ص 211
دليل صحتها فانعدام تعدية الحكم بها إلى فرع اخر توجد فيه تلك العلة دليل فسادها،
ومع مساواة دليل الصحة والفساد لا تثبت الحجة الشرعية موجبة للعمل يقرره ان المانع
الذى يدعى في الموضع المخصوص لابد ان يكون ثابتا بمثل ما ثبتت به العلة الموجبة
للحكم، لانه إذا كان دونه لا يصلح دافعا له ولا مانعا لحكمه، وإذا كان مثلا له فذلك
المانع يمكن تعليله بعلة توجب تعدية حكم النفى إلى سائر الفروع مثل الذى علله
المعلل بما اشار إليه من الوصف لاثبات الحكم فيه فتتحقق المعارضة بينهما من هذه
الوجه، واى مناقصة ابين من التعارض على وجه المضادة بصفة التساوى ثم قد بينا فيما
سبق ان دليل الخصوص يشبه النسخ بصيغة والاستثناء بحكمه، فانه مستقل بنفسه كدليل
النسخ ولا يكون ذلك الا مقارنا معنى كالاستثناء، وواحد من هذين الوجهين لا يتحقق في
العلل، فان نسخ العلة بالعلة لا يجوز والخصم يجوز ان يكون المانع علة مثل العلة
التى يدعى تخصيصها، وكيف يجوز النسخ والعلة فيها احتمال الفساد لكونها مستنبطة
بالراى. فإذا ظهر ما يمنع العمل بها اصلا تتعين جهة الفساد فيها، بخلاف النص فانه
لا يحتمل جهة الفساد، فالنسخ يكون بيانا لمدة العمل به. ولهذا نوع بيان اخر، فان
بالخصوص يتبين انه معمول به في بعض المحال دون البعض، وذلك انما يجوز فيما يجوز
القول فيه بالنسخ مع صحته حتى يقال انه معمول به في بعض الاوقات دون البعض،
والاستثناء انما يكون في العبارات ليتبين به في بعض الاوقات دون البعض، والاستثناء
وذلك لا يتحقق في المعاني الخالصة. فيتبين بما ذكرنا ان القول بالتخصيص مستقيم في
النصوص من حيث ان بدليل الخصوص لا يتمكن شبهة الفساد في النص بوجه، بل يتبين ان اسم
النص لم يكن متناولا للموضع المخصوص، مع كون العام صحيحا موجبا للعمل قطعا قبل قيام
دليل الخصوص، فمن تخصيص العلة لا يجد بدا من القول بتصويب المجتهدين أجمع، وعصمته
الاجتهاد عن احتمال الخطأ والفساد كعصمة النص من ذلك،
ص 212
وهذا تصريح بأن كل مجتهد مصيب لما هو الحق حقيقة وأن الاجتهاد يوجب علم اليقين،
وفيه قول بوجوب الاصلح، وفيه من وجه آخر قول بالمنزلة بين المنزلتين، وبالخلود في
النار لاصحاب الكبائر إذا ماتوا قبل التوبة. فهذا معنى قولنا: إن في القول بجواز
تخصيص العلة ميلا إلى أصول المعتزلة من وجوه. ولكنا نقول: انعدام الحكم لا يكون إلا
بعد نقصان وصف أو زيادة وصف وهو الذي يسمونه مانعا مخصصا، وبهذه الزيادة والنقصان
تتغير العلة لا محالة، فيصير ما هو علة الحكم منعدما حكما، وعدم الحكم عند انعدام
العلة لا يكون من تخصيص العلة في شيء. وبيان هذا أن الموجب للزكاة شرعا هو النصاب
النامي الحولي، عرف بقوله عليه السلام: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)
والمراد نفي الوجوب، والعلل الشرعية لا توجب الحكم بذواتها بل بجعل الشرع إياها
موجبة على ما بينا أن الموجب هو الله تعالى، والاضافة إلى العلة لبيان أن الشرع
جعلها موجبة تيسيرا علينا، فإذا كانت بهذا الوصف موجبة شرعا عرفنا أن عند انعدام
هذا الوصف ينعدم الحكم لانعدام العلة الموجبة. ولا يلزمنا جواز الاداء لان العلة
الموجبة غير العلة المجوزة للاداء، وقد قررنا هذا فيما سبق أن الجزء الاول من الوقت
مجوز أداء الصلاة فرضا وإن لم يكن موجبا للاداء عينا مع أن هذا الوصف مؤثر، فإن
النماء الذي هو مقصود إنما يحصل بمضي المدة، ألا ترى أن الوجوب يتكرر بتكرر الحول
لتجدد معنى النماء بمضي كل حول، وكذلك البيع بشرط الخيار، فإن الموجب للملك شرعا
البيع المطلق ومع شرط الخيار لا يكون مطلقا بل بهذه الزيادة يصير البيع في حق الحكم
كالمتعلق بالشرط وقد بينا أن المتعلق بالشرط غير المطلق، ولصفة الاطلاق تأثير أيضا
فإن الموجب للملك بالنص التجارة عن تراض وتمام الرضا يكون عند إطلاق الايجاب لا مع
شرط الخيار، فظهر أن العلة تنعدم بزيادة وصف أو نقصان
ص 213
وصف، وهو الحاصل الذي يجب مراعاته، فإنهم يسمون هذا المعنى المغير مانعا مخصصا،
فيقولون: انعدام الحكم مع بقاء العلة بوجود مانع وذلك تخصيص كالنص العام يلحقه خصوص
فيبقى نصا فيما وراء موضع الخصوص. ونحن نقول: تنعدم العلة حين ثبت المغير فينعدم
الحكم لانعدام العلة، وهذا في العلل مستقيم، بخلاف النصوص فإن بالنص الخاص لا ينعدم
النص العام، وعلى هذا الطريق ما استحسنه علماؤنا من القياس في كتبهم، فإن الاستحسان
قد يكون بالنص، وبوجود النص تنعدم العلة الثابتة بالرأي، لانه لا معتبر بالعلة أصلا
في موضع النص ولا في معارضة حكم النص. وكذلك الاستحسان إذا كان بسبب الاجماع، لان
الاجماع كالنص من كتاب أو سنة في كونه موجبا العلم. وكذلك ما يكون عن ضرورة فإن
موضع الضرورة مجمع عليه أو منصوص عليه ولا يعتبر بالعلة في موضع النص فكان انعدام
الحكم في هذه المواضع لانعدام العلة وكذلك إذا كان الاستحسان بقياس مستحسن ظهر قوة
أثره، لما بينا أن الضعيف في معارضة القوي معدوم حكما. وبيان ما ذكرنا في أن النائم
إذا صب في حلقه ماء وهو صائم لم يفسد صومه على قول زفر، لانه معذور كالناسي أو أبلغ
منه، وفسد صومه عندنا لفوات ركن الصوم، والعبادة لا تتأدى بدون ركنها فيلزم على هذا
الناسي. فمن يجوز تخصيص العلة يقول: انعدم الحكم هناك لوجود مانع وهو الاثر فكان
مخصوصا من هذه العلة بهذا الطريق مع بقاء العلة. ونحن نقول: انعدم الحكم في الناسي
لانعدام العلة حكما، فإن النسيان لا صنع فيه لاحد من العباد، وقد ثبت بالنص أن الله
تعالى أطعمه وسقاه، وصار فعله في الاكل ساقط الاعتبار، وتفويت الركن إنما يكون بفعل
الاكل، فإذا لم يبق فعله في الاكل شرعا كان ركن الصوم قائما حكما، وإنما لم يحصل
الفطر هنا لانعدام العلة الموجبة للفطر، ثم النائم ليس في معناه، لان الفعل الذي
يفوت به ركن الصوم مضاف إلى العباد هنا فيبقى معتبرا مفوتا ركن
ص 214
الصوم، بخلاف إذا كان مضافا إلى من له الحق. وكذلك قلنا: إن المغصوب يصير مملوكا
للغاصب عند تقرر الضمان عليه، لان بهذا السبب لما تقرر الملك في ضمان القيمة وهو
حكم شرعى فيقرر الملك فيما يقابله فيلزم على هذا فصل المدبر من حيث انه يتقرر الملك
في قيمته للمغصوب منه ولا يثبت الملك في المدبر للغاصب، فمن يرى تخصيص العلة يقول
امتنع ثبوت الحكم في المدبر مع وجود العلة لمانع وهو انه غير محتمل للنقل من ملك
إلى ملك. ونحن نقول: انعدمت العلة الموجبة للملك في المدبر فينعدم الحكم لانعدام
العلة، وهذا لان العلة تقرر الملك في قيمة هي بدل عن العين وقيمة المدبر ليس ببدل
عن عينها، لان شرط كون القيمة بدلا عن العين ان تكون العين محتملا للتمليك وذلك لا
يوجد في المدبر، لان المدبر جرى فيه عتق من وجه والعتق في المحل يمنع وجوب قيمة
العين بسبب الغصب، ولكن الضمان واجب باعتبار الجناية التى تمكنت من الغاصب بتفويت
يده، لان مع جريان العتق فيه من وجه قد بقيت اليد والمالية مستحقة للمالك، فان
انعدام ذلك يعتمد ثبوت العتق في بقيت اليد كل وجه، فعرفنا انه انما انعدم الحكم
لانعدام العلة بوجود ما يغيرها. وكذلك إذا قلنا في الزنا انه ثبتت به حرمة
المصاهرة، لان ثبوت الحرمة في الاصل باعتبار الولد الذى يتخلق من الماءين فيصير
بواسطة الولد امهاتها وبناتها في حقه كامهاته وبناته، وابناؤه وآباؤه في حقها
كآبائها وابنائها. ثم الوطء في محل الحرث سبب لحصول هذا الولد فيقام مقامه، ويلزم
على هذا انه لا يتعدى الحرمة إلى الاخوات والعمات والخالات من الجانبين، فمن يقول
بتخصيص العلة يقول: امتنع ثبوت الحكم مع قيام العلة في هذه المواضع للنص أو
الاجماع. ونحن نقول، انما انعدم الحكم لانعدام العلة، لان في النص الموجب لحرمة
المصاهرة ذكر الامهات والبنات والاباء والابناء خاصة، فامتداد الحرمة إلى الاخوات
والعمات والخالات يكون تغييرا
ص 215
واثباتا لحرمة أخرى، لان المقصور غير الممتد، وانما يعلل المنصوص، ولا يجوز تبديل
المنصوص بالتعليل، فكان انعدام الحكم في هذه المواضع لانعدام العلة لا لمانع مع
قيام العلة. وكذلك ان الزم ان الموطوءة لا تحرم على الواطئ بواسطة الولد والقرب
بينهما امس، فالتخريج هكذا انه انما انعدم الحكم هناك لانعدام العلة باعتبار مورد
النص كما قررنا. وهذا اصل كبير، وفقه عظيم. من ترك التعنت وتامل عن انصاف يخرج له
جميع ما لم يذكر بما هو من نظائر ما ذكرنا عليه. وعمدة هذا الفقه معرفته دليل
الخصوص، فان النصين إذا كان احدهما عاما والاخر خاصا فالعام لا ينعدم بالخاص حقيقة
ولا حكما، وليس في واحد من النصين توهم الفساد، فعرفنا ان الخاص كان مخصصا للموضع
الذى تناوله من حكم العم مع بقاء العام حجة فيما وراء ذلك وان تمكن فيه نوع شبهة من
حيث انه صار كالمستعار فيما هو حقيقة حكم العام. فاما العلة وان كانت مؤثرة ففيها
احتمال الفساد والخطاء وهى تحتمل الاعدام حكما، فإذا جاء ما يغيرها جعلناها معدومة
حكما في ذلك الموضع، ثم انعدم الحكم لانعدام العلة، ولا يكون فيها شيء من معنى
التناقض، ولا يكون من التخصيص في شيء، والله اعلم.

باب وجوه الاحتجاج بما ليس بحجة
مطلقا

قال رضى الله عنه: فهذا الباب يشتمل على فصول. فالذي نبدأ به الاحتجاج بلا
دليل، فان العلماء اختلفوا فيه على أقاويل. قال بعضهم: لا دليل حجة للنافى على خصمه
ولا يكون حجة للمثبت. وقال بعضهم: هي حجة دافعة لا موجبة. والذى دل عليه مسائل
الشافعي رحمه الله انها حجة دافعة لابقاء ما ثبت بدليله لا لاثبات ما لم يعلم ثبوته
بدليله. والذى دل عليه مسائل اصحابنا ان هذا في حق الله تعالى، فاما في حق
ص 216
العباد لا تكون هي حجة لاحد الخصمين على الآخر في الدفع ولا في الايجاب لا في
الابقاء ولا في الاثبات ابتداء. فأما الفريق الاول احتجوا وقالوا: أقوى المناظرة ما
يكون في إثبات التوحيد وفي أمور النبوة، فقد علمنا الله تعالى الاحتجاج بلا دليل
على نفي الشرك بقوله: *(ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به)* ورسول الله (ص)
كان يجادل المشركين في إثبات نبوته، وكانوا ينفون ذلك وهو يثبت، ثم كانوا لا
يطالبون على هذا النفي بشيء فوق قولهم لا دليل على نبوته، واشتغل بعد جحودهم بإثبات
نبوته بالآيات المعجزة، والبراهين القاطعة، فعرفنا بهذا أن لا دليل حجة للنافي على
خصمه إلى أن يثبت الخصم ما يدعي ثبوته بالدليل، وهذا لان النافي إنما لا يطالب
بدليل لكونه متمسكا بالاصل وهو عدم الدليل الموجب أو المانع والمحرم أو المبيح،
ووجوب التمسك بالاصل إلى أن يظهر الدليل المغير له طريق في الشرع، ولهذا جعل الشرع
البينة في جانب المدعي لا في جانب المنكر، لانه متمسك بالاصل وهو أنه لا حق للغير
في ذمته ولا في يده وذلك حجة له على خصمه في الكف عن التعرض له ما لم يقم الدليل،
وأيد ما ذكرنا قوله تعالى: *(قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما)* الآية، فقد علم نبيه
عليه السلام الاحتجاج بعدم الدليل الموجب للحرمة على الذين كانوا يثبتون الحرمة في
أشياء كالسائبة والوصيلة والحام والبحيرة، فثبت بهذا أن لا دليل حجة للنافي على
خصمه. وهذا الذي ذهبوا إليه غير موافق لشيء من العلل المنقولة عن السلف في نفي
الحكم وإثباته وهو ينتهي إلى الجهل أيضا، فإنا نقول لهذا القائل: لا دليل على
الاثبات عندك أو عند غيرك فإن خصمك يدعي قيام الدليل عنده، وكما أن دعواه الدليل
عنده لا يكون حجة عليك حتى تبرزه فدعواك عليه أن لا دليل عندي لا يكون حجة عليه،
وإن قلت لا دليل عندي فهذا إقرار منك بالجهل والتقصير في الطلب، فكيف يكون حجة على
غيرك! وإن انعدم منك التقصير في الطلب فأنت معذور إذا لم تقف على الدليل وعذرك لا
يكون
ص 217
حجة على الغير أصلا، ألا ترى أن في زمان النبي عليه السلام كان الناسخ ينزل فيبلغ
ذلك بعض الناس دون البعض ومن لم يبلغه يكون معذورا في العمل بالمنسوخ ولا يكون ذلك
حجة له على غيره. فإن قيل: قولكم هذا غير موافق لتعليل السلف فاسد، وقد قال أبو
حنيفة رضي الله عنه: لا خمس في العنبر لان الاثر لم يرد به. وهذا احتجاج بلا دليل.
قلنا: هذا أن لو ذكر هذا اللفظ على سبيل الاحتجاج على من يوجب فيه الخمس وليس كذلك،
بل إنما ذكره على وجه بيان العذر لنفسه ثم علل فيه بعلة مؤثرة في موضع الاحتجاج على
الغير على ما ذكر محمد رحمه الله، فإنه قال: لا خمس في اللؤلؤ والعنبر. قلت: لم؟
قال: لانه بمنزلة السمك. قلت: وما بال السمك لا يجب فيه الخمس؟ قال: لانه بمنزلة
الماء. وهو إشارة إلى مؤثر، فإن الاصل في الخمس الغنائم وإنما يوجب الخمس فيما يصاب
مما كان أصله في يد العدو ووقع في يد المسلمين بإيجاف الخيل والركاب فيكون في معنى
الغنيمة، والمستخرج من البحار لم يكن في يد العدو قط، لان قهر الماء مانع قهرا آخر
على ذلك الموضع، ثم القياس أن لا يجب الخمس في شيء وإنما أوجب الخمس في بعض الاموال
بالاثر، فبين أن ما لم يرد فيه الاثر يؤخذ فيه بأصل القياس، وهذا لا يكون احتجاجا
بلا دليل. ثم نقول لهذا القائل: إنك بهذه المقالة تثبت شيئا لا محالة وهو صحة
اعتقادك أن لا دليل يوجب إثبات الحكم في هذه الحادثة فعليك الدليل لاثبات ما تدعي
صحته عندك، ولا دليل على خصمك لانه ينفي صحة اعتقادك هذا، ولا دليل على النافي
بزعمك، ثم قولك لا دليل شيء تقوله عن علم أو لا عن علم؟ فإن زعمت أنك تقوله عن علم
فالعلم الذي يحدث للمرء لا يكون إلا بدليل، وإن زعمت أنك تقوله لا عن علم فقد نهيت
عن ذلك، قال تعالى: *(وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)* وقال تعالى: *(بل كذبوا
بما لم يحيطوا بعلمه)*
ص 218
الاية، فما يكون مذموما منهيا عنه نصا فكيف يصلح حجة على الغير! وايد ما ذكرنا قوله
تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى، تلك امانيهم) الاية، فقد
علم رسوله مطالبة النافي باقامة الدليل وذلك تنصيص على ان لا دليل لا يكون حجة
والدليل عليه الخصومات، فان انكار الخصم لا يكون حجة له على المدعى بوجه ما حتى انه
بعد ما احضر مرة وجحد إذا طلب احضاره مرة اخرى احضره القاضى، وان طلب ان يكفله
بنفسه أو بالعين الذى فيه الدعوى اجيره القاضى على ذلك، وإذا طلب يمينه حلفه على
ذلك، فلو كان لا دليل حجة للنافى على خصمه لم يبق للمدعى عليه سبيل بعد انكاره
وقوله لا حجة للمدعى. فاما جعل الشرع القول قول المنكر فذلك باعتبار دليل من حيث
الظاهر، وهو ان المدعى عين في يده واليد دليل الملك ظاهرا، أو دين في ذمته وذمته
بريئة ظاهرا، ومع هذا قوله لا يكون حجة على خصمه وان حلف حتى لا يصير المدعى مقضيا
عليه بشيء، ولكنه لا يتعرض له ما لم يات بحجة يثبت بها الحق عليه. يحقق ما قلنا ان
الاصل هو التفاوت بين الناس في العلم بالادلة الشرعية، واليه اشار الله تعالى في
قوله: (وفوق كل ذى علم عليم) وهذا شبه المحسوس لمن يرجع إلى احوال الناس، فقد يقف
بعضهم على علم لا يقف عليه البعض، ومع هذا التفاوت لا يتمكن النافي من الاحتجاج بلا
دليل الا بعد وقوفه على كل علم يبتنى عليه احكام الشرع، ومن ادعى هذه الدرجة لنفسه
منا فهو متعنت لا يناظر، وكيف يتمكن احد من هذه الدعاوى مع قوله تعالى: (وما اوتيتم
من العلم الا قليلا) وإذا علمنا يقينا ان المحتج بلا دليل لم يبلغ جميع انواع العلم
عرفنا ان استدلاله بما لم يبلغه على الخصم باطل، ولهذا صح هذا النوع من الاحتجاج
فيما نص الله تعالى عليه، لان الله تعالى عالم بالاشياء كلها لا يعزب عنه مثقال ذرة
ولا تخفى عليه خافية، فبإخباره ان لا برهان لمن يدعى الشرك حصل لنا علم اليقين بانه
لا دليل على الشرك بوجه. وكذلك قوله تعالى، (قل لا اجد فيما اوحى إلى محرما) فقد
صار معلوما يقينا انه لا دليل على حرمة ذلك، فكان
ص 219
الاحتجاج صحيحا، ومثله لا يتصور فيما يحتج به النافي على خصمه. ولا نقول بان نفى
الكفار نبوة رسول الله وقولهم لا دليل على نبوته كان حجة لهم عليه بوجه، ولكن كان
ذلك اظهارا منهم لجهلهم، وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يزيل ذلك الجهل
عنهم باظهار المعجزات الدالة على نبوته. فاما اهل المقالة الثابتة فانهم قالوا
المنتفى معدوم والمعدوم ليس بشيء وانما يحتاج إلى الدليل لاثبات المدلول عليه،
ومعلوم ان العدم لا يكون متعلقا بدليل ولا بعدم الدليل، ولكن عدم الدليل يدل عليه
كما يدل الحدث على المحدث، ثم الدليل قد يكون قائما على الاثبات عند البعض دون
البعض، يقول النافي لا دليل على الاثبات محتمل يجوز ان يكون كما قال وهو انه ليس
فيه دليل مشروع عند احد، ويجوز ان يكون عليه دليل عند غيره ولم يبلغه، ودعوى المثبت
دليل الاثبات محتمل ايصا يجوز ان يكون صدقا بوجود الدليل عنده، ويجوز ان يكون كذبا
أو غلطا فاستوى الجانبان من هذا الوجه، كما ان دعوى المثبت الدليل لا يكون حجة على
خصمه ما لم يبرز الدليل لكونه محتملا والمحتمل لا فقول النافي لا دليل لا يكون حجة
على خصمه لكونه محتملا ولكنه دافع لدعوى المثبت عنه بطريق المساواة في الاحتمال.
فقلنا ان قوله: لا دليل، حجة دافعة لا موجبة. والشافعي يحتج بهذا الكلام ايضا لانه
يقول: إذا كان قوله لا دليل مستندا إلى دليل لا يخالف ما يقوله يكون دلك الدليل حجة
على الخصم لا بمجرد قوله لا دليل. وبيان هذا ان ما يكون محتملا للبقاء من الاحكام
والصحة في العلل والجواهر فانه إذا ثبت وجوه بالدليل يكون باقيا ما لم يعترض ما
يزيله، الا ترى ان الملك بالشراء متى ثبت، أو الحل بالنكاح متى ثبت، أو الحرمة
بالتطليقات الثلاث متى ثبت يكون باقيا، الا يعترض عليه
ص 220
ما يزيله فما يمضي من الازمنة بعد صحة الدليل المثبت للحكم يكون الحكم فيه باقيا
بذلك لدليل على احتمال أن يطرأ ما يزيله، وقبل ظهور طريان ما يزيله يكون الحكم
ثابتا بذلك الدليل، بمنزلة النص العام فإنه موجب للحكم في كل ما يتناوله على احتمال
قيام دليل الخصوص، فما لم يقم دليل الخصوص كان الحكم ثابتا بالعام وكان الاحتجاج به
على الخصم صحيحا، فكذلك قول القائل فيما هو منتف لا دليل على إثباته، أو فيما هو
ثابت بدليله لا دليل على نفيه يكون احتجاجا بذلك الدليل وذلك الدليل حجة على خصمه،
فأما ما لا يستند إلى دليل فلا يبقى فيه إلا الاحتجاج بقوله لا دليل فذلك يكون حجة
كما قلتم. وعلى هذا الاصل قال: الصلح على الانكار باطل، لان نفي المنكر دعوى المدعي
يستند إلى دليل وهو المعلوم من براءة ذمته في الاصل أو اليد التي هي دليل لملك له
في عين المدعي، فيكون ذلك حجة له على خصمه في إبقاء ما ثبت عليه، وبعد ما ظهرت
براءة ذمته في حق المدعي بهذا الدليل يكون أخذه المال رشوة على الكف عن الدعوى ولا
يكون ذلك اعتياضا عن حقه فيكون باطلا، بخلاف ما إذا شهد بحرية عبد إنسان ثم اشتراه
بعد ذلك فإن الشراء يكون صحيحا ويلزمه الثمن للبائع، لان نفي البائع حريته ودعواه
بقاء الملك له مستند إلى دليل وهو الدليل المثبت للملك له في العبد، فيكون ذلك حجة
له على خصمه في إبقاء ملكه، وباعتباره هو إنما يأخذ العوض على ملك له، وباعتباره لا
يثبت الاتفاق بينهما على فساد ذلك السبب، فبهذا تعين فيه وجه الصحة ووجب الثمن على
المشتري ثم يعتق عليه بعدما دخل في ملكه باعتبار زعمه. وعلماؤنا رحمهم الله قالوا:
الدليل المثبت للحكم لا يكون موجبا بقاء الحكم بوجه من الوجوه ولكن بقاؤه بعد
الوجود لاستغناء البقاء عن دليل لا لوجود الدليل المنفي. فعرفنا أنه ليس للدليل
الذي استند إليه الحكم عمل في البقاء أصلا، وأن دعوى البقاء فيما عرف ثبوته بدليله
محتمل كدعوى
ص 221
الاثبات فيما لا يعلم ثبوته بدليله، فكما أن هناك يستوي المثبت والنافي في أن قول
كل واحد منهما لا يكون حجة على خصمه بغير دليل فكذلك هنا، وله فارق العام فإنه موجب
للحكم في كل ما تناوله قطعا على احتمال قيام دليل الخصوص، فما لم يظهر دليل الخصوص
كان الحكم ثابتا بنص موجب له، وهنا الدليل المثبت للحكم غير متعرض للازمنة أصلا فلا
يكون ثبوته في الازمنة بعد قيام الدليل بدليل مثبت له، ولهذا لا يكون قيام دليل
النفي من دليل الخصوص في شيء بل يكون نسخا، كما بيناه في باب النسخ، يوضحه أنه لما
لم يكن ذلك الدليل عاملا الآن في شيء صار قول المتمسك به لا دليل على ارتفاعه كلاما
محتملا، كما أن قول خصمه قام الدليل على ارتفاعه كلام محتمل فتتحقق المعارضة بينهما
على وجه لا يكون زعم أحدهما حجة على الآخر ما لم يرجح قوله بدليل. وعلى هذا الاصل
قلنا في الصلح على الانكار إنه جائز، لان الدليل المثبت لبراءة ذمة المنكر أو للملك
له فيما في يده غير متعرض للبقاء أصلا فكان دعوى المدعي أن المدعي حقي وملكي خبرا
محتملا، وإنكار المدعى عليه لذلك خبر محتمل أيضا فكما لا يكون خبر المدعي حجة على
المدعى عليه في إلزام التسليم إليه لكونه محتملا، فكذلك خبر المدعي عليه لا يكون
حجة على المدعي في فساد الاعتياض عنه بطريق الصلح، ولهذا لو صالحه أجنبي على مال
جاز بالاتفاق، ولو ثبت براءة ذمته في حق المدعي بدليل كما ذكره الخصم لم يجز صلحه
مع الاجنبي، كما لو أقر أنه مبطل في دعواه ثم صالح مع أجنبي. والدليل عليه فصل
الشهادة بعتق العبد على مولاه فإن الشاهد إذا اشتراه صح الشراء ولزمه الثمن لهذا
المعنى، وهو أن ما أخبر به الشاهد لكونه محتملا لم يصر حجة على مولى العبد حتى جاز
له الاعتياض عنه بالبيع من غيره، فيجوز له الاعتياض عنه بالبيع من الشاهد وإن كان
زعمه معتبرا في حقه حتى إنه يعتق كما اشتراه لا من جهته حتى لا يكون ولاؤه له، وما
كان ذلك إلا بالطريق الذي قلنا، فإن الدليل الموجب للملك للمولى لا يكون دليل بقاء
ملكه بل بقاء الملك بعد ثبوته لاستغنائه عن الدليل المنفي. وعلى هذا الاصل قلنا:
مجهول الحال يكون حرا باعتبار الظاهر، ولكن لو جنى عليه جناية
ص 222
فزعم الجاني أنه رقيق لا يلزمه أرش الجناية على الاحرار حتى تقوم البينة على حريته،
لان ثبوت الحرية للحال ليس بدليل موجب لذلك بل باعتبار أصل الحرية لاولاد آدم وذلك
لا يجوب البقاء فكان عدواه الحرية لنفسه فئ الحال محتملا ودعوى الغير الرق عليه
محتمل، فبالمحتمل لا يثبت الرق عليه محتمل، فبالمحتمل لا يثبت الرق فيه لغيره ويجعل
القول قوله في الحرية، وبالمحتمل لا يثبت دعوى استحقاق أرش الاحرار بسبب الجناية
عليه غيره حتى يقيم البينة على حريته، لان قبل إقامة البينة ليس معه إلا الاحتجاج
بلا دليل وذلك دافع عنه ولا يكون حجة له على غيره. وعلى هذا لو قذف إنسانا ثم زعم
أنه عبد وقال المقذوب بل هو حر، فإنه لايقام حد الاحرار عليه حتى تقوم البينة
للمقذوف على حريته. وكذلك لو قطع يد إنسان ثم زعم أنه عبد وأنه لاقصاص عليه. وكذلك
لو شهد في حادثة ثم زعم المشهود عليه أنه عبد فإن شهادته لا تكون حجة حتى تقوم
البينة على حريته. والشافعي رحمه الله يخالفنا في جميع ذلك للاصل الذى بينا له.
وعلى هذا لو اشترى شقصا من دار فطلب الشفيع الشفعة وقال المشترى ما في يدك مما تدعى
به الشفعة ليس بملك لك بل هي ملكى فإنه يكون القول قول مدعى الشفعة في دفع دعوى
المشترى عما في يده، ويكون القول قول المشترى في إنكاره حق الشفعة له، حتى إن لشفيع
ما لم يقم البينة على أن العين الذى في يده ملكه لا يستحق الشفعة عندنا، لان خبر كل
واحد منهما محتمل فلا يكون حجة على خصمه في استحقاق ما في يده. وعند الشافعي ملك
الشفيع فيما في يده ثابت باعتبار أن قوله مستند إلى دليل ثبت فيستحق به الشفعة.
ونظير ما قاله علماؤنا قول المولى لعبده: إن لم أدخل اليوم الدار فأنت حر، ثم قال
المولى بعد مضى اليوم قد دخلت وقال العبد لم تدخل، فإن القول قول المولى حتى لا
يعتق العبد، ومعلوم أن قول العبد مستند إلى دليل من حيث الظاهر وهو أن الاصل عدم
الدخول ولكن لما كان قوله في الحال محتملا قول المولى كذلك لم يثبت استحقاقه على
المولى بما هو محتمل. وكذلك المفقود فإنه لا يرث أحدا من أقاربه إذا مات قبل أن
يظهر حاله
ص 223
ومعلوم أن بقاءه حيا مستند إلى دليل وهو ما علم من حياته، ولكن لما لم يكن ذلك
دليلا للبقاء اعتبر في الحال الاحتمال، فقيل لا يرثه أحد لاحتمال بقائه حيا، ولا
يرث أحدا لاحتمال أنه ميت. فإن قيل: عندي إذا استند قوله إلى دليل إنما يقبل قوله
على خصمه في إبقاء ما هو مقصود له: في مسألة العتق لا مقصود للعبد في نفى دخول
المولى الدار وإنما مقصوده في العتق ودعواه العتق ليس بمستند إلى دليل مثبت له.
وكذلك عدوى من يدعى حياة المفقود بعد ما مات قريب له ليس بمقصود للمدعى حتى يعتبر
فيه الاستناد إلى دليله، فأما دعوى المنكر براءة ذمته أو كون ما في يده ملكا له
مقصود له وهو يستند إلى دليل كما بينا. وكذلك دعوى مجهول الحال الحرية لنفسه مقصود
له. ودعوى الشفيع الملك لنفسه فيما في يده مقصود له، فإذا كان هذا مستندا إلى دليله
وهو مقصود له كان حجة له على خصمه. قلنا: لا فرق، فإن دعوى المنكر فساد الصلح غير
مقصود له ولكن يترتب عليه ما هو المقصود له وهو سقوط المطالبة عنه بتسليم ما التزمه
بالصلح، كما أن دعوى العبد أن المولى لم يدخل الدار غير مقصود له ولكن يترتب عليه
ما هو مقصود له وهو عتقه باعتبار وجود الشراط. ثم هناك لكون ما أخبر به محتملا لم
يجعل حجة على خصمه، ولا يعتبر استناده إلى دليل باعتبار الاصل، فكذلك في مسألة
الصلح فصل ومن الاحتجاج بلا دليل الاستدلال باستصحاب الحال، وذلك نحو ما يقول بعض
أحصابنا في حكم الزكاة في مال الصبى إن الاصل عدم الوجوب فيستصحبه حتى يقوم دليل
الوجوب، وفى الاستئناف أن وجوب الحقتين في مائة وعشرين ثابت بالنص والاجماع فيجب
استصحابه حتى يقوم الدليل المغير، وهذا النوع من التعليل باطل، فإن ثبوت العدم وإن
كان بدليل معدم فذلك لا يوجب
ص 224
بقاء العدم، كما أن الدليل الموجد للشئ لا يكون دليل بقائه موجودا فكذلك الدليل
المثبت للحكم لا يكون دليل بقائه ثابتا، ألا ترى أن عدم الشراء لا يمنع وجود الشراء
في المستقبل، والشراء الموجب للملك لا يمنع انعدام الملك بدليله في المستقبل، ولكن
البقاء بعد الوجود لاستغنائه عن الدليل، لا لان الدليل المثبت له موجب لبقائه، كما
أن ثبوت الحياة بسببه لا يكون دليل بقاء الحياة، يوضحه أن بعد ثبوت حكم هو نفي
إيجاده يستدعي دليلا، فمن ادعى وجوده احتاج إلى إثباته على خصمه بدليل. وكذلك من
ادعى بقاءه منفيا فهو محتاج إلى إثباته بدليله على الخصم، إذ الدليل الاول غير موجب
لذلك فليس أحدهما بالاحتجاج على صاحبه لعدم قيام الدليل بأولى من الآخر، وما كان
البقاء فيما يحتمل البقاء بعد الوجود إلا نظير الوجود في الاعراض التي لا تبقى
وقتين، فإن وجود شيء منه بدليل لا يكون دليل وجود مثله في الوقت الثاني. وبيان هذا
في البعير الزائد على المائة والعشرين فإن عند الخصم ينتهي به عفو الحقتين فيتم به
نصاب ثلاث بنات لبون. وعندنا هو ابتداء العفو لنصاب آخر، وليس في إيجاب الحقتين في
مائة وعشرين ما يدل على واحد من الامرين، فكان الاحتجاج به لايجاب الحقتين بعد هذه
الزيادة عند كمال الحول يكون احتجاجا بلا دليل. ثم استصحاب الحال ينقسم أربعة
أقسام: أحدها استصحاب حكم الحال مع العلم يقينا بانعدام الدليل المغير، وذلك بطريق
الخبر عمن ينزل عليه الوحي أو بطريق الحس فيما يعرف به، وهذا صحيح قد علمنا
الاستدلال به في قوله تعالى: *(قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما)* الآية، وهذا لانه
لما علم يقينا بانعدام الدليل المغير وقد كان الحكم ثابتا بدليله وبقاؤه يستغني عن
الدليل فقد علم بقاؤه ضرورة. والثاني: استصحاب حكم الحال بعد دليل مغير ثابت بطريق
النظر
ص 225
والاجتهاد بقدر الوسع، وهذا يصلح لابلاء العذر وللدفع ولا يصلح للاحتجاج به على
غيره، لان المتأمل وإن بالغ في النظر فالخصم يقول قام الدليل عندي بخلافه، وبالتأمل
والاجتهاد لا يبلغ المرء درجة يعلم بها يقينا أنه لم يخف عليه شيء من الادلة، بل
يبقى له احتمال اشتباه بعض الادلة عليه، وما كان في نفسه محتملا عنده لا يمكنه أن
يحتج به على غيره. والثالث: استصحاب حكم الحال قبل التأمل والاجتهاد في طلب الدليل
المغير وهذا جهل، لان قبل الطلب لا يحصل له شيء من العلم بانتفاء الدليل المغير
ظاهرا ولا باطنا، ولكنه يجهل ذلك بتقصير منه في الطلب، وجهله لا يكون حجة على غيره
ولا عذرا في حقه أيضا إذا كان متمكنا من الطلب إلا أن لا يكون متمكنا منه. وعلى هذا
قلنا: إذا أسلم الذمي في دار الإسلام ولم يعلم بوجوب العبادات عليه حتى مضى عليه
زمان فعليه قضاء ما ترك، بخلاف الحربي إذا أسلم في دار الحرب ولم يعلم بوجوب
العبادات عليه حتى مضى زمان. وعلى هذا قلنا: من لم يجتهد بعد الاشتباه في أمر
القبلة حتى صلى إلى جهة فإنه لا تجزيه صلاته ما لم يعلم أنه أصاب، بخلاف ما إذا
اجتهد وصلى إلى جهة فإنه تجزيه صلاته وإن تبين أنه أخطأ. والنوع الرابع: استصحاب
الحال (لاثبات الحكم ابتداء، وهذا خطأ محض وهو ضلال محض ممن يتعمده لان استصحاب
الحال) كاسمه، وهو التمسك بالحكم الذي كان ثابتا إلى أن يقوم الدليل المزيل، وفي
إثبات الحكم ابتداء لا يوجد هذا المعنى، ولا عمل لاستصحاب الحال فيه صورة ولا معنى،
وقد بينا في مسألة المفقود أن الحياة المعلومة باستصحاب الحال يكون حجة في إبقاء
ملكه في ماله على ما كان، ولا يكون حجة في إثبات الملك له ابتداء في مال قريبه إذا
مات. وبعض أصحاب الشافعي يجعلونه حجة في ذلك، لا باعتبار أنهم يجوزون إثبات الحكم
ابتداء باستصحاب الحال، بل باعتبار أنه يبقى للوارث
ص 226
الملك الذي كان للمورث، فإن الوراثة خلافة، وقد بينا أن عنده استصحاب الحال فيما
يرجع إلى الابقاء حجة على الغير. ولكنا نقول: هذا البقاء في حق المورث، فأما في حق
الوارث فصفة المالكية تثبت له ابتداء واستصحاب الحال لا يكون حجة فيه بوجه. وعلى
هذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا ادعى عينا في يد إنسان أنه له ميراث من
أبيه وأقام الشاهدين فشهدا أن هذا كان لابيه لم تقبل هذه الشهادة. وفي قول أبي يوسف
الآخر تقبل، لان الوراثة خلافة فإنما يبقى للوارث الملك الذي كان للمورث، ولهذا يرد
بالعيب ويصير مغرورا فيما اشتراه المورث، وما ثبت فهو باق لاستغناء البقاء عن دليل.
وهما يقولان في حق الوارث: هذا في معنى ابتداء التملك، لان صفة المالكية تثبت له في
هذا المال بعد أن لم يكن مالكا، وإنما يكون البقاء في حق المورث أن لو حضر بنفسه
يدعي أن العين ملكه فلا جرم إذا شهد الشاهدان أنه كان له كانت شهادة مقبولة كما إذا
شهدا أنه له، فأما إذا كان المدعي هو الوارث وصفة المالكية للوارث تثبت ابتداء بعد
موت المورث فهذه الشهادة لا تكون حجة للقضاء بالملك له، لان طريق القضاء بها
استصحاب الحال وذلك غير صحيح. فصل ومن هذه الجملة الاستدلال بتعارض الاشباه، وذلك
نحو احتجاج زفر رحمه الله في أنه لا يجب غسل المرافق في الوضوء، لان من الغايات ما
يدخل ومنها ما لا يدخل فمع الشك لا تثبت فرضية الغسل فيما هو غاية بالنص، لان هذا
في الحقيقة احتجاج بلا دليل لاثبات حكم، فإن الشك الذي يدعيه أمر حادث فلا يثبت
حدوثه إلا بدليل. فإن قال: دليله تعارض الاشباه. قلنا: وتعارض الاشباه أيضا حادث
فلا يثبت إلا بالدليل. فإن قال: الدليل عليه ما أعده من الغايات مما يدخل بالاجماع
وما لا يدخل بالاجماع. قلنا: وهل تعلم أن هذا المتنازع فيه من أحد النوعين بدليل؟
فإن قال أعلم ذلك. قلنا: فإذن عليك أن لا تشك فيه بل
ص 227
تلحقه بما هو من نوعه بدليله. وإن قال: لا أعلم ذلك. قلنا: قد اعترفت بالجهل، فإن
كان هذا مما يمكن الوقوف عليه بالطلب فإنما جهلته عن تقصير منك في طلبه وذلك لا
يكون حجة أصلا، وإن كان مما لا يمكن الوقوف عليه بعد الطلب كنت معذورا في الوقوف
فيه، ولكن هذا العذر لا يصير حجة لك على غيرك ممن يزعم أنه قد ظهر عنده دليل إلحاقه
بأحد النوعين، فعرفنا أن حاصل كلامه احتجاج بلا دليل. فصل ومن هذه الجملة الاحتجاج
بالاطراد على صحة العلة إما وجودا أو وجودا وعدما، فإنه احتجاج بلا دليل في
الحقيقة، ومن حيث الظاهر هو احتجاج بكثرة أداء الشهادة، وقد بينا أن كثرة أداء
الشهادة وتكرارها من الشاهد لا يكون دليل صحة شهادته. ثم الاطراد عبارة عن سلامة
الوصف عن النقوض والعوارض، والناظر وإن بالغ في الاجتهاد بالعرض على الاصول
المعلومة عنده فالخصم لا يعجز من أن يقول عندي أصل آخر هو مناقض لهذا الوصف أو
معارض، فجهلك به لا يكون حجة لك علي، فتبين من هذا الوجه أنه احتجاج بلا دليل،
ولكنه فوق ما تقدم في الاحتجاج به من حيث الظاهر، لان من حيث الظاهر الوصف صالح،
ويحتمل أن يكون حجة للحكم إذا ظهر أثره عند التأمل، ولكن لكونه في الحقيقة استدلالا
على صحته بعدم النقوض والعوارض لم يصلح أن يكون حجة لاثبات الحكم. فإن قيل: أليس أن
النصوص بعد ثبوتها يجب العمل بها، واحتمال ورود الناسخ لا يمكن شبهة في الاحتجاج
بها قبل أن يظهر الناسخ فكذلك ما تقدم؟ قلنا: أما بعد وفاة رسول الله (ص) فلا
احتمال للنسخ في كل نص كان حكمه ثابتا عند وفاته، فأما في حال حياته فهكذا نقول: إن
الاحتجاج به لاثبات الحكم ابتداء صحيح، فأما لابقاء الحكم أو لنفي الناسخ لا يكون
صحيحا، لان احتمال بقاء الحكم واحتمال قيام دليل النسخ فيه كان بصفة واحدة، وقد
قررنا هذا في باب النسخ.
ص 228
ثم الطرديات الفاسدة أنواع. منها ما لا يشكل فساده على أحد. ومنها ما يكون (بزيادة
وصف في الاصل به يقع الفرق. ومنها ما يكون) بوصف مختلف فيه اختلافا ظاهرا. ومنها ما
يكون استدلالا بالنفي والعدم. وبيان النوع الاول: فيما علل به بعض أصحاب الشافعي
لكون قراءة الفاتحة ركنا في الصلاة لانها عبادة ذات أركان لها تحليل وتحريم، فكان
من أركان ما له عدد السبع كالحج في حق الطواف، وربما يقولون: الثلاث أحد عددي مدة
المسح فلا يتأدى به فرض القراءة في الصلاة كالواحد، وما دون الثلاث قاصر عن السبع
فلا يتأدى به فرض القراءة كما دون الآية. ونحو ما يحكى عن بعضهم في أن الرجعة لا
تحصل بالفعل، لان الوطئ فعل ينطلق مرة ويتعلق أخرى فلا تثبت به الرجعة كالقتل. ونحو
ما يحكى عن بعض أصحابنا في الوضوء بغير النية أن هذا حكم متعلق بأعضاء الطهارة فلا
تشترط النية في إقامته كالقطع في السرقة والقصاص. هذا النوع مما لا يخفى فساده على
أحد، ولم ينقل من هذا الجنس شيء عن السلف إنما أحدثه بعض الجهال ممن كان بعيدا من
طريق الفقهاء، فأما علل السلف ما كانت تخلو عن الملاءمة أو التأثير، ولهذا كان
الواحد منهم يتأمل مدة فلا يقف في حادثة إلا على قياس أو قياسين، والواحد من
المتأخرين ربما يتمكن في مجلس واحد من أن يذكر في حادثة خمسين علة من هذا النحو أو
أكثر، ولا مشابهة بين غسل الاعضاء في الطهارة وبين القطع في السرقة، ولا بين مدة
المسح والقراءة في الصلاة، ولا بين الطواف بالبيت وقراءة الفاتحة، فعرفنا أن هذا
النوع مما لا يخفى فساده. وأما ما يكون بزيادة وصف فنحو تعليل بعض أصحاب الشافعي في
مس الذكر إنه حدث، لانه مس الفرج فينتقض الوضوء به كما لو مسه عند البول، فإن هذا
القياس لا يستقيم إلا بزيادة وصف في الاصل وبذلك
ص 229
الوصف يثبت الفرق بين الفرع والاصل ويثبت الحكم به في الاصل. وكذلك قولهم في إعتاق
المكاتب عن الكفارة إنه تكفير بتحرير المكاتب فلا يجوز، كما لو أدى بعض بدل الكتابة
ثم أعتقه، لان استقامة هذا القياس بزيادة وصف في الاصل به يقع الفرق، وهو أن
المستوفى من البدل يكون عوضا، والتكفير لا يجوز بالاعتاق بعوض. ونحو ما علل بعضهم
في شراء الاب بنية الكفارة إنه تكفير بتحرير أبيه فلا يجوز، كما لو كان حلف بعتقه
إن ملكه، فإن استقامة هذا التعليل بزيادة وصف به يقع الفرق من حيث إن المحلوف بعتقه
إذا عتق عند وجود الشرط لا يصير مكفرا به وإن نواه عند ذلك أبا كان أو أجنبيا.
والنوع الثالث: نحو ما يعلل به بعض أصحاب الشافعي في أن الاخ لا يعتق على أخيه إذا
ملكه. قال: عتق الاخ تتأدى به الكفارة فلا يثبت بمجرد الملك كعتق ابن العم. وهذا
تعليل بوصف مختلف فيه اختلافا ظاهرا، فإن عندنا عتق القريب وإن كان مستحقا عند وجود
الملك تتأدى به الكفارة حتى قلنا: إذا اشترى أباه بنية الكفارة يجوز، خلافا للشافعي
رحمه الله. ونحو ما علل به بعضهم في الكتاب الحالة أنها لا تمنع جواز التكفير
بتحريره فتكون فاسدة كالكتابة على القيمة، فإن هذا تعليل بوصف مختلف فيه اختلافا
ظاهرا، لان التكفير بإعتاق المكاتب كتابة صحيحة جائزة عندنا، وربما يكون هذا
الاختلاف في الاصل نحو ما يعلل به بعض. أصحاب الشافعي في الافطار بالاكل والشرب إنه
إفطار بالمطعوم، فلا يوجب الكفارة كما لو كان في يوم أبصر الهلال وحده ورد الامام
شهادته. وأما النوع الرابع: فنحو تعليل الشافعي في النكاح إنه لا يثبت بشهادة
النساء مع الرجال لانه ليس بمال، وفي الاخ لا يعتق على أخيه لانه ليس
ص 230
بينهما بعضية، وفي المبتوتة إنه لا يلحقها الطلاق لانه ليس بينهما نكاح، وفي إسلام
المروي بالمروي إنه يجوز لانه لم يجمع البدلين الطعم والثمنية، وهذا فاسد لانه
استدلال بعدم وصف والعدم لا يصلح أن يكون موجبا حكما، وقد بينا أن العدم الثابت
بدليل لا يكون بقاؤه ثابتا بدليل فكيف يستدل به لاثبات حكم آخر. فإن قيل: مثل هذا
التعليل كثير في كتبكم. قال محمد رحمه الله: ملك النكاح لا يضمن بالاتلاف لانه ليس
بمال، والزوائد لا تضمن بالغصب لانه لم يغصب الولد. وقال أبو حنيفة رحمه الله:
العقار لا يضمن بالغصب لانه لم ينقله ولم يحوله. وقال فيما لا يجب فيه الخمس: لانه
لم يوجف عليه المسلمون. وقال في تناول الحصاة: لا تجب الكفارة لانه ليس بمطعوم.
وقال في الجد: لا يؤدي صدقة الفطر عن النافلة لانه ليس عليه ذلك. فهذا استدلال بعدم
وصف أو حكم. قلنا: أولا هذا عندنا غير مذكور على وجه المقايسة بل على وجه الاستدلال
فيما كان سببه واحدا معينا بالاجماع نحو الغصب، فإن ضمان الغصب سببه واحد عين وهو
الغصب، فالاستدلال بانتفاء الغصب على انتفاء الضمان يكون استدلالا بالاجماع. وكذلك
وجوب ضمان المال بسبب يستدعي المماثلة بالنص وله سبب واحد عين وهو إتلاف المال،
فيستقيم الاستدلال بانتفاء المالية في المحل على انتفاء هذا النوع من الضمان، وكذلك
إذا كان دليل الحكم معلوما في الشرع بالاجماع نحو الخمس فإنه واجب في الغنيمة لا
غير وطريق الاغتنام الايجاف عليه بالخيل والركاب، فالاستدلال به لنفي الخمس يكون
استدلالا صحيحا، وقد بينا أنه إبلاء العذر في بعض المواضع لا الاحتجاج به على
الخصم. فأما تعليل النكاح بأنه ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال يكون
تعليلا بعدم الوصف وعدم الوصف لا يعدم الحكم لجواز أن يكون الحكم ثابتا باعتبار وصف
آخر، لانه وإن لم يكن مالا فهو من جنس ما يثبت مع الشبهات والاصل المتفق عليه
الحدود والقصاص، وبهذا الوصف لا يصير النكاح بمنزلة الحدود والقصاص حتى يثبت مع
الشبهات بخلاف الحدود والقصاص، فعرفنا أن بعدم هذا الوصف لا ينعدم وصف آخر يصلح
التعليل به لاثباته بشهادة
ص 231
النساء مع الرجال. وكذلك ما علل به من أخوات هذا الفصل فهو يخرج على هذا الحرف إذا
تأملت. فصل ومن هذا النوع الاحتجاج بأن الاوصاف محصورة عند القائسين، فإذا قامت
الدلالة على فساد سائر الاوصاف إلا وصفا واحدا تثبت به صحة ذلك الوصف ويكون حجة.
هذا طريق بعض أصحاب الطرد. وقد جوز الجصاص رحمه الله تصحيح الوصف للعلة بهذا
الطريق. قال الشيخ رحمه الله: وقد كان بعض أصدقائي عظيم الجد في تصحيح هذا الكلام،
بعلة أن الاوصاف لما كانت محصورة وجميعها ليست بعلة للحكم بل العلة وصف منها، فإذا
قام الدليل على فساد سائر الاوصاف سوى واحد منها ثبت صحة ذلك الوصف بدليل الاجماع
كأصل الحكم، فإن العلماء إذا اختلفوا في حكم حادثة على أقاويل، فإذا ثبت بالدليل
فساد سائر الاقاويل إلا واحدا ثبت صحة ذلك القول، وذلك نحو اختلاف العلماء في جارية
بين رجلين جاءت بولد فادعياه، فإنا إذا أفسدنا قول من يقول بالرجوع إلى قول القائف،
وقول من يقول بالقرعة، وقول من يقول بالتوقف إنه لا يثبت النسب من واحد منهما يثبت
به صحة قول من يقول بأنه يثبت النسب منهما جميعا. وإذا قال لنسائه الاربعة: إحداكن
طالق ثلاثا ووطئ ثلاثا منهن حتى يكون ذلك دليلا على انتفاء المحرمة عنهن تعين بها
الرابعة محرمة، فكان تقرب هذا من الادلة العقلية. قال الشيخ: وعندي أن هذا غلط لا
نجوز القول به، وهو مع ذلك نوع من الاحتجاج بالدليل. أما بيان الغلط فيه وهو أن ما
يجعله هذا القائل دليل صحة علته هو الدليل على فساده، لانه لا يمكنه سلوك هذا
الطريق إلا بعد قوله بالمساواة بين الاوصاف في أن كل وصف منها صالح أن يكون علة
للحكم، وبعد ثبوت هذه المساواة فالدليل الذي يدل على فساد بعضها هو الدليل على فساد
ما بقي منها، لانه متى علم المساواة بين شيئين في الحكم ثم ظهر لاحدهما حكم بالدليل
فذلك الدليل يوجب مثل
ص 232
ذلك الحكم في الآخر، كمن يقول لغيره: اجعل زيدا وعمرا في العطية سواء ثم يقول أعط
زيدا درهما، يكون ذلك تنصيصا على أنه يعطي عمرا أيضا درهما، فعرفنا أنه لا وجه
للتحرز عن هذا الفساد إلا ببيان تفاوت بين هذا الوصف وبين سائر الاوصاف في كونه علة
للحكم، وذلك التفاوت لا يتبين إلا ببيان التأثير أو الملاءمة فيضطر إلى بيانه شاء
أو أبى، ثم وإن قام الدليل على فساد سائر الاوصاف على وجه لا عمل لذلك الدليل في
إفساد هذا الوصف الواحد، فنحن نتيقن أن ذلك الدليل كما لا يوجب فساد هذا الوصف لا
يوجب صحته، فلا يبقى على تصحيح هذا الوصف دليلا سوى أنه لم يقم الدليل على فساده،
ولو جاز إثبات الوصف موجبا للحكم بهذا الطريق لجاز إثبات الحكم بدون هذا الوصف بهذا
الطريق، وهو أن يقول حكم الحادثة كذا لانه لم يقم الدليل على فساد هذا الحكم، وما
قاله من الاستدلال بالحكم فهو وهم، لان بإفساد مذهب الخصم لا يثبت صحة مذهب المدعي
للحكم بوجه من الوجوه، وكيف يثبت ذلك والمبطل دافع والمدعي للحكم مثبت وحجة الدفع
غير حجة الاثبات. ثم الدليل على أن بقيام دليل الفساد في سائر الاوصاف لا تثبت صحة
الوصف الذي ادعاه المعلل في الشرعيات أن من أحكام الشرع ما هو غير معلول أصلا بل
الحكم فيه ثابت بالنص، فبقيام الدليل على فساد سائر الاوصاف لا ينعدم احتمال قيام
الدليل على فساد هذا الوصف حقيقة ولا حكما من هذا الوجه، لجواز أن يكون هذا النص
غير معلول أصلا، وبه فارق العقليات، ثم احتمال الصحة والفساد في هذا الوصف بالاجماع
كان مانعا من جعله حجة لاثبات الحكم قبل قيام الدليل على فساد سائر الاوصاف، فكذلك
بعده لان احتمال تعينه قائم.

باب: وجوه الاعتراض على العلل

قال رضي الله عنه: العلل
نوعان: طردية ومؤثرة. والاعتراض على كل نوع من وجهين: فاسد وصحيح. فالاعتراضات
الفاسدة على العلل المؤثرة أربعة: المناقضة، وفساد الوضع، ووجود الحكم مع عدم
العلة، والمفارقة بين
ص 233
الاصل والفرع. والصحيحة أربعة: الممانعة، ثم القلب المبطل، ثم العكس الكاسر، ثم
المعارضة بعلة أخرى. فأما المناقضة فإنها لا ترد على العلل المؤثرة، لان التأثير لا
يتبين إلا بدليل الكتاب أو السنة أو الاجماع. وهذه الادلة لا تتناقض، فإن أحكام
الشرع عليها تدور ولا تناقض في أحكام الشرع، وقد بينا أنه لا توجد العلة بدون الحكم
على الوجه الذي ظهر أثرها في الحكم، بل لا بد أن ينعدم الحكم لتغير وصف بنقصان أو
زيادة، وبه تتبدل العلة فتنعدم العلة المؤثرة التي أثبت المعلل الحكم بها، وانعدام
الحكم عند انعدام العلة لا يكون دليل انتقاض العلة. وهو نظير الشاهد فإنه مع
استجماع شرائط الاداء إذا ترك لفظة الشهادة أو زاد عليها فقال فيما أعلم فإنه لا
يجوز العمل بشهادته، وكان ذلك باعتبار انعدام العلة الموجبة للعمل بشهادته معنى.
وبيان هذا أنا إذا عللنا في تكرار المسح بالرأس أنه مسح مشروع في الطهارة فلا يستن
تثليثه كالمسح بالخف لا يدخل الاستنجاء بالاحجار نقضا، لان المسح هناك غير مشروع في
الطهارة إنما المشروع إزالة النجاسة العينية حتى لو تصور خروج الحدث من غير أن
يتنجس شيء مما هو طاهر لم يجب المسح أصلا، وإزالة النجاسة غير المسح وهو لا يحصل
بالمرة إلا نادرا، فعرفنا أن انعدام الحكم لانعدام العلة. وأما فساد الوضع فهو
اعتراض فاسد على العلة المؤثرة، لانه دعوى لا يمكن تصحيحها، فإن تأثير العلة إنما
يثبت بدليل موجب للحكم كما بينا، ومعلوم أنه لا يجوز دعوى فساد الوضع في الكتاب
والسنة والاجماع. وأما وجود الحكم مع عدم العلة فإن الحكم يجوز أن يكون ثابتا بعلة
أخرى، لان ثبوته بعلة لا ينافي كونه ثابتا بعلة أخرى، ألا ترى أن الحكم يجوز أن
يثبت بشهادة الشاهدين، ويجوز أن يثبت بشهادة أربعة حتى إذا رجع اثنان قبل القضاء
يبقى القضاء واجبا بشهادة الباقيين. وكذلك يجوز أن يكون الاصل معلولا بعلتين يتعدى
الحكم بإحداهما إلى فروع
ص 234
وبالاخرى إلى فروع أخر فلا يكون انعدام العلة مع بقاء الحكم في موضع ثابتا بالعلة
الاخرى دليل فساد العلة. فأما المفارقة فمن الناس من ظن أنها مفاقهة، ولعمري
المفارقة مفاقهة ولكن في غير هذا الموضع، فأما على وجه الاعتراض على العلل المؤثرة
تكون مجادلة لا فائدة فيها في موضع النزاع. وبيان هذا من وجوه ثلاثة: أحدها أن شرط
صحة القياس لتعدية الحكم إلى الفروع تعليل الاصل ببعض أوصافه لا بجميع أوصافه، وقد
بينا أنه متى كان التعليل بجميع أوصاف الاصل لا يكون مقايسة، فبيان المفارقة بين
الاصل والفرع بذكر وصف آخر لا يوجد ذلك في الفرع ويرجع إلى بيان صحة المقايسة، فأما
أن يكون ذلك اعتراضا على العلة فلا. ثم ذكر وصف آخر في الاصل يكون ابتداء دعوى
والسائل جاهل مسترشد في موقف المنكر إلى أن تتبين له الحجة لا في موضع الدعوى، وإن
اشتغل بإثبات دعواه فذلك لا يكون سعيا في إثبات الحكم المقصود وإنما يكون سعيا في
إثبات الحكم في الاصل وهو مفروغ عنه، ولا يتصل ما يثبته بالفرع إلا من حيث إنه
ينعدم ذلك المعنى في الفرع وبالعدم لا يثبت الاتصال، وقد بينا أن العدم لا يصلح أن
يكون موجبا شيئا، فكان هذا منه اشتغالا بما لا فائدة فيه. والثالث ما بينا أن الحكم
في الاصل يجوز أن يكون معلولا بعلتين ثم يتعدى الحكم إلى بعض الفروع بإحدى العلتين
دون الاخرى، فبان انعدام في الفرع الوصف الذي يروم به السائل الفرق، وإن سلم له أنه
علة لاثبات الحكم في الاصل فذلك لا يمنع المجيب من أن يعدي حكم الاصل إلى الفرع
بالوصف الذي يدعيه أنه علة للحكم، وما لا يكون قدحا في كلام المجيب فاشتغال السائل
به يكون اشتغالا بما لا يفيد، وإنما المفاقهة في الممانعة حتى يبين المجيب تأثير
علته، فالفقه حكمة باطنة، وما يكون مؤثرا في إثبات الحكم شرعا فهو الحكمة الباطنة،
والمطالبة به تكون مفاقهة،
ص 235
فأما الاعراض عنه والاشتغال بالفرق يكون قبولا لما فيه احتمال أن لا يكون حجة
لاثبات الحكم، واشتغالا بإثبات الحكم بما ليس بحجة أصلا في موضع النزاع وهو عدم
العلة، فتبين أن هذا ليس من المفاقهة في شيء، والله أعلم.
فصل: الممانعة

قال رضي
الله عنه: اعلم بأن الممانعة أصل الاعتراض على العلة المؤثرة من حيث إن الخصم
المجيب يدعي أن حكم الحادثة ما أجاب به، فإذا لم يسلم له ذلك يذكر وصفا يدعي أنه
علة موجبة للحكم في الاصل المجمع عليه وأن هذا الفرع نظير ذلك الاصل، فيتعدى ذلك
الحكم بهذا الوصف إلى الفرع، وفي هذا الحكم دعويان فهو أظهر في الدعوى من الاول، أي
حكم الحادثة، وإن كانت المناظرة لا تتحقق إلا بمنع دعوى السابق عرفنا أنها لا تتحقق
إلا بمنع هذه الدعاوى أيضا فيكون هو محتاجا إلى إثبات دعاويه بالحجة، والسائل منكر
فليس عليه سوى المطالبة لاقامة الحجة بمنزلة المنكر في باب الدعاوى والخصومات،
وإليه أشار صاحب الشرع (ص) حيث قال للمدعي: (ألك بينة) وبالممانعة يتبين العوار،
ويظهر المدعي من المنكر، والملزم من الدافع بعدما ثبت شرعا أن حجة أحدهما غير حجة
الآخر. ثم الممانعة على أربعة أوجه: ممانعة في نفس العلة، وممانعة في الوصف الذي
يذكر المعلل أنه علة، وممانعة في شرط صحة العلة أنه موجود في ذلك الوصف، وممانعة في
المعنى الذي به صار ذلك الوصف علة للحكم. أما الممانعة في نفس العلة فكما بينا أن
كثيرا من العلل إذا تأملت فيها تكون احتجاجا بلا دليل، وذلك لا يكون حجة على الخصم
لاثبات
ص 236
الحكم. وبيان هذا فيما علل به الشافعي رحمه الله في النكاح أنه ليس بمال فلا يثبت
بشهادة النساء مع الرجال كالحدود والقصاص. وهذا النوع لا يصلح حجة لايجاب الحكم
عندنا على ما بينا، فترك الممانعة فيه تكون قبولا من الخصم ما لا يكون حجة أصلا
وذلك دليل الجهل، فكانت الممانعة في هذا الموضع دليل المفاقهة. وأما ممانعة الوصف
الذي هو العلة فبيانه فيما علل به أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أن الايداع من
الصبي تسليط على الاستهلاك، فإن مثل هذا الوصف لا بد أن يكون ممنوعا عند الخصم، لان
بعد ثبوته لا يبقى للمنازعة في الحكم معنى. ونحو ما علل به أبو حنيفة فيمن اشترى
قريبه مع غيره أن الاجنبي رضي بالذي وقع العتق به بعينه ونحو ما علل به علماؤنا في
صوم يوم النحر أنه مشروع لانه منهي عنه، والنهي يدل على تحقق المشروع ليتحقق
الانتهاء عنه كما هو موجب النهي، فإن عند الخصم مطلق النهي بمنزلة النسخ حتى ينعدم
به المشروع أصلا. فلا بد من هذه الممانعة لمن يريد الكلام في المسألة على سبيل
المفاقهة. وأما الممانعة في الشرط الذي لا بد منه ليصير الوصف علة، بيانه فيما
ذكرنا أن من الاوصاف ما يكون مغيرا حكم الاصل ومن شرط صحة العلة أن لا يكون مغيرا
حكم النص، وذلك نحو تعليل الاشياء الاربعة بالطعم فإنه يغير حكم النص، لان الحكم في
نصوص الربا حرمة الفضل على القدر وثبوت الحرمة إلى غاية وهو المساواة، والتعليل
بالطعم يثبت في المنصوص حرمة فضل لا على القدر، وحرمة مطلقة لا إلى غاية المساواة،
يعني في الحفنة من الحنطة، وفيما لا يدخل تحت القدر من المطعومات التي هي فرع في
هذا الحكم، فلا بد من هذه الممانعة، لان الحكم لا يثبت بوجود ركن الشيء مع انعدام
شرطه. وأما الممانعة في المعنى الذي يكون به الوصف علة موجبة للحكم شرعا فهو
المطالبة ببيان التأثير، لما بينا أن العلة به تصير موجبة للحكم شرعا وهي الحكمة
الباطنة التي يعبر عنها بالفقه.
ص 237
والحاصل أن في الدعوى والانكار يعتبر المعنى دون الصورة، فقد يكون المرء مدعيا صورة
وهو منكر معنى، ألا ترى أن المودع إذا ادعى رد الوديعة يكون منكرا للضمان معنى،
ولهذا كان القول قوله مع اليمين، وإنما جعل الشرع اليمين في جانب المنكر. والبكر
إذا قالت: بلغني النكاح فرددت، وقال الزوج بل سكتت، فالقول قولها عندنا، وهي في
الصورة تدعي الرد ولكنها تنكر ثبوت ملك النكاح عليها في المعنى، فكانت منكرة لا
مدعية. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما: إذا اختلف المتبايعان في الثمن
بعد هلاك السلعة فالقول قول المشتري مع يمينه، وهو في الصورة يدعي بيعا بأقل
الثمنين ولكنه في المعنى منكر للزيادة التي يدعيها البائع، فعرفنا أنه إنما يعتبر
المعنى في الدعوى والانكار دون الصورة. إذا ثبت هذا فنقول: هذه الوجوه من الممانعة
تكون إنكارا من السائل فلا حاجة به إلى إثبات إنكاره بالحجة، واشتغاله بذلك يكون
اشتغالا بما لا يفيد، وقوله إن الحكم في الاصل ما تعلق بهذا الوصف فقط بل به
وبقرينة أخرى يكون إنكارا صحيحا من حيث المعنى وإن كان دعوى من حيث الصورة، لان
الحكم المتعلق بعلة ذات وصفين لا يثبت بوجود أحد الوصفين. وذلك نحو ما يعلل به
الشافعي رحمه الله في اليمين المعقودة على أمر في المستقبل لانها يمين بالله مقصودة
فيتعدى الحكم بهذا الوصف إلى الغموس. فإنا نقول: الحكم في الاصل ثبت بهذا الوصف مع
قرينة وهو توهم البر فيها فيكون هذا منعا لما ادعاه الخصم والخصم هو المحتاج إلى
إثبات دعواه بالحجة. فأما قول السائل: ليس المعنى في الاصل ما قلت وإنما المعنى فيه
كذا، هو إنكار صورة ولكنه من حيث المعنى دعوى وهو دعوى غير مفيد في موضع النزاع،
لانه لا يمكنه أن يقول في موضع النزاع لتقرير ذلك المعنى سوى أن هذا المعنى معدوم
في موضع النزاع، وعدم العلة لا يوجب عدم الحكم وإن كان هذا يصلح للترجيح به من وجه،
على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
ص 238
فصل: القلب والعكس

قال رضي الله عنه: تفسير القلب لغة: جعل أعلى الشيء أسفله وأسفله
أعلاه. من قول القائل: قلبت الاناء إذا نكسه، أو هو: جعل بطن الشيء ظهرا والظهر
بطنا. من قول القائل: قلبت الجراب إذا جعل باطنه ظاهرا وظاهره باطنا، وقلبت الامر
إذا جعله ظهرا لبطن. وقلب العلة على هذين الوجهين. وهو نوعان: أحدهما جعل المعلول
علة والعلة معلولا، وهذا مبطل للعلة، لان العلة هي الموجبة شرعا والمعلول هو الحكم
الواجب به فيكون فرعا وتبعا للعلة، وإذا جعل التبع أصلا والاصل تبعا كان ذلك دليل
بطلان العلة. وبيانه فيما قال الشافعي في الذمي إنه يجب عليه الرجم لانه من جنس من
يجلد بكره مائة فيرجم ثيبه كالمسلم. فيقلب عليه فنقول: في الاصل إنما يجلد بكره
لانه يرجم ثيبه فيكون ذلك قلبا مبطلا لعلته باعتبار أن ما جعل فرعا صار أصلا وما
جعله أصلا صار تبعا. وكذلك قوله: القراءة ركن يتكرر فرضا في الاوليين فيتكرر أيضا
فرضا في الاخريين كالركوع. وهذا النوع من القلب إنما يتأتى عند التعليل بحكم لحكم،
فأما إذا كان التعليل بوصف لا يرد عليه هذا القلب، إذ الوصف لا يكون حكما شرعيا
يثبت بحكم آخر. وطريق المخلص عن هذا القلب أن لا يذكر هذا على سبيل التعليل بل على
سبيل الاستدلال بأحد الحكمين على الآخر، فإن الاستدلال بحكم على حكم طريق السلف في
الحوادث، روينا ذلك عن النبي عليه السلام وعن الصحابة رضي الله عنهم، ولكن شرط هذا
الاستدلال أن يثبت أنهما نظيران متساويان فيدل كل واحد منهما على صاحبه، هذا على
ذاك في حال وذاك على هذا في حال، بمنزلة التوأم فإنه يثبت حرية الاصل لاحدهما أيهما
كان بثبوته للآخر، ويثبت الرق في أيهما كان بثبوته للآخر، وذلك نحو ما يقوله
علماؤنا رحمهم الله. وبيانه فيما قال علماؤنا: إن الصوم عبادة تلزم بالنذر فتلزم
بالشروع كالحج، فلا يستقيم قلبهم علينا، لان الحج إنما يلزم بالنذر لانه يلزم
بالشروع،
ص 239
لانا نستدل بأحد الحكمين على الآخر بعد ثبوت المساواة بينهما من حيث إن المقصود بكل
واحد منهما تحصيل عبادة زائدة هي محض حق الله تعالى، على وجه يكون المعنى فيها
لازما، والرجوع عنها بعد الاداء حرام، وإبطالها بعد الصحة جناية، فبعد ثبوت
المساواة بينهما يجعل هذا دليلا على ذاك تارة وذاك على هذا تارة. وكذلك قولنا في
الثيب الصغيرة من يكون موليا عليه في ماله تصرفا يكون موليا عليه في نفسه تصرفا
كالبكر، وفي البكر البالغة من لا يكون موليا عليه في ماله تصرفا لا يكون موليا عليه
في نفسه تصرفا كالرجل، يكون استدلالا صحيحا بأحد الحكمين على الآخر، إذ المساواة قد
تثبت بين التصرفين من حيث إن ثبوت الولاية في كل واحد منهما باعتبار حاجة المولى
عليه وعجزه عن التصرف بنفسه، فلا يستقيم قلبهم إذا ذكرنا هذا على وجه الاستدلال،
لان جواز الاستدلال بكل واحد منهما على الآخر يدل على قوة المشابهة والمساواة وهو
المقصود بالاستدلال، بخلاف ما علل به الشافعي، فإنه لا مساواة بين الجلد والرجم،
أما من حيث الذات فالرجم عقوبة غليظة تأتي على النفس والجلد لا، ومن حيث الشرط
الرجم يستدعي من الشرائط ما لا يستدعي عليه الجلد كالثيوبة. وكذلك لا مساواة بين
ركن القراءة وبين الركوع، فإن الركوع فعل هو أصل في الركعة، والقراءة ذكر هو زائد،
حتى إن العاجز عن الاذكار القادر على الافعال يؤدي الصلاة، والعاجز عن الافعال
القادر على الاذكار لا يؤديها، ويسقط ركن القراءة بالاقتداء عندنا وعند خوف فوت
الركعة بالاتفاق، ولا يسقط ركن الركوع. وكذلك لا مساواة بين الشفع الثاني والشفع
الاول في القراءة، فإنه يسقط في الشفع الثاني شطر ما كان مشروعا في الشفع الاول وهو
قراءة السورة، والوصف المشروع فيه في الشفع الاول وهو الجهر بالقراءة، ومع انعدام
المساواة لا يمكن الاستدلال بأحدهما على الآخر، والقلب يبطل التعليل على وجه
المقايسة. والنوع الثاني من القلب: هو جعل الظاهر باطنا بأن يجعل الوصف الذي
ص 240
علل به الخصم شاهدا عليه لصاحبه في إثبات ذلك الحكم بعد أن كان شاهدا له، وهذه
معارضة فيها مناقضة، لان المطلوب هو الحكم، فالوصف الذي يشهد بإثباته من وجه وينفيه
من وجه آخر يكون متناقضا في نفسه، بمنزلة الشاهد الذي يشهد لاحد الخصمين على الآخر
في حادثة، ثم للخصم الآخر عليه في عين تلك الحادثة فإنه يتناقض كلامه، بخلاف
المعارضة بعلة أخرى فإنه لا يكون فيها معنى التناقض، بل للاشتباه يتعذر العمل إلى
أن يتبين الرجحان لاحدهما على الآخر، فأما ما يشهد لك على خصمك وبخصمك عليك في
حادثة واحدة في وقت واحد بأنه يتحقق فيه التعارض مع التناقض. وبيان ذلك فيما علل به
الشافعي في صوم رمضان بمطلق النية إنه صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعيين النية كصوم
القضاء. فإنما نقلب عليه فنقول: إنه صوم فرض فبعد ما تعين مرة لا يشترط لادائه
تعيين بنية أخرى كصوم القضاء. وعلل في سنة التكرار في المسح بالرأس فإنه ركن في
الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه واليدين. فإنا نقلب عليه فنقول: ركن في الوضوء فبعد
إكماله بالزيادة على المفروض في محل الفريضة لا يسن تثليثه كالمغسولات، وإقامة
الفرض هنا يحصل بمسح الربع وبالاستيعاب يحصل الاكمال بالزيادة على الفريضة في محل
الفريضة، كما في المغسولات بالغسل ثلاثا يحصل الاكمال بالزيادة على القدر المفروض
وهو الاستيعاب في محل المفروض. فإن قيل: هذا القلب إنما يتأدى بزيادة وصف، وبهذه
الزيادة يتبدل الوصف ويصير شيئا آخر فيكون هذا معارضة لا قلبا. قلنا: نعم في هذا
زيادة وصف ولكنها تفسير للحكم على وجه التقرير له لا على وجه التغيير، فإنا نبين
بهذه الزيادة أن صوم رمضان لما تعين مشروعا في الزمان وغيره ليس بمشروع كان قياسه
من القضاء ما بعد التعيين بالشروع فيه، والاستيعاب في المسح بالرأس لما لم يكن ركنا
كان قياسه من المغسولات بعد حصول الاستيعاب ما إذا حصل الاكمال في المغسولات
بالزيادة بعد الاستيعاب، فيكون تقريرا لذلك الوصف بهذا التفسير لا تغييرا.