مسالك الأفهام - ج6

الصفحة السابقة الصفحة التالية

مسالك الأفهام - ج6

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 5

 كتاب الهبات :

ص 7

[كتاب الهبات والنظر في الحقيقة والحكم الهبة هي العقد المقتضي تمليك العين من غير عوض، تمليكا منجزا مجردا عن القربة.]

كتاب الهبات جمعها باعتبار افرادها المختلفة في الحكم، كالهبة المقبوضة وغيرها، والمعوض عنها وغيرها، والمتصرف فيها وغيرها، والواقعة للرحم وغيره، ونحو ذلك، والا فهي حقيقة واحدة وان اختلفت خواصها، ومن ثم عبر الاكثر بها موحدة. قوله: الهبة هي العقد المقتضي تمليك العين من غير عوض تمليكا منجزا مجردا عن القربة . قد تقدم (1) الكلام في اطلاق [المعنى المطلوب من] (2) هذه الالفاظ على العقد الدال عليها في نظائره من البيع وغيره، وانه مجاز من باب اطلاق اسم السبب على المسبب، أو حقيقة. والعقد هنا بمنزلة الجنس يشمل سائر العقود، وخرج به الفعل الدال على ذلك، كنثار العرس واحضار الطعام بين يدى الضيف، فانه لا يسمى هبة بل اباحة، والموت المقتضي لتملك الاعيان بالارث، وحيازة المباحات كالاحتطاب والاحتشاش.

(هامش)

(1) لاحظ ج 3: 144. (2) لم ترد في س و ش . ولعله أولى. (*)

ص 8

[وقد عبر عنها بالنحلة والعطية.]

وخرج: بقوله: المقتضي لتمليك العين نحو العارية والاجارة، فان الاول لا يقتضي تمليكا مطلقا، والثانى يقتضي تمليك المنفعة. وبقوله: من غير عوض نحو البيع والصلح الواقع على الاعيان بعوض. وبقوله: منجزا لوصية بالاعيان، فان ملكها يتوقف على الموت. وبقوله: مجردا عن القربة الصدقة، فإنها مشروطة بها كما سلف، والوقف والسكنى وما يلحق بها ان اعتبرنا فيه القربة، والا فالتعريف منتقض بها كما هو الاصح. ودخل في العقد الدال على ذلك اشارة الاخرس، بخلاف ما عبر به غيره من انه اللفظ الدال على ذلك فانها خارجة. وينتقض في عكسه بالهبة المشروط فيها الثواب والمتقرب بها، فان القربة وان لم يشترط فيها الا انها لا تنافيها، بل المتقرب بها اكمل افرادها. ويمكن دفعها بأن المراد من قوله: من غير عوض ومجردا عن القربة أن العوض غير لازم فيها وكذا القربة، لا انتفاء العوض والقربة أصلا، والهبة المشروط فيها العوض والمتقرب بها العوض والقربة غير شرط، فلو تجردت عنهما صحت، بخلاف ما يعتبران فيه كالبيع والصدقة. وبأن العقد المذكور لا يقتضي الملك بنفسه، بل لا بد معه من القبض اجماعا، فلا يكون وحده مقتضيا للملك. ويمكن دفعه بأنه إنما جعله مقتضيا للتمليك لا للملك، ولا شبهة في ان قوله: وهبتك يقتضي تمليكه العين المخصوصة وان لم يتحقق الملك بذلك، بل توقف على أمر آخر. أو يقال: إن الاقتضاء أعم من التام والناقص، فلا ينافي توقفه على أمر آخر. قوله: وقد يعبر عنها بالنحلة والعطية . النحلة - بالكسر - اسم للعطية، والمصدر النحل بالضم، تقول: نحلته أنحله (1) نحلا. والعطية تطلق على مطلق الاعطاء المتبرع به (2)، فيشمل الوقف

(هامش)

(1 و2) راجع الصحاح 5: 1826، ولسان العرب 11: 650 مادة (نحل). (*)

ص 9

 الإيجاب والقبول في الهبة

[وهي تفتقر إلى الايجاب والقبول والقبض. فالايجاب كل لفظ قصد به التمليك المذكور كقوله - مثلا -: وهبتك وملكتك.]

والصدقة والهبة والهدية والسكنى، ومن ثم اطلق بعض الفقهاء (1) عليها اسم العطايا وعنونها بكتاب، فتكون أعم من الهبة. والنحلة في معناها، فيكون إطلاقها على الهبة كاطلاق الجنس على النوع. وقد عرفت أن الهبة أعم من الصدقة، لاشتراطها بالقربة دونها. وأما الهدية فهي أخص من الهبة ايضا، لانها تفتقر إلى قيد آخر مضافا إلى ما ذكر في تعريف الهبة، وهو ان يحمل الموهوب من مكان إلى مكان الموهوب منه إعظاما له وتوقيرا، فامتازت عن مطلق الهبة بذلك، ولهذا لا يطلق لفظها على العقارات الممتنع نقلها، فلا يقال: أهدى إليه دارا ولا ارضا، ويقال: وهبه ذلك، فصارت الهبة اعم منها ايضا (2). وعلى هذا يتفرع أنه لو نذر الهبة برئ بالهدية والصدقة، دون العكس مطلقا. ولو حلف لا يهب، فتصدق أو أهدى حنث، دون العكس بتقدير فعله فردا منها خارجا عنهما. وقال الشيخ في المبسوط: الهبة والهدية والصدقة بمعنى واحد (3) ثم علله بمسألة الحلف، وهي لا تدل على مطلوبه كما لا يخفى، بل التحقيق ما ذكرناه. قوله: وهي تفتقر إلى الايجاب والقبول... الخ . لما كانت الهبة من العقود اللازمة على تقدير اجتماع شرائط اللزوم اعتبر فيها ما يعتبر في العقود اللازمة من الايجاب والقبول القوليين العربيين وفورية القبول للايجاب بحيث يعد جوابا له، وغير ذلك مما يعتبر في العقود. ولما كانت جائزة على كثير من الوجوه لم يضيقوا المجال فيها على حد العقود اللازمة، فاكتفوا فيها بكل ما دل على التمليك المذكور، حتى قالوا: لو قال: هذا لك، مع نية الهبة كفى مع كونه ليس

(هامش)

(1) راجع إرشاد الاذهان 1: 449. (2) في س : أعم منها مطلقا. (3) المبسوط: 303 3. (*)

ص 10

[...]

بلفظ الماضي، لدلالته على الانشاء من حيث اسم الاشارة المقترن بلام الملك أو الاختصاص. وهذا بخلاف ما لو قال: هذا مبيع لك بكذا، فان البيع لا ينعقد به، لما قلناه من عدم لزوم هذا العقد مطلقا، فتوسع فيه كما توسعوا في عقد الرهن حيث كان جائزا من احد الطرفين لازما من الاخر. وظاهر الاصحاب الاتفاق على افتقار الهبة مطلقا إلى العقد القولي في الجملة، فعلى هذا ما يقع بين الناس على وجه الهدية من غير لفظ يدل على ايجابها وقبولها لا يفيد الملك بل مجرد الاباحة، حتى لو كانت جارية لم يحل له الاستمتاع بها، لان الاباحة لا تدخل في الاستمتاع. قال الشيخ في المبسوط: ومن اراد الهدية ولزومها وانتقال الملك منه إلى المهدى إليه الغائب فليوكل رسوله في عقد الهدية معه، فإذا مضى وأوجب له وقبل المهدى إليه وأقبضه إياها لزمه العقد، وملك المهدى إليه الهدية (1). ونحوه قال في الدروس (2)، وجعل عدم اشتراط الايجاب والقبول فيها احتمالا. واختلف كلام العلامة ففي القواعد (3) قطع بأن الهدية كالهبة في اشتراطها بالايجاب والقبول والقبض. وفي التحرير نقل قريبا من كلام الشيخ، ثم قال: ولو قيل بعدم اشتراط القبول نطقا كان وجها، قضاء للعادة بقبول الهدايا من غير نطق (4). ويلوح من آخر كلامه في التذكرة (5) الفتوى به من غير تصريح، لانه نقل عن قوم من العامة انه لا حاجة في الهدية إلى الايجاب والقبول اللفظيين، بل البعث من

(هامش)

(1) المبسوط: 3: 315. (2) الدروس: 238. (3) قواعد الاحكام 1: 274. (4) تحرير الاحكام 1: 284. (5) تذكرة الفقهاء 2: 415. (*)

ص 11

[...]

جهة المهدي كالايجاب والقبض من جهة المهدى إليه كالقبول، لان الهدايا كانت تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من كسرى وقيصر وسائر الملوك فيقبلها، ولا لفظ هناك، واستمر الحال من عهده صلى الله عليه وآله إلى هذا الوقت في سائر الاصقاع، ولهذا كانوا يبعثون على أيدي الصبيان الذين لا يعتد بعبارتهم. قال: ومنهم من اعتبرهما كما في الهبة، واعتذروا عما تقدم بأن ذلك كان إباحة لا تمليكا. وأجيب بأنه لو كان كذلك لما تصرفوا فيه تصرف الملاك، ومعلوم ان النبي صلى الله عليه وآله كان يتصرف فيه ويملكه غيره، ويمكن الاكتفاء في هدايا الاطعمة بالارسال والاخذ جريا على العادة بين الناس . قال: والتحقيق مساواة غير الاطعمة لها، فان الهدية قد تكون غير طعام، فانه قد اشتهر هدايا الثياب والدوات من الملوك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن مارية القبطية أم ولده كانت من الهدايا . وهذا الذى ذكره من التحقيق يشعر بما نقلناه عنه من الاكتفاء بذلك، وهو حسن. ومع ذلك يمكن ان يجعل ذلك كالمعاطاة يفيد الملك المتزلزل، ويبيح التصرف والوطي، ولكن يجوز فيها الرجوع فيها قبله، عملا بالقواعد المختلفة، وهي أصالة عدم اللزوم، مع عدم تحقق عقد يجب الوفاء به، وثبوت جواز التصرف فيها، بل وقوعه ووقوع ما ينافي الاباحة، وهو الوطئ وإعطاؤه الغير، فقد وقع ذلك للنبى صلى الله عليه وآله وسلم في مارية ام ولده (1)، وقد كان يهدى إليه الشيء فيهديه لزوجاته وغيرهم (2)، وأهدي إليه حلة فاهداها لعلي عليه السلام (3) من غير ان ينقل

(هامش)

(1) الطبقات الكبرى 1: 134 (2) الطبقات الكبرى 8: 188 - 189، المستدرك للحاكم 3: 218. (3) راجع سعد السعود: 90، والبحار 43: 76. (*)

ص 12

[ولا يصح العقد الا من بالغ كامل العقل جائز التصرف. ولو وهب ما في الذمة، فان كانت لغير من عليه الحق، لم يصح على الاشبه، لانها مشروطة بالقبض. وان كانت له صح وصرفت إلى الابراء،]

قبول لفظي عنه ولا من الرسل ايجاب كذلك مقارن له، وهذا كله يدل على استفادة الملك في الجملة لا الاباحة، ولا ينافى جواز الرجوع المهدي في العين ما دامت باقية. واعلم ان المصنف ذكر الايجاب في الهبة ولم يذكر القبول، ولعله اكتفى بأصل اشتراطه وظهور لفظه من لفظ الايجاب، فانه الرضا به. قوله: ولا يصح العقد الا من بالغ العقل جائز التصرف . إطلاق العقد شامل لمتولي الايجاب والقبول، فكما لا يصح ايجاب الهبة من الصبي والمجنون والعبد والمحجور عليه لا يصح قبولها منهم، لكن تولي الايجاب منتف منهم ومن الولي، إذ لا غبطة لهم في هبة مالهم الا على وجه نادر، واما القبول فيمكن من الولي. ولا فرق في الصبي بين من بلغ عشرا وغيره. ونبه باشتراط وقوع العقد من البالغ مطلقا على خلاف من جوز هبة وصدقة من بلغ عشرا من الاصحاب (1)، وعلى خلاف بعض العامة (2) حيث اكتفى بايجاب الولي حتى في البيع بأن يقول: اشتريت لطفلي كذا، أو اتهبت له كذا. ومن هذا الباب ما لو قال الولي: جعلت هذا الشيء لابني وكان صغيرا، أو غرس شجرا وقال: غرسته له ونحو ذلك، لم يكن في ملكية الولد حتى يقبل له لفظا بناء على عدم الاكتفاء بالايجاب، وفرع المجتزي به الاكتفاء بذلك في ملكه. قوله: ولو وهب ما في الذمة فان كان... الخ . هنا مسألتان: أولاهما: ان يهب الدين لغير من هو عليه، وفي صحته قولان:

(هامش)

(1) راجع النهاية: 611، المهذب 2: 119. (2) لم نعثر على هذا القول في الكتب الموجودة لدينا من العامة وانما ذكره العلامة في التذكرة 2: 415 وجها للشافعية. (*)

ص 13

[...]

احدهما - وهو عليه المعظم -: العدم، لان القبض شرط في صحة الهبة، وما في الذمة يمتنع قبضه، لانه ماهية كلية لا وجود لها في الخارج، والجزئيات التى يتحقق الحق في ضمنها ليس هي الماهية، بل بعض افرادها، وأفرادها غيرها. والثانى: الصحة، ذهب إليه الشيخ (1) وابن ادريس (2) والعلامة في المختلف (3)، لانه يصح بيعه والمعاوضة عليه فصحت هبته للغير. واشتراطها بالقبض لا ينافيه لتحققه بقبض احد جزئياتها، بأن يقبضه المالك ثم يقبضه أو يوكله في القبض عنه ثم يقبض من نفسه، لا بأن يجعل قبضه عن الهبة قبضا عن المالك لئلا يلزم الدور. وهذا الكلي يرجع إلى الكلي الطبيعي، لان المراد من الدين الذى في الذمة - كمائة درهم مثلا - معروض مفهوم الكلي النوعى ككلية الانسان بالنسبة إلى مفهوم النوع، والكلي الطبيعي موجود في الخارج بعين وجود افراده. ولانه لولا وجوده والقدرة على تسليمه لما صح بيعه والمعاوضة عليه، لان البيع مشروط بالقدرة على تسليم المبيع اجماعا في غير الآبق، بل يشترط وجوده مطلقا، والماهية لا وجود لها على ما ذكروه. وما قيل في الفرق بين البيع والهبة بأن القدرة على تسليمه يكفي فيها ما به يتحقق المعاوضة، وتحققها يكفى فيه القدرة على تسليم بعض افراد الماهية المعدود احد العوضين، ويدخل في ملك المشترى من غير توقف على قبض، ثم يستحق المطالبة بالاقباض، بخلاف الهبة، فان الاقباض له دخل في حصول الملك، فلا بد ان يقبض الواهب الدين ثم يقبضه المتهب، فامتنع نقله إلى ملك المتهب حين هو دين، وكذا بعد تعيين المديون له قبل قبض الواهب، لانتفاء الملك، وبقبض الواهب يحدث الملك له فيمتنع تقديم انشاء الهبة عليه، إذ تكون جارية مجرى ما سيملكه ببيع وغيره، وذلك غير جائز.

(هامش)

(1) المبسوط 3: 314، الخلاف 3: 572 مسألة (20). (2) السرائر 3: 176. (3) المختلف 2: 487. (*)

ص 14

[...]

وقد ظهر عليك جوابه مما قررناه، فان ما في الذمة ان كان موجودا متحققا يمكن قبضه وتسليمه فبيعه وهبته صحيحان، لحصول الشرط والقدرة على القبض. ولا يقدح في الفرق استحقاق المبيع من دون القبض دون الهبة، لانا نحكم بصحة الهبة حينئذ الا بعد القبض، كما لا نحكم بصحتها لو تعلقت بعين خاصة الا بعد قبضها، لكن نقول: ان القبض لما كان ممكنا بقبض بعض افراد الماهية التى جوزتم بيعها كذلك جاز هبتها، وتوقفت صحتها على حصول قبضها على ذلك الوجه. ولا شبهة في ان الدين مملوك للواهب قبل قبضه، وقبضه ممكن على الوجه المذكور، فصحت هبته وتوقفت على قبضه كما توقفت لو كان عينا. وبهذا يظهر انه لا يمتنع نقله إلى ملك المتهب حين هو دين، لانه مملوك له والا لما صح له بيعه وغيره من المعاوضات، وقبض الواهب ما أحدث له الملك بل التعيين، فأمكن تقديم انشاء الهبة عليه ولم يكن كهبة ما سيملكه. فظهر ان الصحة متوجهة وان كان جانب البطلان ايضا وجيها من حيث انه المشهور ولشبهة ما ذكر. الثانية: ان يهب الدين لمن هو عليه. وقد قطع المصنف وغيره (1) بصحته في الجملة ونزل الهبة منزلة الابراء، فانه اسقاط لما في الذمة فلا يفتقر إلى قبض، ولا يجري فيه الشبهة. وابراء المديون لا اشكال في صحته، وظاهرهم انه لا ينحصر في لفظ، بل ما دل عليه، والهبة هنا يدل عليه، وقد جوزه في باب (2) الجنايات بلفظ العفو واطلقه الله تعالى في الآية ايضا في قوله تعالى: الا ان يعفون أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح (3) على تقدير كونه دينا. وينبغى على هذا جوازه بلفظ الاسقاط بطريق اولى، لانه اقرب إلى معناه من الهبة التى متعلقها ما يمكن قبضه شرعا، وهذا

(هامش)

(1) راجع الغنية (الجوامع الفقهية): 541، المؤتلف من المختلف 1: 686 مسألة (20)، الجامع للشرائع: 365، الدروس: 236 وجامع المقاصد 9: 137. (2) كتاب القصاص، المسألة السابعة من القسم في قصاص الطرف. (3) البقرة: 237. (*)

ص 15

[ولا يشترط في الابراء القبول، على الاصح.]

المعنى غير مراد هنا، بل غايته إذ لا معنى لاستحقاق الانسان ما في ذمة نفسه، بل الغاية من ذلك سقوطه، وعبر عنه بالهبة لتقارب المعنيين ودلالته على المراد عرفا. ويدل على وقوع الابراء هنا بلفظ الهبة صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل يكون له على الرجل الدراهم فيهبها له أله ان يرجع فيها؟ قال: لا (1) فإنه لو لم يجعل ابراء بل هبته لما امكن اطلاق القول بعدم جواز الرجوع، لما سيأتي (2) - ان شاء الله تعالى - من جوازه فيها في مواضع كثيرة، بخلاف الابراء، فإنه لازم مطلقا. واعلم ان الابراء مهموز ففعله الماضي في صيغته يكون مهموزا ايضا، ويجوز تسهيله الفا من جنس حركة ما قبله على القاعدة العربية. وأصله التخليص، قال الجوهرى: تقول أبرأته مما لي عليه وبرأته تبرئة (3). قوله: ولا يشترط في الابراء القبول على الاصح . موضوع هذه المسألة اعم من الاولى، لشمولها ابراء كل من عليه الحق بلفظ الابراء والهبة وغيرهما. وقد اختلف الاصحاب في اشتراط القبول في الابراء مطلقا، فذهب الاكثر إلى عدمه، للاصل، ولانه اسقاط لا نقل شيء إلى الملك، فهو بمنزلة تحرير العبد. واحتج له بقوله تعالى: (فنظرة إلى ميسرة وان تصدقوا خير لكم) (4)، حيث اعتبر مجرد الصدقة ولم يعتبر القبول، وبقوله تعالى: (ودية مسلمة إلى اهله الا

(هامش)

(1) الكافي 7: 32 ح 13، التهذيب 9: 154 ح 629، الاستبصار 4: 111 ح 424، الوسائل 13: 332 ب 1 من ابواب الهبات ح 1. (2) في ص: 31. (3) الصحاح 1: 36. (4) سورة البقرة 280. (*)

ص 16

[...]

ان يصدقوا) (1)، فأسقط الدية بمجرد التصدق ولم يعتبر القبول، والمراد بالتصدق فيهما الابراء. وفيه: ان الصدقة كما تقدم (2) من العقود المفتقرة إلى القبول اجماعا، فدلالتهما على اعتباره أولى من عدمه. وذهب ابن زهرة (3) وابن ادريس (4) إلى اشتراط القبول، واختلف كلام الشيخ في المبسوط (5)، ففي أول المسألة قواه، وفى آخرها قوى الاول، فاطلاق جماعة نسبة القول باشتراطه إليه ليس بجيد. واحتجوا للاشتراط بأن في ابرائه من الحق الذى عليه منه فلا يجبر على تحملها، كما لا يجبر على قبول هبة العين، ولو لم يعتبر القبول لتحملها جبرا. واجيب الفرق بين التمليك والاسقاط شرعا وعرفا: اما الاول: فلانه لو أبرأ مالك الوديعة المستودع منها مثلا لم يملكها بذلك وان قبل وكذا غيره، وكذا لو أسقط حقه من عين مملوكة لم تخرج بذلك عن ملكه، بخلاف الدين، فانه قابل لذلك، لانه ليس شيئا موجودا فكان أشبه بالعتق. واما الثاني: فلان اسقاط الانسان حقه باختياره من غير ابتداء من عليه الحق لا تظهر فيه منة يثقل تحملها على من عليه الحق عرفا بخلاف هبة الاعيان المتوقفة على القبول اجماعا، فلعل تعرضه للقبول بحضرته ومقارنته للايجاب ورعاية ما يعتبر في الصحة بعده من الاقباض والقبض دليل على الحرص على التمليك (6) الموجب للمنة غالبا.

(هامش)

(1) النساء: 92. (2) في ج 5: 408. (3) الغنية (الجوامع الفقهية): 541. (4) السرائر 3: 176. (5) المبسوط 3: 314. (6) كذا في س . وفي غيرها: التملك. (*)

ص 17

[ولا حكم للهبة ما لم يقبض.]

ويدل على عدم اعتبار القبول ايضا ظاهر قوله تعالى: (الا ان يعفون أو يعفوالذى بيده عقدة النكاح) (1)، حيث اكتفى في سقوط الحق بمجرد العفو، ولا دخل للقبول في مسماه قطعا. وسيأتي الاكتفاء بمجرد العفو في المهر (2) وفي سقوط الحدود والجنايات الموجبة للقصاص (3)، وهو في معنى الابراء. وهذا أقوى وأشهر. قوله: ولا حكم للهبة ما لم يقبض . لا خلاف بين الاصحاب في ان القبض شرط في الهبة في الجملة، ولكن اختلفوا في انه هل هو شرط لصحتها أو للزومها؟ فمعظم المتأخرين على الاول وهو مقتضى كلام المصنف، فإن الحكم المنفي للهبة بدونه يقتضي رفع جميع الاحكام، لانه وقع نكرة منفية وذلك يقتضى عدم انعقادها بدونه اصلا. واستدلوا عليه بأصالة بقاء الملك على مالكه وعدم تأثير العقد في مقتضاه، خرج منه ما بعد القبض بالاجماع فيبقى الباقي، ولقول الصادق عليه السلام في رواية أبي بصير: الهبة لا تكون أبدا هبة حتى يقبضها (4) وقوله عليه السلام في (5) النحلة والهبة ما لم تقبض حتى يموت صاحبها: هي بمنزلة الميراث (6). وذهب جماعة - منهم أبو الصلاح (7) والعلامة في المختلف (8)، ونقله ابن

(هامش)

(1) االبقرة: 237. (2) في المهور من كتاب النكاح، المسألة الثالثة عشرة من الطرف الثالث. (3) في كيفية الاستيفاء من كتاب االقصاص. (4) التهذيب 9: 159 ح 654، الاستبصار 4: 107 ح 407، الوسائل 13: 336 ب 4 من احكام الهبات ح 7. (5) لم ترد في الا في س و ش ولم ترد في المصادر ايضا ولكن الظاهر انه الصحيح في عبارة الشارح، وورد بعد هذه الجملة في ما عدا س، ش : قال تبعا للمصدر ورجحنا عدم ايراده في عبارة الشارح كما في النسختين لانه غير كيفية النقل. (6) التهذيب 9: 155 ح 637، الوسائل 13: 334 ب 4 من احكام الهبات ح 1. (7) ولكنه في الكافي: 322 جعله شرطا للصحة كما نسبه إليه ايضا العلامة في المختلف: 486. (8) مختلف الشيعة: 486. (*)

ص 18

[...]

ادريس (1) عن المعظم مع اختياره الاول - إلى الثاني. واستدلوا عليه بأنه عقد يقتضي التمليك فلا يشترط في صحته القبض كغيره من العقود، ولعموم الامر بالوفاء (2) بها المقتضي له، ولانه تبرع كالوصية فلا يعتبر فيه ايضا، ولصحيحة ابي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الهبة جائزة قبضت أو لم تقبض، قسمت أو لم تقسم، والنحل لا تجوز حتى تقبض، وانما أراد الناس ذلك فأخطأوا . (3)وأجابوا عن الاول بارتفاع الاصل بطرو السبب الناقل. وعموم الامر بالوفاء بالعقد يمنع عدم تأثيره بل يقتضيه مطلقا. والرواية الاولى لا يجوز حملها على ظاهرها للتناقض، بل المراد ان الهبة لا تكون هبة لازمة ما لم تقبض، وهو أولى من اضمار الصحة، فان ما ليس بصحيح كالمعدوم. والثانية ضعيفة السند مرسلة. ويمكن ان يقال على الثاني: ان العقود منها ما يقتضي الملك ومنها ما لا يقتضيه بدون القبض، وقد تقدم منه الوقف، فيكون أعم. والمراد بالوفاء بها العمل بمقتضاها من لزوم وجواز وغيرهما، فلا يدل على المطلوب. وكذلك مطلق التبرع اعم مما لا يعتبر فيه القبض، والحاقه بالوصية قياس. واطلاق الهبة على غير المقبوضة اعم من الحقيقة، وجاز ان يكون مجازا تسمية للشئ باسم ما يؤول إليه على تقدير لحوقه، أو اطلاقا لاسم المجموع على بعض الاجزاء، فان الايجاب والقبول اعظم اجزاء السبب التام في تحققها على تقدير عدمه بهما خاصة. ومطلق جوازها لا نزاع فيه. قال في الدروس: والروايات متعارضة، ولعل الاصحاب أرادوا باللزوم الصحة، فان في كلامهم إشعارا به، فان الشيخ قال: لا يحصل الملك الا بالقبض وليس كاشفا عن حصوله بالعقد. مع أنه قائل بأن الوهب

(هامش)

(1) السرائر 3: 173. (2) المائدة: 1. (3) التهذيب 9: 156 ح 641، الاستبصار 4: 110 ح 422، الوسائل 13: 335 ب 4 من ابواب الهبات ح 4. (*)

ص 19

[...]

لو مات لم تبطل الهبة، فيرتفع الخلاف (1). هذا كلامه. وفيه نظر، لمنع تعارض الروايات على ما قد سمعت، فان الجمع بينها ممكن. وإرادة جميع الاصحاب من اللزوم الصحة غير واضح، فإن العلامة في المختلف (2) نقل القولين واحتج لهما ثم اختار الثاني، فكيف يحمل على الآخر؟! نعم، كلام الشيخ الذى نقله متناقض، وليس حجة على الباقين، فان الخلاف متحقق. وفي التذكرة اتفق ما هو اعجب مما في الدروس، فإنه قال: الهبة والهدية والصدقة لا يملكها المتهب والمهدى إليه والمتصدق عليه بنفس الايجاب والقبول إذا كان عينا الا بالقبض، وبدونه لا يحصل الملك عند علمائنا أجمع . (3) وهذا ظاهر فيدعوى الاجماع على ان القبض شرط الصحة [إجماعا] (4) وهو يؤيد ما في الدروس وينافي ما في المختلف. ويمكن ان يحمل على انه لا يحصل بدونه الملك التام وهو اللازم، فيكون أعم من الصحة وعدمها، لئلا ينافي فتواه في المختلف ونقله الخلاف وان كان خلاف الظاهر. إذا تقرر ذلك فيتفرع على القولين النماء المتخلل بين العقد والقبض، فانه للواهب على الاول وللموهوب على الثاني، وفيما لو مات الواهب قبل الاقباض، فيبطل على الاول ويتخير الوارث في الاقباض وعدمه على الثاني، وفى فطرة المملوك الموهوب قبل الهلال ولم يقبضه الا بعده، فانها على الواهب على الاول وعلى الموهوب على الثاني، وفي نفقة الحيوان مطلقا، فانها على الاول على الاول وعلى الثاني على الثاني.

(هامش)

(1) الدروس: 236. (2) المختلف: 486. (3) التذكرة 2: 417. (4) كذا ورد في النسخ. والظاهر زيادته. (*)

ص 20

[ولو أقر بالهبة والاقباض، حكم عليه بإقراره، ولو كانت في يد الواهب. ولو انكر بعد ذلك لم يقبل. ولو مات الواهب بعد العقد وقبل القبض، كانت ميراثا.]

قوله: ولو أقر بالهبة والاقباض... الخ . وذلك لعموم إقرار العقلاء على أنفسهم جائز (1). وكونها في يد الواهب لا ينافيه لجواز اقباضه اياه ثم ردها إليه، الا ان يعلم كذبه في اخباره به - كقصر الوقت الذى لم يسع (2) القبض والرد ونحو ذلك - فلا يلتفت إليه. وعلى هذا فلا يتوجه على المقر له اليمين على القبض عملا بمقتضى الاقرار. نعم لو ادعى المواطاة على الاقرار للمتهب. وان مخبره (3) لم يكن واقعا، توجهت له اليمين على المتهب على حصول القبض، أو على عدم المواطاة على الاقوى. وقيل على الاول خاصة. قوله: ولو مات الواهب بعد العقد وقبل القبض كان ميراثا . أي كان ميراثا لورثة الواهب، لبطلان العقد عنده بموته قبل الاقباض، مع انه شرط في صحته كغيره من العقود الجائزة كالوكالة والشركة. ولرواية داود بن الحصين عن الصادق عليه السلام في الهبة والنحلة ما لم تقبض حتى يموت صاحبها، قال: هو ميراث (4). وفي معناها رواية (5) أبان عنه عليه السلام. ولكن في طريقالاولى علي بن فضال وحاله معلوم، وداود بن الحصين وهو واقفي. وان كانا ثقتين فهي من الموثق. والثانية مرسلة ضعيفة. وقال الشيخ في المبسوط (6): لا تبطل الهبة وقام الوارث مقامه كالبيع في مدة

(هامش)

(1) مر الكلام حول هذه الجملة ومصادرها والتشكيك في كونها رواية في ج 4: 90 هـ 1. (2) في س : لا يسع. وفي ب : لم يسع. (3) في س : فحواه. (4) التهذيب 9: 157 ح 648، الاستبصار 4: 107 ح 409، الوسائل 13: 335 ب 4 من ابواب الهبات ح 5. (5) التهذيب 9: 155 ح 637، الوسائل 13: 334 ب 4 من ابواب الهبات ح 1. (6) المبسوط 3: 305. (*)

ص 21

[ويشترط في صحة القبض اذن الواهب، فلو قبض الموهوب من غير اذنه، لم ينتقل إلى الموهوب له.]

الخيار، من حيث ان الهبة عقد يؤول إلى اللزوم فلا تنفسخ بالموت. وتبعه ابن البراج (1) على ذلك، مع ان الشيخ قال في هبة ذى الرحم: إذا مات قبل قبضها كان ميراثا (2). وقال: ان الملك لا يحصل الا بالقبض، وليس كاشفا عن حصوله بالعقد (3). فكلامه متناقض. وموت الموهوب بمنزلة موت الواهب، ولم يذكره الاكثر. وممن صرح به العلامة في التذكرة (4). ولا فرق مع موته قبل القبض بين اذنه فيه قبله وعدمه، لبطلان الاذن بالموت. وفي معناه ما لو أرسل هدية إلى انسان فمات المهدي أو المهدى إليه قبل وصولها، فليس للرسول دفعها حينئذ إلى المهدى إليه ولا إلى وارثه، لبطلان الهدية بالموت قبل القبض كالهبة. قوله: ويشترط في صحة القبض اذن الواهب... الخ . هذا مما لا خلاف فيه عندنا، ولان التسليم لما لم يكن مستحقا على الواهب كان قبض المتهب بغير اذنه كقبض ماله كذلك، وهو محرم لا يترتب عليه أثر، كما لو قبض المشترى المبيع قبل تسليم الثمن بغير اذن البائع، وأولى بالحكم هنا. ولا فرق بين كونهما في المجلس وعدمه. وخالف في ذلك بعض (5) العامة، فلم يشترط الاذن إذا كانا في المجلس استنادا إلى ان الايجاب تضمن الاذن في القبولوالقبض في المجلس معا، بخلاف ما بعده. ولا يخفى منع الامرين معا، فان القبول

(هامش)

(1) المهذب 2: 95. (2) النهاية 602. (3) المبسوط 3: 304. (4) التذكرة 2: 417. (5) المغني لابن قدامة 6: 277، والشرح الكبير 6: 279. راجع اللباب 2: 171، حلية العلماء 6: 49. (*)

ص 22

[ولو وهب ما هو في يد الموهوب له صح، ولم يفتقر إلى اذن الواهب في القبض، ولا يمضي زمان يمكن فيه القبض، وربما صار إلى ذلك بعض الاصحاب.]

اثبته الشارع لا الموجب، والقبض تسليط على المال ولم يوجد ما يدل عليه. ولو سلم دلالة الايجاب عليه لم يختص بالمجلس. واعلم انه يستفاد من اطلاق اعتبار اذن الواهب في القبض عدم اشتراط كونه بنية الهبة، فلو اذن له مطلقا صح، خلافا لبعض الاصحاب (1) حيث اعتبر وقوعه للهبة والاذن فيه كذلك، فإن ذلك هو المقصود، وحيث كان مطلق القبض صالحا لها ولغيرها فلا بد من مايز وهو القصد. وهو حسن حيث يصرح بكون القبض لا لها، لعدم تحقق القبض المعتبر فيها، اما لو اطلق فالاكتفاء به اجود، لصدق اسم القبض، وصلاحيته للهبة، ودلالة القرائن عليه بخلاف ما لو صرح بالصارف. قوله: ولو وهب ما هو في يد الموهوب له صح... الخ . إطلاق الحكم واليد يقتضي عدم الفرق بين كونه في يد الموهوب بوجه مأذون فيه كالعارية والوديعة وغيره كالغصب. ووجه تساويهما في الحكم بالصحة صدق القبض في الحالين، فانه مستصحب، ودوام الشيء اقوى من ابتدائه. ولا يقدح فيه ما تقدم من اعتبار كون القبض للهبة أو مطلقا، لان ايجابه العقد واقرار يده على العين بعده دليل على رضاه بقبضه لها. ولا كونه مقبوضا على وجه الغصب، لما ذكرناه، ولاناطلاق القبض المعتبر فيه يشمله، وغايته النهي عنه وهو لا يدل على فساد المعاملة. وحيث لا يفتقر إلى اذن في القبض جديد لا يفتقر إلى مضي زمان يمكن فيه، لان الزمان المذكور انما يعتبر حيث يعتبر القبض، لكونه من ضروراته ولوازمه فإذا لم يعتبر سقط اعتبار التابع. وقول المصنف: وربما صار إلى ذلك بعض الاصحاب يمكن عود الاشارة

(هامش)

(1) قواعد الاحكام 1: 274. (*)

ص 23

[...]

بذلك إلى مضى الزمان خاصة، بمعنى انه لا يعتبر تجديد الاذن في القبض ولكن يفتقر إلى مضي زمان يمكن فيه القبض. وهذا هو الذى (1) يظهر من عبارة الشيخ في المبسوط واختياره. ووجهه بان اقرار يده عليه بعد العقد دليل على رضاه بالقبض، فيكون ذلك كتجديد الاقباض، فيعتبر مضي زمان يمكن فيه القبض كما لو لم يكن مقبوضا بيده فأقبضه اياه، فانه يعتبر مضي زمان يمكن فيه القبض حيث لا يكون مقبوضا في يده بالفعل، فكذا هنا. وجوابه يعلم مما سبق، فانا لا نجعل الايجاب اقباضا بل هو متحقق قبله، وانما نجعله علامة وأمارة على رضاه بقضبه السابق وتنزيله منزلة الاقباض. ويمكن عود الاشارة إلى كل واحد من الاذن في القبض ومضي الزمان، بمعنى عدم الاكتفاء بالقبض السابق مطلقا، بل يفتقر إلى تجديده ومضي زمان يمكن فيه القبض، لان الموهوب ليس في يد الواهب، فلا يتصور إقباضه إياه خصوصا في المغصوب، لان يد القابض عدوان فلا يترتب عليه حكم شرعي. ولان المعتبر قبضه للهبة لا مطلقا، كما مر، فانه لو وهبه ثم اقبضه اياه على وجه الايداع لم يحصل القبض الذى هو شرط الهبة، فافتقر إلى الاقباض. وقد عرفت جوابه. وينبغى انيستثنى منه حالة الغصب حيث لا يد للغاصب عليه شرعا.

(هامش)

(1) في هامش و: إنما جعل ذلك ظاهر عبارة المبسوط دون تصريحها لانه قال فيه: إذا وهب له شيئا في يده، مثل ان يكون له في يده وديعة فيهبها له، ننظر فإن أذن له في القبض ومضى بعد ذلك زمان يمكن القبض فيه لزم العقد، وإن لم يأذن له في القبض فهل يلزم القبض بمضي الزمان الذى يمكن فيه القبض، أو لا بد من القبض؟ منهم من قال: الاذن شرط فيه، ومنهم من قال: لا يفتقر إلى الاذن، وهو الاقوى، لان إقرار يده عليه بعد العقد دليل على رضاه بالقبض. انتهى. فظاهر العبارة - كما ترى - اشتراط مضي زمان يمكن فيه القبض مع تصريحه بترجيح عدم الافتقار إلى تجديد إذن القبض. منه رحمه الله . لاحظ المبسوط 3: 305. (*)

ص 24

[وكذا لو وهب الاب أو الجد للولد الصغير، لزم بالعقد، لان قبض الولي قبض عنه.]

قوله: وكذا إذا وهب الاب أو الجد الولد الصغير لزم العقد، لان قبض الولي قبض عنه . أي وكذا الحكم - وهو عدم افتقار الهبة إلى قبض جديد ولا مضي زمان - فيما إذا وهب الاب أو الجد له الولد الصغير - ذكرا كان ام انثى - شيئا هو في يد الواهب، فإن قبضه السابق على الهبة كاف عن قبض الهبة الطارية لكونه تحت يده، فاليد مستدامة، وهي اقوى من المبتدأة. وانما ترك التصريح هنا بكون الموهوب تحت يده - مع أن هبته للولد ما هو ملكه اعم من كونه تحت يده وعدمه، والحكم مختص بما هو تحت يده - اتكالا على ما علم في المسألة السابقة، وقد شبه بها حكم اللاحقة، وتنبيها عليه بالتعليل. وحينئذ فلو فرض عدم كون الموهوب تحت يد الولي افتقر إلى قبضه عنه بعد الهبة قطعا كغيره. ويمكن فرضه فيمن اشترى شيئا ولم يقبضه، فإن الملك يتم بالعقد وان لم يقبض، ويجوز نقله عن ملكه بالهبة ونحوها، وان امتنع بيعه على بعض الوجوه، وقد تقدم (1). ويمكن فرضه ايضا في مال ورثه تحت يد غيره ولم يتمكن من قبضه، وفيما لو غصب منه أو آجره لغيره قبل الهبة. أما الوديعة فلا يخرج بها عن يد المالك، لان يد المستودع كيده. وفي العارية وجهان، اجودهما خروجه بها عن يده،فيفتقر إلى قبض جديد من الولي أو من يوكله فيه، ولو كل المستعير فيه كفى. بقى في المسألة بحث آخر: وهو انه هل يعتبر قصد القبض عن الطفل بعد الهبة ليتمحض القبول لها، كما تقدمت (2) الاشارة إليه؟ ينبغى ذلك عند من يعتبر ايقاع القبض للهبة كالعلامة (3)، لان المال المقبوض في يد الولي له، فلا ينصرف إلى

(هامش)

(1) في ج 3: 247. (2) لاحظ ص: 22. (3) قواعد الاحكام 1: 274. (*)

ص 25

[ولو وهبه غير الاب أو الجد، لم يكن له بد من القبض عنه، سواء كان له ولاية أو لم تكن، ويتولى ذلك الولي أو الحاكم.]

الطفل الا بصارف، وهو القصد. وعلى ما اخترناه من الاكتفاء بعدم قصد القبض لغيره يكفى هنا، وينصرف الاطلاق إلى قبض الهبة، ويلزم بذلك.وتخصيص الحكم بالولد الصغير مخرج للبالغ الرشيد، ذكرا كان أم انثى. والحكم فيه كذلك، لانتفاء ولايتهما (1) عنهما حينئذ، وان بقيت ولايتهما على الاثنى في النكاح على بعض الوجوه عند بعضهم (2) لان ذلك خارج بدليل آخر لا يوجب الولاية عليها مطلقا، فلو تصرفت البالغة الرشيدة في مالها ببيع وهبة لم يتوقف على الولي اتفاقا. ولكن في عبارة ابن الجنيد في هذه المسألة ما يدل على إلحاق الانثى مطلقا بالصغيرة ما دامت في حجره بالنسبة إلى هبته لها، لانه في كتابه الاحمدي: وهبة الاب لولده الصغار وبناته الذين لم يخرجوا من حجابه وان كن بالغات تامة وان لم يخرجها عن يده، لان قبضه قبضا لهم. (3) انتهى. وهو قول نادر، ووجهه غير واضح، وقياسه على النكاح ممنوع مع وجود الفارق. قوله: ولو وهبه غير الاب أو الجد... الخ . أما إذا لم يكن له ولاية فالحكم واضح، لان يده ليست كيد الموهوب، فلا بد من قابض لها عنه ممن له الولاية عليه المتناولة لذلك، كما يفتقر قبولها إليه ايضا. واما على تقدير ولايته - ولم يكن أبا ولا جدا كالوصي - فألحقه الشيخ في المبسوط (4) بغير الولي محتجا بأنه لا يصح ان يبيع من الصبى شيئا بنفسه أو يشتري منه، وحينئذ فينصب الحاكم امينا يقبل منه هبته للصبي ويقبضها له. وتبعه المصنف هنا على

(هامش)

(1) في ب ولايته، وفي س، ش : يده. (2) راجع النهاية: 464، المبسوط 4: 162، فقه القرآن 2: 138. (3) راجع المختلف: 488. (4) المبسوط 3: 305. (*)

ص 26

[وهبة المشاع جائزة، وقبضه كقبضه في البيع].

الحكم، والاصل ممنوع، وولاية الوصي عامة، فلا وجه لاختصاصها بغيره. والاصح ان حكم الوصي حكم الاب والجد. وقول المصنف: ويتولى ذلك الولى أو الحاكم يمكن فرضهما مع كون الواهب غير ولي. واما إذا كان وليا كالوصي فلا يفرض فيه الا تولى الحاكم، لان الوصي لا يتحقق مع وجود الاب أو الجد له كما سيأتي (1)، فلم يبق معه إلى الحاكم، وفي معنى الحاكم منصوبه لذلك أو مطلقا. قوله: وهبة المشاع جائزة، وقبضه كقبضه في البيع . لا اشكال في جواز هبة المشاع كغيره، لامكان قبضه بتسليم الجميع. وإنما الكلام في تحقق قبضه بأي معنى؟ فعندنا انه كقبضه في البيع فيجرى فيه القولان، وهما: الاكتفاء بالتخلية مطلقا، والتفصيل بها في غير المنقول وبالنقل وما في معناه فيه. وهذا هو الاقوى. وانما كانا متساويين فيه لان القبض معنى واحد، والمعتبر فيه العرف وهو متحد في الموضعين. ونبه بقوله: وقبضه كقبضه في البيع على خلاف بعض الشافعية (2) حيث فرق بين الموضعين، وجعل المعتبر في القبض هنا النقل وان اكتفينا بالتخلية في البيع بالنسبة إلى المنقول، فارقا بينهما بأن القبض في البيع مستحق، وللمشترى المطالبة به فجاز ان يجعل بالتمكين قابضا، بخلاف الهبة، فان القبض غير مستحق فاعتبر تحققه ولم يكتف بمطلق التخلية. وليس بشيء لما ذكرناه من اتحاد مفهومه لغة وعرفا، وما ذكروه انما اقتضى الفرق في حكمه لا في حقيقته. واعلم انا ان اكتفينا في القبض مطلقا بالتخلية فلا بحث، وان اعتبرنا فيالمنقول النقل وكان باقى الحصة للواهب فاقباضه بتسليم الجميع إلى المتهب ان اراد تحقق القبض، وان كان لشريك غيره توقف تسليم الكل على إذن الشريك، فإن

(هامش)

(1) في ص: 266. (2) مغني المحتاج 2: 400. (*)

ص 27

[ولو وهب لاثنين شيئا، فقبلا وقبضا، ملك كل منهما ما وهب له. فان قبل احدهما وقبض، وامتنع الآخر، صحت الهبة للقابض.]

رضي والا لم يجز للمتهب اثبات يده عليه بدونه، بل يوكل الشريك في القبض ان أمكن، فان تعاسرا رفع أمره إلى الحاكم، فينصب امينا يقبض الجميع، نصيب الهبة لها والباقى أمانة للشريك حتى يتم عقد الهبة. وفي المختلف (1) اكتفى مع امتناع الشريك بالتخلية في المنقول، تنزيلا لعدم القدرة الشرعية منزلة عدمها الحسية في غير المنقول. وفيه: منع عدم القدرة الشرعية حيث يوجد الحاكم المجبر، اما مع عدمه فلا بأس به دفعا للضرر والعسر. وبالغ شيخنا الشهيد - رحمه الله - في الدروس (2) فاشترط اذن الشريك في القبض مطلقا وان اكتفينا بالتخلية، نظرا إلى ان المراد منه رفع يد المالك وتسليط القابض على العين، وذلك لا يتحقق الا بالتصرف في مال الشريك، فيعتبر اذنه ورفع المانع عن حصة المالك خاصة مع الاشاعة لا يحصل به التسليط على العينالذى هو المقصود من القبض، وقبض جميع العين واحد لا يقبل التفرقة بالحكم، ومن ثم لو كانت العين مغصوبة (3) بيد متسلط لم يكف التخلية من المالك وتسليطه عليها مع وجود المانع من التسليم. وله وجه حسن وان كان الاشهر الاول. وحيث يعتبر اذن الشريك فيقبض المتهب بدونه وما في حكمه يقع القبض لاغيا، لا للنهي فانه لا يقتضى الفساد في غير العبادة، بل لان القبض لما كان من أركان العقد اعتبر فيه كونه مرادا للشارع، فإذا وقع منهيا عنه لم يعتد به شرعا، فيختل ركن العقد، وقد عرفت انه قبض واحد لا يقبل التفرقة في الحكم، بجعل القبض للموهوب معتبرا والنهي عن حق الغير الخارج عن حقيقة الموهوب. قوله: ولو وهب اثنين لاثنين... الخ . الفرق بين الامرين واضح من حيث اجتماع شرائط صحة الهبة في الاول دون

(هامش)

(1) مختلف الشيعة: 488. (2) الدروس: 237. (3) في س : مقبوضة. (*)

ص 28

[ويجوز تفضيل بعض الولد على بعض في العطية على كراهية.]

الثاني ولا ارتباط لاحدهما بالاخر، فيصح ما اجتمعت شرائطه خاصة. ولا يقال: انها بمنزلة عقد واحد، فلا بد من اجتماع شرائط مجموع العقد، ولا يتم الا بقبولهما وقبضهما. لانه وان كان بصورة عقد واحد الا انه في قوة المتعدد بتعدد الموهوب، كما لو اشتريا دفعة فان لكل منهما حكم نفسه في الخيار ونحوه، وقد تقدم (1). وقوله: وامتنع الاخر يشمل ما لو امتنع من القبول والقبض معا وما لو امتنع من احدهما، وان كان المقام مقام القبض خاصة. قوله: ويجوز تفضيل بعض الولد على بعض في العطية على كراهية . اما جواز التفضيل في الجملة فهو المشهور بين الاصحاب وغيرهم. ويشهد له ان الناس مسلطون على اموالهم (2) ويظهر من ابن الجنيد (3) التحريم الا مع المزية، والتعدية إلى باقى الاقارب مع التساوى في القرب. والوجه الكراهية المؤكدة، لقوله صلى الله عليه وآله: سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلا احدا لفضلت البنات (4). ولان التفضيل يورث العداوة والشحناء بين الاولاد كما هو الواقع شاهدا وغابرا، ولدلالة ذلك على رغبة الاب في المفضل المثير للحسد المفضي إلى قطيعة الرحم. وقد روي ان النعمان بن بشير أتى ابوه إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما، فقال النبي صلى الله عليه وآله: أكلولدك نحلت مثل هذا؟ فقال: لا، فقال: أردده . (5) وفي رواية اخرى ان النبي

(هامش)

(1) في ج 4: 332. (2) عوالي اللئالى 1: 457 ح 198، 2: 138 ح 383، البحار 2: 272 ح 7. (3) مختلف الشيعة: 487. (4) المعجم الكبير 11: 354 ح 11997، السنن الكبرى 6: 177. (5) راجع صحيح مسلم 3: 1241 - 1244، والسنن الكبرى 6: 176 - 178. (*)

ص 29

[...]

صلى الله عليه وآله قال له: أتحب ان يكونوا لك في البر سواء؟ فقال: نعم، قال: فارجعه . (1) وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لمن اعطى بعض اولاده شيئا: أكل ولدك اعطيت مثله؟ قال: لا، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين اولاكم فرجع في تلك العطية. (2) وفي رواية اخرى: لا تشهدني على جور (3). وهذه الروايات تصلح حجة لابن الجنيد. والاصحاب حملوها - على تقدير سلامة السند - على الكراهة جمعا. وقد روى أبو بصير في الصحيح قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يخص بعض ولده بالعطية، قال: ان كان موسرا فنعم وان كان معسرا فلا (4) ولا قائل بمضمونه مفصلا غير ان تجويزه العطية مع اليسار مطلقا حجة المشهور، ومنعه منه مع الاعسار مناسب للكراهة ولحق المفضل حيث يكون عليه دين ونحوه. واطلاق النصوص السابقة يقتضى عدم الفرق بين حالة الصحة والمرض وحالة العسر واليسر، الا ان الحديث الاخير يخص النهي بحالة العسر. وفي رواية سماعة عن الصادق عليه السلام لما سأله عن عطية الوالد لولده فقال: أما إذا كان صحيحا فهو ماله يصنع به ما شاء، وأما في مرضه فلا يصلح (5). وعمل بمضمونها العلامة في المختلف، فخص الكراهية بالمرض أو الاعسار، وفي بعض نسخه بهما معا (6). والظاهر ان دلالة الخبرين على الاول اوضح. والاقوى عموم الكراهية لجميع الاحوال وتأكدها مع المرض والاعسار، إعمالا لجميع الادلة لعدم المنافاة. واستثنى بعض الاصحاب (7) منه ما لو اشتمل المفضل على مزية كحاجة واشتغال بعلم،

(هامش)

(1 - 3) راجع صحيح مسلم 3: 1241 - 1244، والسنن الكبرى 6: 176 - 178. (4) التهذيب 9: 156 ح 644، الوسائل 13: 384 ب 17 من كتاب الوصايا ح 12. (5) التهذيب 9: 156 ح 642، الوسائل 13: 384 ب 17 من كتاب الوصايا ح 11.(6) مختلف الشيعة: 487. (7) التحرير 1: 283، جامع المقاصد 9: 171. (*)

ص 30

[وإذا قبضت الهبة فإن كانت للابوين، لم يكن للواهب الرجوع إجماعا. وكذا إن كان ذا رحم غيرهما. وفيه خلاف.]

والمفضل عليه على نقص كفسق وبدعة واستعانة بالمال على معصية ونحو ذلك، فلا يكره التفضيل حينئذ. ولا بأس به مع احتمال عموم الكراهة، لعموم الادلة واطلاقها. قوله: وإذا قبضت الهبة فان كانت للابوين... الخ . يفهم من قوله: وفيه خلاف - وضميره يعود إلى غير الابوين من ذى الرحم - ان الاجماع متحقق في هبة الولد للوالدين خاصة، فيدخل في الخلاف العكس، وهو هبتهما للولد. وفي المختلف (1) عكس، فجعل الاجماع على لزوم هبة الاب ولده، ومع ذلك لم يذكر الام فيه. والظاهر ان الاتفاق حاصل على الامرين الا من المرتضى في الانتصار (2)، فانه جعلها جائزة مطلقا ما لم يعوض عنها، وان قصد به التقرب، وكأنهم لم يعتدوا بخلافه، لشذوذه، والعجب مع ذلك انه ادعى اجماع الامامية عليه مع ظهور الاجماع على خلافه. وذكر صاحب كشف الرموز (3) انه سأل المصنف - رحمه الله - عن وجه اخلاله بذكر الاولاد مع ان الاجماع واقع على لزوم الهبة لهم كالآباء، فأجابه بأنه كان زيغا للقلم. وهو يدل على اعترافه بالاجماع على الامرين. إذا تقرر ذلك: فانحصر الخلاف في غيرهم من الارحام، وقد اختلف الاصحاب في حكم هبته مع بقاء العين وعدم التصرف فيها والتعويض عنها، فذهب الاكثر إلى لزومها، لعموم الامر بالوفاء (4) بالعقود على ما فيه، ولانه مالك اجماعا، والاصل استمرار ملكه في المتنازع، ولصحيحة محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام: قال: الهبة والنحلة يرجع فيهما صاحبهما ان شاء حيزت أو لم تحز الا لذى

(هامش)

(1) مختلف الشيعة: 484. (2) الانتصار: 221 - 223، لكنه فيما كان غير قاصد ثواب الله تعالى ووجهه. (3) كشف الرموز 2: 56. (4) المائدة: 1. (*)

ص 31

[وإن كان أجنبيا فله الرجوع ما دامت العين باقية، فإن تلفت فلا رجوع.]

رحم، فإنه لا يرجع فيها (1) وغيرها من الاخبار (2). وما ورد من الاخبار (3) معارضا لها ضعيف السند، فلا يصلح للمعارضة فضلا عن ترجيحه عليها. وبذلك يضعف قول الشيخ في الخلاف (4) بالجواز محتجا بها، كما ضعف قول المرتضى - رضي الله عنه - محتجا بالاجماع. واعلم ان المراد بالرحم في هذا الباب وغيره - كالرحم الذى تجب صلته ويحرم قطعه - مطلق القريب المعروف بالنسب وان بعدت لحمته وجاز نكاحه. وهو موضع نص ووفاق. قوله: وان كان اجنبيا فله الرجوع... الخ . تلف العين الموجب للزوم الهبة اعم من كونه من قبل الله تعالى وغيره حتى من المتهب، لشمول الدليل للجميع، وهو حسنة الحلبي عن الصادق عليه السلام: إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله ان يرجع والا فليس له (5). وليس الخلاف في هذه الصورة الا مع المرتضى - رضي الله عنه - حيث جوزها مطلقا ما لم يعوض. وحجتنا النص، وعذره عدم قبول مثله. وادعى في التذكرة (6) أن الحكم باللزوم مع التلف اجماعي، وهو في مقابلة دعوى المرتضى - رحمه الله - الاجماع على الجواز. وفى حكم تلفها اجمع تلف بعضها وان قل، لدلالة الرواية عليه، فان العين مع تلف (7) جزء منها لا تعد قائمة.

(هامش)

(1) الكافي 7: 31 ذيل ح 7، التهذيب 9: 156 ح 643، الاستبصار 4: 108 ح 410، الوسائل 13: 338 ب 6 من كتاب الهبات ح 2. (2 و3) الوسائل 13: 338 ب 6 من ابواب احكام الهبات. (4) الخلاف: 3: 567 مسألة (12). (5) الكافي 7: 32 ح 11، التهذيب 9: 627، الاستبصار 4: 108 ح 412، الوسائل 13: 341 ب 8 من كتاب الهبات. (6) تذكرة الفقهاء 2: 419. (7) في س : متى تلف. (*)

ص 32

[وكذا ان عوض عنها ولو كان العوض يسيرا. وهل تلزم بالتصرف؟ قيل: نعم، وقيل: لا تلزم. وهو الاشبه.]

قوله: وكذا ان عوض ولو كان العوض يسيرا . هذا ايضا من المواضع الموجبة للزومها من الأجنبي، وهو موضع وفاق من جميعالاصحاب حتى من المرتضى - رضي الله عنه - كما قد عرفت. ومستنده - مع الادلة العامة - خصوص قول الصادق عليه السلام في حسنة عبد الله بن سنان قال: إذا عوض صاحب الهبة فليس له ان يرجع (1) وغيرها. ولا فرق في العوض بين القليل والكثير مع تراضيهما عليه، لاطلاق النص والفتوى، ولانها تصير بالتعويض معاوضة محضة فيلزم، للعموم. ولو لم يرض الواهب باليسير ابتداء أو بعد العقد لم يؤثر بذل المتهب له كما سيأتي - ان شاء الله - تحريره (2). ولا فرق في العوض بين كونه من بعض الموهوب وغيره، عملا بالاطلاق، ولانه بالقبض بعد العقد مملوك للمتهب فيصح بذله عوضا عن الجملة. قوله: وهل تلزم بالتصرف؟ قيل: نعم، وقيل: لا تلزم. وهو الاشبه . حكم هذه المسألة من المشكلات، وقد اختلف فيها الاصحاب، المتقدمون منهم والمتأخرون. وتحرير الدليل على كل قول غير منقح ولا سالم من اشكال، ونحن نذكر منه هنا ما يقتضيه المقام، ونحيلك على معرفة ما أهملناه بملاحظة ما حررناه. فنقول: إذا تمت الهبة بالعقد والقبض، ولم يكن لذي رحم ولا زوج ولا زوجة، ولم يعوض المتهب عنها، ولم يتلف في يده، ولكن تصرف فيها تصرفا لا يسوغ له قبل

(هامش)

(1) الكافي 7: 33 ح 19، التهذيب 9: 154 ح 632، الاستبصار 4: 108 ح 413، الوسائل 13: 341 ب 9 من كتاب الهبات ح 1. (2) في ص: 59. (*)

ص 33

[...]

التملك، فهل يلزم الهبة بذلك، ويكون التصرف من جملة الاسباب الموجبة للزومها، أم تبقى جائزة على ما كانت قبل التصرف؟ فيه اقوال: أحدها - وهو الذى اختاره المصنف في الكتاب ومختصره (1)، وقبله (2) سلار وأبو الصلاح (3)، وهو ظاهر ابن الجنيد (4) -: عدم تأثير التصرف مطلقا في لزومها، بل للواهب فسخها كما لو كانت له قبله. واطلاقه بقاء الحكم بالجواز مع التصرف يشمل الناقل للملك، والمانع من الرد كالاستيلاد، والمغير للعين كطحن الحنطة، وغيرها. وثانيها: انها يلزم بالتصرف مطلقا (5)، ذهب إليه الشيخان (6) وابن البراج (7) وابن ادريس (8) واكثر المتأخرين كالعلامة (9) والشهيد (10) - رحمه الله - في اللمعة، وغيرهما (11). وثالثها: التفصيل بلزومها مع خروجه عن ملكه، أو تغير صورته كقصارة الثوب ونجارة الخشب، أو كون التصرف بالوطي، وعدمه وبدون ذلك كالركوب

(هامش)

(1) المختصر النافع: 160. (2) المراسم: 199. (3) الكافي في الفقه: 323. (4) لعله استظهره من كلامه في نقصان السلعة. راجع المختلف: 486. (5) في هامش و: الاطلاق للشيخ مذهبه في النهاية، وأما في المبسوط فله تفصيل يأتي. منه رحمه الله . لاحظ النهاية: 603. (6) الشيخ المفيد في المقنعة: 658، والشيخ الطوسى في الخلاف 3: 571 مسألة 17، والنهاية وقد تقدم آنفا. (7) المهذب 2: 95. (8) السرائر 3: 173. (9) المختلف 2: 486، ارشاد الاذهان 2: 450. (10) اللمعة: 59. (11) كابن فهد الحلي في المقتصر 212، والصيمري في تلخيص الخلاف 2: 229 مسألة 17. (*)

ص 34

[...]

والسكنى واللبن ونحوها من الاستعمال. وهو قول ابن حمزة (1)، والشهيد في الدروس (2)، وجماعة من المتأخرين (3). وزاد ابن حمزة فقال: لا يقدح الرهن والكتابة . وهو يشمل بإطلاقه ما لو عاد إلى ملك الواهب أو لم يعد. إذا تقرر ذلك: فلنعد إلى ما احتج به اصحاب الاقوال من الاخبار والاعتبار، وسنبين ما فيه. فالذي يصلح حجة لاصحاب القول الاول صحيحة عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله عليه السلام في الرجل يهب الهبة أيرجع فيها ان شاء؟ فقال: تجوز الهبة لذوى القرابات والذى يثاب في هبته، ويرجع في غير ذلك (4). والظاهر ان المراد بالجواز في الخبر اللزوم، بقرينة تخصيصه الحكم بالقرابة والمثاب وقوله: ويرجع في غير ذلك . وحسنة الحلبي عنه عليه السلام قال: إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله ان يرجع والا فليس له (5). وبقاء العين شامل لحالتي التصرف وعدمه.ولان استحقاق الرجوع ثابت قبل التصرف فيستصحب. وأجاب في المختلف عن الخبرين بحملهما على ما إذا لم يوجد التصرف (6). وفيه نظر، لان تخصيص العام وتقييد المطلق لا يصح الا مع وجود معارض يتوقف على الجمع بينهما بذلك، ولم يذكر ما يوجب المعارضة على هذا الوجه، كما سنبينه ان شاء الله تعالى. واقتصر في المختلف على هذين الحديثين استدلالا من طرف القائل، واضاف اليهما الاستدلال بأصالة بقاء الملك على صاحبه (7). وهو حجة ردية، لان

(هامش)

(1) الوسيلة: 379. (2) الدروس: 237. (3) نفى عنه البعد في جامع المقاصد 9: 160، ولم نعثر على غيره. (4) التهذيب 9: 158 ح 650، الاستبصار 4: 108 ح 414، الوسائل 13: 338 ب 6 من كتاب الهبات ح 1. (5) تقدم ذكر مصادرها في ص: 31، الهامش (5). (6 و7) المختلف: 486. (*)

ص 35

[...]

انتقال الملك هنا متحقق على كل حال بعد القبض، وانما الكلام في ان هذا الانتقال هل هو لازم ام جائز؟ والاولى إبداله بما ذكرناه من استصحاب الحكم بالجواز، لانه موضع النزاع. ويمكن ان يحتج له ايضا من الاخبار بصحيحة محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليه السلام قال: الهبة والنحلة يرجع فيهما صاحبهما ان شاء حيزت أو لم تحز الا لذي رحم، فانه لا يرجع فيها (1). وبصحيحة زرارة عن ابي عبد الله عليه السلام: قال: انما الصدقة محدثة، انما كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينحلون ويهبون، ولا ينبغى لمن اعطى الله عز وجل شيئا ان يرجع فيه، قال: وما لم يعطه لله وفي الله فانه يرجع فيه، نحلة كانت أو هبة، حيزت أو لم تحز (2) الحديث. وفي معناها موثقة عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عنالرجل يتصدق الصدقة أله ان يرجع في صدقته؟ فقال: ان الصدقة محدثة انما كانت النحلة والهبة. ولمن وهب أو نحل ان يرجع في هبته، حيزت أو لم تحز، ولا ينبغى لمن أعطى شيئا لله عز وجل ان يرجع فيه (3). فهذه الاخبار الخمسة دالة باطلاقها أو عمومها على ما ادعاه المصنف من جواز الرجوع فيها وان تصرف، وهو ظاهر. لا يقال: مدلول الاخبار على الاطلاق غير مراد، لتناولها ما لا يجوز الرجوع معه اجماعا، كحالة التعويض والتلف، فما تدل عليه لا يقولون به وما يقولون به لا يقصر دلالتها عليه. لانا نقول: ان تلك الحالتين خرجتا من هذا العموم أو الاطلاق بنص

(هامش)

(1) تقدم ذكر مصادرها في ص: 30 - 31، الهامش (1). (2) الكافي 7: 30 ح 3، التهذيب 9: 152 ح 624، الاستبصار 4: 110 ح 423، الوسائل 13: 334 ب 3 من كتاب الهبات ح 1. (3) الكافي 7: 30 ح 4، التهذيب 9: 153 ح 625، الاستبصار 4: 108 ح 411، الوسائل 13: 342 ب 10 من كتاب الهبات ح 1. (*)

ص 36

[...]

خاص، وهو الاخبار التى اسندنا إليها الحكمين، فتكون تلك الاخبار مخصصة أو مقيدة لهذه. وطريق الجمع بينهما حمل هذه على ما عدا تلك الحالتين، إعمالا للدليلين بحسب الامكان، كما هو محقق في الاصول، فتبقى هذه الاخبار كالعام المخصوص في كونه حجة في الباقي. وحينئذ فيضعف ايضا قول من قال: ان هذه الاخبار لا عموم لها، وان تقييدها لا بد منه، فان تقييدها بما يوجب الجمع بينها وبين غيرها لا يسقط دلالتها ويتناول موضع النزاع، ويحتاج تقييدها بغير حالة التصرف إلى مقيد. حجة القول الثاني أمور: الاول: عموم قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بالباطل الا ان تكون تجارة عن تراض منكم) (1)، وليس الرجوع تجارة ولا عن تراض. الثاني: عموم أوفوا بالعقود (2)، خرج منه ما دل الدليل على جوازه فيبقى الباقي على اصله. الثالث: رواية ابراهيم بن عبد الحميد عن الصادق عليه السلام قال: أنت بالخيار في الهبة ما دامت في يدك، فإذا خرجت إلى صاحبها فليس لك ان ترجع فيها، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من رجع في هبته فهو كالراجع فيقيئه . (3) خرج من ذلك ما اخرجه الدليل فيبقى الباقي على أصله. الرابع: ان جواز الرجوع يقتضى تسلط الواهب على المتهب، وهو خلاف الاصل، لقوله صلى الله عليه وآله: الناس مسلطون على أموالهم (4) فيقتصر فيه على موضع الدليل.

(هامش)

(1) سورة النساء: 29. ونص الآية الكريمة: (لا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل). (2) المائدة: 1. (3) التهذيب 9: 158 ح 653، الوسائل 13: 343 ب 10 من كتاب الهبات ح 4. (4) راجع ص: 28، الهامش (2). (*)

ص 37

[...]

الخامس: قال الشيخ - رحمه الله -: روى الاصحاب ان المتهب متى تصرف في الهبة فلا رجوع فيها (1). وهو يدل على وجود روايات بذلك. السادس: ان المتهب قد ملك بالعقد والاقباض، وظهر أثر الملك بالتصرف، فقوي وجود السبب، وهو تام والا لم يتحقق أثره، فلا يتحقق النقل عنه الا بسبب طار، والرجوع ليس سببا هنا والا لكان سببا في غيره. السابع: ان جواز الرجوع يقتضى الضرر والاضرار بالمتهب على تقدير بنائه وغرسه وطول مدته، وهما منفيان شرعا. الثامن: ان الموهوب قد صار ملكا للمتهب بعقد الهبة، فلا يعود إلى ملك الواهب الا بعقد جديد أو ما في حكمه. التاسع: انه اجماع، لان المخالف معروف الاسم والنسب فلا يقدح. فهذه عشرة ادلة بحديث القئ، لانه دال برأسه وان كان في ضمن حديث آخر، فقد روي (2) منفردا ايضا. وهذه الادلة جمعتها من تضاعيف عبارات اصحاب هذا القول، ولم يتفق جمعها لاحد منهم هكذا، وهي أقصى ما أمكن من استدلالهم. وفي كل واحد منها نظر: أما الاول فللمنع من كون أكل الهبة بطريق الرجوع فيها من الواهب اكلا لمال الغير بالباطل، بعد ورود الروايات الصحيحة على جواز الرجوع فيها المستلزم لعود ملكه لها بالفسخ، فيكون اكلا لمال نفسه بالحق لا لمال غيره بالباطل. وأما الثاني فالامر بالوفاء بالعقود المراد منه الوفاء بما يقتضيه والالتزام انما يترتب عليه شرعا من لزوم وجواز، فمن فسخ بالعقد الجائز الذى قد دلت الاخبار الصحيحة الكثيرة على جوازه كان قد وفى العقد حقه اللازم له شرعا. سلمنا ان المراد

(هامش)

(1) المبسوط 3: 312، وقريب منه في الخلاف 3: 571 في مسألة 17. (2) الفقيه 4: 272 ضمن رقم 828، الاستبصار 4: 109 ح 416 و417، الوسائل 13: 341 ب 7 من كتاب الهبات ح 5، و343 ب 10 منه ح 3. (*)

ص 38

[...]

بالوفاء به التزامه مطلقا لكنه مخصوص بالعقود اللازمة، وكون هذا العقد لازما في هذه الحالة عين المتنازع، وقد عرفت دلالة الادلة الصحيحة على جوازه، فيكون مستثنى كما استثني غيره من العقود الجائزة. واما الثالث - وهو خبر ابراهيم بن عبد الحميد - فأول ما فيه ضعف السند جدا، فان ابراهيم بن عبد الحميد واقفى المذهب، وان قال بعضهم (1): انه ثقة. والذى يرويه عنه عبد الرحمان بن حماد، وهو مجهول العين مطلقا، وانما يوجد في قسم الضعفاء عبد الرحمان بن ابي حماد، وهو غال لا يلتفت إليه. والذى يرويه عنه ابراهيم بقول مطلق، وهو مشترك بين جماعة منهم الضعيف والثقة. وما هذا شأنه كيف يجعل حجة في مقابلة تلك الاخبار الصحيحة، مع ان في معناها من الاخبار الضعيفة (2) جملة لم يلتفت إلى ذكرها لذلك، وان كان حالها اقوى من هذا الخبر؟. واما دعوى انجبار ضعفه بالشهرة فأعجب من اصل الاستدلال به، فان شهرته ان كانت بمعنى تدوينه في كتب الحديث فهو أمر مشترك بينه وبين سائر الاخبار الضعيفة المذكورة في كتب اصول الحديث المروية (3)، وان كان بمعنى عملهم بمضمونها فظاهر بطلانه، لان مضمونه لزوم الهبة متى قبضت، سواء كانت لرحم أم غيره، عوض عنها أم لم يعوض، بقيت عينها أم تلفت، وهذا هو المفهوم على اطلاقه لا يقول به احد، وانما يأخذون منه هنا قدر حاجتهم خاصة، وهو لزومها على تقدير التصرف، ويطرحون باقى مدلوله، فأي معنى لاشتهاره على وجه يجبر ضعفه؟ سلمنا، لكن لا دلالة له على التصرف مطلقا، وانما دل على لزومها مطلقا بالقبض كما عرفت، وانتم لا تقولون به، فأي وجه لحمله على حالة التصرف خاصة؟. وأما الاستدلال بقوله صلى الله عليه وآله: إن الراجع في هبته كالراجع

(هامش)

(1) الفهرست للشيخ: 7. (2) راجع الوسائل 13: 338 ب 6 من كتاب الهبات.(3) في س : المدونة. (*)

ص 39

[...]

في قيئه فالكلام في طريقه كما تقدم، ومن حيث المتن مقتضاه تحريم الرجوع مطلقا كما يحرم الرجوع في القئ، ولا يقول به أحد. ومنه يظهر ان حمله على الكراهة مطلقا أولى. ووجه التشبيه استقذار الرجوع عند أهل البصيرة وذوي المروة. سلمنا إرادة التحريم، لكن تحريم الرجوع لا يدل على فساده وعدم ترتب الاثر عليه، لعدم دلالة النهي في غير العبادات عليه. وأما الرابع ففيه ان تسلط الواهب إذا وقع بما أذن له الشارع فيه من العقد الجائز لا يكون مخالفا للاصل، بل موافقته له أوضح، وبالرجوع يصير ماله، فتسلطه حينئذ على ماله لا على مال المتهب. وأما الخامس - وهو الحكاية عن الشيخ بأن الاصحاب رووا ان المتهب متى تصرف في الهبة فلا رجوع فيها - فعجيب، لان أرباب هذا القول بالغوا وفتشوا فلم يجدوا حديثا واحدا يدل على ما ادعاه الشيخ سوى رواية ابراهيم بن عبد الحميد فذكروها في استدلالهم، وحالها ما قد رأيت دلالة وسندا. وكتب الشيخ الاخبارية خالية عما ادعى رواية الاصحاب له، ولم يتعرضوا في روايته أصلا إلى حكم التصرف صريحا، وإنما روى هو وغيره من الاصحاب ما حكيناه من حكم جواز الهبة على الوجه المتقدم المنافي لما ادعوه هنا. واما السادس - وهو الاستدلال بتحقق الملك وظهور أثره بالتصرف - ففيه: أنه إن أراد بالملك اللازم فهو مصادرة على المطلوب، وهل هو إلا أول المسألة وعين المتنازع؟! وإن أراد تحقق الملك المطلق بالعقد والاقباض أعم من اللازم والجائز وترتب أثر هذا المطلق فهو غير نافع، لان العقد الجاأز لا يرفع جوازه التصرف فيه على هذا الوجه، كما يظهر ذلك في تصرف أحد المتبايعين مع وجود الخيار للآخر، وفي التصرف غير المغير للعين ولا الناقل للملك في الهبة عند بعض الاصحاب (1). وحينئذ

(هامش)

(1) تقدم في ص 33. (*)

ص 40

[...]

فالظاهر من أثر الملك انما هو أثر الملك الحاصل، وهو الجائز رفعه على ما يدعيهالخصم ودلت عليه الاخبار (1) الصحيحة، وذلك لا يوجب قوة السبب ولا تماميته، ولا ينافي كونه سببا. ودعوى كون الرجوع ليس سببا هنا عين المتنازع، فان الخصم يجعله سببا تاما في رفع ملك المتهب وإثبات ملك الواهب بواسطة جواز العقد الذى قد استفيد من النصوص. واما السابع - وهو استلزام جواز الرجوع الضرر في بعض الصور - ففيه: أن المتهب قدم على هذا الضرر بالتصرف في ملك متزلزل أمره بيد غيره، وإذا أدخل هو الضرر على نفسه لا يضر عند الشارع، كما في نظائره من الموارد التى يلقى الانسان نفسه فيها من الضمانات والغرامات التى لا تحصى كثرة. ومثله يقع كثيرا في تصرف من ليس له الخيار مع من له ذلك في ابواب البيع والشفعة وغيرها. وأما الثامن: فجوازه ظاهر، لانه إن أراد صيرورته ملكا لازما فهو أول المسألة، وإن أراد الاعم لم يضرهم. وقوله: فلا يعود إلى ملك الواهب الا بعقد أو ما في حكمه مسلم لكن الفسخ في حكم العقد، حيث انه ناقل الملك من المتهب إلى الواهب كما لا يخفى. وأما التاسع - وهو دعوى الاجماع - فترك جوابه أليق، وكيف يتحقق الاجماع في موضع الخلاف العظيم والمعركة الكبرى والمنازعة العظمى وتعدد الاقوال؟! وعلم عين القائل ونسبه مشترك الالزام في كل مسألة مما يدعى فيها الاجماع كذلك فضلا عن هذه، وما هذه الدعوى عند أرباب النهى الا من قبيل الهذيانات أو التخيلات. وأعجب منها ما وقع في مقابلتها من دعوى المرتضى - رضي الله عنه - في الانتصار (2) الاجماع على جواز الهبة مطلقا، لرحم كانت أم لغيره، تصرف فيها أم لم يتصرف،

(هامش)

(1) تقدمت في الاستدلال للقول الاول في ص 34 - 35. (2) الانتصار: 221، 223. (*)

ص 41

[...]

ما لم تعوض. حجة القول الثالث - وهو التفصيل بتغير العين وزوالها عن الملك وعدمه -حسنة الحلبي المتقدمة (1) عن الصادق عليه السلام: إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله ان يرجع فيها وإلا فليس له . ووجه الدلالة انه مع تغير عينها بالطحن ونجارة الخشب وتفصيل الثوب ونحو ذلك لا يصدق عليها بقاء العين، لان المتبادر منها بقاؤها بأوصافها التى كانت عليها لا أصل الذات، ومع خروجها عن ملكه لا يصدق بقاؤها عرفا، لان ذلك منزل منزلة التلف، فضلا عن أصل الخروج عن الوصف. وعلى هذا فتكون هذه الرواية مخصصة أو مقيدة لتلك الاخبار الصحيحة، كما قيدوها في حالة التلف. ولكن لا يخلو من أشكال في السند والدلالة. اما السند فلعدم كونها من الصحيح، فمن يعتبر عدالة الراوى بالمعنى المشهور يشكل عليه العمل بها. وأما الدلالة فيظهر في صورة نقلها عن الملك مع قيام عينها بحالها، فإن إقامة النقل مقام تغير العين أو زوالها لا يخلو من تحكم أو تكلف. بل قد يدعى العين ببقاء الذات مع تغير كثير من الاوصاف فضلا عن تغير يسير. وأيضا فأصحاب هذا القول ألحقوا الوطئ مطلقا بالتغير مع صدق بقاء العين بحالها معه، اللهم إلا أن يدعى في الموطوءة عدم بقاء عينها عرفا. وليس بواضح. أو يخص بما لو صارت أم ولد، فانها تنزل منزلة التالفة من حيث امتناع نقلها عن ملك الواطئ. وعلى كل حال فتقييد تلك الاخبار الكثيرة الصحيحة الواضحة الدلالة بمثل هذا الخبر الواحد البعيد الدلالة في كثير من مدعيات تفصيله لا يخلو من إشكال، الا أنه أقرب من القول المشهور باللزوم مطلقا. والذى يظهر ان الاعتماد عليه أوجه حيث يظهر دلالته بصدق التغير عرفا، لانه من أعلى درجات الحسن، بل قد عده

(هامش)

(1) في ص: 31، الهامش (5). (*)

ص 42

[...]

الاصحاب من الصحيح في كثير من الكتب (1)، وان كان ذلك ليس بجيد كما سننبه عليه في آخر البحث (2). وتبقى تلك الاخبار السابقة من كون الراجع في هبته كالراجع في قيئه، فإن له طريقا صحيحا وان كان اكثر طرقه ضعيفة، وخبر ابراهيم بن عبد الحميد كالشاهد له، فيكون في ذلك إعمال لجميع الاخبار، وهو خير من اطراح هذا الحديث المعتبر والباقية (3).وقد ظهر مما ذكرناه ان أمتن الاقوال وأوضحها دلالة من النصوص الصحيحة المتكثرة هو ما اختاره المصنف من القول ببقاء هذا العقد على الجواز، وان القول باللزوم مطلقا أبعدها عن الدلالة المعتبرة المقبولة وإن كانت كثيرة بحسب الصورة. فلا تغتر بما قاله صاحب كشف الرموز (4) من ضعف ما اختاره المصنف، وأنه باحثه فيه وراجعه واستقصى الكلام معه فلم يظهر له الا المخالفة والقول باللزوم مطلقا معتمدا فيه على الاجماع والخبر السابق مع غفلته عما حققناه. وأعجب منه دعوى الاجماع على اللزوم في موضع الخلاف. واعلم أنه على القول باللزوم الامر واضح، لان كل ما يعد تصرفا يوجبه، سواء غير العين أم لا، وسواء نقل عن الملك أم لا. وان قلنا بالتفصيل فيعتبر في التصرف المغير تبديل صورة الموهوب وإن بقيت حقيقته، كطحن الحنطة وقطع الثوب وقصارته ونجارة الخشب ونحو ذلك، لعدم بقاء العين المعبر به (5) في الخبر مع ذلك حسب ما تقرر. وهل ينزل إدخالها في البناء - بحيث يستلزم هدمه الاضرار بمالكه مع بقاء

(هامش)

(1) كالدروس: 237، والتنقيح الرائع 2: 345، وجامع المقاصد 9: 158. (2) في ص: 44. (3) في و: وإعمال الباقي ظ. (4) كشف الرموز 2: 59. (5) في ما عدا س و ش : المعبر عنه. (*)

ص 43

[...]

العين وعدم تبدل صورتها - منزلة التصرف المغير؟ وجهان، من صدق بقاء العين، وكون هذا الفعل أقوى من ذلك التبدل اليسير، ولزوم الاضرار بالمتهب مع دخوله فيه دخولا شرعيا بل من مالك العين، ولعله أقوى. ولو نقلها عن ملكه نقلا لازما فقد قطعوا بلزومها حينئذ، وإن فرض عودها إلى ملكه بعد ذلك بإقالة أو غير ذلك من وجوه النقل المتجدد، لبطلان حق الرجوع بذلك، فعوده يحتاج إلى دليل جديد.ولو كان عوده بخيار أو فسخ بعيب ونحوهما مما يوجبه من حينه فكذلك، لتحقق انتقال الملك، مع احتمال عود الجواز، نظرا إلى ارتفاع العقد، ووجود سببه من حين العقد. ويضعف: بأن الملك منتقل على التقديرين وإن كان متزلزلا وقد صدر عن مالك، وعوده إليه لا يبطل ذلك الملك، وانما تجدد ملك اخر، ومن ثم كان النماء المتخلل لمن انتقل إليه دون المتهب. ولو وطئ الامة فقد حكموا بعده تصرفا ملزما مطلقا، سواء استولدها به ام لا. فلا شبهة فيه. وعلى تقدير الاستيلاد لو تجدد موت الولد فكتجدد الفسخ، وأولى باحتمال عود الجواز، لعدم انتقالها عن ملك المتهب، وانما منع منه مانع وقد زال. هذا إذا جعلنا المانع هو الاستيلاد لا الوطئ والا لم يعد مطلقا، لوجود السبب الموجب للزوم. ولو كان التصرف بالاجارة انتظر الواهب انقضاء المدة، وجاز الفسخ معجلا. ولو كان بالكتابة روعي بالفسخ، فان حصل تبين صحة الرجوع والا فلا. والفرق بين الفسخ هنا وفسخ ذى العيب والخيار: ان الفسخ بعجز المكاتب يبطلها من أصلها، ومن ثم يملك السيد ما بيده من الكسب وما وصل إليه قبله على تقدير كونها مشروطة، بخلاف ما يوجبه من حينه. ولو كانت مطلقة وفسخ قبل الاداء فكذلك، ولو كان بعد أداء البعض ففي صحة الرجوع فيما بطل فيه خاصة وجهان. وقد

ص 44

[...]

تقدم (1) اطلاق ابن حمزة عدم بطلان الرجوع بالكتابة مطلقا. والتفصيل أجود. ولو كان التصرف بالرهن روعي انفكاكه في صحته. واطلق ابن حمزة (2) عدم منعه. وكان وجهه تقدم حق الواهب على حق المرتهن، فيفسخ الرهن مطلقا. ووجه العدم وقوع التصرف من مالك فكان ماضيا الا ان يرد المانع (3). والتفريع على القول بالجواز مطلقا واضح فيما لا يحصل مع التصرف نقل الملك ولا مانع من الرد كالاستيلاد، أما معهما فمقتضى كلام القائل به جوازه ايضا من غير استثناء، وعموم (4) الادلة يتناوله. وحينئذ فلا يتسلط إلى رد العين، لانتقال الملكإلى غير الموهوب في وقت كان مالكا، فوقع التصرف صحيحا، ولكن يرجع إلى قيمة العين. وفي اعتبار قيمته وقت الرجوع أو وقت النقل وجهان أجودهما الاول، لانه وقت انتقال الملك الموجب للقيمة، جمعا بين الحقين. ويحتمل استثناء هاتين الصورتين من الحكم وان كان القائل به قد اطلق، لان حقيقة الرجوع لا تتم الا بإبطال ملك غير المتهب، والرجوع إلى القيمة مع وجود العين إحالة على غير ما دل عليه الدليل الموجب للرجوع، ولان فيه جمعا بين الاخبار، حيث يدعى ان نقل الملك منزل منزلة تغير العين بل تلفها، وقد شرط في الخبر السابق بقاء العين قائمة في جواز الرجوع. تنبيه هو خاتمة بحث المسألة: اعلم ان العلامة (5) في التذكرة والمختلف (6) وصف رواية الحلبي عن الصادق عليه السلام: إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله أن يرجع فيها... الخ بالصحة،

(هامش)

(1) و(2): راجع ص: 34. (3) في و إلا أن يزول. (4) في س : ومجموع. (5) التذكرة 2: 419. (6) المختلف 2: 487. (*)

ص 45

[ويستحب العطية لذوي الرحم، ويتأكد في الولد والوالد.]

وتبعه على ذلك الشهيد في الدروس (1) والشيخ علي في الشرح (2). والحق انها من الحسن لا من الصحيح، لان في طريقها ابراهيم بن هاشم، وهو ممدوح خاصة غير معدل، وكثيرا ما يقع الغلط في حديثه خصوصا في المختلف، وقد وصفه بالحسن في مواضع كثيرة (3) منه موافقا للواقع، والعجب من تبعية هذين الفاضلين له اكثر. وإنما طولنا الكلام في هذه المسألة وخرجنا عن موضوع الكتاب لانها من المهمات، والله ولي التوفيق. قوله: ويستحب العطية لذي الرحم، ويتأكد في الولد والوالد . لما في العطية للمذكورين من الجمع بين الصدقة وصلة الرحم المأمور بها، وقدقال الله تعالى مدحا للفاعل: (وأتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى) (4) فبدأ بالقرابة. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: صدقتك على ذوي رحمك صدقة وصلة (5). وروي أن زينب امرأة عبد الله بن مسعود كانت صناعا، وكانت تنفق على زوجها وولده، فأتت النبي صلى الله عليه وآله فقالت: يا رسول الله ان عبد الله وولده شغلاني عن الصدقة، فقال النبي صلى الله عليه وآله: لك في ذلك أجران أجر الصلة وأجر الصدقة (6). والاخبار في هذا الباب كثيرة جدا. وانما يستحب عطية الرحم حيث لا يكون محتاجا إليها بحيث لا تندفع حاجته بدونها، والا وجب كفاية ان تحققت صلة الرحم بدونها والا وجبت عينا، لان صلة

(هامش)

(1) الدروس: 327. (2) جامع المقاصد 9: 158. (3) كما في ص: 29، 47، 106، 311 201 وغيرها. (4) البقرة: 177. (5) راجع المعجم الكبير 6: 337 ح 6207، وبهذا المعنى احاديث 6204 - 6212. (6) وردت هذه القصة بتفاوت في المصادر. راجع الطبقات الكبرى 8: 290، سنن ابن ماجه 1: 587 ح 1835، الاستيعاب 4: 1848 و1856 و1858، السنن الكبرى للبيهقي 4: 179، أسد الغابة 5: 461 و463، موارد الظمآن: 212 ح 832. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

مسالك الأفهام - ج6

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب