الصفحة السابقة الصفحة التالية

أصول السرخسي

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 181

دليل عليه، ففي المذكور هنا دليل على المحذوف وهو قوله تعالى: *(ولكن يريد ليطهركم)*. *(وإن كنتم جنبا فاطهروا)* وقوله تعالى عند ذكر البدل: *(أو جاء أحد منكم من الغائط)* وقد علم أن البدل إنما يجب عند عدم الاصل بما يجب به الاصل، فظهر أنا إنما جعلنا الحدث شرطا لوجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة بدلالة النص لا بطريق التعليل والاستنباط بالرأي. وكذلك قوله عليه السلام: لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان إنما عرفنا أن المراد النهي عن القضاء عند شغل القلب لمخافة الغلط بدليل الاجماع لا بطريق الاستنباط بالرأي، والاجماع حجة سوى الرأي، فإن التعليل بالرأي يكون بعد الاجماع بالاتفاق، وكيف يستقيم أن لا يكون للنص حكم بعد التعليل والشرع ما جعل التعليل بالرأي إلا بعد النص وإلا لاثبات الحكم فيما لا نص فيه. وبيان هذا في حديث معاذ حين قال له: (كيف تقضي) وحديث نص الربا هكذا، فإن المساواة في الكيل إنما عرفناه بالنص لا بالرأي وهو قوله عليه السلام في بعض الروايات مكان قوله (مثل بمثل) (كيل بكيل) أو بالاجماع، فقد اتفقوا أنه ليس المراد من قوله (مثل بمثل) إلا المماثلة في الكيل، وكذلك (في) قوله: (إلا سواء بسواء) اتفاق أن المراد المساواة في الكيل، فعرفنا أن من قال في هذه المواضع بأن الحكم دار مع العلة وجودا وعدما والمنصوص عليه قائم في الحالين ولا حكم له، فهو مخطئ غير متأمل في مورد النص ولا فيما هو طريق التعليل في الفقه. ثم الدليل على أن انعدام الحكم عند عدم الوصف لا يكون دليل صحة العلة ما ذكرنا من الشرط، ولان ثبوت الحكم لما كان بورود الشرع به فانعدام الحكم عند انعدام العلة الموجبة شرعا يكون بالعدم الذي هو أصل فيه لا أن يكون مضافا إلى العلة حتى

ص 182

يكون دليل صحة العلة. والدليل على أن وجود الحكم عند عدم العلة لا يكون دليل فساد العلة اتفاق الكل على أن الحكم يجوز أن يكون ثابتا في محل بعلل، ثم بانعدام بعضها لا يمتنع بقاء الحكم بالبعض الذي هو باق، كما لا يمتنع ثبوت الحكم ابتدا بتلك العلة، وبهذا يتبين أنه لا بد من القول بأنه لا ينعدم الحكم إلا بانعدام جميع العلل التي كان الحكم ثابتا بكل واحد منها، فعرفنا أن وجود الحكم عند عدم العلة لا يكون دليل فسادها، وفساد القول بأن دليل صحة العلة دوران الحكم معه وجودا وعدما كالمتفق عليه، فإن القائسين اتفقوا أن علة الربا أحد أوصاف الاصل، وادعى كل واحد منهم أن الصحيح ما ذهب إليه، ومعلوم أن كل قائل يمكنه أن يستدل على صحة علته بدوران الحكم معه وجودا وعدما. وكذلك لو قال إن العلة في تكفير المستحل للخمر معنى الشدة والمرارة كان ذلك فاسدا بالاتفاق، فإن أحدا لا يقول بتكفير مستحل سائر الاشربة مع وجود الشدة والمرارة. ثم هذا القائل يتمكن من تصحيح قوله بدوران الحكم معه وجودا وعدما، فإن العصير قبل أن يتخمر لا يكفر مستحله، وبعد التخمر يكفر مستحله لوجود الشدة والمرارة، ثم بعد التحلل لا يكفر مستحله لانعدام الشدة والمرارة، إلا أن يقول بتخصيصه وقد قامت الدلالة على فساد القول بتخصيص العلل الشرعية على ما نبينه إن شاء الله تعالى، فيفسد به أيضا القول بتخصيص ما هو دليل صحة العلة، لان ذلك حجة شرعية ثابتة بطريق الرأي. فإن قيل: مثل هذا يلزم القائلين بأن دليل صحة العلة الاثر، فإن الحكم يدور مع العلة المأثورة وجودا وعدما عند من لا يجوز تخصيص العلة وهو الصحيح. قلنا: نعم ولكن لا نجعل الدوران دليل صحة العلة، وإنما نجعل كونه مؤثرا في الاصول دليل صحة العلة ولا يتحقق معنى دوران الحكم مع هذا الاثر في جميع الاصول، فأما دوران الحكم مع العلة وجودا وعدما يكون اتفاقا. فأما الذين قالوا من أصحاب الشافعي: بأن الاثر الذي هو دليل صحة

ص 183

العلة أن يكون مخيلا، حجتهم أن هذا الاثر مما لا يحس بطريق الحس ولكنه يعقل فيكون طريق الوقوف عليه تحكيم القلب، حتى إذا تخايل في القلب به أثر القبول والصحة كان ذلك حجة للعمل به، بمنزلة التحري في باب القبلة عند انقطاع سائر الادلة، فإن تحكيم القلب فيه جائز ويجب العمل بما يقع في قلب من ابتلي به من أنه جهة الكعبة، وعليه دل قول رسول الله (ص) لوابصة بن معبد رضي الله عنه: ضع يدك على صدرك واستفت قلبك، فما حك في صدرك فدعه وإن أفتاك الناس به فعرفنا أن العدالة تحصل بصفة الا خالة ثم العرض على الاصول بعد ذلك احتياط والعمل به قبله جائز، بمنزلة ما لو كان الشاهد معلوم العدالة عند القاضي فإن العمل بشهادته جائز له، والعرض على المزكين بعد ذلك نوع احتياط، فإن لم يعجل ورجع إلى المزكين فهو احتياط أخذ به لجواز أن يظهر له بالرجوع إليهم ما لم يكن معلوما له، قال: وهذا بخلاف شهادة الشاهد فإن بصفة الصلاحية هناك لا تثبت العدالة، لان الشاهد مبتلى بالامر والنهي، وهو أمين فيما اؤتمن من حقوق الشرع، ويتوهم منه أداء الامانة فيكون عدلا به والخيانة فلا يكون عدلا معه، وإذا لم يكن أداء الامانة منه معلوم القاضي لا يصير عدلا عنده ما لم يعرض حاله على المزكين. فأما الوصف الذي هو علة بعدما علم صفة الصلاحية فيه تصير عدالته معلومة إذ ليس فيه توهم الخيانة، فلهذا كان العرض على الاصول هنا احتياطا، فإن سلم عما يناقضه ويعارضه بكونه مطردا في الاصول فحكم وجوب العمل به يزداد وكادة، وإن ورد عليه نقض فذلك النقض جرح، بمنزلة الشاهد الذي هو معلوم العدالة إذا ظهر فيه طعن من بعض المزكين، فإن ذلك يكون جرحا في عدالته إلا أن يتبين له أنه لم يكن عدلا، والمعارضة دفع بمنزلة شاهد آخر يشهد بخلاف ما شهد به العدل. وأما الفريق الثاني فإنهم قالوا: كونه مخيلا أمر باطن لا يمكن إثباته

ص 184

على الخصم، وما لم تثبت صفة العدالة بما يكون حجة على الخصم لا يمكن إلزام الخصم به، وأثبتنا صفة العدالة فيه بما أثبتنا صفة الصلاحية وهو الملاءمة، فإن ذلك يكون بالعرض على العلل المنقولة عن السلف، حتى إذا علم الموافقة كان صالحا، وبعد صفة الصلاحية يحتمل أن لا يكون حجة، لان العلل الشرعية لا توجب الحكم بذواتها فلا بد من إثبات صفة العدالة فيه بالعرض على الاصول، حتى إذا كان مطردا سالما عن النقوض والمعارضات فحينئذ تثبت عدالته من قبل أن الاصول شهادة لله على أحكامه كما كان الرسول في حال حياته، فيكون العرض على الاصول وامتناع الاصول من رده بمنزلة العرض على رسول الله (ص) في حياته وسكوته عن الرد، وذلك دليل عدالته باعتبار أن السكوت بعد تحقق الحاجة إلى البيان لا يحل، فعرفنا أن بالعرض على الاصول تثبت العدالة، كما أن عدالة الشاهد تثبت بعرض حاله على المزكين. والفرق الثاني الذي قالوا ليس بقوي، فإن بعد ثبوت صفة الصلاحية للشاهد إنما بقي احتمال الكذب في أدائه، وهنا بعد ثبوت صفة الصلاحية بقي الاحتمال في أصله أن الشرع جعله علة للحكم أم لا، فإنه إن ورد عليه نقض أو معارضة يتبين به أن الشرع ما جعله علة للحكم، لان المناقضة اللازمة لا تكون في الحجج الشرعية، قال الله تعالى: *(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)* وكذلك المعارضة اللازمة لا تكون في الحجج الشرعية فإذا كان هناك مع بقاء الاحتمال في الوصف لا يكون حجة للعمل به فهنا مع بقاء الاحتمال في الاصل لان لا يكون حجة كان أولى، وكما أن طريق رفع ذلك الاحتمال هناك العرض على المزكين والادنى فيه اثنان، فالطريق هنا العرض على الاصول وأدنى ذلك أصلان، إذ لا نهاية للاعلى، وفي الوقوف على ذلك حرج بين، وبهذا التقرير يتبين أن العرض على جميع الاصول ليس بشرط عنده، كما ذهب إليه بعض شيوخنا وشيوخه، فإن من شرط ذلك لم يجد بدا من العمل بلا دليل،

ص 185

لانه وإن استقصى في العرض فالخصم يقول وراء هذا أصل آخر (هو) معارض أو ناقض لما يدعيه، فلا يجد بدا من أن يقول لم يقم عندي دليل النقض والمعارضة، ومثل هذا لا يصلح حجة لالزام الخصم على ما نبينه في بابه، قالوا: والذي يحقق ما ذكرنا أن المعجزة التي أوجبت علم اليقين كان طريق ثبوتها السلامة عن النقوض والمعارضات، كما قال تعالى: *(قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله)* قال تعالى: *(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)* فبهذا يتبين أن طريق إثبات الحجة لما لا نحس هذا. وأما علماؤنا إنهم يقولون: حاجتنا إلى إثبات دليل الحجة فيما لا يحس ولا يعاين، وطريق ذلك أثره الذي ظهر في موضع من المواضع، ألا ترى أن الطريق في معرفة عدالة الشاهد هذا، وهو أن ينظر إلى أثر دينه في منعه عن ارتكاب ما يعتقد فيه الحرمة، فإذا ظهر أثر ذلك في سائر المواضع يترجح جانب الصدق في شهادته بطريق الاستدلال بالاثر، وهو أن الظاهر أنه ينزجر عن شهادة الزور لاعتقاده الحرمة فيه. وكذلك الدلالة على إثبات الصانع تكون بآثار صنعته بطريق الوصف والبيان على وجه مجمع عليه، كما نبينه في موضعه. وكذلك في المحسوسات كالجرح ونحو ذلك، فإنه يستدل عليه بأثره حسا، والاستدلال بالمحسوس لغير المحسوس يكون بالاثر أيضا، فتبين أن ما به يصير الوصف حجة بعد الصلاحية بالملاءمة على ما قرره الخصم وهو ظهور أثره في الاصول، فأما الا خالة فهو عبارة عن مجرد الظن إذ الخيال والظن واحد، والظن لا يغني من الحق شيئا. وأحسن العبارات فيه أن يجعل بمنزلة الالهام وهو لا يصلح للالزام على الغير، على ما نبينه، ثم هذا شيء في الباطن لا يطلع عليه غير صاحبه ومثله لا يكون حجة على الغير، كالتحري الذي استشهد به، فإن ما يؤدي إليه تحري الواحد لا يكون حجة على أصحابه، حتى لا يلزمهم اتباعه في تلك الجهة، وكلامنا فيما يكون حجة

ص 186

لالزام الغير العمل به، ثم كل خصم يتمكن من أن يقول يخايل في قلبي أثر القبول والصحة للوصف الذي دعاه، بل للحكم الذي هو المقصود، وصفة التعارض لا يجوز أن يكون لازما في الحجج الشرعية كصفة المناقضة. وكذلك الاطراد لا يستقيم أن يجعل دليل كونه حجة، لانه عبارة عن عموم شهادة هذا الوصف في الاصول فيكون نظير كثرة أداء الشهادة من الشاهدين في الحوادث عند القاضي، أو تكرار الاداء منه في حادثة واحدة وذلك لا يكون موجبا عدالته. قوله بأن الاصول مزكون كالرسول، قلنا: لا كذلك، بل كل أصل شاهد، فالاصول كجماعة الشهود أو عدد الرواة للخبر، ودليل صحة الخبر وكونه حجة إنما يطلب من متن الحديث، فالاثر للوصف بمنزلة دليل الصحة من متن الخبر، والاطراد في الاصول بمنزلة كثرة الرواة، فكيف يستقيم أن يجعل الاصول مزكين ولا معرفة لهم بهذا الوصف وحاله، وأنى تكون التزكية ممن لا خبرة له ولا معرفة بحال الشاهد؟ وما قالوا: إن المعجزة بمثل هذا صارت حجة فهو غلط، وإنما صارت حجة بكونها خارجة عن حد مقدور البشر، فإن القرآن بهذه الصفة، ولكن الكفار كانوا يتعنتون فيقولون إنه من جنس كلام البشر، كما أخبر الله تعالى عنهم *(قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا)* فطولبوا بالاتيان بمثله ليظهر به تعنتهم فإنهم لو قدروا على ذلك ما صبروا على الامتناع عنه إلى القتال وفيه ذهاب نفوسهم وأموالهم. فإن قيل: في اعتبار الاثر اعتبار ما لا يمكن الوقوف فيه على حد معلوم يعقل أو يظهر للخصوم. قلنا: لا كذلك فإن الاثر فيما يحس معلوم حسا كأثر المشي على الارض، وأثر الجراحة على البدن، وأثر الاسهال في الدواء المسهل، وفيما يعقل معلوم بطريق اللغة نحو عدالة الشاهد، فإنه يعلم بأثر دينه في المنع كما بينا، وهذا الاثر الذي ادعيناه يظهر للخصم بالتأمل، فإنه عبارة عن أثر ظاهر في بعض المواضع سوى المتنازع فيه، وهو موافق

ص 187

للعلل المنقولة عن رسول الله (ص) وعن الصحابة والسلف من الفقهاء، رضوان الله عليهم أجمعين. فمن ذلك قول رسول الله (ص) في الهرة: إنها من الطوافين عليكم والطوافات لانها علة مؤثرة فيما يرجع إلى التخفيف، لانه عبارة عن عموم البلوى والضرورة في سؤره، وقد ظهر تأثير الضرورة في إسقاط حكم الحرمة أصلا بالنص، وهو قوله تعالى: *(فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)* والاشارة إليه لدفع نجاسة سؤره أو لاثبات حكم التخفيف في سؤره يكون استدلالا له بعلة مؤثرة. وكذلك قوله عليه السلام: إنها دم عرق انفجر فإنه استدلال بعلة مؤثرة في نقض الطهارة، وهو أن الدم في نفسه نجس، وبالانفجار يصل إلى موضع يجب تطهير ذلك الموضع منه، ووجوب التطهير لا يكون إلا بعد وجود ما يعدم الطهارة. فإن قيل: هذا ليس بتعليل منه لانتقاض الطهارة بدم الاستحاضة بل لبيان أنه ليس بدم الحيض. قلنا: قد قال أولا ليست بالحيضة، وهذا اللفظ كاف لهذا المقصود فلا بد من أن يحمل قوله (ولكنها دم عرق انفجر) على فائدة جديدة وليس ذلك إلا بيان علة للحدث الموجب للطهارة. وقال عليه السلام لعمر رضي الله عنه في القبلة: أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك؟ فهذا إشارة إلى علة مؤثرة، أي الفطر ضد الصوم، وإنما يتأدى الصوم بالكف عن اقتضاء الشهوتين، فكما أن اقتضاء شهوة البطن بما يصل إلى الحلق لا بما يصل إلى الفم حتى لا تكون المضمضة موجبة للفطر، فكذلك اقتضاء شهوة الفرج يكون بالايلاج أو الانزال لا بمجرد القبلة التي هي المقدمة. وكذلك قوله للخثعمية: أرأيت لو كان على أبيك دين؟ الحديث، هو إشارة إلى العلة المؤثرة وهو أن صاحب الحق يقبل من غير من عليه الحق إذا جاء بحقه فأداه على سبيل الاحسان والمساهلة مع من عليه الحق، والله هو المحسن المتفضل على عباده فهو أحق من أن يقبل منك. وقال في حرمة الصدقة على بني هاشم: أرأيت لو تضمضت بماء أكنت شاربه؟ ففيه إشارة إلى علة مؤثرة وهو

ص 188

أن الصدقة من أوساخ الناس لكونها مطهرة من الذنوب فهي كالغسالة المستعملة، والامتناع من شرب ذلك يكون بطريق الاخذ بمعالي الامور، فكذلك حرمة الصدقة على بني هاشم يكون على وجه التعظيم والاكرام لهم ليكون لهم خصوصية بما هو من معالي الامور. وكذلك الصحابة حين اختلفوا في الجد مع الاخوة اشتغلوا بالتعليل لاظهار صفة القرب بالوادي الذي تتشعب منه الانهار والشجرة التي ينبت منها الاغصان، وما ذلك إلا باعتبار المؤثر في العلم بتفاوت القرب بطريق محسوس، وابن عباس علل في ذلك بقوله: ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الاب أبا. فهو استدلال المؤثر من حيث اعتبار أحد الطرفين بالطرف الآخر في القرب. وقال عمر لعبادة بن الصامت حين قال: ما أرى النار تحل شيئا في الطلاء أليس يكون خمرا ثم يكون خلا فتشربه، فهذا استدلال بمؤثر وهو التغيير بالطباع. وعلل محمد في كتاب الطلاق فيمن قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ثم طلقها ثلاثا أن اليمين لا يبقى، لانه ذهب تطليقات ذلك الملك كله، وهذا تعليل بوصف مؤثر، فإن اليمين لا تنعقد إلا في الملك باعتبار تطليقات مملوكة أو مضافة إلى الملك، والاضافة إلى الملك لم توجد هنا، فعرفنا أنها انعقدت على التطليقات المملوكة، وقد أوقع كلها والكل من كل شيء لا يتصور فيه تعدد، فعرفنا أنه لم يبق شيء من الجزاء واليمين شرط وجزاء، فكما لا يتصور انعقادها بدون الجزاء لا يتصور بقاؤها إذا لم يبق شيء من الجزاء. وقال أبو حنيفة رحمه الله فيمن اشترى قريبه مع غيره حتى عتق نصيبه منه لا يضمن لشريكه شيئا، لان شريكه رضي بالذي وقع به العتق بعينه، يعني ملك القريب الذي هو متمم لعلة العتق، وهذا تعليل بوصف مؤثر، فإن ضمان العتق إنما يجب بالافساد أو الاتلاف لملك الشريك فيكون واجبا بطريق الجبران له ورضاه بالسبب يغني عن الحاجة إلى الجبران، لان الحاجة إلى ذلك لدفع الضرر عنه وقد اندفع ذلك حكما حين رضي به كما لو أذن له نصا أن يعتقه. وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله فيمن أودع صبيا مالا فاستهلكه

ص 189

لا ضمان عليه، لانه سلطه على ما فعل، أي حين مكنه من المال، فقد سلطه على إتلافه حسا، والتسليط يخرج فعل المسلط من أن يكون جناية في حق المسلط، ثم بقوله: احفظ، جعل التسليط مقصورا على الحفظ بطريق العقد، وهذا في حق البالغ صحيح وفي حق الصبي لا يصح أصلا وفي حق العبد المحجور لا يصح في حالة الرق. وعلل الشافعي في الزنا أنه لا يوجب حرمة المصاهرة، وقال: الزنا فعل رجمت عليه والنكاح أمر حمدت عليه، فهذا استدلال في الفرق بوصف مؤثر، أي ثبوت حرمة المصاهرة بطريق النعمة والكرامة، فيجوز أن يكون سبب الكرامة ما يحمد المرء عليه ولا يجوز أن يكون سببه ما يعاقب المرء عليه وهو الزنا الموجب للرجم. وقال: النكاح لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال، لان النكاح ليس بمال. وهذا تعليل بوصف مؤثر، يعني أن المال مبتذل وملك النكاح مصون عن الابتذال، وفي شهادة النساء مع الرجال ضرب شبهة أو هي حجة ضرورة فما يكون مبتذلا تجري المساهلة فيه وتكثر البلوى والحاجة إليه فيمكن إثباته بحجة فيها شبهة أو بما هو حجة ضرورة، فأما ما يكون مصونا عن الابتذال فإن البلوى لا تكثر فيه وهو عظيم الخطر أيضا فلا يثبت إلا بحجة أصلية خالية عن الشبهة، فعرفنا أن طريق تعليل السلف هو الاشارة إلى الوصف المؤثر، فعلى هذا النمط يكون أكثر ما عللنا به في الخلافيات. منها أن علماءنا قالوا في أنه لا يشترط التكرار في المسح بالرأس لاكمال السنة إنه مسح فلا يسن تكراره (كالمسح بالخف والتيمم. وقال الشافعي: هو ركن أصلي في الطهارة فيسن فيه التكرار) كالغسل في المغسولات، فكان المؤثر ما قلنا، لان في لفظ المسح ما يدل على التخفيف، فإن المسح يكون أيسر من الغسل لا محالة، وتأدى الفرض في هذا المحل بفعل المسح دليل التخفيف أيضا، وكون الاستيعاب فيه ليس بشرط بخلاف المغسولات تخفيف آخر، والاكتفاء بالمرة الواحدة لاقامة الفرض والسنة من باب التخفيف، ففي قولنا مسح إشارة إلى ما هو مؤثر فيه وليس في قوله ركن إشارة إلى ما ينفيه، ثم المقصود بالسنة

ص 190

الاكمال، وفي الممسوح لما لم يكن الاستيعاب شرطا فبالمرة الواحدة مع الاستيعاب يحصل الاكمال، فعرفنا أنه يصير به مؤديا الفريضة والسنة، وفي المغسولات لما كان الاستيعاب شرطا لا يحصل بالمرة إلا إقامة الفرض فلا بد من التكرار لاقامة السنة، وليس في قوله ركن إشارة إلى هذا الفرق، وفي قولنا مسح إشارة إليه، فكان المؤثر ما قلنا. وقلنا في صوم الشهر بمطلق النية إنه يتأدى لانه صوم عين وهو يقول لا بد من نية الفرض لانه صوم فرض، فكان المؤثر ما قلنا، لان المقصود بالنية في الاصل التمييز ولا يراد بنية الجهة إلا التمييز بين تلك الجهة وغيرها، وإذا كان المشروع في هذا الزمان عينا ليس معه غيره، يصاب بمطلق الاسم فارتفعت الحاجة إلى الجهة للتمييز، وليس في صفة الفرضية ما ينفي هذا التعيين حتى يثبت به مساس الحاجة إلى نية الجهة للتمييز. وقلنا في الضرورة إذا حج بنية النفل لا يقع حجة عن الفرض، لانها عبادة تتأدى بأركان معلومة بأسبابها كالصلاة، وهذا إشارة إلى وصف مؤثر وهو أن تتأدى هذه العبادة بمباشرة أركانها لا بوقتها، فصحة أداء هذه الاركان في الوقت فرضا لا ينفي صحة أدائها نفلا، وإذا بقي الاداء بصفة النفلية مشروعا من هذا الوجه فتعيينه جهة النفل بالنية صادق محله، فيجب اعتباره لا محالة بخلاف الصوم في الشهر. وعللنا في الثيب الصغيرة أن الاب يزوجها لانها صغيرة ولا يزوج البكر البالغة إلا برضاها لانها بالغة، والخصم قال في الثيب الصغيرة لا يزوجها أبوها من غير رضاها لانها ثيب، وفي البكر البالغة يزوجها من غير رضاها لانها بكر فكان المؤثر ما قلنا، لان ثبوت ولاية الاستبداد بالعقد يكون على وجه النظر للمولى عليه باعتبار عجزه عن مباشرة ذلك بنفسه مع حاجته إلى مقصوده كالنفقة، والمؤثر في ذلك الصغر والبلوغ دون الثيابة والبكارة. وكذلك في سائر المواضع إنما ظهر الاثر للصغر والبلوغ في الولاية لا للثيابة والبكارة،

ص 191

يعني الولاية في المال والولاية على الذكر، فعرفنا أنا سلكنا طريق السلف، في الاستدلال بالوصف (المؤثر). فإن قيل: كيف يستقيم هذا والقياس لا يكون إلا بفرع وأصل، فإن المقايسة تقدير الشيء بالشئ، وبمجرد ذكر الوصف بدون الرد إلى الاصل لا يكون قياسا. قلنا قد قال بعض مشايخنا: هذا النوع من التعليل عند ذكر الاصل يكون مقايسة وبدون ذكر الاصل يكون استدلالا بعلة مستنبطة بالرأي، بمنزلة ما قاله الخصم إن تعليل النص بعلة تتعدى إلى الفرع يكون مقايسة وبعلة لا تتعدى لا يكون مقايسة، لكن يكون بيان علة شرعية للحكم قال رضي الله عنه: والاصح عندي أن نقول: هو قياس على كل حال، فإن مثل هذا الوصف يكون له أصل في الشرع لا محالة ولكن يستغنى عن ذكره لوضوحه، وربما لا يقع الاستغناء عنه فنذكره. فمما يقع الاستغناء عن ذكره ما قلنا في إيداع الصبي لانه سلطه على ذلك فإنه بهذا الوصف يكون مقيسا على أصل واضح وهو أن من أباح لصبي طعاما فتناوله لم يضمن، لانه بالاباحة سلطه على تناوله، وتركنا ذكر هذا الاصل لوضوحه. ومما يذكر فيه الاصل ما قال علماؤنا في طول الحرة إنه لا يمنع نكاح الامة، لان كل نكاح يصح من العبد بإذن المولى فهو صحيح من الحر كنكاح حرة، وهذا إشارة إلى معنى مؤثر وهو أن الرق ينصف الحل الذي يبتنى عليه عقد النكاح شرعا ولا يبدله بحل آخر، فيكون الرقيق في النصف الباقي بمنزلة الحر في الكل، لانه ذلك الحل بعينه ولكن في هذا المعنى بعض الغموض فتقع الحاجة إلى ذكر الاصل. وكذلك عللنا في جواز نكاح الامة الكتابية للمسلم قلنا كل امرأة يجوز لمسلم نكاحها إذا كانت مسلمة يجوز له نكاحها إذا كانت كتابية كالحرة، وهذا إشارة إلى معنى مؤثر وهو أن تأثير الرق في تنصيف الحل، وما يبتنى على الحل الذي في جانب المرأة غير متعدد ليتحقق معنى التنصيف في عدد، فإن المرأة لا تحل إلا لرجل واحد فيظهر حكم التنصيف في الاحوال، وهو

ص 192

أن الامة من المحللات منفردة عن الحرة، ومن المحرمات مضمومة إلى الحرة فلا يتزوجها على حرة ويتزوجها إذا لم يكن تحته حرة، ثم النصف الباقي في جانب الامة هو الثابت في حق الحرة، فإذا كان بهذا الحل يتزوج الحرة مسلمة كانت أو كتابية عرفنا أنه يتزوج الامة مسلمة كانت أو كتابية، ولكن في هذا الكلام بعض الغموض فيذكر الاصل عند التعليل، فعرفنا أن جميع ما ذكرنا استدلال بالقياس في الحقيقة وأنه موافق لطريق السلف في تعليل الاحكام الشرعية.

 فصل: الحكم

 حكم العلة التي نسميها قياسا أو علة ثابتة بالرأي تعدية حكم النص بها إلى فرع لا نص فيه عندنا. وعلى قول الشافعي حكمها تعلق الحكم في المنصوص بها، فأما التعدية بها جائز وليس بواجب حتى يكون التعليل بدونها صحيحا. وإنما يتبين هذا بفصلين سبق بيانهما: أحدهما تعليل الاصل بما لا يتعدى لمنع قياس غيره عليه، عندنا لا يكون صحيحا وعنده يصح. والثاني التعدية بالتعليل إلى محل منصوص عليه لا يصح عندنا خلافا له. ثم حجته في هذه المسألة اعتبار العلل الشرعية بالعلل العقلية كما أن الوجود هناك يتعلق بما هو علة له، فالوجوب في العلل الشرعية يتعلق بالعلة ويكون هو الحكم المطلوب بها دون التعدية، وإنما نعني بالوجوب وجوب العمل على وجه يبقى فيه احتمال الخطأ. واعتبر العلة المستنبطة من النص بالعلة المنصوص عليها في الشرع، فكما أن الحكم هناك يتعلق بالعلة وتكون علة صحيحة بدون التعدية فكذلك هنا، ألا ترى أن الاسباب الموجبة للحدود والكفارات جعلت سببا شرعا ليتعلق الحكم بها بالنص من غير تعدية إلى محل آخر، فكذلك العلل الشرعية يتعلق الحكم بها في المنصوص تعدى بها إلى محل آخر أو لم يتعد. والجواب ما هو حجتنا. أن نقول: ما ينازعنا فيه من العلة لا يكون حجة للحكم إلا بعد النص كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث معاذ: فإن لم تجده في الكتاب والسنة؟

ص 193

قال: اجتهد رأيي. وما يكون عاملا بعد النص كان شرط عمله انعدام النص في المحل الذي يعمل فيه، فعرفنا أنه لا عمل له في محل منصوص، وإذا لم يجز أن يكون عاملا على وجه المعارضة بحكم النص بخلافه عرفنا أنه لا عمل له في موضع النص فلا يمكن أن يجعل حكمه تعلق حكم الشرع به في المنصوص، يوضحه أن بالاجماع هذه العلة لا يجوز أن يتغير بها حكم النص، ومعلوم أن التغيير دون الابطال، فإذا كان الحكم في المنصوص مضافا إلى النص قبل التعليل، فلو قلنا بالتعليل يصير مضافا إلى العلة كان إبطالا، ولا شك أنه يكون تغييرا، على معنى أن فيه إخراج سائر أوصاف النص من أن يكون الحكم مضافا إليها، وكما لا يجوز إخراج بعض المحال الذي تناوله النص من حكم النص بالتعليل لا يجوز إخراج بعض الاوصاف عن ذلك بالتعليل، يوضحه أن العلة ما يتغير بها حكم الحال، ومعلوم أن حكم النص لا يتغير بالعلة في نفسه، فعرفنا أنه يتغير بها الحال في محل آخر وهو المحل الذي تعدى إليه الحكم، فيثبت فيه بها بعد أن لم يكن ثابتا، وهذا لا يتحقق في علة لا توجب تعدية الحكم، فهذا تبين أن حكم العلة على الخصوص تعدية الحكم لا إيجاب الحكم بها ابتداء، بمنزلة الحوالة فإنها لما كانت مشتقة من التحويل كان حكمها الخاص تحول الدين الواجب بها من ذمة إلى ذمة من غير أن تكون مؤثرة في إيجاب الدين بها ابتداء. ومن فهم هذا سقط عنه مؤنة الحفظ في ثلاثة أرباع ما يستعمل الناس القياس فيه، لان جميع ما يتكلم الناس فيه على سبيل المقايسة أربعة أقسام: الموجب للحكم وصفته، وما هو شرط في العلة وصفته، والحكم الثابت في الشرع وصفته، والحكم المتفق على كونه مشروعا معلوما بصفته أهو مقصور على المحل الذي ورد فيه النص أم تعدى إلى غيره من المحال الذي يماثله بالتعليل. وإنما يجوز استعمال القياس في القسم الرابع، فأما الاقسام الثلاثة فلا مدخل للقياس فيها في الاثبات ولا في النفي، لان الموجب ما جعله الشرع موجبا على ما بينا أن العلل الشرعية لا تكون موجبة بذواتها بل بجعل الشرع إياها موجبة، فلا مجال للرأي في معرفة ذلك وإنما طريق معرفته السماع ممن

ص 194

ينزل عليه الوحي. وصفة الشيء معتبر بأصله، وكما لا يكون موجبا بدون ركنه لا يكون موجبا بدون شرطه، ولا مدخل للرأي في معرفة شرطه ولا صفة شرطه، كما لا مدخل للرأي في أصله، وكذلك نصب الحكم ابتداء إلى الشرع، وكما ليس إلى العباد ولاية نصب الاسباب فليس إليهم ولاية نصب الاحكام، لانها مشروعة بطريق الابتلاء فأنى يهتدى بالرأي إليه، كيف يتحقق معنى الابتلاء فيما يستنبط بالرأي ابتداء، فعرفنا أن التعليل في هذه الاقسام لا يصادف محلها، والاسباب الشرعية لا تصح بدون المحل كالبيع المضاف إلى الحر والنكاح المضاف إلى محرمة، ولان حكم التعليل التعدية، ففي هذه المواضع الثلاثة لا تتحقق التعدية، فكان استعمال القياس في هذه المواضع الثلاثة بمنزلة الحوالة قبل وجوب الدين وذلك باطل لخلوه عن حكمه وهو التحويل. وكما لا يجوز استعمال القياس لاثبات الحكم في هذه المواضع لا يجوز للنفي، لان المنكر لذلك يدعي أنه غير مشروع وما ليس بمشروع كيف يمكن إثباته بدليل شرعي، وإن كان يدعي رفعه بعد الثبوت وهو نسخ وإثبات النسخ بالتعليل بالرأي لا يجوز، فعرفنا أن ما يصنعه بعض الناس من استعمال القياس في مثل هذه المواضع ليس بفقه وأنه يكون من قلة التأمل، يتبين ذلك عند النظر. وأما بيان الموجب في مسائل. منها (أن) الجنس بانفراده هل يحرم النسأ، فإن الكلام فيه بطريق القياس للاثبات أو للنفي باطل، وإنما طريق إثباته الرجوع إلى النص أو دلالته أو إشارته أو مقتضاه، لان الثابت بهذه الوجوه كالثابت بالنص والموجب للحكم لا يعرف إلا بالنص كالحكم الواجب، فإنه إذا وقع الاختلاف في الوتر هل هي بمنزلة الفريضة زيادة على الخمس كان الاشتغال بإثباته بطريق القياس خطأ، وإنما أثبت ذلك أبو حنيفة رحمه الله بالنص المروي فيه وهو قوله عليه السلام: إن الله تعالى زادكم صلاة، ألا وهي الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر فكذلك طريق

ص 195

إثبات كون الجنس علة الرجوع إلى النص ودلالته، وهو أنه قد ثبت بالنص حرمة الفضل الخالي عن العوض إذا كان مشروطا في العقد، وباشتراط الاجل يتوهم فضل مال خال عن المقابلة باعتبار صفة الحلول في أحد الجانبين، ولم يسقط اعتباره بالنص لكونه حاصلا بصنع العباد، والشبهة تعمل عمل الحقيقة فيما بني أمره على الاحتياط، فكما أن حقيقة الفضل تكون ربا فكذلك شبهة الفضل، وللجنسية أثر في إظهار ذلك، وكما أن القياس لا يكون طريقا للاثبات هنا لا يكون طريقا للنفي، لان من ينفي إنما يتمسك بالعدم الذي هو أصل، فعليه الاشتغال بإفساد دليل خصمه، لانه متى ثبت أن ما ادعاه الخصم دليل صحيح لا يبقى له حق التمسك بعدم الدليل، فأما الاشتغال بالقياس ليثبت العدم به يكون ظاهر الفساد. ونظيره الاختلاف في أن السفر هل يكون مسقطا شطر الصلاة فإنه لا مدخل للقياس هنا في الاثبات ولا في النفي، وإنما يعرف ذلك بالنص ودلالته وهو قول رسول الله (ص): هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ولا معنى للتصدق هنا سوى الاسقاط، ولا مرد لما أسقطه الله عن عباده بوجه. وكذلك الخلاف في أن استتار القدم بالخف هل يكون مانعا من سراية الحدث إلى القدم لا مدخل للقياس فيه في النفي ولا في الاثبات، وإنما يثبت ذلك بالنص ودلالته وهو قوله عليه السلام: إني أدخلتهما وهما طاهرتان ففي هذا إشارة إلى أن الحدث ما سرى إلى القدمين لاستتارهما بالخف. وكذلك الخلاف في أن مجرد الإسلام بدون الاحراز بالدار هل يوجب تقوم النفس والمال أم لا، وأن خبر الواحد هل يكون موجبا للعلم، وأن القياس هل يكون موجبا للعمل به؟ هذا كله لا مدخل للتعليل بالرأي في إثباته ولا في نفيه. وأما بيان صفته فنحو الاختلاف الواقع في النصاب أنه موجب للزكاة بصفة النماء أم بدون هذا الوصف موجب، وفي اليمين أنها موجبة للكفارة بصفة أنها مقصودة أم بصفة أنها معقودة، وفي القتل بغير حق أنه موجب

ص 196

للكفارة بصفة أنه حرام أم اشتماله على الوصفين الحظر والاباحة من وجهين، وكفارة الفطر أنها واجبة بفعل موصوف بأنه جماع أو هو فطر بجناية متكاملة؟ فإن هذا كله مما لا مدخل للرأي في إثبات الوصف المطلوب به ولا في نفيه. وبيان الشرط فنحو اختلاف العلماء في اشتراط الشهود في النكاح للحل، واختلافهم في اشتراط التسمية في الذكاة للحل فإنه لا مدخل للرأي في معرفة ما هو شرط في السبب شرعا لا في الاثبات ولا في النفي، كما لا مدخل له في أصل السبب بأن بالشرط يرتفع الحكم قبل وجوده، فإذا لم يكن للرأي مدخل فيما يثبته عرفنا أنه لا مدخل للرأي فيما يرفعه أو يعدمه. وكذلك الخلاف في أن البلوغ عن عقل هل يكون شرطا لوجوب حقوق الله تعالى المالية نحو الزكوات والكفارات، ولايجاب ما هو عقوبة مالية نحو حرمان الميراث بالقتل، أو دفع الاختلاف في أن البلوغ عن عقل هل يكون شرطا لصحة الاداء فيما لا يحتمل النسخ والتبديل، فإن هذا لا مدخل للقياس فيه في الاثبات والنفي. وكذلك في أن بلوغ الدعوة هل تكون شرطا لاهدار النفوس والاموال بسبب الكفر، فإن هذا مما لا يمكن معرفته بالقياس، والتعليل بالرأي فيه للاثبات أو النفي يكون ساقطا. وكذلك الاختلاف في اشتراط الولي في النكاح، فأما في ثبوت الولاية للمرأة على نفسها يجوز استعمال القياس، لان المعنى الذي به تثبت الولاية للمرء على نفسه معقول وهو متفق عليه في الاصل وهو الرجل، فيستقيم تعدية الحكم به إلى المرأة. فإن قيل: فقد اختلفنا في التقابض في المجلس أنه هل يشترط في بيع الطعام بالطعام؟ وقد تكلمتم بالقياس، وإليه أشار محمد فقال: من قبل أنه حاضر ليس له أجل. قلنا: لان هناك قد وجد أصل كان هذا الحكم، وهو بقاء العقد بعد الافتراق عن المجلس من غير قبض فيه ثابت بالاتفاق، وهو بيع الطعام وسائر الامتعة بالدراهم فأمكن تعليل ذلك الاصل لتعدية الحكم به إلى الفرع، والخصم وجد أصلا للحكم الذي ادعاه وهو فساد

ص 197

العقد بعد الافتراق من غير قبض كما في الصرف استقام تعليله أيضا لتعدية الحكم به إلى الفرع، ومثله لا يوجد في اشتراط التسمية في الذكاة، فإن الخصم لا يجد فيه أصلا يسقط فيه اشتراط التسمية لحل الذبيحة، فإن أصله الناسي، ونحن لا نقول هناك سقط شرط التسمية، ولكن نجعل الناسي كالمسمى حكما بدلالة النص، كما يجعل الناسي كالمباشر لركن الصوم وهو الامساك حكما بالنص، وهذا معلول عن القياس وتعليل مثله لتعدية الحكم لا يجوز. وكذلك في النكاح فإنه لا يجد أصلا يكون فيه اتفاق على صحة النكاح وثبوت الحل به بغير شهود حتى لعلل ذلك الاصل فيتعدى الحكم فيه إلى هذا الفرع. فإن قيل: لا كذلك، فإن النكاح عقد معاملة حتى يصح من الكافر والمسلم، وقد وجدنا أصلا في عقود المعاملات يسقط اشتراط الشهود لصحته شرعا وهو البيع وإن كان يترتب عليه حل الاستمتاع، فنعلل ذلك الاصل لتعدية الحكم به إلى الفرع. قلنا: من حيث إن النكاح معاملة أمد لا يشترط فيه الشهود، فخصم هذا المعلل يقول بموجب علته، وإنما يدعي شرط الشهود فيه اعتبار أنه عقد مشروع للتناسل وأنه يرد على محل له خطر، وهو مصون عن الابتذال، فلاظهار خطره يختص شرط الشهود، ولا نجد أصلا في المشروعات بهذه الصفة لتعليل ذلك الاصل فيعدى الحكم به إلى الفرع. وأما بيان صفته فنحو الاختلاف في صفة العدالة في شهود النكاح وفي صفة الذكورة، وفي صفة الموالاة والترتيب والنية في الوضوء، فإن الوضوء شرط الصلاة، فكما لا مدخل للرأي في إثبات أصل الشرط به فكذلك في إثبات الصفة فيما هو شرط. وأما بيان الحكم فنحو الاختلاف في الركعة الواحدة، أهي صلاة مشروعة أم لا؟ وفي القراءة المشروعة في الاخريين بالاتفاق، أهي فريضة

ص 198

أم لا، وفي القراءة المفروضة في الاوليين، أتتعين الفاتحة ركنا أم لا؟ فإنه لا مدخل للرأي في إثبات هذا الحكم، وفي المسح بالخف والمسح على الجرموق وعلى العمامة أهو جائز أم لا؟ وأمثلة هذا في الكتب تكثر، فإن كل موضع يكون الكلام فيه في الحكم ابتداء أهو ثابت شرعا أم لا، لا مدخل للرأي في ذلك حتى يشتغل فيه بالتعليل للاثبات أو للنفي. وأما بيان صفته فنحو الاختلاف في صفة صدقة الفطر والاضحية والوتر، والاختلاف في صفة الابانة بالطلاق عند القصد إليه من غير جعل، وفي صفة الملك الثابت بالنكاح وهو الذي يقابله البدل أهو مشترك بين الزوجين أم يختص الرجل به؟ وفي صفة ملك النكاح أنه في حكم ملك المنفعة أو في حكم ملك العين، وفي صفة الطلاق المشروع أنه مباح بأصل الوضع أو مكروه، والاباحة صفة عارضة فيه للحاجة، وفي صفة البيع المشروع حال بقاء المتعاقدين في المجلس (أنه لازم بنفس العقد أو متراخ إلى قطع المجلس)، وفي صفة الملك الثابت بعقد الرهن أنه ملك اليد من جنس ما يثبت به حقيقة الاستيفاء أو ملك المطالبة بالبيع في الدين من جنس ما يثبت بالكفالة، وأمثلة هذه الفصول في الكتب أكثر من أن تحصى، ذكرنا من كل قسم طرفا لبيان الطريق للمتأمل فيه. وأما بيان القسم الرابع: فنحو الاختلاف في المسح بالرأس أنه هل يسن تثليثه فإنه يوجد في الطهارة ما هو مسح ولا يكون التكرار فيه مسنونا فيمكن تعليل ذلك المتفق عليه لتعدية الحكم به إلى الفرع المختلف فيه، ويوجد في أعضاء الطهارة ما يكون التكرار فيه مسنونا بالاتفاق، فيمكن تعليل ذلك لتعدية الحكم به إلى الفرع فيكون القياس في موضعه من الجانبين، ثم الكلام بعد ذلك يقع في الترجيح. وكذلك إذا وقع الاختلاف في اشتراط تعيين النية في

ص 199

الصوم، فإن هناك أصلا متفقا عليه يتأدى فيه الصوم بمطلق النية، وهو النفل الذي هو عين مشروعا في وقته فيمكن تعليل ذلك لتعدية الحكم به إلى الفرع، وهناك أصل في الصوم الذي هو فرض لا يتأدى إلا بتعيين النية، وهو صوم القضاء فيمكن تعليل ذلك لتعدية الحكم به إلى الفرع فيكون القياس في موضعه من الجانبين، ثم الكلام في الترجيح بعد ذلك. فإن قيل: فقد تكلمتم بالقياس في العذر بصوم يوم النحر وكون الصوم فيه مشروعا أم لا حكم لا مدخل للرأي فيه ثم اشتغلتم بالمقايسة فيه. قلنا: لانا وجدنا أصلا متفقا عليه في كون الصوم مشروعا فيه وهو سائر الايام فأمكن تعدية الحكم بتعليله إلى الفرع، ثم يبقى وراء ذلك الكلام في أن النهي الذي جاء لمعنى في صفة هذا اليوم وهو أنه يوم عيد عمله يكون في إفساد المشروع مع بقائه في الاصل مشروعا أو في رفع المشروع وانتساخه، وهذا لا نثبته بالرأي وإنما نثبته بدليل النص، وهو الرجوع إلى موجب النهي أنه الانتهاء على وجه يبقى للمنتهي اختيار فيه كما قررنا. وقد تبين بما ذكرنا أن المجيب متى اشتغل بالتعليل بالرأي فالذي يحق على السائل أن ينظر أولا أن المتنازع فيه هل هو محل له وأن ما نذكره من العلة هل يتعدى الحكم به إلى الفرع، فإن لم يكن بهذه الصفة لا يشتغل بالاعتراض على علته ولكن يتبين له بطريق الفقه أن هذا التعليل في غير موضعه، وأنه مما لا يصلح أن يكون حجة حتى يتحول المجيب إلى شيء آخر أو يبين بطريق الفقه أنه تعليل صحيح في محله موافق لطريق السلف في تعليلاتهم ليكون ما يجري بعد ذلك بينهما على طريق الفقه.

 فصل: في بيان القياس والاستحسان

 قال رضي الله عنه: اعلم بأن القسم الرابع الذي بيناه في الفصل المتقدم يشتمل على هذين الوجهين، وهو القياس والاستحسان عندنا، وقد طعن بعض الفقهاء في تصنيف له على عبارة علمائنا في الكتب: إلا أنا تركنا القياس واستحسنا، وقال: القائلون بالاستحسان يتركون العمل بالقياس الذي هو حجة شرعية

ص 200

ويزعمون أنهم يستحسنون ذلك، وكيف يستحسن ترك الحجة والعمل بما ليس بحجة لاتباع هوى أو شهوة نفس؟ فإن كانوا يريدون ترك القياس الذي هو حجة فالحجة الشرعية هو حق وماذا بعد الحق إلا الضلال، وإن كانوا يريدون ترك القياس الباطل شرعا فالباطل مما لا يشتغل بذكره. وقد ذكروا في كتبهم في بعض المواضع أنا نأخذ بالقياس، فإن كان المراد هذا فكيف يجوزون الاخذ بالباطل. وذكر من هذا الجنس ما يكون دليل قلة الحياء وقلة الورع وكثرة التهور لقائله. فنقول وبالله التوفيق: الاستحسان لغة: وجود الشيء حسنا، يقول الرجل: استحسنت كذا: أي اعتقدته حسنا على ضد الاستقباح، أو معناه: طلب الاحسن للاتباع الذي هو مأمور به، كما قال تعالى: *(فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)* وهو في لسان الفقهاء نوعان: العمل بالاجتهاد وغالب الرأي في تقدير ما جعله الشرع موكولا إلى آرائنا نحو المتعة المذكورة في قوله تعالى: *(متاعا بالمعروف حقا على المحسنين)* أوجب ذلك بحسب اليسار والعسرة وشرط أن يكون بالمعروف، فعرفنا أن المراد ما يعرف استحسانه بغالب الرأي. وكذلك قوله تعالى: *(وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف)* ولا يظن بأحد من الفقهاء أنه يخالف هذا النوع من الاستحسان. والنوع الآخر هو الدليل الذي يكون معارضا للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الاوهام قبل إنعام التأمل فيه، وبعد إنعام التأمل في حكم الحادثة وأشباهها من الاصول يظهر أن الدليل الذي عارضه فوقه في القوة، فإن العمل به هو الواجب، فسموا ذلك استحسانا للتمييز بين هذا النوع من الدليل وبين الظاهر الذي تسبق إليه الاوهام قبل التأمل على معنى أنه يمال بالحكم عن ذلك الظاهر لكونه مستحسنا لقوة دليله، وهو نظير عبارات أهل الصناعات في التمييز بين الطرق لمعرفة المراد، فإن أهل النحو يقولون: هذا نصب على التفسير، وهذا نصب على المصدر، وهذا نصب على الظرف، وهذا نصب على التعجب،

ص 201

وما وضعوا هذه العبارات إلا للتمييز بين الادوات الناصبة. وأهل العروض يقولون: هذا من البحر الطويل، وهذا من البحر المتقارب، وهذا من البحر المديد، فكذلك استعمال علمائنا عبارة القياس والاستحسان للتمييز بين الدليلين المتعارضين، وتخصيص أحدهما بالاستحسان لكون العمل به مستحسنا، ولكونه مائلا عن سنن القياس الظاهر، فكان هذا الاسم مستعارا لوجود معنى الاسم فيه، بمنزلة الصلاة فإنها اسم للدعاء ثم أطلقت على العبادة المشتملة على الاركان من الافعال والاقوال لما فيها من الدعاء عادة. ثم استحسان العمل بأقوى الدليلين لا يكون من اتباع الهوى وشهوة النفس في شيء. وقد قال الشافعي في نظائر هذا: أستحب ذلك. وأي فرق بين من يقول أستحسن كذا، وبين من يقول أستحبه؟ بل الاستحسان أفصح اللغتين، وأقرب إلى موافقة عبارة الشرع في هذا المراد. وظن بعض المتأخرين من أصحابنا أن العمل بالاستحسان أولى مع جواز العمل بالقياس في موضع الاستحسان، وشبه ذلك بالطرد مع المؤثر، فإن العمل بالمؤثر أولى وإن كان العمل بالطرد جائزا. قال رضي الله عنه: وهذا وهم عندي فإن اللفظ المذكور في الكتب في أكثر المسائل: إلا أنا تركنا هذا القياس، والمتروك لا يجوز العمل به، وتارة يقول إلا أني أستقبح ذلك، وما يجوز العمل به من الدليل شرعا فاستقباحه يكون كفرا، فعرفنا أن الصحيح ترك القياس أصلا في الموضع الذي نأخذ بالاستحسان، وبه يتبين أن العمل بالاستحسان لا يكون مع قيام المعارضة ولكن باعتبار سقوط الاضعف بالاقوى أصلا. وقد قال في كتاب السرقة: إذا دخل جماعة البيت وجمعوا المتاع فحملوه على ظهر أحدهم فأخرجه وخرجوا معه: في القياس القطع على الحمال خاصة، وفي الاستحسان يقطعون جميعا. وقال في كتاب الحدود: إذا اختلف شهود الزنا في والزاويتين في بيت واحد: في القياس لا يحد المشهود عليه، وفي الاستحسان يقام الحد. ومعلوم أن الحد يسقط بالشبهة وأدنى درجات المعارض ايراث الشبهة، فكيف يستحسن إقامة الحد في موضع الشبهة. وكذلك قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله:

ص 202

تصحح ردة الصبي استحسانا. ومعلوم أن عند قيام دليل المعارضة يرجح الموجب للاسلام وإن كان هو أضعف كالمولود بين كافر ومسلمة، وكيف يستحسن الحكم بالردة مع بقاء دليل موجب الإسلام، فعرفنا أن القياس متروك أصلا في الموضع الذي يعمل فيه بالاستحسان، وإنما سميناهما تعارض الدليلين باعتبار أصل الوضع في كل واحد من النوعين، لا أن بينهما معارضة في موضع واحد. والدليل على أن المراد هذا ما قال في كتاب الطلاق: إذا قال لامرأته إذا حضت فأنت طالق فقالت: قد حضت فكذبها الزوج فإنها لا تصدق في القياس باعتبار الظاهر وهو أن الحيض شرط الطلاق كدخولها الدار وكلامها زيدا، وفي الاستحسان تطلق، لان الحيض شيء في باطنها لا يقف عليه غيرها فلا بد من قبول قولها فيه بمنزلة المحبة والبغض. قال: وقد يدخل في هذا الاستحسان بعض القياس يعني به أن في سائر الاحكام المتعلقة بالحيض قبلنا قولها نحو حرمة الوطئ وانقضاء العدة، فاعتبار هذا الحكم بسائر الاحكام نوع قياس، ثم ترك القياس الاول أصلا لقوة دليل الاستحسان، وهو أنها مأمورة بالاخبار عما في رحمها منهية عن الكتمان، قال تعالى: *(ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن)* ومن ضرورة النهي عن الكتمان كونها أمينة في الاظهار، وإليه أشار أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: من الامانة أن تؤتمن المرأة على ما في رحمها. فصار ذلك القياس متروكا باعتراض هذا الدليل القوي الموجب للعمل به. فالحاصل: أن ترك القياس يكون بالنص تارة، وبالاجماع أخرى، وبالضرورة أخرى. فأما تركه بالنص فهو فيما أشار إليه أبو حنيفة رحمه الله في أكل الناسي للصوم: لولا قول الناس لقلت يقضي. يعني به رواية الاثر عن رسول الله (ص)، وهو نص يجب العمل به بعد ثبوته واعتقاد البطلان في كل قياس يخالفه. وهذا اللفظ نظير ما قال عمر رضي الله عنه في قصة الجنين: لقد كدنا أن نعمل برأينا فيما فيه أثر.

ص 203

وكذلك القياس يأبى جواز السلم باعتبار أن المعقود عليه معدوم عند العقد، تركناه بالنص وهو الرخصة الثابتة بقوله عليه السلام: (ورخص في السلم) وأما ترك القياس بدليل الاجماع فنحو الاستصناع فيما فيه للناس تعامل، فإن القياس يأبى جوازه، تركنا القياس للاجماع على التعامل به فيما بين الناس من لدن رسول الله (ص) إلى يومنا هذا (وهذا) لان القياس فيه احتمال الخطأ والغلط، فبالنص أو الاجماع يتعين فيه جهة الخطأ فيه، فيكون واجب الترك لا جائز العمل به في الموضع الذي تعين جهة الخطأ فيه. وأما الترك لاجل الضرورة فنحو الحكم بطهارة الآبار والحياض بعدما نجست، والحكم بطهارة الثوب النجس إذا غسل في الاجانات، فإن القياس يأبى جوازه، لان ما يرد عليه النجاسة يتنجس بملاقاته، تركناه للضرورة المحوجة إلى ذلك لعامة الناس، فإن الحرج مدفوع بالنص، وفي موضع الضرورة يتحقق معنى الحرج لو أخذ فيه بالقياس فكان متروكا بالنص. وكذلك جواز عقد الاجارة فإنه ثابت بخلاف القياس لحاجة الناس إلى ذلك، فإن العقد على المنافع بعد وجودها لا يتحقق لانها لا تبقى زمانين فلا بد من إقامة العين المنتفع بها مقام الاجارة في حكم جواز العقد لحاجة الناس إلى ذلك. ثم كل واحد منهما نوعان في الحاصل: فأحد نوعي القياس ما ضعف أثره وهو ظاهر جلي، والنوع الآخر منه ما ظهر فساده واستتر وجه صحته وأثره. وأحد نوعي الاستحسان ما قوي أثره وإن كان خفيا، والثاني ما ظهر أثره وخفي وجه الفساد فيه. وإنما يكون الترجيح بقوة الاثر لا بالظهور ولا بالخفاء، لما بينا أن العلة الموجبة للعمل بها شرعا ما تكون مؤثرة، وضعيف الاثر يكون ساقطا في مقابلة قوي الاثر ظاهرا كان أو خفيا، بمنزلة الدنيا مع العقبى. فالدنيا ظاهرة والعقبى باطنة، ثم ترجح العقبى حتى وجب الاشتغال بطلبها والاعراض عن طلب الدنيا لقوة الاثر من حيث البقاء

ص 204

والخلود والصفاء، فكذلك القلب مع النفس والعقل مع البصر. وبيان ما يسقط اعتباره من القياس لقوة الاثر الاستحسان الذي هو القياس المستحسن في سؤر سباع الطير، فالقياس فيه النجاسة اعتبارا بسؤر سباع الوحش بعلة حرمة التناول، وفي الاستحسان لا يكون نجسا لان السباع غير محرم الانتفاع بها، فعرفنا أن عينها ليست بنجسة، وإنما كانت نجاسة سؤر سباع الوحش باعتبار حرمة الاكل، لانها تشرب بلسانها وهو رطب من لعابها ولعابها يتجلب من لحمها، وهذا لا يوجد في سباع الطير، لانها تأخذ الماء بمنقارها ثم تبتلعه ومنقارها عظم جاف، والعظم لا يكون نجسا من الميت فكيف يكون نجسا من الحي. ثم تأيد هذا بالعلة المنصوص عليها في الهرة، فإن معنى البلوى يتحقق في سؤر سباع الطير، لانها تنقض من الهواء ولا يمكن صون الاواني عنها خصوصا في الصحارى، وبهذا يتبين أن من ادعى أن القول بالاستحسان قول بتخصيص العلة فقد أخطأ، لان بما ذكرنا تبين أن المعنى الموجب لنجاسة سؤر سباع الوحش الرطوبة النجسة في الآلة التي تشرب بها وقد انعدم ذلك في سباع الطير فانعدم الحكم لانعدام العلة وذلك لا يكون من تخصيص العلة في شيء، وعلى اعتبار الصورة يتراءى ذلك ولكن يتبين عند التأمل انعدام العلة أيضا، لان العلة وجوب التحرز عن الرطوبة النجسة التي يمكن التحرز عنها من غير حرج، وقد صار هذا معلوما بالتنصيص على هذا التعليل في الهرة ففي كل موضع ينعدم بعض أوصاف العلة كان انعدام الحكم لانعدام العلة فلا يكون تخصيصا وبيان الاستحسان الذي يظهر أثره ويخفى فساده مع القياس الذي يستتر أثره ويكون قويا في نفسه حتى يؤخذ فيه بالقياس ويترك الاستحسان فيما يقول في كتاب الصلاة: إذا قرأ المصلي سورة في آخرها سجدة فركع بها في القياس تجزيه، وفي الاستحسان لا تجزيه عن السجود، وبالقياس نأخذ، فوجه الاستحسان أن الركوع غير السجود وضعا، ألا ترى أن الركوع في الصلاة

ص 205

لا ينوب عن سجود الصلاة فلا ينوب عن سجدة التلاوة بطريق الاولى، لان القرب بين ركوع الصلاة وسجودها أظهر من حيث إن كل واحد منهما موجب التحريمة، ولو تلا خارج الصلاة فركع لها لم يجز عن السجدة ففي الصلاة أولى، لان الركوع هنا مستحق لجهة أخرى وهناك لا، وفي القياس قال: الركوع والسجود يتشابهان، قال تعالى: *(وخر راكعا)*: أي ساجدا، ولكن هذا من حيث الظاهر مجاز محض، ووجه الاستحسان من حيث الظاهر اعتبار شبه صحيح ولكن قوة الاثر للقياس مستتر ووجه الفساد في الاستحسان خفي. وبيان ذلك أنه ليس المقصود من السجدة عند التلاوة عين السجدة، ولهذا لا تكون السجدة الواحدة قربة مقصودة بنفسها حتى لا تلزم بالنذر إنما المقصود إظهار التواضع وإظهار المخالفة للذين امتنعوا من السجود استكبارا منهم، كما أخبر الله عنهم في مواضع السجدة. قلنا: ومعنى التواضع يحصل بالركوع ولكن شرطه أن يكون بطريق هو عبادة وهذا يوجد في الصلاة، لان الركوع فيها عبادة كالسجود ولا يوجد خارج الصلاة، ولقوة الاثر من هذا الوجه أخذنا بالقياس وإن كان مستترا وسقط اعتبار الجانب الآخر في مقابلته. وكذلك قال في البيوع: إذا وقع الاختلاف بين المسلم إليه ورب السلم في ذرعان المسلم فيه في القياس يتحالفان، وبالقياس نأخذ، وفي الاستحسان القول قول المسلم إليه. ووجه الاستحسان أن المسلم فيه مبيع فالاختلاف في ذرعانه لا يكون اختلافا في أصله بل في صفته من حيث الطول والسعة، وذلك لا يوجب التحالف كالاختلاف في ذرعان الثوب المبيع بعينه. ووجه القياس أنهما اختلفا في المستحق بعقد السلم وذلك يوجب التحالف، ثم أثر القياس مستتر ولكنه قوي من حيث إن عند السلم إنما يعقد بالاوصاف المذكورة لا بالاشارة إلى العين، فكان الموصوف بأنه خمس في سبع غير الموصوف بأنه أربع في ستة، فبهذا يتبين أن الاختلاف

ص 206

هنا في أصل المستحق بالعقد فأخذنا بالقياس لهذا. وقال في الرهن: إذا ادعى رجلان كل واحد منهما عينا في يد رجل أنه مرهون عنده بدين له عليه وأقاما البينة، ففي الاستحسان يقضي بأنه مرهون عندهما، بمنزلة ما لو رهن عينا من رجلين، وهو قياس البيع في ذلك، وفي القياس تبطل البينتان، لانه تعذر القضاء بالرهن لكل واحد منهما في جميعه فإن المحل يضيق عن ذلك، وفي نصفه لان الشيوع يمنع صحة الرهن، وأخذنا بالقياس لقوة أثره المستتر، وهو أن كل واحد منهما هنا إنما يثبت الحق لنفسه بتسمية على حدة، وكل واحد منهما غير راض بمزاحمة الآخر معه في ملك اليد المستفاد بعقد الرهن، بخلاف الرهن من رجلين فهناك العقد واحد فيمكن إثبات موجب العقد به متحدا في المحل وذلك لا يمكن هنا، وهذا النوع يعز وجوده في الكتب لا يوجد إلا قليلا، فأما النوع المتقدم فهو في الكتب أكثر من أن يحصى. ثم فرق ما بين الاستحسان الذي يكون بالنص أو الاجماع، وبين ما يكون بالقياس الخفي المستحسن أن حكم هذا النوع يتعدى وحكم النوع الآخر لا يتعدى، لما بينا أن حكم القياس الشرعي التعدية، فهذا الخفي وإن اختص باسم الاستحسان لمعنى فهو لا يخرج من أن يكون قياسا شرعيا فيكون حكمه التعدية، والاول معدول به عن القياس بالنص وهو لا يحتمل التعدية كما بينا. وبيانه فيما إذا اختلف البائع والمشتري في مقدار الثمن والمبيع غير مقبوض، في القياس القول قول المشتري، لان البائع يدعي عليه زيادة في حقه وهو الثمن، والمشتري منكر واليمين بالشرع في جانب المنكر، والمشتري لا يدعي على البائع شيئا في الظاهر إذ المبيع صار مملوكا له بالعقد، ولكن في الاستحسان يتخالفان، لان المشتري يدعي على البائع وجوب تسليم المبيع إليه عند إحضار أقل الثمنين والبائع منكر لذلك، والبيع كما يوجب استحقاق الملك على البائع

ص 207

يوجب استحقاق اليد عليه عند وصول الثمن إليه، ثم هذا الاستحسان لكونه قياسا خفيا يتعدى حكمه إلى الاجازة وإلى النكاح في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وإلى ما لو وقع الاختلاف بين الورثة بعد موت المتبايعين، وإلى ما بعد هلاك السلعة إذا أخلف بدلا بأن قتل العبد المبيع قبل القبض ولو كان الاختلاف في الثمن بينهما بعد قبض المبيع، فإن حكم التخالف عند قيام السلعة فيه يثبت بالنص بخلاف القياس فلا يحتمل التعدية، حتى إذا كان بعد هلاك السلعة لا يجري التخالف سواء أخلف بدلا أو لم يخلف. وفي الاجازة بعد استيفاء المعقود عليه لا يجري التخالف، وإن كان الاختلاف بين الورثة بعد قبض السلعة لا يجري التخالف. وقد يكون القياس الذي في مقابلة الاستحسان الذي قلنا أصله مستحسن ثابت بالاثر نحو ما قال في الصلاة: وإذا نام في صلاته فاحتلم: في القياس يغتسل ويبني كما إذا سبقه الحدث، وذلك مستحسن بالاثر، وفي الاستحسان لا يبني. وفي هذا النوع المأخوذ به هو الاستحسان على كل حال، لانه في الحقيقة رجوع إلى القياس الاصلي ببيان يظهر به أن هذا ليس في معنى المعدول به من القياس الاصلي بالاثر من كل وجه، فلو ثبت الحكم فيه كان بطريق التعدية، والمعدول به عن القياس بالاثر لا يحتمل التعدية، وذلك البيان أن الحدث الصغرى لا يحوجه إلى كشف العورة ولا إلى عمل كثير، وتكثر البلوى فيه من الصلاة، بخلاف الحدث الكبرى، فإذا لم يكن في معناه من كل ما له كان إثبات الحكم فيه بطريق التعدية لا بالنص بعينه وذلك لا وجه له. فتبين بجميع ما ذكرنا أن القول بالاستحسان لا يكون تخصيص العلة في شيء، ولكن في اختبار هذة العبارة اتباع الكتاب والسنة والعلماء من السلف، وقد قال رسول الله (ص): ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وكثيرا ما كان يستعمل ابن مسعود هذه العبارة، ومالك بن أنس في كتابه ذكر لفظ الاستحسان في مواضع. وقال الشافعي رحمه الله: أستحسن في المتعة ثلاثين درهما. فعرفنا أنه لا طعن في هذه العبارة، ومن حيث المعنى

ص 208

هو قول بانعدام الحكم عند انعدام العلة، وأحد لا يخالف هذا، فإنا إذا جوزنا دخول الحمام بأجر بطريق الاستحسان فإنما تركنا القول بالفساد الذي يوجبه القياس لانعدام علة الفساد، وهو أن فساد العقد بسبب جهالة المعقود عليه ليس لعين الجهالة بل لانها تفضي إلى منازعة مانعة عن التسليم، والتسلم وهذا لا يوجد هنا وفي نظائره، فكان انعدام الحكم لانعدام العلة لا أن يكون بطريق تخصيص العلة.

 فصل: في بيان فساد القول بجواز التخصيص في العلل الشرعية

 قال رضي الله عنه: زعم أهل الطرد أن الذي يقولون بالعلل المؤثرة ويجعلون التأثير مصححا للعلل الشرعية لا يجدون بدا من القول بتخصيص العلل الشرعية، وهو غلط عظيم كما نبينه. وزعم بعض أصحابنا أن التخصيص في العلل الشرعية جائز وأنه غير مخالف لطريق السلف ولا لمذهب أهل السنة، وذلك خطأ عظيم من قائله، فإن مذهب من هو مرضي من سلفنا أنه لا يجوز التخصيص في العلل الشرعية، ومن جوز ذلك فهو مخالف لاهل السنة، مائل إلى أقاويل المعتزلة في أصولهم. وصورة التخصيص أن المعلل إذا أورد عليه فصل يكون الجواب فيه بخلاف ما يروم إثباته بعلته، يقول موجب علتي كذا إلا أنه ظهر مانع فصار مخصوصا باعتبار ذلك المانع، بمنزلة العام الذي يخص منه بعض ما يتناوله بالدليل الموجب للتخصيص. ثم من جوز ذلك قال: التخصيص غير المناقضة لغة وشرعا وفقها وإجماعا. أما اللغة فلان النقض إبطال فعل قد سبق بفعل نشأه كنقض البنيان. والتخصيص بيان أن المخصوص لم يدخل في الجملة فكيف يكون نقضا؟ ألا ترى أن ضد النقض البناء والتأليف، وضد الخصوص العموم. ومن حيث السنة التخصيص جائز في النصوص الشرعية من الكتاب والسنة والتناقض لا يجوز فيهما بحال. ومن حيث الاجماع فالقياس الشرعي يترك العمل به في بعض المواضع بالنص أو الاجماع أو الضرورة، وذلك يكون تخصيصا لا مناقضة، ولهذا بقي ذلك القياس موجبا للعمل في غير ذلك الموضع،

ص 209

والقياس المنتقض فاسد لا يجوز العمل به في موضع. ومن حيث المعقول إن المعلل متى ذكر وصفا صالحا وادعى أن الحكم متعلق بذلك الوصف فيورد عليه فصل يوجد فيه ذلك الوصف ويكون الحكم بخلافه، فإنه يحتمل أن يكون ذلك لفساد في أصل علته، ويحتمل أن يكون ذلك لمانع منع ثبوت الحكم، ألا ترى أن سبب وجوب الزكاة ملك النصاب النامي، ثم يمتنع وجوب الزكاة بعد وجوده لمانع وهو انعدام حصول النماء بمضي الحول، ولم يكن ذلك دليل فساد السبب، والبيع بشرط الخيار يمنع ثبوت الملك به لمانع وهو الخيار المشروط لا لفساد أصل السبب وهو البيع. فأما إذا قال هذا الموضع صار مخصوصا من علتي لمانع فقد ادعى شيئا محتملا فيكون مطالبا بالحجة، فإن أبرز مانعا صالحا فقد أثبت ما ادعاه بالحجة فيكون ذلك مقبولا منه وإلا فقد سقط احتجاجه، لان المحتمل لا يكون حجة، وبه فارق المدعي التخصيص في النص، فإنه لا يطالب بإقامة الدليل على ما يدعي أنه صار مخصوصا مما استدل به من عموم الكتاب والسنة، لانه ليس فيما استدل به احتمال الفساد، فكان جهة التخصيص متعينا فيه بالاجماع، وهنا في علته احتمال الفساد، فما لم يتبين دليل الخصوص فيما ادعى أنه مخصوص من علة لا ينتفي عنه معنى الفساد، فلهذا لا يقبل منه ما لم يتبين المانع. ثم جعل القائل الموانع خمسة أقسام: ما يمنع أصل العلة، وما يمنع تمام العلة، وما يمنع ابتداء الحكم، وما يمنع تمام الحكم، وما يمنع لزوم الحكم، وذلك يتبين كله حسا وحكما، فمن حيث الحس يتبين هذا كله في الرمي، فإن انقطاع الوتر أو انكسار فوق السهم يمنع أصل الفعل الذي هو رمي بعد تمام قصد الرامي إلى مباشرته، وإصابة السهم حائطا أو شجرة ترده عن سننه يمنع تمام العلة بالوصول إلى المرمى، ودفع المرمي إليه عن نفسه بترس يجعله أمامه يمنع ابتداء الحكم الذي يكون الرمي لاجله بعد تمام العلة بالوصول إلى المقصد وذلك الجرح والقتل، ومداواته الجراحة بعدما أصابه حتى اندمل وبرأ يمنع تمام الحكم، وإذا صار به صاحب فراش ثم تطاول حتى أمن الموت منه يمنع

ص 210

لزوم الحكم، بمنزلة صاحب الفالج إذا تطاول ما به وامن الموت منه كان بمنزلة الصحيح في تصرفاته. وفي الحكميات اضافة البيع الحر يمنع انعقاد اصل العلة، واضافة إلى مال الغير يمنع انعقاد تمام العلة في حق المالك حتى يتعين جهة البطلان فيه بموته، واشتراط الخيار من المالك لنفسه في البيع يمنع ابتداء الحكم، وثبوت خيار الرؤية للمشترى يمنع الحكم حتى لا تتم الصفقة معه، وثبوت خيار العيب يمنع لزوم الحكم حتى يتمكن من رده بعد تمام الصفقة بالنقض. والحجة لعلمائنا في ابطال القول بتخصيص العلة الاستدلال بالكتاب، والمعقول، والبيان الذى لا يمكن انكاره. اما الكتاب فقوله تعالى: (قل الذكرين حرم ام الانثيين، اما اشتملت عليه ارحام الانثيين نبئونى بعلم ان كنتم صادقين) ففيه مطالبة الكفار ببيان العلة فيما ادعوا فيه الحرمة على وجه لا مدفع لهم فصاروا محجوجين به. وذلك الوجه انهم إذا بينوا احد هذه المعاني ان الحرمة لاجله انتقض عليهم باقرار هم بالحل في الموضع الاخر مع ذلك المعنى فيه، ولو كان التخصيص في علل الاحكام الشرعية جائزا ما كانوا محجوجين، فان احدا لا يعجز من ان يقول امتنع ثبوت حكم الحرمة في ذلك الموضع لمانع، وقد كانوا عقلاء يعتقدون الحل في الموضع الاخر لشبهة أو معنى تصورهم عندهم. وقوله تعالى: (نبئونى بعلم) اشارة إلى ان المصير إلى تخصيص العلل الشرعية ليس من العلم في شيء فيكون جهلا. واما المعقول فلان العلل الشرعية حكمها التعدية كما قررنا، وبدون التعدية لا تكون صحيحة اصلا، لانها خالية عن موجبها، وإذا جاز قيام المانع في بعض المواضع الذى يتعدى الحكم إليه بهذه العلة جاز قيامه في جميع المواضع فيؤدى إلى القول بانها علة صحيحة من غير ان يتعدى الحكم بها إلى شيء من الفروع، وقد اثبتنا فساد هذا القول بالدليل. ثم ان كان تعدية الحكم بها إلى فرع  

الصفحة السابقة الصفحة التالية

أصول السرخسي

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب