الوجوه فقها،
وأعمها نفعا، وهو شرط واحد اسما ولكن يدخل تحته أصول.
ص 156
فمنها: أن الكلام متى كان من معنى اللغة فإنه لا يجوز المصير فيه إلى الاثبات
بالقياس الشرعي. وبيان هذا في اليمين الغموس، فإن علماءنا قالوا إنها لا تنعقد
موجبة للكفارة، لانها ليست بيمين معقودة ووجوب الكفارة بالنص في اليمين المعقودة،
وكان الاشتغال في الحكم بالتعليل بقوله يمين بالله مقصودة باطلا من الكلام، لان
الكلام في إثبات الاسم حقيقة، فعندنا هذه ليست بيمين حقيقة، وإنما سميت يمينا
مجازا، لان ارتكاب هذه الكبيرة كان باستعمال صورة اليمين كبيع الحر يسمى بيعا مجازا
وإن لم يكن بيعا على الحقيقة، وإذا كان الكلام في إثبات اسم اليمين حقيقة وذلك لا
يمكن معرفته بالقياس الشرعي كان الاشتغال به فضلا من الكلام، ولكن طريق معرفته
التأمل في أصول أهل اللغة، وهم إنما وضعوا اليمين لتحقيق معنى الصدق من الخبر،
فعرفنا أن ما ليس فيه توهم الصدق بوجه لا يكون محلا لليمين لخلوه عن فائدة، وبدون
المحل لا يتصور انعقاد اليمين، ولذلك قال أبو حنيفة في اللواطة إنها لا توجب الحد،
لانها ليست بزنا واشتغال الخصوم بتعليل نص الزنا لتعدية الحكم أو إثبات المساواة
بينه وبين اللواطة يكون فاسدا، لان طريق معرفة الاسم النظر في موضوعات أهل اللغة لا
الاقيسة الشرعية. وكذلك سائر الاشربة سوى الخمر لا يجب الحد بشرب القليل ما لم
يسكر، واشتغال الخصم بتعليل نص الخمر لتعدية الحكم أو لاثبات المساواة فاسد، لان
الكلام في إثبات هذا الاسم كسائر الاشربة. فإن قيل: اعتبار المعنى لاثبات المساواة
في الاسم لغة لا شرعا، فالزنا عند أهل اللغة اسم لفعل فيه اقتضاء الشهوة على قصد
سفح الماء دون النسل، ولهذا سموه سفاحا وسموا النكاح إحصانا، واللواطة مثل الزنا في
هذا المعنى من كل وجه. وكذلك الخمر اسم لعين تحصل مخامرة العقل
ص 157
بشربه ولهذا لا يسمى العصير به قبل التخمر ولا بعد التخلل، وهذه الاشربة مساوية
للخمر في هذا المعنى. قلنا هذا فاسد، لان الاسماء الموضوعة للاعيان أو للاشخاص عند
أهل اللغة المقصود بها تعريف المسمى وإحضاره بذلك الاسم لا تحقق ذلك الوصف في
المسمى، بمنزلة الاسماء الموضوعة للرجال والنساء كزيد وعمر وبكر وما أشبهه، فكذلك
أسماء الافعال كالزنا واللواطة وأسماء الاعيان كالخمر، وما هذه الدعوى إلا نظير ما
يحكى عن بعض الموسوسين أنه كان يقول: أنا أبين المعنى في كل اسم لغة أنه لماذا وضع
ذلك الاسم لغة لما يسمى به. فقيل له: لماذا يسمى الجرجير جرجيرا؟ فقال: لانه يتجرجر
إذا ظهر على وجه الارض، أي يتحرك. فقيل له: فلحيتك تتحرك أيضا ولا تسمى جرجيرا!
فقيل له: لماذا سميت القارورة قارورة؟ قال: لانه يستقر فيها المائع. فقيل له: فجوفك
أيضا يستقر فيه المائع ولا يسمى قارورة!. ولا شك أن الاشتغال بمثل هذا في الاسماء
الموضوعة يكون من نوع الجنون. فإن قيل: الاحكام الشرعية إنما تبتنى على الاسامي
الثابتة شرعا وذلك نوع من الاسامي لا يعرفه أهل اللغة كاسم الصلاة للاركان
المعلومة، واسم المنافق لبعض الاشخاص. وما أشبه ذلك. قلنا: الاسماء الثابتة شرعا
تكون ثابتة بطريق معلوم شرعا كالاسماء الموضوعة لغة تكون ثابتة بطريق يعرفه أهل
اللغة، ثم ذلك الاسم لا يختص بعلمه واحد من أهل اللغة، بل يشترك فيه جميع أهل اللغة
لاشتراكهم في طريق معرفته، فكذلك هذا الاسم يشترك في معرفته جميع من يعرف أحكام
الشرع، وما يكون بطريق الاستنباط والرأي فإنما يعرفه القايس، فبهذا يتبين أنه لا
يجوز إثبات الاسم بالقياس على أي وجه كان، وعلى هذا لا يجوز استعمال القياس في
إلحاق النباش بالسارق في حكم القطع، لان القطع بالنص واجب على السارق، فالكلام في
إثبات اسم السرقة حقيقة وقد قدمنا البيان في نفي التسوية
ص 158
بين النباش والسارق في فعل السرقة، وهذا لان الاسماء نوعان: حقيقة، ومجاز. فطريق
معرفة الحقيقة هو السماع من أهل اللغة، وطريق معرفة المجاز منه الوقوف على استعارة
أهل اللغة، ونحن نعلم أن طريق الاستعارة فيما بين أهل اللغة غير طريق التعدية في
أحكام الشرع، فلا يمكن معرفة هذا النوع بالتعليل الذي هو لتعدية حكم الشرع. وعلى
هذا قلنا: الاشتغال بالقياس لتصحيح استعارة ألفاظ الطلاق للعتق يكون باطلا، وإنما
نشتغل فيه بالتأمل فيما هو طريق الاستعارة عند أهل اللغة. وكذلك الاشتغال بالقياس
لاثبات الاستعارة في ألفاظ التمليك للنكاح يكون اشتغالا بما لا معنى له. وكذلك في
إثبات استعارة لفظ النسب للعتق. وكذلك الاشتغال بالقياس في تصحيح إرادة العدد من
لفظ الطلاق. والاشتغال بالقياس لاثبات الموافقة بين الشاهدين إذا شهد أحدهما بمائة
والآخر بمائتين أو شهد أحدهما بتطليقة والآخر بنصف تطليقة فإنما يكون من نوع هذا
(فالحاجة فيه إلى إثبات الاسم وطريق الوقوف عليه التأمل في طريقه عند أهل اللغة)
فكان الاشتغال بالقياس الشرعي فيه اشتغالا بما لا يفيد. وكذلك الاطعام في الكفارات
فإن اشتراط التمليك فيه بالقياس على الكسوة باطل، لان الكلام في معنى الاطعام
المنصوص عليه ولا مدخل للقياس الشرعي في معرفة معنى الاسم لغة، وإنما الطريق فيه
التأمل في معنى اللفظ لغة وهو فعل متعد فلازمه طعم وحقيقته فيما يصير المسكين به
طاعما، وذلك بالتمكين من الاطعام، بمنزلة الايكال، ثم يجوز التمليك فيه بدلالة
النص، فأما الكسوة فهو عبارة عن الملبوس دون فعل اللبس ودون منفعة الثوب وعين
الملبوس لا يصير كفارة إلا بالتمليك من المسكين، فأما الالباس فهو تمكين من
الانتفاع بالملبوس. ومن هذه الجملة: الاختلاف في شرط التعدية، والمذهب عندنا أن
تعليل النص بما لا يتعدى لا يجوز أصلا. وعند الشافعي هذا التعليل جائز ولكنه لا
يكون مقايسة، وعلى هذا جوز هو تعليل نص الربا في الذهب والفضة
ص 159
بالثمينة وإن كانت لا تتعدى، فنحن لا نجوز ذلك. والمذهب عندنا أن حكم التعليل هو
تعدية حكم الاصل إلى الفروع، وكل تعليل لا يفيد ذلك فهو خال عن حكمه، وعلى قوله حكم
التعليل ثبوت الحكم في المنصوص بالعلة ثم تتعدى تلك العلة إلى الفروع تارة فيثبت
بها الحكم في الفروع كما في الاصل، وتارة لا تتعدى فيبقى الحكم في الاصل ثابتا وبه
يكون ذلك تعليلا مستقيما بمنزلة النص الذي هو عام مع النص الذي هو خاص. احتج وقال
لان التعليل بالرأي حجة لاثبات حكم الشرع فيكون بمنزلة سائر أنواع الحجج، وسائر
الحجج من الكتاب والسنة أينما وجدت يثبت الحكم بها، فكذلك التعليل بالرأي إلا أن
سائر الحجج تكون ثابت بغير صنع منا، والتعليل بالرأي إنما يحصل بصنعنا، ومتى وجد
ذلك كان ثبوت الحكم مضافا إليه سواء تعدى إلى الفروع أو لم يتعد، وهذا لان الشرط في
الوصف الذي يتعلل الاصل به قيام دلالة التمييز بينه وبين سائر الاوصاف، وهذا المعنى
يتحقق في الوصف الذي يقتصر على موضع النص وفي الوصف الذي يتعدى إلى محل آخر، وبعد
ما وجد فيه شرط صحة التعليل به لا يثبت الحجر عن التعليل به إلا بمانع، فكونه غير
متعد لا يصلح أن يكون مانعا إنما المانع ما يخرجه من أن يكون حجة، وانعدام وصف
التعدي فيه لا يخرجه من أن يكون حجة كالنص. والجواب عن هذا الكلام بما هو الحجة
لنا، وهو أن الحجج الشرعية لا بد أن تكون موجبة علما أو عملا، والتعليل بالرأي لا
يوجب العلم بالاتفاق، فعرفنا أنه موجب للعمل وأنه باعتباره يصير حجة، والموجب للعمل
ما يكون متعديا إلى الفروع، لان وجوب العمل بالعلة إنما يظهر في الفرع، فأما الاصل
فقد كان موجبا للعمل في المحل الذي تناوله قبل التعليل، فإذا خلا عن التعليل لم يكن
موجبا شيئا فلا يكون حجة شرعا.
ص 160
فإن قيل: وجوب العمل في الاصل بعد أن التعليل يصير مضافا إلى العلة كما أن في الفرع
بعد التعدية يصير وجوب العمل مضافا إلى العلة. قلنا: هذا فاسد، لان قبل التعليل كان
وجوب العمل بالنص، والتعليل لا يجوز على وجه يكون مغيرا حكم الاصل، فكيف يجوز على
وجه يكون مبطلا حكم الاصل وهو إضافة وجوب العمل إليه، ألا ترى أن وجوب العمل به لما
كان مضافا إلى النص قبل التعليل بقي مضافا إليه بعد التعليل، وبه يتبين أن النص
أقوى والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي، فيكون الحكم وهو وجوب العمل في الاصل مضافا
إلى أقوى الحجتين وهو النص بعد التعليل كما كان قبله. واعتباره الاصل بالفرع في أن
الحكم فيه يكون مضافا إلى العلة في نهاية الفساد، لان الفرع يعتبر الاصل، فأما
الاصل لا يعتبر بالفرع في معرفة حكمه بحال. فإن قيل مع هذا: التعليل صحيح ليثبت به
تخصيص الاصل بذلك الحكم. قلنا: وهذا ثابت قبل التعليل بالنص، ثم تعليل الاصل بوصف
لا يتعدى لا يمنع تعليله بوصف آخر يتعدى إذا وجد فيه ما هو شرط العلة، لانه كما
يجوز أن يجتمع في الاصل وصفان كل واحد منهما يتعدى إلى فروع وأحدهما أكثر تعدية من
الآخر يجوز أن يجتمع وصفان يتعدى أحدهما ولا يتعدى الآخر، فبهذا تبين أن هذا
التعليل لا يوجب تخصيص الاصل أيضا. وكيف يقال هذا وبالاجماع بيننا وبينه انعدام
العلة لا يوجب انعدام الحكم على ما نبينه في بابه إن شاء الله تعالى، وإنما يكون
التعليل بما لا يتعدى موجبا تخصيص الاصل إذا كان الحكم ينعدم بانعدام العلة كما
يوجد بوجودها. ومن هذه الجملة: تعليل الاصل لتعدية الحكم إلى موضع منصوص، فإن ذلك
لا يجوز عندنا، نص عليه محمد السير الكبير، وقال: النص الوارد في هدي المتعة لا
يجوز تعليله لتعدية حكم الصوم فيه إلى هدي الاحصار، لان ذلك منصوص عليه وإنما يقاس
بالرأي على المنصوص ولا يقاس المنصوص
ص 161
على المنصوص. والشافعي يجوز هذا التعليل لاثبات زيادة في حكم النص الآخر بالتعليل،
ولهذا قال: يجوز تعليله على وجه يوجب زيادة في حكم النص الآخر لا على وجه يوجب ما
هو خلاف حكم النص الآخر، لان وجوب الزيادة به إذا كان النص الآخر ساكتا عنه يكون
بيانا، والكلام وإن كان ظاهرا فهو يحتمل زيادة البيان، ولكنه لا يحتمل من الحكم ما
هو خلاف موجبه، والتعليل ليحصل به زيادة البيان، فلهذا جوزنا تعليل النص بوصف يتعدى
إلى ما فيه نص آخر لاثبات الزيادة فيه، ولكنا نقول: الحكم الثابت بالتعليل في المحل
الذي فيه نص إما أن يكون موافقا للحكم الثابت فيه بذلك النص أو مخالفا له، وعند
الموافقة لا يفيد هذا التعليل شيئا، لان الحكم في ذلك الموضع مضاف إلى النص الوارد
فيه فلا يصير بتعليل نص آخر مضافا إلى العلة، كما لا يصير الحكم في النص المعلول
مضافا إلى العلة بعد التعليل كما قررنا، وإن كان مخالفا له فهو باطل، لان التعليل
في معارضة النص أو فيما يبطل حكم النص باطل بالاتفاق، وإن كان زائدا فيه فهو مغير
أيضا بحكم ذلك النص، لان جميع الحكم قبل التعليل في ذلك الموضع ما أوجبه النص
الوارد فيه وبعد التعليل يصير بعضه والبعض غير الكل، فعرفنا أنه لا يخلو هذا
التعليل من أن يكون مغيرا حكم النص، وتبين بهذا أن الكلام في هذا الفصل بناء على ما
قدمنا أن الزيادة على النص عندنا بمنزلة النسخ، فكما لا يجوز إثبات نسخ المنصوص
بالتعليل بالرأي فكذلك لا يجوز إثبات الزيادة فيه. ثم بيان قولنا: إن شرط التعليل
تعدية حكم النص بعينه في مواضيع، منها أنا لا نجوز تعليل نص الربا في الاشياء
الاربعة بالطعم، لان الحكم في النصوص كلها إثبات حرمة متناهية بالتساوي، وصفة الطعم
توجب تعدية الحكم إلى محال تكون الحرمة فيها مطلقة غير متناهية، وهي المطعومات التي
لا تدخل تحت المعيار، فعرفنا أن هذا الوصف لا يوجب تعدية حكم النص بعينه، إذ الحرمة
المتناهية غير الحرمة المؤبدة، ألا ترى أن الحرمة الثابتة بالرضاع والمصاهرة غير
الحرمة الثابتة بالتطليقات الثلاث، ولهذا قلنا:
ص 162
إن النقود لا تتعين في العقود بالتعيين، بخلاف ما يقوله الشافعي إنها متعينة في
الملك وتعيينها في العقد مفيد فتتعين بالتعيين كالسلع. وهذا لان هذا التعليل لا
يوجب تعدية حكم الاصل بعينه، فحكم البيع في السلع وجوب الملك به فيها لا وجودها في
نفسها، ولهذا لا بد من قيامها في ملك البائع عند العقد ليصح العقد، وحكم العقد في
الثمن وجوبها ووجودها بالعقد، ولهذا لا يشترط قيام الثمن في ملك المشتري عند العقد
لصحة العقد، ويجوز العقد بدون تعيينه لا على اعتبار أنه بمنزلة السلع، ولكن يسقط
اعتبار وجوده بطريق الرخصة، فإن هذا الحكم فيما وراء موضع الرخصة ثابت حتى يجوز
الاستبدال به قبل القبض، ولا يجب جبر النقص المتمكن فيه عند عدم التعيين بذكر الاجل
ولا بقبض ما يقابله في المجلس بخلاف السلم، فعرفنا أن الحكم الاصلي في الثمن ما
بينا، وفي التعيين تغيير لذلك الحكم وجعل ما هو الركن شرطا، وأي التغيير أبلغ من
هذا. فتبين بهذا أنه ليس في هذا التعليل تعدية حكم النص بعينه بل إثبات حكم آخر في
الفرع، ولهذا قلنا إن إظهار الذمي باطل، لان حكم الظهار في حق المسلم أنه يثبت به
حرمة متناهية بالكفارة، فتعليل هذا الاصل بما يوجب تعدية الحكم إلى الذمي يكون
باطلا، لانه لا يثبت به حكم الاصل بعينه وهو الحرمة المتناهية، فإن الذمي ليس من
أهل الكفارة مطلقا. وبيان قولنا: إلى فرع: هو نظيره في فصول، منها ما بينا أنه لا
يجوز تعليل النص الوارد في الناسي بالعذر ليتعدى الحكم به إلى الخاطئ والمكره، لان
الفرع ليس بنظير للاصل، فعذرهما دون عذر الناسي فيما هو المقصود بالحكم، لان عذر
الخاطئ لا ينفك عن تقصير من جهته بترك المبالغة في التحرز، وعذر المكره باعتبار صنع
هو مضاف إلى العباد فلا تجوز تعدية الحكم للتعليل إلى ما ليس بنظير به. وكذلك قلنا:
شرط النية في التيمم لا يجوز تعليله بأنه طهارة حكمية ليتعدى الحكم به إلى الوضوء،
فإن الفرع ليس بنظير الاصل في كونه طهارة، لان التيمم باعتبار الاصل تلويث وهو لا
يكون رافعا للحدث بيقين بخلاف الطهارة بالماء، ولهذا أمثلة كثيرة.
ص 163
فإن قيل: فقد أوجبتم الكفارة بالاكل والشرب في رمضان على طريق تعدية حكم النص
الوارد في الجماع إليه مع أن الاكل والشرب ليس بنظير للجماع لما في الجماع من
الجناية على محل الفعل، ولهذا يتعلق به الحد رجما في غير الملك وذلك لا يوجد في
الاكل والشرب، وأثبتم حرمة المصاهرة بالزنا بطريق تعدية الحكم من الوطئ الحلال إليه
وهو ليس بنظير له فلان الاصل حلال يثبت به النسب والزنا حرام لا يثبت به النسب،
وكذلك أثبتم الملك الذي هو حكم البيع بالغصب وهو ليس بنظير له، فالبيع مشروع والغصب
عدوان محض وهو ضد المشروع. قلنا: أما في مسألة الكفارة فنحن ما أوجبنا الكفارة
بطريق التعليل بالرأي، فكيف يقال هذا! ومن أصلنا أن إثبات الكفارات بالقياس لا يجوز
خصوصا في كفارة الفطر فإنها تنزع إلى العقوبات كالحد، ولكن إنما أوجبنا الكفارة
بالنص الوارد بلفظ الفطر، وهو قوله عليه السلام: من أفطر في رمضان فعليه ما على
المظاهر ثم قد بينا أنهما نظيران في حكم الصوم فإن ركن الصوم هو الكف عن اقتضاء
الشهوتين، ووجوب الكفارة باعتبار الجناية على الصوم بتفويت ركنه على أبلغ الوجوه لا
باعتبار الجناية على المحل، وفي الجناية على الصوم هما سواء، ووجوب الكفارة باعتبار
الفطر (المفوت) لركن الصوم صورة ومعنى، والجماع آلة لذلك كالاكل والشرب. وما هذا
إلا نظير إيجاب القصاص في القتل بالسهم والسيف، فإن القصاص يجب بالقتل العمد والسيف
آلة لذلك الفعل، كالسهم، فلا يكون ذلك بطريق تعدية الحكم من محل إلى محل، إنما
التعدية فيما قاله الخصم إن الكفارة تجب بجماع الميتة والبهيمة. وعندنا هذا التعليل
باطل، لان جماع الميتة والبهيمة ليس نظير جماع الاهل في تفويت ركن الصوم، فإن فوات
الركن معنى بما تميل إليه الطباع السليمة لقصد قضاء الشهوة، وذلك يختص بمحل مشتهى
وفرج الميتة والبهيمة ليس بهذه الصفة، فكان هذا تعليلا لتعدية الحكم إلى ما ليس
ص 164
بنظير للاصل فكان باطلا. فأما مسألة الزنا فالاصل في ثبوت الحرمة ليس هو الوطئ
بالولد الذي يتخلق من الماءين إذا اجتمعا في الرحم، لانه من جملة البشر له من
الحرمات ما لغيره من بني آدم، ثم تتعدى تلك الحرمة إلى الزوجين باعتبار أن انخلاق
الولد كان من مائهما، فيثبت معنى الاتحاد بينهما بواسطة الولد، فيصير أمهاتها
وبناتها في الحرمة عليه كأمهاته وبناته، ويصير آباؤه وأبناؤه في كونها محرمة عليهم
كآبائها وأبنائها، ثم يقام ما هو السبب لاجتماع الماءين في الرحم وهو الوطئ مقام
حقيقة الاجتماع لاثبات هذه الحرمة، وذلك بوطئ يختص بمحل الحرث، ولا معتبر بصفة الحل
في هذا المعنى، ولا أثر لحرمة الوطئ في منع هذا المعنى الذي لاجله أقيم هذا السبب
مقام ما هو الاصل في إثبات الحرمة، إلا أن إقامة السبب مقام ما هو الاصل فيما يكون
مبنيا على الاحتياط وهو الحرمة والنسب ليس بنظيره في معنى الاحتياط، فلهذا لا يقام
الوطئ مطلقا مقام ما هو الاصل حقيقة في إثبات النسب، ولا يدخل على هذا أن هذه
الحرمة لا تتعدى إلى الاخوات والعمات على أن يجعل أخواتها كأخواته في حقه، لان أصل
الحرمة لا يمكن إثباته بالتعليل بالرأي، وإنما يثبت بالنص، والنص ما ورد بامتداد
هذه الحرمة إلى الاخوات والعمات، فتعدية الحرمة إليهما تكون تغييرا لحكم النص، وقد
بينا أن ذلك لا يجوز بالتعليل. وعلى هذا فصل الغصب، فإنا لا نوجب الملك به حكما
للغصب، كما نوجبه بالبيع، وإنما نثبت الملك به شرطا للضمان الذي هو حكم الغصب، وذلك
الضمان حكم مشروع كالبيع، وكون الاصل مشروعا يقتضي أن يكون شرطه مشروعا. وبيان
قولنا: ولا نص فيه: في فصول، منها أنا لا نجوز القول بوجوب الكفارة في القتل العمد
بالقياس على القتل الخطأ، لانه تعليل الاصل لتعدية الحكم إلى فرع فيه نص على حدة.
ولا نجوز القول بوجوب الدية في العمد المحض بالقياس على الخطأ لهذا المعنى. ولا
نوجب الكفارة في اليمين الغموس بالقياس على اليمين المعقودة على أمر في المستقبل
لهذا المعنى أيضا. ولا نشترط صفة الايمان فيمن تصرف إليه الصدقات سوى الزكاة
بالقياس على الزكاة،
ص 165
لما فيه من تعليل الاصل لتعدية الحكم إلى ما فيه نص آخر. ولا نشترط الايمان في
الرقبة في كفارة الظهار واليمين بالقياس على كفارة القتل، لان فيه تعليل الاصل
لتعدية الحكم به إلى محل فيه نص آخر، وفيه تعرض لحكم النص الآخر بالتغيير فإن
الاطلاق غير التقييد، وبعد ما ثبتت الرقبة مطلقا في كفارة اليمين والظهار فإثبات
التقييد فيه بالايمان يكون تغييرا، كما أن إثبات صفة الاطلاق في المقيد يكون
تغييرا، فإن الحرمة في الربائب لما تقيدت بالدخول، كان تعليل أمهات النساء لاثبات
صفة الاطلاق في حرمة الربائب يكون تغييرا لا يجوز المصير إليه بالرأي، فكذلك إثبات
التقييد فيما كان مطلقا بالنص. وبيان الفصل الرابع، وهو ما قلنا: إن الشرط أن يبقى
حكم النص بعد التعليل في الاصل على ما كان قبله، فلانه لما ثبت أن التعليل لا يجوز
أن يكون مغيرا حكم النص في الفروع ثبت بالطريق الاولى أنه لا يجوز أن يكون مغيرا
حكم الاصل في نفسه، ففي كل موضع لا يبقى الحكم في المنصوص بعد التعليل على ما كان
قبله، فذلك التعليل يكون باطلا، لكونه مغيرا لحكم الاصل، ولهذا لم نجوز التعليل في
قبول شهادة المحدود في القذف بعد التوبة بالقياس على المحدود في سائر الجرائم بعلة
أنه محدود في كبيرة، لان بعد هذا التعليل لا يبقى حكم النص الوارد فيه على ما كان
قبله. فإن قيل: هذا التعليل يكون هو ساقط الشهادة بالنص أبدا ويكون ذلك متمما لحده،
وبعد التعليل يتغير هذا الحكم، فإن الجلد قبل هذا التعليل يكون بعض الحد في حقه
وبعده يكون تمام الحد، فيكون تغييرا على نحو ما قلنا في التغريب: إن الجلد إذا لم
يضم إليه التغريب في زنا البكر يكون حدا كاملا، وإذا ضم إليه التغريب يكون بعض
الحد. وكذلك تعليل الشافعي في إبطال شهادته بنفس القذف بالقياس على سائر الجرائم
باطل، لانه تغيير للحكم بالنص، فإن مدة العجز عن إقامة أربعة من الشهداء بعد القذف
ثابت بالنص لاقامة
ص 166
الجلد وإسقاط الشهادة، فكان إثباته بنفس القذف بدون اعتبار تلك المدة بطريق التعليل
باطلا، لان حكم النص لا يبقى بعد التعليل على ما كان قبله. وكذلك القول بسقوط شهادة
الفاسق أصلا بالقياس على المحدود في القذف أو على العبد والصبي باطل، لان الحكم
الثابت بالنص في حق الفاسق التوقف في شهادته، وبعد تعيين جهة البطلان فيه لا يبقى
التوقف، فحكم النص بعد هذا التعليل لا يبقى على ما كان قبله. وكذلك قلنا: الفرقة
بين الزوجين لا تقع بلعان الزوج، لان الحكم الثابت بالنص اللعان من الجانبين، وهي
شهادات مؤكدة بالايمان وليس فيه ما يوجب الفرقة بينهما، وقد ثبت بالنص أنهما لا
يجتمعان أبدا، وذلك أيضا لا يقتضي زوال الملك به كما بعد إسلام المرأة قبل إسلام
الزوج، فإثبات حكم الفرقة بقذف الزوج عند لعانه لا يجوز بطريق التعليل، لانه لا
يبقى حكم النص بعد هذا التعليل على ما كان قبله، فقبله المذكور جميع الحكم، وبعده
يكون بعض الحكم، إلا أن بعد ما فرغا من اللعان يتحقق فوات الامساك بالمعروف ما داما
مصرين على ذلك، واستحقاق الفرقة عند فوات الامساك بالمعروف يثبت موقوفا على قضاء
القاضي به كما بعد إسلام أحد الزوجين إذا أبى الآخر الإسلام. وكذلك قلنا: إذا كذب
الملاعن نفسه وضرب الحد جاز له أن يتزوجها، لان الثابت بالنص أن المتلاعنين لا
يجتمعان أبدا وبعد الاكذاب لا يكون متلاعنا، بدليل أنه يقام عليه حد القذف فلا
يجتمع اللعان والحد بقذف واحد، فمن ضرورة القول بإقامة الحد عليه أن لا يبقى
ملاعنا، ولهذا لو أكذب نفسه قبل اللعان فإنه يقام الحد عليه ولا يلاعنها، فإذا خرج
من أن يكون ملاعنا بإكذابه نفسه قلنا إن كان قبل قضاء قاضي بالفرقة لم يفرق بينهما،
وإن كان بعد القضاء جاز له أن يتزوجها، لانا لو بقينا الحرمة بالقياس على الحرمة
الثابتة بالرضاع والمصاهرة لم يبق حكم النص بعد التعليل على ما كان قبله، فإن قبل
التعليل كان الثابت بالنص
ص 167
حرمة الاجتماع بين المتلاعنين، وبعد التعليل تكون حرمة الاجتماع بين غير
المتلاعنين. فإن قيل: فقد فعلتم ما أنكرتموه في فصول، منها أن حكم نص الربا
المساواة بين القليل والكثير قبل التعليل، ثم بعد التعليل خصصتم القليل من الحنطة
فلم يبق حكم النص بعد التعليل بالكيل في المنصوص على ما كان قبله. وكذلك الشاة
بصورتها ومعناها صار مستحقا للفقير بالنص، ثم بالتعليل بالمالية أبطلتم حقه عن
الصورة فلم يبق حكم النص بعد التعليل في المنصوص على ما كان قبله، وجوزتم هذا
التعليل لابطال حق المستحق مع أنه لا يجوز استعمال القياس في إبطال حق المستحق عن
الصورة أو المعنى كما في سائر حقوق العباد. وقد ثبت بالنص حق الاصناف في الصدقات
لوجود الاضافة إليهم بلام التمليك، ثم بالتعليل بالحاجة غيرتم هذا الحكم في المنصوص
وجوزتم الصرف إلى صنف واحد. وثبت بالنص وجوب التكفير بإطعام عشرة مساكين، ثم
بالتعليل غيرتم هذا الحكم في المنصوص فجوزتم الصرف إلى مسكين واحد في عشرة أيام.
وبالنص ثبت لزوم التكبير عند الشروع في الصلاة، ثم بالتعليل بالثناء وذكر الله على
سبيل التعظيم غيرتم هذا الحكم في المنصوص حتى جوزتم افتتاح الصلاة بغير لفظ
التكبير. وبالنص ثبت وجوب استعمال الماء لتطهير الثوب عن النجاسة، ثم غيرتم
بالتعليل بكونه مزيلا للعين والاثر هذا الحكم في المنصوص حتى جوزتم تطهير الثوب
النجس باستعمال سائر المائعات سوى الماء. قلنا: أما الاول فهو دعوى من غير تأمل،
وإنا ما خصصنا القليل من البر إلا بالنص، فإن النص قوله عليه السلام: لا تبيعوا
البر بالبر إلا سواء بسواء والاصل في الاستثناء من النفي أن المستثنى منه في معنى
المستثني، وعلى هذا بنى علماؤنا مسائل: في الجامع: إذا قال إن كان في هذه الدار إلا
رجل فعبده حر، فإذا في الدار سوى الرجل دابة أو ثوب لم يحنث، وإن كان فيها سوى
الرجل امرأة أو صبي حنث. ولو كان قال إلا حمارا فإذا فيها حيوان آخر سوى الحمار
يحنث، وإن كان فيها ثوب سوى الحمار لم
ص 168
يحنث، وإن كان قال إلا ثوب فأي شيء يكون في الدار سوى الثوب مما هو مقصود بالامساك
في الدور يحنث، فعرفنا أن المستثنى منه في معنى المستثنى، والمستثنى هنا حال
التساوي في الكيل، واستثناء الحال من العين لا يكون، فعرفنا بدلالة النص أن
المستثنى من عموم الاحوال حال التساوي وحال المجازفة وحالة التفاضل، وهذا لا يتحقق
إلا في الكثير، وإلا فيما يكون مقدرا شرعا، فعرفنا أن اختصاص القليل كان بدلالة
النص وأنه كان مصاحبا للتعليل لا أن يكون ثابتا بالتعليل. وأما الزكاة فنحن لا نبطل
بالتعليل شيئا من الحق المستحق لانه تبين خطأ من يقول بأن الزكاة حق الفقراء مستحقة
لهم شرعا، بل الزكاة محض حق الله تعالى، فإنها عبادة محضة وهي من أركان الدين، وهذا
الوصف لا يليق بما هو حق العبد، ومعنى العبادة فيها أن المؤدي يجعل ذلك القدر من
ماله خالصا لله تعالى حتى يكون مطهرا لنفسه وماله، ثم يصرفه إلى الفقير ليكون كفاية
له من الله تعالى، فإنه وعد الرزق لعباده وهو لا يخلف الميعاد، ومعلوم أن حاجات
العباد تختلف، فالامر بإنجاز المواعيد لهم من مال مسمى يتضمن الاذن في الاستبدال
ضرورة ليكون المصروف إلى كل واحد منهم عين الموعود له، بمنزلة السلطان يجيز أولياءه
بجوائز مختلفة يكتبها لهم ثم يأمر واحدا بإيفاء ذلك كله من مال يسميه بعينه، فإنه
يكون ذلك إذنا له في الاستبدال ضرورة والثابت بضرورة النص كالثابت بالنص، فعرفنا أن
ذلك كان ثابتا بالنص ولكنه كان مجامعا للتعليل، ثم التعليل بحكم شرعي لا بحق مستحق
لاحد، فإن المؤدى بعد ما صار لله تعالى بابتداء يد الفقير يكون كفاية له من الله
باستدامة اليد فيه، وثبت بهذا النص كونه محلا صالحا لكفاية الفقير، وصلاحية المحل
وعدم صلاحيته حكم شرعي كالخمر لا يكون محلا صالحا للبيع والخل يكون محلا صالحا له،
وهذه الصلاحية تثبت بالامر بالصرف إلى الفقير، لان باعتبار كونه مطهرا يصير من جملة
الاوساخ، وإليه أشار عليه السلام في قوله: يا معشر
ص 169
بني هاشم إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس، وعوضكم منها خمس الخمس فتبين أنه
بمنزلة الماء المستعمل، ولهذا كان الحكم في شريعة من قبلنا أن الصدقات المقبولة
والقرابين كانت تأكلها النار ولا يجوز الانتفاع بها، وفي شريعتنا لا يحل شيء منها
للغني ويحل للفقير لحاجته، بمنزلة حل الميتة عند الضرورة، فعرفنا أن حكم النص
صلاحية المحل للصرف إلى كفاية الفقير، وبعد التعليل تبقى هذه الصلاحية كما كانت
قبلها ويتعدى حكم الصلاحية إلى سائر المحال كما هو حكم التعليل في القياس الشرعي،
وبهذا يتبين أن اللام في قوله: للفقراء لام العاقبة، أي تصير لهم باعتبار العاقبة،
ولكن بعد تمام أداء الصدقات يجعل المال لله بابتداء التسليم إلى الفقراء، أو يكون
المراد بيان المصرف الذي يكون المال بقبضهم لله تعالى خالصا هو، لا بمنزلة الكعبة
فإن الاركان باعتبار التوجه إليها تصير صلاة لا أن تكون الصلاة حقا للكعبة، ثم كل
صنف من هذه الاصناف جزء من المصارف بمنزلة جزء من الكعبة، واستقبال جزء منها
كاستقبال جميعها في حكم الصلاة وهو ثابت بالنص لا بالتعليل، فكذلك الصرف إلى صنف
لما فيه من سد خلة المحتاج بمنزلة الصرف إلى الاصناف لا بطريق التعليل. وحكم
الاطعام كذلك، فإن حكم النص أن المساكين العشرة محل لصرف طعام الكفارة إليهم، وهذا
الحكم باق في المنصوص بعد التعليل كما قبله، ولكن ثبت بدلالة النص للتنصيص على صفة
المسكنة في المصروف إليه أن المطلوب سد الخلة، وعلم يقينا تجدد الحاجة للمسكين
بتجدد الايام فصار بدلالة النص ما يقع به التكفير سد عشر خلات وهو ثابت بالصرف إلى
مسكين واحد في عشرة أيام كما يثبت بالصرف إلى عشرة مساكين. وأما التكبير فلا نقول
حكم النص وجوب التكبير بعينه عند الشروع في الصلاة، ولكن الواجب التعظيم باللسان،
لان اللسان من الاعضاء الظاهرة من وجه، والصلاة تعظيم الله تعالى بجميع الاعضاء،
فتعلق بكل عضو ما يليق به من التعظيم، ثم التعظيم
ص 170
باللسان يكون بالثناء والذكر، فكان ذكر الله على سبيل التعظيم لتحقيق أداء الفعل
المتعلق باللسان، ولا عمل لذلك الفعل في تعيين التكبير، بل التكبير آلة صالحة لذلك،
وقد بقيت بعد هذا التعليل آلة صالحة لاقامة هذا الفعل بها كما قبل التعليل. وكذلك
غسل النجاسة بالمائعات فالمستحق ليس هو الغسل بعينه بل إزالة النجاسة عن الثوب حتى
لا يكون مستعملا لها عند لبسه، ألا ترى أنه لو قطع موضع النجاسة بالمقراض أو ألقى
ذلك الثوب أصلا لم يلزمه الغسل، ثم الماء آلة صالحة لازالة النجاسة باستعماله، وبعد
التعليل يبقى كذلك آلة صالحة لازالة النجاسة لاستعماله، وحكم الغسل طهارة المحل
باعتبار أنه لم يبق فيه عين النجاسة ولا أثرها، فكل مائع ينعصر بالعصر فهو يعمل عمل
الماء في المحل، ثم طهارة المحل في الاصل وانعدام ثبوت صفة النجاسة في المزيل
بابتداء ملاقاة النجاسة إلى أن يزايل الثوب بالعصر حكم شرعي ثبت بالنص، وبالتعليل
تعدى هذا الحكم إلى الفروع وبقي في الاصل على ما كان قبل التعليل. ولا يدخل على هذا
التطهير من الحدث بسائر المائعات سوى الماء، لان عمل الماء في إزالة عين عن المحل
الذي يلاقيه، أو في إثبات صفة الطهارة للمحل بواسطة الازالة، وليس في أعضاء المحدث
عين تزول باستعمال الماء، فإن أعضاءه طاهرة، وإنما فيها مانع حكمي من أداء الصلاة
غير معقول المعنى، وقد ثبت بالنص رفع ذلك المانع بالماء وهو غير معقول المعنى، وقد
بينا أن مثل هذا الحكم لا يمكن تعليله للتعدية إلى محل آخر. ولا يدخل على هذا
الجواب تصحيح الوضوء بغير النية كغسل النجاسة، لان الذي لا يعقل المعنى فيه ما هو
مزال عن المحل عند استعمال الماء، فأما الماء في كونه مزيلا إذا استعمل في المحل
معقول المعنى فلا حاجة إلى اشتراط النية لحصول الازالة به كما في غسل النجاسات،
فعلم أن هذه الحدود إنما يقف المرء عليها عند التأمل عن إنصاف. وأما بيان القسم
الخامس ففيما قاله علماؤنا: إنه لا يجوز قياس السباع سوى
ص 171
الخمس المؤذيات على الخمس بطريق التعليل في إباحة قتلها للمحرم وفي الحرم، لان في
النص قال عليه الصلاة والسلام: خمس يقتلن في الحل والحرم وإذا تعدى الحكم إلى محل
آخر يكون أكثر من خمس فكان في هذا التعليل إبطال لفظ من ألفاظ النص، بخلاف حكم
الربا فإن النبي عليه السلام لم يقل الربا في ستة أشياء، ولكن ذكر حكم الربا في
أشياء فلا يكون في تعليل ذلك النص إبطال شيء من ألفاظ النص. ومن هذا النوع تعليل
الشافعي حكم الربا في الاشياء الاربعة بالطعم فإن في النص قال عليه الصلاة والسلام:
والفضل ربا: أي الفضل حرام يفسد به العقد لانه ربا، والتعليل بالطعم يبطل كون الفضل
ربا، لانه يقول بعلة الطعم فساد البيع في هذه الاموال أصل إلى أن يوجد المخلص وهو
المساواة في المعيار الشرعي، فيكون هذا إبطالا لبعض ألفاظ النص. ومن ذلك تعليله لرد
شهادة القاذف للفسق الثابت بالقذف، فإنه إبطال لبعض ألفاظ النص وهو قوله تعالى:
*(أبدا)* فإن رد الشهادة باعتبار الفسق لا يتأبد، فكيف يتأبد وسببه وهو الفسق بعرض
أن ينعدم بالتوبة، فكان هذا تعليلا باطلا لتضمنه إبطال لفظ من ألفاظ النص. ومن جملة
ما لا يكون استعمال القياس فيه طريقا لمعرفة الحكم، النذر بصوم يوم النحر، وأداء
الظهر يوم الجمعة في المصر بغير عذر قبل أداء الناس الجمعة، وفساد العقد لسبب
الربا، فإن الكلام في هذه الفصول في موجب النهي وأن عمله بأي قدر يكون، والنهي أحد
أقسام الكلام كالامر، فيكون طريق معرفته موجبة عند الاطلاق التأمل في معاني كلام
أهل اللسان دون القياس الشرعي. ومن ذلك الكلام في الملك الثابت للزوج على المرأة
بالنكاح أنه في حكم ملك العين أو في حكم ملك المنفعة، فإنه لا مدخل للقياس الشرعي
فيه، لان بعد النكاح نفسها وأعضاؤها ومنافعها مملوكة لها فيما سوى المستوفى منها
بالوطئ على ما كان قبل النكاح، فإثبات ملك عليها بدون تمكن الاشارة
ص 172
إلى شيء من عينها أنه مملوك عليها يكون حكما ثابتا بخلاف القياس، وقد بينا أن مثل
هذا لا يقبل التعليل وأنه ملك ضروري ظهر شرعا لتحقق الحاجة إلى تحصيل السكن والنسل
بمنزلة حل الميتة عند الضرورة فلا يقبل التعليل، ولان التعليل إنما يجوز بشرط أن
يكون الفرع نظير الاصل في الحكم الذي يقع التعليل له، ولا نظير لملك النكاح من سائر
أنواع الملك، لان سائر أنواع الملك يثبت في محل مخلوق ليكون مملوكا للآدمي، وهذا
الملك في الاصل يثبت على حرة هي مخلوقة لتكون مالكة، وأي مباينة فوق المالكية
والمملوكية، فإذا ثبت أنه لا نظير لهذا الملك من سائر الاملاك ثبت أنه لا يمكن
المصير إلى التعليل فيه لمعرفة صفته. ومن ذلك الكلام في موجب الالفاظ حتى يصير في
الرهن أنه يد الاستيفاء حقا للمرتهن، بمنزلة اليد التي تثبت في المحل بحقيقة
الاستيفاء، أم حق البيع في الدين، ثم اليد شرط لتتميم السبب كما في الهبة اليد شرط
لتتميم السبب، والحكم ثبوت الملك في المحل بطريق العلة، فهذا مما لا يمكن إثباته
(في القياس) بالقياس الشرعي، لان أحكام العقود مختلفة شرعا ووضعا، وباعتبار
الاختلاف يعلم أنه ليس بعضها نظيرا للبعض، ومن شرط صحة التعليل أن يكون الفرع نظيرا
للاصل، بل طريق معرفة حكم الرهن التأمل فيما لاجله وضع هذا العقد وشرع، فنقول: إنه
مشروع ليكون وثيقة لجانب الاستيفاء لا مؤكدا للوجوب، ألا ترى أنه يختص بالمال الذي
هو محل للاستيفاء فأما محل الوجوب فالذمة، وإذا كان وثيقة لجانب الاستيفاء علم أن
موجبه من جنس ما يثبت بحقيقة الاستيفاء، والثابت بحقيقة الاستيفاء ملك العين وملك
اليد، ثم بالرهن لا يثبت ملك العين. فعرفنا أن موجبه ملك يد الاستيفاء بمنزلة
الكفالة فإنها وثيقة لجانب الوجوب ولهذا اختصت بالذمة، ثم كان موجبها من جنس ما
يثبت بحقيقة الوجوب وهو ملك المطالبة، لان الثابت بالحقيقة ملك أصل الدين في ذمة من
يجب عليه وثبوت حق المطالبة بالاداء، فالثابت بالوثيقة التي هي لجانب الوجوب من
جنسه وهو حق المطالبة
ص 173
حتى يملك مطالبة الكفيل بالدين مع بقاء أصله في ذمة المديون. ومن ذلك الكلام في
المعتدة بعد البينونة أنه هل يقع عليها الطلاق؟ فإن تعليل الخصم بأنه ليس له عليها
ملك متعة ولا رجعة لا يلحقها طلاقه كمنقضية العدة تعليل باطل، لان الخلاف في أن
العدة التي هي حق من حقوق النكاح هل تكون بمنزلة أصل النكاح في بقائها محلا لوقوع
الطلاق عليها باعتباره أم لا؟ وفي منقضية (العدة) لا عدة، ففي أي وجه يستقيم هذا
التعليل ليثبت به هذا الحكم للخصم؟ وكذلك هذا التعليل في نكاح الاخت في عدة الاخت
بعد البينونة من الخصم باطل، لان الكلام في أن العدة التي هي حق النكاح هل تقوم
مقام النكاح في بقاء المنع الثابت بسبب النكاح أم لا؟ وفي منقضية العدة لا عدة،
وهذا لان النافي ينكر أن يكون الحكم مشروعا وما ليس بمشروع كيف يمكن إثباته بالقياس
الشرعي. ومن هذا النوع تعليله في إسلام المروي في المروي، لان العقد جمع بدلين لا
يجري فيهما ربا الفضل فكان بمنزلة الهروي مع المروي، لان الكلام في أن الجنس هل هو
علة لتحريم النساء، وفي الهروي مع المروي لا جنس، وبهذا تبين أن حجة المدعي المثبت
غير حجة المنكر النافي. ومن هذا النوع الكلام فيما إذا قال لامرأته أنت طالق تطليقة
بائنة أن الرجعة تنقطع بهذا اللفظ أم لا؟ فإن تعليل الخصم بأنه ما اعتاض عن طلاقها
يكون تعليلا باطلا، لان الكلام في أن صفة البينونة هل هي مملوكة للزوج بالنكاح كأصل
الطلاق أم لا؟ فالخصم ينكر كون ذلك مملوكا له، ونحن نقول إن ذلك مملوك له وإنما لم
يثبت بصريح لفظ الطلاق لا لانه غير مملوك له بل لانه ساكت عن هذه الصفة، فإن وصفها
بالطلاق يجامع النكاح ابتداء وبقاء، فإنما طريق معرفة هذا الحكم التأمل في موضوع
هذا الملك وفيما صار له أصل الطلاق مملوكا له، فإذا ثبت باعتباره أن الوصف مملوك له
كان التصريح به بذلك الوصف عملا، وعند عدم التصريح به لا يثبت لان سببه لم يوجد،
كما لا يثبت أصل الطلاق إذا لم يوجد منه التكلم بلفظ الطلاق أو بلفظ آخر قائما
مقامه.