مسالك الأفهام - ج14

الصفحة السابقة الصفحة التالية

مسالك الأفهام - ج14

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 4

بسم الله الرحمن الرحيم

ص 5

خاتمة كتاب القضاء

ص 7

خاتمة تشمل فصلين:

الفصل الاول في كتاب قاض إلى قاض

إنهاء حكم الحاكم إلى الاخر: إما بالكتاب، أو القول، أو الشهادة. أما الكتابة، فلا عبرة بها، لامكان التشبيه. وأما القول مشافهة، فهو أن يقول للاخر: حكمت بكذا، أو أنفذت، أو أمضيت. ففي القضاء به تردد، نص الشيخ في الخلاف أنه لا يقبل.

قوله: (في كتاب قاض إلى قاض... الخ). المشهور بين أصحابنا (1) أنه لا عبرة بكتاب قاض إلى قاض، بمعنى أنه إذا كتب حكما بشي وأنفذه إلى غيره من القضاة ليس لهم الاعتماد على الخط وإنفاذه مطلقا، لان الخط يحتمل التزوير، وعلى تقدير الامن منه يمكن كتبته من غير قصد تحقيقه (2). ويظهر من ابن الجنيد جوازه في حقوق الادميين دون حق الله تعالى، لانه قال: (لا يجوز عندنا كتاب قاض إلى قاض في حد لله وجب على أحد من بلد المكتوب إليه، فإن كتب القاضي بذلك لم يكن للمكتوب إليه أن يقيمه، فأما ما كان من حقوق الناس بعضهم على بعض في الاموال وما يجري مجراها دون الحدود في الابدان، فجائز كتاب القضاة من قبل إمام المسلمين بعضهم إلى

(هامش)

(1) في (أ، خ): الاصحاب. (2) في (ت): الحقيقة، وفي (م): بحقيقة. (*)

ص 8

وأما الشهادة، فإن شهدت البينة بالحكم، وبإشهاده إياهما على حكمه، تعين القبول، لان ذلك مما تمس الحاجة إليه، إذ احتياج أرباب الحقوق إلى إثباتها في البلاد المتباعدة غالب، وتكليف شهود الاصل التنقل متعذر أو متعسر، فلا بد من وسيلة إلى استيفائها مع تباعد الغرماء، ولا وسيلة إلا رفع الاحكام إلى الحكام، وأتم ذلك احتياطا ما صورناه.

بعض) (1). وللعامة (2) في ذلك اختلاف أيضا، فمنهم من منعه مطلقا كما قلناه، ومنهم من أجازه مطلقا، ومنهم من أجازه مع الوثوق بالخط والختم. وأما إنهاء الحاكم إلى آخر بالقول، بأن يقول له: إني حكمت بكذا ونحوه، ففي جواز قضاء السامع به - بمعنى إنفاذه له - خلاف، فذهب الشيخ في الخلاف (3) إلى عدم القبول. ووجهوه بأنه حكم من الثاني بغير علم، وقد نهى (4) الله تعالى عنه، خرج منه ما دل عليه دليل من خارج فيبقى الباقي على الاصل. والاصح القبول، لما سيأتي (5) إن شاء الله تعالى من جوازه مع الشهادة على حكمه، فمع مشافهته أولى. قوله: (وأما الشهادة... إلخ).

(هامش)

(1) حكاه عنه العلامة في المختلف: 706. (2) الحاوي الكبير 16: 213، المغني لابن قدامة 11: 458، بدائع الصنائع 7: 7، روضة القضاة 1: 329 - 331، الكافي للقرطبي 2: 956، الانصاف 11: 321، روضة الطالبين 8: 162. (3) الخلاف 6: 245 مسألة (42). (4) الاسراء: 36. (5) في الصفحة التالية. (*)

ص 9

لا يقال: يتوصل إلى ذلك بالشهادة على شهود الاصل. لانا نقول: قد لا يساعد شهود الفرع على التنقل، والشهادة الثالثة لا تسمع. ولانه لو لم يشرع إنهاء الاحكام بطلت الحجج مع تطاول المدد. ولان المنع من ذلك يؤدي إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة، بأن يرافعه المحكوم عليه إلى آخر، فإن لم ينفذ الثاني ما حكم به الاول اتصلت المنازعة. ولان الغريمين لو تصادقا أن حاكما حكم عليهما ألزمهما الحاكم ما حكم الاول، فكذا لو قامت البينة، لانها تثبت ما لو أقر الغريم به لزم.

هذا هو القسم الثالث من إنهاء قاض إلى آخر مضمون حكمه بطريق الاشهاد على الحكم. وقد اختلف الاصحاب في جواز إنفاذه للحاكم المنهي إليه الحكم بشهادة الشهود، فذهب بعضهم (1) إلى عدم جواز ذلك، وآخرون إلى جوازه ومنهم المصنف - رحمه الله - [وجماعة] (2). وقد استدل على جوازه بوجوه أربعة: الاول: أن ذلك مما تمس إليه الحاجة، فوجب في الحكمة (3) نصب أمين (4) شرعي له. ووجه الحاجة: أن أرباب الحقوق قد يحتاجون إلى إثباتها في البلاد المتباعدة، ولا يكون لهم فيها شهود بالحق، ويكون شهودهم في بلاد أخرى، ولا

(هامش)

(1) لم نظفر على مصرح بذلك. نعم، يشعر كلام العلامة في المختلف (706) بوجود قائل به. وراجع مفتاح الكرامة 10: 174، جواهر الكلام 40: 306. (2) من (أ، ث، ل). وانظر الخلاف 6: 245 مسألة (42)، الجامع للشرائع: 530، المختلف: 706، إيضاح الفوائد 4: 364، الدروس الشرعية 2: 92، التنقيح الرائع 4: 261. (3) في الحجريتين: الحكم. (4) في (خ، د، ط، م): أمر. (*)

ص 10

يتيسر نقلهم إلى بلد الحق، فمست الحاجة إلى إثباته في بلد الشهود، والانتفاع في بلد المدعى عليه أو الذي فيه الحق، ولا وسيلة إلى ذلك إلا برفع الاحكام من بلد الشهود إلى الحكام في بلد الحق، ليتوصل ذو الحق إلى حقه، وإلا لزم تعطيل الحقوق، وهو مناف للحكمة. والضرورة إلى إثبات الحق كما تندفع بذلك، تندفع بشهادة الشاهدين على شهود الاصل ثم شهادة الفرع عند الحاكم الذي يريد إنهاء الحكم عنده. إلا أن في الشهادة على الشهادة قصورا عن الشهادة على الحكم، من حيث إنها مقصورة على المرتبة الثانية، فلا تسمع الشهادة الثالثة على الشهادة، والمرتبة الثالثة من الشهادة على الشهادة بمنزلة المرتبة الثانية من الشهادة على الشهادة على الحكم، فتكون مسموعة. فإذا تعذر وصول شهود الاصل في المرتبة الاولى من الشهادة على الحكم حصل الغرض من الشهادة عليهما (1)، دون ما لو كانت الشهادة على شهادة الاصل، لانها تنقص عنها بمرتبة، فقد لا يحصل الغرض بدون المرتبة الثالثة التي هي ثانية في الشهادة على الحكم. الثاني: أنه لو لم يشرع إنهاء الاحكام لبطلت الحجج مع تطاول المدة، لان الحاكم يموت فيبطل حكمه، فتنتفي فائدة الحكم حينئذ، بخلاف ما إذا أشهد على حكمه ولو قبل موته بيسير، فإن الشهود تصير طبقة ثانية بعده، فإذا أنفذ حكمه بشهادتهم طال زمان نفوذ الحجة والانتفاع بها، وهلم جرا بالنسبة إلى الحاكم الثاني والثالث، فيستمر الانتفاع بالحجة.

(هامش)

(1) في (ت، ط): عليها. (*)

ص 11

لا يقال: فتوى الاصحاب أنه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض، ولا العمل به. ورواية طلحة بن زيد والسكوني عن أبي عبد الله عليه السلام: أن عليا عليه السلام كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض، [لا] في حد ولا غيره، حتى وليت بنو أمية فأجازوا بالبينات.

الثالث: أن المنع من ذلك يؤول إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة، بأن يرافعه المحكوم عليه إلى حاكم آخر، فإذا لم ينفذ حكم الاول يجب عليه سماع الدعوى. ثم قد يكون عالما بعدالة شهود الحق، فيحكم له كالاول. ثم يحاكمه إلى آخر كذلك، إما [لو] (1) توصلا إلى حاكم يختل معه بعض الشرائط المعتبرة في إثبات الحق فينتفي عنه، أو يحصل بتكرار الخصومة مشقة زائدة على المحكوم له، بخلاف ما إذا أنفذ حكم الاول، فإن الخصومة ترتفع حينئذ، ويمضى الحكم الاول على وجهه. وهذا هو الموافق لنصب الحكام من الشارع، فإنهم وضعوا لفصل الخصومات وقطع المنازعات، دون ما يوجب استمرار الخصومة. الرابع: أن الغريم لو أقر عند الحاكم أن حاكما حكم عليه بالحق ألزمه الحاكم المقر (2) عنده به بالحق، لان إقراره بذلك إقرار بثبوت الحق عليه شرعا، وإذا كان الحاكم الثاني يلزم الغريم بإقراره بالحكم ويقطع الخصومة بذلك، فكذا إذا شهدت عنده البينة بحكم الحاكم بذلك، لان البينة تثبت ما لو أقر به الغريم لزم، فإذا كان الاقرار بالحكم ملزما كانت البينة عليه ملزمة. قوله: (لا يقال: فتوى الاصحاب... إلخ).

(هامش)

(1) من (ث) والحجريتين. (2) في إحدى الحجريتين: المقر به عنده. (*)

ص 12

لانا نجيب عن الاول بمنع دعوى الاجماع على خلاف موضع النزاع، لان المنع من العمل بكتاب قاض إلى قاض ليس منعا من العمل بحكم الحاكم مع ثبوته. ونحن (1) فلا عبرة عندنا بالكتاب، مختوما كان أو مفتوحا. وإلى جواز ما ذكرنا أوماء الشيخ أبو جعفر - رحمه الله - في الخلاف (2). ونجيب عن الرواية بالطعن في سندها، فإن طلحة بتري، والسكوني عامي. ومع تسليمها نقول بموجبها، فإنا لا نعمل بالكتاب أصلا ولو شهد به، فكان الكتاب ملغى.

هذا إشارة إلى حجة المانع من إنفاذ القاضي حكم قاض آخر وإن شهدت البينة عنده بحكمه. ومرجع الحجة إلى أمرين: أحدهما: إجماع الاصحاب على أنه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض، بمعنى أنه لا عبرة به ولا يترتب عليه حكم، وإجماع الاصحاب حجة، والمخالف لهم في ذلك منهم معلوم النسب، فلا يقدح فيه على ما تقرر في محله. والثاني: الرواية المشهورة عن طلحة بن زيد والسكوني عن أبي عبد الله عليه السلام: (أن عليا عليه السلام كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض، وإنما جوزه القضاة في زمن بني أمية) (3). فكان باطلا. وأجاب المصنف - رحمه الله - بمنع الاجماع على خلاف صورة النزاع،فإن الاجماع - على تقدير تسليمه - إنما وقع على منع العمل بكتاب قاض إلى قاض بمجرد الكتابة، من غير أن يحكم به باللفظ ويشهد على حكمه وينهي

(هامش)

(1) في الشرائع الحجرية (324) ومتن الجواهر (40: 310): ونحن نقول فلا... (2) الخلاف 6: 245 مسألة (42). (3) التهذيب 6: 300 ح 840 - 841، الوسائل 18: 218 ب (28) من أبواب كيفية الحكم. (*)

ص 13

الشهود ذلك إلى حاكم آخر فينفذه، وهذا ليس منعا من العمل بحكمه مع ثبوته. ونحن نسلم أنه لا عبرة بالكتاب بمجرده، سواء كان مختوما أم لا، وإنما يجوز إنفاذ الحاكم الثاني حكم الاول على تقدير ثبوت حكمه عنده بالبينة، وهذا أمر خارج عما ادعي الاجماع عليه. فحاصل الجواب يرجع إلى أن الاجماع المدعى واقع على خلاف موضع النزاع، فلا يكون مسموعا. مع أنا نمنع الاجماع على ما ذكروه أيضا، لان ابن الجنيد قد جوزه على ما عرفت (1)، وهو من أجلة الاصحاب، ومعلومية نسبه وكونها غير قادحة في الاجماع قد بينا ما فيه غير مرة. وعن الرواية بأمرين: أحدهما: ضعف سندها، فإن طلحة بن زيد بتري، والبترية فرقة من الزيدية. وقال الشيخ في الفهرست (2) والنجاشي (3): إنه عامي. والسكوني عامي أيضا مشهور الحال. مع أنه لم ينص أحد من الاصحاب فيهما على توثيق ولا مدح، مضافا إلى فساد العقيدة، فلا يعتد بروايتهما. والثاني: على تقدير تسليمها لا دلالة لها على المنع في موضع النزاع، لانها دلت على أن عليا عليه السلام كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض، ونحن نقول بموجبه، فإنا لا نجيز الكتاب بمجرده، وإنما نجيز الحكم إذا شهد عليه شاهدان وأنهياه عند حاكم آخر، وهذا غير المتنازع.

(هامش)

(1) راجع ص: 7. (2) الفهرست: 86 رقم (362). (3) رجال النجاشي: 207 رقم (550). (*)

ص 14

إذا عرفت هذا، فالعمل بذلك مقصور على حقوق الناس، دون الحدود وغيرها من حقوق الله. فما ينهى إلى الحاكم أمران: أحدهما: حكم وقع بين متخاصمين. والثاني: إثبات دعوى مدع على غائب.

وأجاب في المختلف (1) عن ضعف الروايتين بأن الرواية من المشاهير، فلا يضرها الطعن في الراوي. وهو يرجع إلى جبر الشهرة للضعف، وقد تكلمنا عليه غير مرة. واحتج على المنع أيضا بالاجماع على الحكم بالبينة واليمين من النبي صلى الله عليه وآله، وليس هذا أحدها. وجوابه: أن هذا ليس حكما، وإنما هو إقرار للحكم على حاله، وهو معنى إنفاذه. وعلى تقدير تسليمه فهو حكم بالبينة أيضا، فلا ينافي الاجماع المدعى. ولو سلم عدم كونه حكما بها منعنا الاجماع المذكور، فإن القول بجواز إنفاذ الحكم على هذا الوجه مذهب أكثر علماء الإسلام، ومنهم جملة (2) الاصحاب، سيما المتأخرين. قوله: (فالعمل بذلك مقصور... الخ). لان الحدود وحقوق الله مبنية على التخفيف، فيقتصر في إثباتها (3) على موضع الوفاق ومحل اليقين.

(هامش)

(1) المختلف: 706. (2) في (ت، ط): من الاصحاب. (3) في (ت، ث): إثباتهما. (*)

ص 15

أما الاول: فإن حضر شاهدا الانهاء خصومة الخصمين، وسمعا ما حكم به الحاكم، وأشهدهما على حكمه، ثم شهدا بالحكم عند الاخر، أثبت بشهادتهما حكم ذلك الحاكم، وأنفذ ما ثبت عنده، لا أنه يحكم بصحة الحكم في نفس الامر، إذ لا علم له به، بل الفائدة فيه قطع خصومة المختصمين لو عاودا المنازعة في تلك الواقعة. وإن لم يحضرا الخصومة، فحكى لهما الواقعة وصورة الحكم، وسمى المتحاكمين بأسمائهما وآبائهما وصفاتهما، وأشهدهما على الحكم، ففيه تردد، والقبول أولى، لان حكمه كما كان ماضيا كان إخباره ماضيا.

قوله: (فإن حضر شاهدا الانهاء... الخ).حيث حكمنا (1) بجواز إنفاذ الحاكم ماحكم به غيره، فأتم صوره احتياطا حضور شاهدي (2) الانهاء الواقعة وشهادة الشاهدين بأصل الحق، بعد دعوى المدعي وإشهاد الحاكم إياهما على حكمه. وهذه الصورة جوز إنفاذ الحكم فيها كل من قال به. فأما إذا انتفى حضورهما، ولكن حكى لهما الحاكم الاول صورة الواقعة وصورة الحكم، وعين لهما المتخاصمين، وأشهدهما على حكمه، ففي جواز إنفاذ الحكم حينئذ تردد، منشؤه من أن حكم الحاكم الثاني قول بما لا يعلم، وهو منهي عنه بقوله تعالى: (أتقولون على الله ما لا تعلمون) (3)، وبغيره من

(هامش)

(1) في (م): قلنا. (2) في (أ، ث، خ، ط): شاهدين لانهاء... (3) الاعراف: 28. (*)

ص 16

وأما الثاني: وهو إثبات دعوى المدعي، فإن حضر الشاهدان الدعوى وإقامة الشهادة والحكم بما شهدا به، وأشهدهما على نفسه بالحكم، وشهدا بذلك عند الاخر، قبلها وأنفذ الحكم.

الايات (1) والروايات (2)، فيقتصر فيما خالفه على موضع الوفاق وما يوجب تمام الاحتياط، وهو الصورة الاولى، ومن أنه كلما كان حكم الحاكم ماضيا كان إخباره به ماضيا، لكن المقدم حق فالتالي مثله. وحقية المقدم واضحة، والملازمة ظاهرة، لان غاية الحضور سماعهما (3) الحكم، إذ لا اعتبار بما وقع في المجلس غيره من الدعوى وشهادة الشاهدين وتعديلهما ما لم يحصل الحكم، وهو عبارة عن الاخبار بثبوت الحق من أهله بلفظ (حكمت) ونحوه، وصورة النزاع إخبار بذلك، فلا ترجيح لاحدهما على الاخر. ولان الادلة السابقة الدالة على تسويغ أصل هذا الانفاذ آتية في هذه الصورة. فكان القول بالقبول أقوى، وهو الذي اختاره المصنف - رحمه الله - والاكثر. واحترز المصنف بقوله: (وأشهدهما على الحكم) عما لو قال لهما: ثبت عندي ونحوه، فإنه لا يقبل قطعا، وإنما الكلام على تقدير إخباره بالحكم. إذا تقرر ذلك، فالمراد بقضاء القاضي الثاني بما حكم به الاول إنفاذه لحكمه وإمضاؤه له، بحيث لا تسمع الدعوى ثانيا، وتنقطع المنازعة، ويبقى الحكم على حاله وإن لم يعلم حقيقة الامر، لا أنه يحكم بصحته كما يحكم به الاول،لعدم علمه بما يوجب الحكم، ولجواز مخالفته لاجتهاده فلا يمكنه الحكم بصحته. قوله: (وأما الثاني وهو إثبات... الخ).

(هامش)

(1) الاسراء: 36. (2) راجع الكافي 1: 42 باب النهي عن القول بغير علم. (3) في (أ، ث، ط): سماعها. (*)

ص 17

ولو لم يحضرا الواقعة، وأشهدهما بما صورته: أن فلان بن فلان الفلاني ادعى على فلان بن فلان الفلاني كذا، وشهد له بدعواه فلان وفلان - ويذكر عدالتهما أو تزكيتهما - فحكمت وأمضيت، ففي الحكم به تردد، مع أن القبول أرجح، خصوصا مع إحضار الكتاب المتضمن للدعوى وشهادة الشهود. أما لو أخبر حاكما آخر بأنه ثبت عنده كذا لم يحكم به الثاني. وليس كذلك لو قال: حكمت، فإن فيه ترددا.

البحث في هاتين الصورتين كالسابقتين قبولا وردا، وإنما تتميزان بأن الحكم في الاولتين على حاضر وهنا على غائب، وهو لا يوجب اختلاف الحكم. ولو اقتصر على أحدهما وأدرج الاخر فيه كان أخصر. قوله: (أما لو أخبر حاكما... إلخ). قد ظهر من الادلة المجوزة لقبول إنفاذ الحكم أن موردها الضرورة إلى ذلك في البلاد البعيدة عن الحاكم الاول. فذهب بعض الاصحاب (1) إلى اختصاص الحكم بما إذا كان بين الحاكمين وساطة، وهم الشهود على حكم الاول. فلو كان الحاكمان مجتمعين، وأشهد أحدهما الاخر على حكمه، لم يصح إنفاذه، لان هذا ليس من محل الضرورة المسوغة للانفاذ المخالف للاصل. والاقوى القبول، لان قوله نافذ، وحكمه حجة، والضرورة إلى ذلك باقية، فإنها غير منحصرة في الاماكن المتباعدة، لان من جملتها قطع الخصومة، وهو لايتم إلا بقبول ذلك، بل هو في هذه الحالة أقوى من البينة، لان غاية البينة إثبات حكم الحاكم، وإخباره بالحكم أقوى.

(هامش)

(1) لم نجد تصريحا بهذا لاحد من الاصحاب. نعم، يشعر كلام الشيخ في الخلاف (6: 245 مسألة 42) بذلك. وللاستزادة انظر جواهر الكلام 40: 316. (*)

ص 18

وصورة الانهاء: أن يقص الشاهدان ما شاهداه من الواقعة، وما سمعاه من لفظ الحاكم، ويقولا: وأشهدنا على نفسه أنه حكم بذلك وأمضاه. ولو أحالا على الكتاب بعد قرأته، فقالا: أشهدنا الحاكم فلان على نفسه أنه حكم بذلك، جاز. ولابد من ضبط الشي المشهود به بما يرفع الجهالة عنه. ولو اشتبه على الثاني وقف الحكم حتى يوضحه المدعي.

وهذه الصورة هي التي صدرها في أول الخاتمة (1)، وجعل فيها ترددا، ونقل عن الشيخ المنع منها. وإنما أعادها ليفرق بين قوله: (ثبت عندي كذا) و(حكمت بكذا)، فإن محل الانفاذ هو الثاني لا الاول، لانه لم يحكم بل أثبت، والحاكم الثاني لا يحكم بإثبات غيره، بل ينفذ حكمه، ولم يحصل. قوله: (وصورة الانهاء... إلخ). المراد أن الشاهدين لا يكفي شهادتهما بما في الكتاب من الحكم مجملا، بل لابد من تفصيل الواقعة على الوجه الذي ذكره (2)، إما بلفظهما، أو بأن يقراء الحاكم الثاني عليهما الكتاب المشتمل على الحكم، فيقول الشاهدان: أشهدنا الحاكم فلان على نفسه أنه حكم بذلك، لانها حينئذ شهادة على أمر مفصل معلوم بالقرأة عليهما. قوله: (ولابد من ضبط الشي... إلخ).

(هامش)

(1) راجع ص: 7. (2) في (خ): ذكرناه. (*)

ص 19

ولو تغيرت حال الاول بموت أو عزل لم يقدح ذلك في العمل بحكمه. وإن تغيرت بفسق لم يعمل بحكمه، ويقر ما سبق إنفاذه على زمان فسقه. ولا أثر لتغير حال المكتوب إليه في الكتاب، بل كل من قامت عنده البينة بأن الاول حكم به وأشهدهم به عمل بها، إذ اللازم لكل حاكم إنفاذ ما حكم به غيره من الحكام.

إذا اشتبه المشهود به على الحاكم الثاني، لعدم ضبط الشهود (1) له بما يرفع الجهالة، وجب عليه إيقاف الحكم إلى أن يتضح، إما بتذكر الشاهدين تفصيله أو بشهادة غيرهما. وينبغي أن يكون ذلك هو المراد بإيضاح المدعي له، بأن أراد إيضاحه على وجه يثبت شرعا، وإلا فمطلق إيضاح المدعي له غير كاف في إنفاذ الثاني للحكم، لانه لا يجوز له التعويل على قول المدعي بمجرده. ولو قال: وقف الحكم حتى يتضح، كان أظهر. قوله: (ولو تغيرت حال الاول... إلخ). كما يجوز أن يكتب الحاكم الاول إلى قاض معين، يجوز أن يطلق فيكتب إلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين. وعند بعض العامة (2) أنه لا يجوز الاطلاق. وعلى تقدير التعيين لا يختص الحكم بمن كتب إليه، بل يجب إنفاذه على كل من شهد عنده الشاهدان بالحكم، وطلب منه المحكوم له إنفاذه. ومن اعتبر التعيين لم يجوز إنفاذه لغير المعين مطلقا. إذا تقرر ذلك، فلا يقدح موت الكاتب ولا المكتوب إليه إذا شهد الشاهدان

(هامش)

(1) في (ت، د): المشهود. (2) روضة القضاة 1: 332 - 333، المغني لابن قدامة 11: 467. (*)

ص 20

مسائل ثلاث: الاولى: إذا أقر المحكوم عليه أنه هو المشهود عليه ألزم. ولو أنكر وكانت الشهادة بوصف يحتمل الاتفاق [عليه] غالبا، فالقول قوله مع يمينه، ما لم يقم المدعي البينة. وإن كان الوصف مما يتعذر اتفاقه إلا نادرا لم يلتفت إلى إنكاره، لانه خلاف للظاهر. ولو ادعى أن في البلد مساويا له في الاسم والنسبة، كلف إبانته [في إثباته]. فإن كان المساوي حيا سئل، فإن اعترف أنه الغريم ألزم، وأطلق الاول. وإن أنكر وقف الحكم حتى يتبين.

عند من يقوم مقامه، بناء على عدم الانحصار ابتداء، لان الحكم لا يبطل بموت الحاكم. وفي معنى موت الحاكم عزله وجنونه وعماه - حيث يعتبر البصر - وخرسه. أما لو كتب القاضي إلى خليفته، ثم مات القاضي أو عزل، تعذر على الخليفة القبول والامضاء إن قلنا إنه ينعزل بانعزال الاصل. ولو ارتد القاضي الكاتب أو فسق، ثم وصل الكتاب إلى المكتوب إليه، لم يجز إنفاذه. وفرقوا بينه وبين الموت: بأن ظهور الفسق يشعر بالخبث وقيام الفسق يوم [يرفع] (1) الحكم. وفيه نظر. وذهب العامة (2) إلى جواز إنفاذه كالموت. وأما الانفاذ السابق على ظهور الفسق فيقر عليه كأصل الحكم. وأما المكتوب إليه فلا أثر لتغيره بفسق ولا غيره، فيبقى الحكم ماضيا وينفذ على غيره من القضاة، لما تقدم (3) من عدم انحصاره في المكتوب إليه. قوله: (إذا أقر المحكوم عليه... إلخ).

(هامش)

(1) من (ت، د، م). (2) الحاوي الكبير 16: 232، روضة القضاة 1: 340، روضة الطالبين 8: 164. (3) في الصفحة السابقة. (*)

ص 21

وإن كان المساوي ميتا، وهناك دلالة تشهد بالبرأة، إما لان الغريم لم يعاصره، وإما لان تاريخ الحق متأخر عن موته، ألزم الاول. وإن احتمل وقف الحكم حتى يتبين.

ينبغي أن يثبت القاضي في الكتاب اسم المحكوم له والمحكوم عليه وكنيتهما (1)، واسم أبيهما وجدهما وحليتهما (2) وصفتهما وقبيلتهما، ليسهل التميز. نعم، لو كان الرجل مشهورا، وحصل الاعلام ببعض ما ذكرنا، اكتفي به. فإذا فعل كما ذكرنا، وحمل الكتاب إلى المكتوب إليه، وأحضر الحامل عنده من زعمه محكوما عليه، نظر إن شهد شهود الكتاب والحكم على عينه، وأن القاضي الكاتب حكم عليه، طولب بالحق. وإن لم يشهدوا على عينه، ولكن شهدوا على رجل موصوف بالصفات المذكورة في الكتاب، فإن أقر المحضر أنه هو المشهود عليه قبل وألزم، لعموم (إقرار العقلا على أنفسهم جائز) (3). وإن أنكر، وكانت الشهادة بوصف يحتمل المشاركة غالبا، فالقول قوله مع يمينه، لاصالة البرأة، وعدم حصر الوصف. وإن نكل حلف المدعي وتوجه عليه الحكم. وإن قال: لا أحلف [على] (4) أنه ليس اسمي ونسبي، ولكن أحلف على أنه لا يلزمني تسليم شي إليه، ففي إجابته وجهان أصحهما عدمه، لقيام البينة

(هامش)

(1) كذا في (خ، ط)، وفي سائر النسخ: وكيفيتهما. (2) في (ط): وخلقتهما. (3) راجع الوسائل 16: 111 ب (2) من كتاب الاقرار ح 2، المستدرك 16: 31 ب (2) من كتاب الاقرار ح 1، عوالي اللئالي 3: 442 ح 5. وراجع أيضا المختلف: 443، التذكرة 2: 79، إيضاح الفوائد 2: 428، جامع المقاصد 5: 233، فهناك بحث في كون هذه الجملة رواية.(4) من الحجريتين. (*)

ص 22

على المسمى بهذا الاسم، وذلك يوجه الحق عليه. وإن قامت البينة على أنه اسمه ونسبه، فقال: نعم لكني لست المحكوم عليه، فإن لم يوجد هناك من يشاركه في الاسم والصفات المذكورة لزمه (1) الحكم، لان الظاهر أنه المحكوم عليه. وإن وجد، إما بأن عرفه القاضي أو قامت عليه بينة، احضر الذي يشاركه وسئل، فإن اعترف بالحق طولب به، وتخلص الاول. وإن أنكر وقف حتى ينكشف. ولو أقام المحضر بينة على موصوف بتلك الصفات كان هناك وقد مات، فإن مات بعد الحكم وقع الاشكال. وإن مات قبله، فإن لم يعاصره المحكوم له فلا إشكال. وإن عاصره، فإن كان تاريخ الحق متأخرا عن موته فكذلك، فيلزم الاول، وإلا وقف الحكم. هذا كله إذا أثبت القاضي اسم المحكوم عليه ونسبه وصفته كما قدمناه. أما إذا اقتصر على أني حكمت على محمد بن أحمد مثلا، فقيل: يبطل الحكم، لان المحكوم عليه مبهم لم يتعين بإشارة ولا وصف، حتى لو حضر رجل واعترف بأنه محمد بن أحمد وأنه المعني بالكتاب لم يلزم ذلك، لبطلان الحكم في نفسه، إلا أن يقر بالحق فيؤاخذ به، بخلاف ما لو استقصى الوصف ولم يقصر فظهر الاشتراك واتفق اشتباهه. ويظهر من إطلاق المصنف أنه (لو أقر بأنه المشهود عليه ألزم) لزوم الحق لصاحب الاسم المشترك غالبا، وإن كان لا يلزمه لو أنكر. وهو خيرة الدروس (2)، واستبعد خلافه. وهذا هو الوجه.

(هامش)

(1) في (ت، م): نفذ، وفي (د): أنفذ.(2) الدروس الشرعية 2: 92. (*)

ص 23

الثانية: للمشهود عليه أن يمتنع من التسليم حتى يشهد القابض. ولو لم يكن عليه بالحق شاهد، قيل: لا يلزم الاشهاد. ولو قيل: يلزم كان حسنا، حسما لمادة المنازعة، أو كراهية لتوجه اليمين. الثالثة: لا يجب على المدعي دفع الحجة مع الوفاء، لانها حجة له لو خرج المقبوض مستحقا. وكذا القول في البائع إذا التمس المشتري كتاب الاصل، لانه حجة له على البائع الاول بالثمن لو خرج المبيع مستحقا.

قوله: (للمشهود عليه... إلخ). القول بعدم جواز الامتناع إلى أن يشهد حيث لا يكون بالحق شاهد للشيخ (1)، لعدم الضرر بالدفع حينئذ، لان غايته أن يدعي عليه به مرة أخرى ولا بينة له، فينكر ويقبل قوله في البرأة منه بيمينه، واليمين الصادقة لا ضرر فيها. ومثله ما لو كان له بالحق بينة ولكن كان الحق مما يقبل قول من هو بيده في رده كالوديعة، لان البينة لا تلزمه، وإنما غايته إلزامه باليمين كالسابق. والذي اختاره المصنف - رحمه الله - وجماعة (2) جواز الامتناع إلى أن يشهد مطلقا، لان المنازعة وتوجه اليمين مما ينبغي دفعه خصوصا عن ذوي المروات، فيكون حسم مادته بالاشهاد عذرا في تأخير الحق إلى أن يحكمه. وقد تقدم البحث في هذه المسألة في كتاب الوكالة (3)، وكأنه أعادها لمناسبة المقام. قوله: (لا يجب على المدعي... إلخ).

(هامش)

(1) المبسوط 8: 131. (2) قواعد الاحكام 1: 258، اللمعة الدمشقية: 98.(3) في ج 5: 292. (*)

ص 24

الفصل الثاني في لواحق من أحكام القسمة

والنظر: في القاسم، والمقسوم، والكيفية، واللواحق

ما ذكره من تعليل عدم وجوب دفع الحجة حسن، لان فائدة الحجة لا تنحصر في زمن ملكه، بل يحتاج إليها بعد البرأة وخروج الملك عنه ليكون حجة على الدرك. مع أنه يجوز التعليل أيضا بكونها ملكا لمن هي في يده، ولا يجب عليه دفع ملكه إلى غيره، وإن لم يكن له منفعة بها كغيرها من أمواله. قوله: (في لواحق من أحكام القسمة... الخ). إنما ذكر أحكام القسمة في كتاب القضاء لان القاضي لا يستغني عن القسام، للحاجة إلى قسمة المشتركات، بل القسام كالحاكم، فحسن الكلام في القسمة في هذا الكتاب كما فعله جماعة (1) من الفقهاء، ومن (2) أفردها كتابا برأسها نظر إلى استقلالها بالاحكام كغيرها من كتب الفقه. واعلم أن الحاجة الداعية إلى تجويز القسمة بينة، وذلك لانه قد يتبرم الشركاء أو بعضهم بالمشاركة أو يريدون الاستبداد بالتصرف، وفي كتاب الله: (وإذا حضر القسمة أولوا القربى) (3) الاية. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقسم الغنائم بين الغانمين (4).

(هامش)

(1) انظر المبسوط 8: 133، الجامع للشرائع: 531، قواعد الاحكام 2: 218، اللمعة الدمشقية: 53. (2) كالقاضي في المهذب 2: 573، والشهيد في الدروس الشرعية 2: 117. (3) النساء: 8. (4) المبسوط 8: 133، وانظر مسند أحمد 1: 427، صحيح البخاري 5: 200 - 201، صحيح مسلم 2: 738 ح 1061، سنن البيهقي 10: 131 - 132. (*)

ص 25

أما الاول: فيستحب للامام أن ينصب قاسما، كما كان لعلي عليه السلام. ويشترط فيه: البلوغ، وكمال العقل، والايمان، والعدالة، والمعرفة بالحساب. ولا يشترط الحرية. ولو تراضى الخصمان بقاسم لم تشترط العدالة. وفي التراضي بقسمة الكافر نظر، أقربه الجواز، كما لو تراضيا بأنفسهما من غير قاسم.

قوله: (فيستحب للامام عليه السلام... الخ). القسمة قد يتولا ها الشركاء بأنفسهم، وقد يتولا ها غيرهم. وهو إما منصوب الامام، أو منصوبهم. ويستحب للامام أن ينصب قاسما ويرزقه من بيت المال، لان القسمة من جملة المصالح. وروي (1) أنه كان لعلي عليه السلام قاسم يقال له عبد الله بن يحيى، وكان يرزقه من بيت المال. ويشترط في منصوب الامام: التكليف، والايمان، والعدالة، والمعرفة بالمساحة والحساب، لان علمه بهما كالفقه في الحاكم. وقيل: يشترط أن يعرف التقويم، لان في أنواع القسمة ما يحتاج إليه. ولا يشترط عندنا الحرية، فلا يمتنع أن يكون العبد قاسما بإذن مولاه. أما منصوب الشركاء فلا يشترط فيه العدالة، لانه وكيل من جهتهم. وفي اشتراط إسلامه نظر، من حيث إنه ظالم منهي عن الركون إليه. والاصح الجواز، لجواز كونه وكيلا وهذه في معنى الوكالة، ولتراضيهما على قسمته، فكان كما لو تراضيا على القسمة بأنفسهما من غير قاسم.

(هامش)

(1) رواه الشيخ في المبسوط 8: 133. (*)

ص 26

والمنصوب من قبل الامام تمضي قسمته بنفس القرعة، ولا يشترط رضاهما بعدها. وفي غيره يقف اللزوم على الرضا بعد القرعة. وفي هذا إشكال، من حيث إن القرعة وسيلة إلى تعيين الحق، وقد قارنها الرضا.

قوله: (والمنصوب من قبل الامام... إلخ). قرعة قاسم الامام بمنزلة حكمه، فمن ثم اشترط فيه العدالة والمعرفة، فلا يعتبر رضاهما بعدها. أما القاسم الذي نصباه، أو إذا اقتسما بأنفسهما من غير قاسم، قال الشيخ (1): يعتبر رضاهما بعد القرعة، لانها إنما تتعين (2) بحكم الحاكم أو تراضيهما بعدها، ولاصالة بقاء الشركة. والمصنف - رحمه الله - استشكل ذلك، من حيث إن القرعة شرعت وسيلة إلى تعيين الحق، وقد قارنها الرضا فلا يعتبر بعدها، لان التعيين على هذا الوجه أوجب تميز أحد الحقين عن الاخر، فيتعين بالرضا المقارن. بل ينبغي أن يتعين بتراضيهما على القسمة وتخصيص كل واحد من الشركاء بحصته (3) وإن لم تحصل القرعة، كما تصح المعاطاة في البيع، إلا أن المعاطاة يتوقف لزومها على التصرف، من حيث إن ملك كل واحد من العوضين كان للاخر، فيستصحب ملكه إلى أن يتصرف أحدهما بإذن الاخر، فيكون رضا منه بكون ما في يده عوضا عن الاخر. أما القسمة فإنها مجرد تمييز أحد النصيبين عن الاخر، وما يصل إلى كل منهما هو

(هامش)

(1) المبسوط 8: 148. (2) في (أ، خ): تعتبر. (3) في (د، م): بحقه. (*)

ص 27

ويجزي القاسم الواحد إذا لم يكن في القسمة رد. ولابد من اثنين في قسمة الرد، لانها تتضمن تقويما، فلا ينفرد به الواحد. ويسقط اعتبار الثاني مع رضا الشريك.

عين ملكه لا عوضا عن ملك الاخر، فيكفي تراضيهما عليها مطلقا. ومن جعلها بيعا مطلقا أو على بعض الوجوه يناسبه توقف اللزوم على التصرف، كالبيع معاطاة. واشترط في الدروس (1) تراضيهما بعد القرعة في غير قسمة منصوب الامام عليه السلام مع اشتمالها على الرد خاصة. وهو حسن. وفي اللمعة (2) اكتفى بتراضيهما عليها من غير قرعة مطلقا. وهو أجود. واختاره العلامة في القواعد (3) أيضا. قوله: (ويجزي القاسم الواحد... إلخ).القسمة إن اشتملت على رد فلا إشكال في اعتبار التعدد في القاسم حيث لا يتراضى الشريكان بالواحد، لان التعدد (4) مشترط في التقويم (5) مطلقا من حيث إنها شهادة وإن لم تشتمل على رد. فهل يجزي قاسم واحد، بمعنى أن الامام يجتزي بنصب واحد، أم لابد من اثنين كنصب الشاهد؟ مذهب الاصحاب هو الاول، إقامة له مقام الحاكم. ويؤيده ما سبق (6) من نصب علي عليه السلام قاسما واحدا.

(هامش)

(1) الدروس الشرعية 2: 117. (2) اللمعة الدمشقية: 53. (3) قواعد الاحكام 2: 218. (4) في (ت، خ، د، م): العدد. (5) في (ث، ط): المقوم. (6) في ص: 25. (*)

ص 28

وأجرة القسام من بيت المال، فإن لم يكن إمام، أو كان ولا سعة في بيت المال، كانت أجرته على المتقاسمين. فإن استأجره كل واحد بأجرة معينة فلا بحث. وإن استأجروه في عقد واحد، ولم يعينوا نصيب كل واحد من الاجرة، لزمتهم الاجرة بالحصص. وكذا لو لم يقدروا أجرة، كان له أجرة المثل عليهم بالحصص لا بالسوية.

واعتبر بعض (1) العامة اثنين مطلقا، ترجيحا لجانب الشاهد، حيث إنه لا يشتمل على جميع أوصاف الحاكم. قوله: (وأجرة القسام من بيت المال... إلخ). قد ذكرنا (2) أن أجرة القسام في (3) بيت المال، لانه من المصالح. فإن لم يتفق له الكفاية من بيت المال فأجرته على الشركاء، سواء طلب جميعهم القسمة أم بعضهم دون بعض. ثم ينظر إن استأجر الشركاء قاسما وسموا له أجرة وأطلقوا فتلك الاجرة تتوزع على قدر الحصص، لانها من مؤونات الملك، فأشبهت النفقة، فتكون في مقابلة العمل، والعمل لمن يزداد نصيبه أكثر، كالكيل في المكيلات (4) والوزن في الموزونات. وكذا القول فيما لو لم يقدروا أجرة، أو استأجروه أجرة (5) فاسدة، فوجبت أجرة المثل.

(هامش)

(1) الحاوي الكبير 16: 247، حلية العلماء 8: 165 - 166، روضة الطالبين 8: 182. (2) راجع ص: 25. (3) في (خ): من. (4) في (ث): المكيل. (5) كذا فيما لدينا من النسخ الخطية، ولعل الصحيح: إجارة، أو: بأجرة. (*)

ص 29

وفيه وجه آخر أنه يقسم على عدد الرؤوس، لان عمله (1) في الحساب والمساحة يقع لهم جميعا، وقد يكون الحساب في الجز القليل أغمض. وأيضا فإن قلة النصيب توجب كثرة العمل، لان القسمة تقع بحسب أقل الاجزاء، فإن لم يجب على من قل نصيبه زيادة فلا أقل من التساوي. والاصح الاول. وإن سمى كل واحد منهم أجرة التزمها فله على كل واحد ما التزم، وانقطع النظر عن الحصص والرؤوس جميعا.وهذا واضح إن فرض اجتماعهم على الاستيجار، بأن قالوا: استأجرناك لتقسم بيننا كذا بدينار على فلان ودينارين على فلان، أو وكلوا وكيلا فعقد لهم كذلك. وإن فرضت عقود مترتبة، فقد ذكروا فيه إشكالا، وهو أن الشركاء إذا كانوا اثنين فعقد واحد لافراز نصيبه، فعلى القسام إفراز النصيبين وتمييز كل واحد منهما عن الاخر، لان تمييز نصيب المستأجر لا يمكن إلا بتمييز نصيب الاخر، وما يتوقف عليه الواجب فهو واجب، فإذا استأجر بعد ذلك الاخر على تمييز نصيبه فقد استأجره على ما وجب عليه واستحق في ذمته لغيره، فلم يصح. وكذا لو كانوا ثلاثة فعقد واحد لافراز نصيبه، ثم الثاني كذلك، فعلى القسام إفراز النصيبين، فإذا ميزهما تميز الثالث، فإذا عقد الثالث بعد العقدين كان قد عقد على عمل مستحق في ذمة الاجير لغيره، فلا يصح. وأجيب بأن السؤال مبني على أنه يجوز استقلال بعض الشركاء باستيجار القسام لافراز نصيبه ولا سبيل إليه، لان إفراز نصيبه لا يمكن إلا بالتصرف في

(هامش)

(1) كذا في (خ، ث)، وفي سائر النسخ: علمه. (*)

ص 30

الثاني: في المقسوم وهو إما متساوي الاجزاء، كذوات الامثال مثل الحبوب والادهان، أو متفاوتها، كالاشجار والعقار. فالاول يجبر الممتنع مع مطالبة الشريك بالقسمة، لان الانسان له ولاية الانتفاع بماله، والانفراد أكمل نفعا. ويقسم كيلا ووزنا، متساويا ومتفاضلا، ربويا كان أو غيره، لان القسمة تمييز حق لا بيع.

نصيب الاخرين ترددا وتقديرا، ولا سبيل إليه إلا برضاهم. نعم، يجوز أن ينفرد واحد منهم برضا الباقين، فيكون أصلا ووكيلا، ولا حاجة إلى عقد الباقين.وحينئذ إن فصل ما على كل واحد منهم بالتراضي فذاك، وإن أطلق عاد الكلام في كيفية التوزيع. قوله: (في المقسوم... إلخ). اعلم أن العين المشتركة إما أن يعظم الضرر في قسمتها، أولا يعظم. والثاني: إما أن تكون مثلية، وهي المتساوية الاجزاء في القيمة والصفات، كالحبوب والادهان، أو قيمية لكنها متشابهة الاجزاء، كالدار المتفقة الابنية، والارض المتشابهة الاجزاء، وما في معناها بحيث يمكن تعديلها بعدد الانصباء من غير رد ولا ضرر، أو يتوقف التعديل على الرد من غير أن يحصل ضرر على أحد الشركاء، أو يحصل ضرر، إما على الجميع أو على البعض. فهذه أقسام المقسوم. فالقسمان الاولان يجبر الممتنع من القسمة إذا طلبها الاخر. وسيأتي حكم الباقي.

ص 31

ونبه بقوله: (ويقسم كيلا ووزنا - إلى قوله - لان القسمة تمييز حق لا بيع) على خلاف بعض العامة (1) حيث زعم أنها بيع مطلقا. ومنهم من جعل قسمة الرد بيعا دون غيرها. ومنهم من جعل قسمة التراضي بيعا دون غيرها. ووافقنا جماعة على أنها تمييز حق لا بيع مطلقا. واستدل على أنها ليست بيعا مطلقا بأنها لا تفتقر إلى صيغة، ويدخلها الاجبار، وتعتمد القرعة، ويتقدر أحد النصيبين بقدر الاخر، والبيع ليس فيه شي من ذلك، واختلاف اللوازم والخواص يدل على اختلاف الملزومات والمعروضات. ومعنى أنها تمييز وإفراز أنها تبين أن ما خرج لكل واحد منهما هو الذي ملكه. واستدل من جعلها بيعا بأنه ما من جز من المال إلا وكان مشتركا بينهما، وإذا اقتسما فكأنه قد باع كل منهما ما كان له في حصة صاحبه بماله في حصته. واعتذروا عن الصيغة بأن البيع لا ينحصر في صيغة معينة. وعن الاجبار بالحاجة الداعية إليه، وذلك لا يخرجها عن كونها بيعا، فقد يدخل الاجبار البيع لمصلحة، كما يبيع الحاكم مال المديون قهرا، وغير ذلك من مواضع معدودة (2) في بابه. وأجيب بأن القول بكونها بيعا لا يتم في مادة مطلقا، لان النصف الايمن مثلا [عن] (3) الذي يأخذه زيد كما أنه لم يكن كله لزيد حتى يقال إن القسمة إفراز

(هامش)

(1) المغني لابن قدامة 11: 492، الانصاف 11: 344 و347، روضة القضاة 2: 797، روضة الطالبين 8: 192 - 193. (2) في (ث، خ): متعددة. (3) من الحجريتين. (*)

ص 32

بالنصف الايسر، لم يكن كله له حتى يقال إنه باعه من عمرو، بل النصف الذي أخذه كان نصفه له ونصفه لصاحبه. فالقسمة إفراز ما كان له منه، ومعاوضة على ما كان لصاحبه. وهي لا تنحصر في البيع، لان الصلح يفيد ذلك، إلا أن يسموه حينئذ بيعا، وهو ممنوع. وأما قسمة الرد فهي معاوضة في مقابلة المردود، ومنثم اشترط فيها التراضي، لكن لا تنحصر المعاوضة في البيع كما ذكرناه، ويمكن كونها هنا قسما برأسها. ويتفرع على الخلاف أن من جعلها بيعا فاقتسما شيئا ربويا وجب التقابض في المجلس، ولم تجز قسمة المكيل بالوزن والموزون بالكيل. وإن جعلناها إفرازا فالحكم بخلافه. وإليه أشار بقوله: (ويقسم كيلا ووزنا، ربويا كان أو غيره). وأما قوله: (متساويا ومتفاضلا) فالاصل في القسمة أن تكون بنسبة الاستحقاق، فإذا كان المشترك بينهما نصفين إفرازه قسمين، وإن كان بينهما أثلاثا إفرازه كذلك، والتفاضل في الثاني بحسب الصورة وإلا فهو متساو حقيقة، لان مستحق الثلث له فيما في يد صاحب الثلثين ثلثه، ولصاحب الثلثين في يد ما في صاحب الثلث ثلثاه، فالقسمة على هذا الوجه موجبة للتسوية بينهما بالنظر إلى أصل الحق. وإن أراد بالتفاضل ترجيح أحدهما على الاخر زيادة على حقه، فليس ذلك بداخل في حقيقة القسمة، بل هو هبة محضة للزائد. فلو ترك قوله: (متساويا ومتفاضلا) كان أولى.

ص 33

والثاني: إما أن يستضر الكل، أو البعض، أو لا يستضر أحدهم. وفي الاول: لا يجبر الممتنع، كالجواهر والعضائد الضيقة. وفي الثاني: إن التمس المستضر أجبر من لا يتضرر. وإن امتنع المتضرر لم يجبر.ويتحقق الضرر المانع من الاجبار بعدم الانتفاع بالنصيب بعد القسمة. وقيل بنقصان القيمة. وهو أشبه. وللشيخ قولان.

قوله: (والثاني: إما أن يستضر... إلخ). المشترك غير المثلي إما أن يحصل الضرر بقسمته على جميع الشركاء، كالجوهرة النفيسة تكسر، والثوب الرفيع يقطع، أو يتضرر بعضهم دون بعض، كدار بين اثنين لاحدهما عشرها وللاخر باقيها، ولو قسمت لم يصلح العشر للمسكن وتصلح تسعة الاعشار، أولا يتضرر أحد منهم. فمع الضرر لا يجبر المتضرر إذا امتنع من القسمة، لظهور عذره، وعموم قوله صلى الله عليه وآله: (لا ضرر ولا ضرار) (1). وإن طلب أحدهم حيث لا ضرر، أو طلب المتضرر حيث يختص الضرر بأحد (2)، أجيب. أما الاول فلانتفاء الضرر رأسا، فله طلب تخليص ملكه من الاخر، كما في المثلي. وأما الثاني فلان الطالب هو الذي أدخل الضرر على نفسه فيجاب إليه، وليس للاخر الامتناع، لانتفائه عنه. وكذا لو تضرر الجميع واتفقوا على القسمة. لكن يجب تقييد الحكم في الموضعين بما إذا لم تبطل منفعة

(هامش)

(1) الكافي 5: 292 ح 2، الفقيه 3: 147 ح 648، التهذيب 7: 146 ح 651، الوسائل 17: 341 ب (12) من أبواب إحياء الموات ح 3. (2) في (ت): بأحد الشركاء، وفي (خ):... الضرر به. (*)

ص 34

المقسوم بالكلية فتذهب ماليته، فإنهم لا يجابون إليها، لما فيه من إذهاب المال في (1) غير غرض صحيح. إذا تقرر ذلك، فقد اختلفوا (2) في ضبط الضرر المانع من القسمة على أقوال: أحدها: أنه عدم الانتفاع بالنصيب بعد القسمة. ووجه التضرر على هذا الوجه ظاهر، لان بطلان منفعة الملك ضرر بين، وهو منفي بالرواية. والثاني - وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله هنا -: أنه نقصان القيمة وإن بقيت المنفعة. وحجته أيضا الخبر، نظرا إلى فوات المالية في الجملة. وهذان القولان للشيخ في المبسوط (3)، والاول له في الخلاف (4) أيضا. وللمصنف - رحمه الله - أيضا، أولهما في باب الشفعة (5)، والاخر هنا. وهما للعلامة (6) أيضا. والثالث: أنه عدم الانتفاع به منفردا فيما كان ينتفع به مع الشركة، كالدار الصغيرة إذا قسمت أصاب كل واحد موضع ضيق لا ينتفع به في السكنى على ذلك الوجه، وإن انتفع به في غيرها.

(هامش)

(1) في (ث، خ): من. (2) في (أ): اختلف.(3) المبسوط 8: 135. (4) الخلاف 6: 229 مسألة (27). (5) راجع ج 12: 265. (6) قواعد الاحكام 2: 219، تذكرة الفقهاء 1: 589 - 590. (*)

ص 35

ثم المقسوم إن لم يكن فيه رد ولا ضرر أجبر الممتنع. وتسمى قسمة إجبار. وإن تضمنت أحدهما لم يجبر. وتسمى قسمة تراض. ويقسم الثوب الذي لا تنقص قيمته بالقطع كما تقسم الارض. وإن كان ينقص [قيمته] بالقطع لم يقسم، لحصول الضرر بالقسمة. وتقسم الثياب والعبيد بعد التعديل بالقيمة قسمة إجبار.

والرابع: أنه نقص القيمة نقصانا فاحشا بحيث يحصل به الضرر عرفا. وهذا أقوى. وهو خيرة الشهيد - رحمه الله - في الدروس (1). ويمكن أن يريد به مطلق القول بنقصان القيمة. ومرجع الاقوال كلها إلى خبر الضرر. قوله: (ثم المقسوم إن لم يكن... إلخ). قسم المصنف - رحمه الله - القسمة إلى أمرين: قسمة تراض، وقسمة إجبار، وجعل الضابط أن المقسوم متى أمكن تعديله من غير رد ولا ضرر فقسمته قسمة إجبار، ومتى اشتملت على أحدهما فهي قسمة تراض. والاول يشمل قسمة المثلي والقيمي. وألحق قسمة التعديل في الاعيان المتعددة القيمة بقسمة الاجبار. ومنهم (2) من قسمها ثلاثة أقسام: قسمة الافراز. وهي: أن يكون الشي قابلا للقسمة إلى أجزاء متساوية الصفات، كذوات الامثال، وكالثوب الواحد والعرصة الواحدة المتساوية. ولا إشكال في كون هذا القسم إجباريا مع بقاء الحصص بعد القسمة منتفعا بها أو حافظة للقيمة كما مر. والثاني: قسمة التعديل. وهي: ما تعدل سهامها بالقيمة. وهي تنقسم: إلى ما يعد شيئا واحدا، وإلى ما يعد شيئين فصاعدا.

(هامش)

(1) الدروس الشرعية 2: 117. (2) روضة الطالبين 8: 185 - 192. (*)

ص 36

فالاول: ما يعد شيئا واحدا، كالارض التي تختلف قيمة أجزائها، لاختلافها في قوة الانبات، أو في القرب من الماء والبعد منه، أو في أن بعضها يسقى من النهر وبعضها بالنضح، فيكون ثلثها لجودته بالقيمة مثل ثلثيها مثلا. فيجعل هذا سهما وهذا سهما إن كانت بينهما بالسوية، وإن اختلفت الانصباء اعتبرت بالقيمة دون المساحة. ومقتضى عبارة المصنف - رحمه الله - قسمة هذه إجبارا، إلحاقا للتساوي في القيمة بالتساوي في الاجزاء. ويحتمل عدم الاجبار هنا، لاختلاف الاغراض والمنافع. والوجهان جاريان فيما إذا كان الاختلاف لاختلاف الجنس، كالبستان الواحد المختلف الاشجار، والدار الواحدة المختلفة البناء. والاشهر الاجبار في الجميع، ولولا ذلك لامتنع الاجبار في البستان، لاشتماله على الاشجار المختلفة غالبا، وفي الدار المشتملة على الحيطان والجذوع والابواب. وهذا شأن الدور والبساتين. وينجر ذلك إلى أن لا تثبت فيها الشفعة، كالطاحونة والحمام. وهو بعيد. والثاني: ما يعد شيئين فصاعدا. وهو ينقسم إلى عقار وغيره. فالاول كما إذا اشتركا في دارين أو حانوتين متساويتي القيمة، وطلب أحدهما القسمة، بأنيجعل لهذا دار ولهذا دار. ولا يجبر الممتنع هنا، سواء تجاور الداران والحانوتان أم تباعدا، لشدة اختلاف الاغراض باختلاف المحال والابنية، فيلحقان بالجنسين المختلفين.

ص 37

وعند بعض العامة (1) أنهما يجبران عند التجاور، وعند آخرين (2) مطلقا. ولو كانت بينهما دكاكين متلاصقة لا يحتمل آحادها القسمة - وتسمى العضائد - فطلب أحدهما أن تقسم أعيانها، ففي إجبار الممتنع وجهان أظهرهما العدم. وسيأتي (3). وأما غير العقار، فإذا اشتركا في عبيد أو دواب أو أشجار أو ثياب، فإما أن تكون من نوع واحد أو من متعدد (4). فإن كانت من نوع واحد، وأمكن التسوية بين الشريكين عددا وقيمة، كعبدين متساويي القيمة بين اثنين، وثلاث دواب متساوية القيمة بين ثلاثة، فالذي اختاره المصنف - رحمه الله - والاكثر أنه يجبر على قسمتها أعيانا، ويكتفى بالتساوي في القيمة، بخلاف الدور، لشدة اختلاف الاغراض فيها. ولان النبي (5) صلى الله عليه وآله جزاء العبيد الستة الذين أعتقهم الأنصاري في مرضه ثلاثة أجزاء. ولانه ليس اختلاف الجنس الواحد في القيمة بأكثر من اختلاف قيمة الدار الكبيرة والقرية العظيمة، فإن أرض القرية تختلف، سيما إذا كانت ذات أشجار مختلفة وأرضين متنوعة، والدار ذات البيوت المختلفة المساحة، فكما لا يمنع اختلاف الدار والقرية من الاجبار، لا يمنع اختلاف الجنس الواحد من الاجبار.

(هامش)

(1) حلية العلماء 8: 178 - 179، المغني لابن قدامة 11: 499، روضة القضاة 2: 800. (2) حلية العلماء 8: 178 - 179، المغني لابن قدامة 11: 499، روضة القضاة 2: 800. (3) في ص: 53. (4) في (خ): من أنواع متعددة. (5) مسند أحمد 4: 426، صحيح مسلم 3: 1288 ح 56، سنن أبي داود 4: 28 ح 3958، سننالترمذي 3: 645 ح 1364، سنن البيهقي 10: 285. (*)

ص 38

وفي القواعد (1) استشكل الحكم في العبيد. ووجه الاشكال مما ذكرناه، ومن تفاوت الاغراض بتفاوت الاشخاص، كمختلفي الجنس. ونقل في المبسوط (2) عن بعضهم عدم الاجبار هنا. والمذهب هو الاول. ولو لم يمكن التسوية في العدد، كثلاثة أعبد بين اثنين على السواء، أحدهما (3) يساوي الاخرين في القيمة. فإن قلنا بالاجبار عند إمكان التسوية فهنا وجهان، ينظر أحدهما إلى تعادل القيمة، والثاني إلى اختلاف العدد وتفاوت الاغراض. ومثله القول في الاراضي المختلفة الاجزاء. ولو كانت الشركة لا ترتفع إلا عن بعض الاعيان، كعبدين بين اثنين قيمة أحدهما مائة وقيمة الاخر مائتان، فطلب أحدهما القسمة ليختص من أخرجت له القرعة الخسيس به، ويربع النفيس، ففي إجبار الاخر وجهان مبنيان على المسألة السابقة، فإن قلنا لا إجبار هناك فهنا أولى، وإن قلنا بالاجبار هناك فهنا وجهان أصحهما المنع، لان الشركة لا ترتفع بالكلية. ولو كانت الاعيان من أنواع مختلفة، كالعبد التركي مع الهندي، والثوبالابريسم مع الكتان، مع تساويهما في القيمة، ففي إجبار الممتنع وجهان مرتبان. وأولى بالمنع هنا لو قيل به في السابق. وكذا القول لو اختلفت قيمتهما وأمكن التعديل. ويظهر من المصنف وجماعة عدم اعتبار اختلاف النوع مع اتفاق القيمة. وأما الاجناس المختلفة، كالعبد والثوب والحنطة والشعير والدابة والدار،

(هامش)

(1) قواعد الاحكام 2: 219. (2) المبسوط 8: 147. (3) كذا فيما لدينا من النسخ الخطية، ولعل الصحيح: أحدها، أو: أحدهم. (*)

ص 39

وإذا سألا الحاكم القسمة، ولهما بينة بالملك، قسم. وإن كانت يدهما عليه ولا منازع [لهما]، قال الشيخ في المبسوط (1): لا يقسم، وقال في الخلاف (2): يقسم. وهو الاشبه، لان التصرف دلالة الملك.

فلا إجبار في قسمة أعيانها بعضا (3) في بعض وإن تساوت قيمتها. والثالث: قسمة الرد، بأن يكون بينهما عبدان قيمة أحدهما ألف وقيمة الاخر ستمائة، فإذا رد آخذ النفيس مائتين استويا. ولا خلاف في كون هذا القسم مشروطا بالتراضي. وسيأتي (4) الكلام فيه. قوله: (وإذا سألا الحاكم... إلخ). إذا كان في يد اثنين ملكا يقبل القسمة، ولا منازع لهما في ملكه ظاهرا، فطلبا من الحاكم قسمته بينهما، فإن أقاما بينة أنه ملكهما أجابهما إلى القسمة. وإن لم يقيما بينة ففي إجابتهما قولان: أحدهما: العدم، لانه قد يكون في يدهما بإجارة أو إعارة، فإذا قسمه بينهما لم يؤمن أن يدعيا ملكه محتجين بقسمة القاضي. والثاني: نعم، اكتفاء بدلالة اليد على الملك، لكن يكتب الحاكم ويشهد أنه إنما قسم بقولهما (5) لئلا يتمسكا بقسمته. واعترض على تقدير إقامة البينة بأنها إنما تقام وتسمع على خصم، ولا خصم هاهنا.

(هامش)

(1) المبسوط 8: 147 - 148. (2) الخلاف 6: 232 مسألة (30). (3) في (ث): بعضها. (4) في ص: 48. (5) في الحجريتين: بقبولهما قولا لئلا... (*)

ص 40

الثالث: في كيفية القسمة. الحصص إن تساوت قدرا وقيمة فالقسمة بتعديلها على السهام، لانه يتضمن القيمة، كالدار تكون بين اثنين وقيمتها متساوية. وعند التعديل: يكون القاسم مخيرا بين الاخراج على الاسماء، والاخراج على السهام. أما الاول: فهو أن يكتب كل نصف في رقعة، ويصف كل واحد بما يميزه عن الاخر، ويجعل ذلك مصونا في ساتر كالشمع أو الطين، ويأمر من لم يطلع على الصورة بإخراج أحدهما على اسم أحد المتقاسمين، فما خرج فله. وأما الثاني: فأن يكتب كل اسم في رقعة ويصونهما، ويخرج على سهم من السهمين، فمن خرج اسمه فله ذلك السهم.

وأجيب بأن القسمة تتضمن الحكم لهما بالملك، وقد يكون لهما خصم غائب فتسمع البينة عليه. ولا فرق في ذلك كله بين كون المقسوم منقولا وغيره. وفرق بعض العامة (1) وخص الخلاف بالعقار، وقطع في المنقول بالقسمة. وهو تحكم. قوله: (في كيفية القسمة... إلخ).العين المقسومة (2) بالتعديل إما أن تكون متساوية القيمة بالنسبة إلى أجزائها، بحيث تساوي قيمة نصفها قيمة النصف الاخر وقيمة ثلثها قيمة الثلث، حيث يحتاج إلى قسمتها كذلك، أو تختلف القيمة. وعلى التقديرين: إما أن تكون

(هامش)

(1) الحاوي الكبير 16: 271، حلية العلماء 8: 181. (2) في (ث) والحجريتين: المنسوبة. (*)

ص 41

الحصص متساوية، كما لو كان الاشتراك بين اثنين لكل واحد نصفها، أو بين ثلاثة ولكل واحد ثلثها، أو مختلفة بأن كان لواحد من الاثنين ثلثان وللاخر ثلث، أو لواحد من الثلاثة نصف ولاخر ثلث وللثالث سدس. فالصور أربع. وقد أشار المصنف - رحمه الله - إلى حكمها. والمعتبر فيها صورتان، لان التعديل بالقيمة هو المعتبر، سواء اتفقت أجزاؤها فيها أم اختلفت. الصورة الاولى: أن تكون الحصص متساوية، كنصفين [بين اثنين] (1) وثلاثة أثلاث بين ثلاثة ونحو ذلك، فتعدل السهام بالقيمة كذلك، بأن تقسم في الاول نصفين بالقيمة وإن كان مقدار أحد النصفين أزيد من الاخر، وتعدل أثلاثا في الثاني كذلك، ثم تخرج بالقرعة كما ذكره المصنف رحمه الله. وطريقه واضح. وما ذكره من كتبة الاسماء والسهام ووضعه في بندقة من طين ونحوه هو المشهور في استعمال الفقهاء، ولكن لا يتعين، فلو جعلها بالاقلام والحصى والورق وما جرى مجراها مع مراعاة الستر كفى. وقد أشرنا إليه في باب العتق (2). وحيث تكون القسمة بين اثنين فخرج اسم أحدهما لاحد السهمين أو أحد السهمين له لا يحتاج إلى إخراج الاخر، بل تعين المتخلف له. ولو كان بين ثلاثة أثلاثا جعل ثلاثة أجزاء متساوية بالقيمة (3)، وكتب ثلاث رقاع أو ما في معناها باسم السهام الثلاثة معينة أو باسم الشركاء. وينبغي وضع الرقاع في حجر من لم يحضر الكتابة، أو لا يعرفها، أو لا يعرف ما عنيت (4)

(هامش)

(1) من (ت، ط). (2) في ج 10: 312 و315. (3) في (أ، خ): القيمة. (4) في (ث، د، م): عينت. (*)

ص 42

وإن تساوت قدرا لا قيمة عدلت السهام قيمة وألغي القدر، حتى لو

كان الثلثان بقيمته مساويا للثلث جعل الثلث محاذيا للثلثين. وكيفية القرعة عليه كما صورناه. وإن تساوت الحصص قيمة لا قدرا، مثل: أن يكون لواحد النصف وللاخر الثلث وللاخر السدس، وقيمة أجزاء ذلك الملك متساوية، سويت السهام على أقلهم نصيبا فجعلت أسداسا. ثم كم تكتب رقعة؟ فيه تردد بين أن يكتب بعدد الشركاء أو بعدد السهام. والاقرب الاقتصار على عدد الشركاء، لحصول المراد به، فالزيادة كلفة.

له المجعولة لذلك في معنى الرقاع. ثم يؤمر بإخراج واحدة على الجز الاول إن كانت الرقاع مجعولة بالكتابة ونحوها بأسماء الشركاء، فمن خرج اسمه أخذ، ثم يؤمر بإخراج أخرى على الجز الذي يلي الاول، فمن خرج اسمه من الاخرين أخذه، وتعين الثالث للثالث. وإن كانت مكتوبة باسم الاجزاء أخرجت رقعة باسم زيد، ثم أخرى باسم عمرو، ويتعين الثالث للثالث. وتعيين من يبتدئ به من الشركاء والاجزاء منوط بنظر القسام. قوله: (وإن تساوت قدرا... إلخ). قد عرفت أن الحكم في هذه الصورة كالسابقة، وأن المعتبر التعديل بالقيمة، سواء تساوت الاجزاء فيها أم لا، فالحكم لا يختلف. قوله: (وإن تساوت الحصص قيمة لا قدرا... إلخ). إذا اختلفت مقادير الانصباء، كما إذا كان لزيد نصف ولعمرو ثلث ولثالث سدس، جزئت الاقسام على أقل السهام وهو سدس، لانه يتأدى به القليل والكثير، فيجعلها ستة أجزاء.

ص 43

إذا عرفت هذا، فإنه يكتب ثلاث رقاع لكل اسم رقعة، ويجعل للسهام أول وثان، وهكذا إلى الاخير. والخيار في تعيين ذلك إلى المتقاسمين. ولو تعاسرا عينه القاسم. ثم يخرج رقعة، فإن تضمنت اسم صاحب النصف فله الثلاثة الاول. ثم يخرج ثانية، فإن خرج صاحب الثلث فله السهمان الاخران. ولا يحتاج إلى إخراج الثالثة، بل لصاحبها ما بقي.

ثم في مقدار ما يكتب من الرقاع للقرعة بينهم وجهان: أحدهما - وهو الاشهر -: أن يكتب ثلاث رقاع بعدد الشركاء، في كل واحدة اسم واحد، ويخرج مرتين، ويكتفى بهما عن الثالثة، فلا وجه لتكلف الزائد. والثاني: أن يكتب ست رقاع، لصاحب السدس رقعة، ولصاحب الثلث رقعتان، ولصاحب النصف ثلاث. وقواه في المبسوط (1)، محتجا بأن كل من كان سهمه أكثر كان حظه أوفر، وله مزية على صاحب الاقل، فإذا كتب لصاحب النصف ثلاث رقاع كان خروج رقعته أسرع وأقرب، وإذا كتب له واحدة كان خروج رقعته ورقعة صاحب السدس سواء، فلهذا قيل: يكون له أكثر من رقاع غيره. والوجه: جواز الامرين، وإنما الكلام في الاولوية، ولا ريب أن الاول أولى، لحصول الفائدة، مع الاختصار، وترك تطويل الحساب [أربح]. (2) قوله: (إذا عرفت هذا... إلخ).

(هامش)

(1) المبسوط 8: 137 - 138. (2) من (أ، خ، ت، ث)، وفي الاخيرين: ربح. (*).

ص 44

وكذا لو خرج اسم صاحب الثلث أولا كان له السهمان الاولان. ثم يخرج أخرى، فإن خرج صاحب النصف فله الثالث والرابع والخامس. ولا يحتاج إلى إخراج أخرى، لان السادس تعين لصاحبها. وهكذا لو خرج اسم صاحب السدس أولا كان له السهم الاول. ثم يخرج أخرى، فإن كان صاحب الثلث كان له الثاني والثالث، والباقي لصاحب النصف. ولو خرج في الثانية صاحب النصف كان له الثاني والثالث والرابع، وبقي الاخران لصاحب الثلث من غير احتياج إلى إخراج اسمه.

ما ذكره من الكيفية تفريع على ما اختاره من كتابة ثلاث رقاع بأسماء الشركاء. والحكم على ما ذكره واضح. وكذا يجري على القول بكتبة ست رقاع بأسمائهم، وليس فيه إلا أن اسم صاحب الكثير والاكثر يكون أسرع خروجا. وعليه، فإذا أخرج واحدة من رقاع صاحب النصف أعطي الثلاثة الاول، فإذا أخرج ثانية فخرجت باسمه ألغيت وأخرج ثالثة، فإن خرجت باسمه ألغيت أيضا، للاستغناء عنهما بالاولى. وإن خرجت واحدة من رقعتي صاحب الثلثأعطي الرابع والخامس، ولا يحتاج إلى إخراج ما بقي، وتعين السادس لصاحب السدس. وإن خرجت الاولى لصاحب السدس أعطي الاول، ثم أخرج أخرى، فإن خرجت لصاحب النصف أعطي الثاني والثالث والرابع، ولا يحتاج إلى إخراج الاربع الباقية، لتعين الخامس والسادس لصاحب الثلث. وإن خرجت الاولى لصاحب الثلث أعطي الاول والثاني، ثم تخرج أخرى، فإن خرجت له أيضا ألغيت وأخرجت أخرى، فإن خرج لصاحب

ص 45

ولا يخرج في هذه على السهام، بل على الاسماء، إذ لا يؤمن من أن يؤدي إلى تفرق السهام، وهو ضرر.

السدس أعطي الثالث، وتعينت الثلاثة الاخيرة لصاحب النصف، ولا يحتاج إلى إخراج باقي الرقاع. وهكذا. قوله: (ولا يخرج في هذه على السهام... إلخ). المراد أنه لا يكتب الرقاع بأسماء السهام الستة ويخرج على أسماء الشركاء، لانه ربما يخرج لصاحب السدس الجز الثاني أو الخامس فيتفرق ملك من له النصف أو الثلث. وأيضا ربما خرج السهم الرابع لصاحب النصف ويقول: آخذه وسهمين قبله، فيقول الاخران: بل خذه وسهمين بعده، فيفضي إلى التنازع. ويجوز مع رجوعهم في جميع الحصة إلى الرقاع أن يخرج لصاحب النصف ثلاثة متفرقة، وكذا لصاحب الثلث يخرج اثنتان متفرقتان، فيؤدي إلى الاضرار. وقد عرفت مما سبق أنه مع كتابة الرقاع باسم الشركاء يخرج على السهام الاول والثاني إلى الاخر، وإن كتبت باسم السهام يخرج على الاسماء. وهذه الصورة التي بين كيفيتها قد كتب فيها أسماء الشركاء، وجعل للسهام أول وثان إلى السادس، وأخرج عليها، بمعنى أن الخارج اسمه أولا يعطى الاول منها من الجهة التي اتفقوا عليها أو عينها القاسم، وما بعده إن احتيج إليه إلى الاخر. فكتابة الاسماء يخرج على السهام، وكتابة السهام يخرج على الاسماء. والمصنف - رحمه الله - جمع هنا بين الامر بكتابة الاسماء المستلزمة للاخراج على السهام، بل المصرحة بذلك، ثم أمر بإخراجها على الاسماءونفى إخراجها على السهام، مع أن حقه العكس. ووافقه على هذه العبارة

ص 46

العلامة في الارشاد (1). وعكس في القواعد (2)، وجماعة (3) من الفضلا. وهو الصواب. وفي التحرير (4) والدروس (5) اقتصر على إخراج الاسماء من غير أن يجعله على السهام أو غيرها. وهو أجود، إذ لا ينطبق الاخراج على السهام، لاختلافها باختلاف الاسماء، بل المعتبر في الاسم الخارج أولا أن يعطى الاول قطعا وما بعده إلى تمام الحق إن احتيج إليه، بأن كان الاسم لغير صاحب السدس. ولا تتعين السهام إلا بعد تحقق الاسم. لكن لما كان السهم الاول متعينا للاسم صدق إخراج الاسماء على السهام في الجملة، بخلاف العكس، فإنه إما فاسد أو محتاج إلى تكلف بعيد. إذا تقرر ذلك، فاعلم أن محذور تفريق السهام على تقدير إخراجها على الاسماء يلزم على تقدير الاخراج أولا على اسم صاحب السدس، بأن يخرج له السهم الثاني أو الخامس كما ذكرناه سابقا. ويمكن الغنا عنه بأن يبداء أولا باسم صاحب النصف، فإن خرج الاول باسمه أعطي الاول والثاني والثالث، وإن خرج الثاني فكذلك يعطى معه ما قبله وما بعده، وإن خرج الثالث قال بعضهم: يوقف ويخرج لصاحب الثلث، فإن خرج فله الاول والثاني، ولصاحب النصف الثالث واللذان بعده، وتعين السادس لصاحب السدس. وكذا الحكم لو خرج لصاحب الثلث الثاني. وإن خرج له الخامس فله الخامس والسادس.

(هامش)

(1) إرشاد الاذهان 1: 434. (2) قواعد الاحكام 2: 220. (3) انظر المغني لابن قدامة 11: 504 - 505، روضة الطالبين 8: 185. (4) تحرير الاحكام 2: 204. (5) الدروس الشرعية 2: 118. (*)

ص 47

وقيل: إذا خرج لصاحب النصف الثالث فله الثالث واللذان قبله. وإن خرج الرابع فله الرابع واللذان قبله، وتعين الاول لصاحب السدس، والاخيران لصاحب الثلث. وإن خرج الخامس فله الخامس واللذان قبله، وتعين السادس لصاحب السدس، والاولان لصاحب الثلث. وإن خرج السادس فله السادس واللذان قبله. ومتى أخذ الخارج حقه ولم يتعين حق الاخرين، أخرج رقعة أخرى باسم أحد الاخرين، فلا يقع تفريق. وهذه التوجيهات لا دليل على اعتبارها، وإن سلم معها التفريق. نعم، لواتفق الشركاء على العمل بها، أو رأى القاسم ذلك صلاحا، اتجه ذلك. ومعه يمكن البدأة أيضا باسم صاحب السدس، فإن خرج باسمه الجز الاول أو الثاني دفع إليه الاول. وإن خرج الخامس أو السادس دفع إليه السادس، ثم يخرج باسم أحد الاخرين، فلا يقع تفريق. وإن خرج له الثالث دفع إليه، وتعين الاولان لصاحب الثلث، والثلاثة الاخيرة لصاحب النصف. وإن خرج له الرابع دفع إليه، وتعين الاخيران لصاحب الثلث، والثلاثة الاول لصاحب النصف. فإن بدئ لصاحب الثلث، فإن خرج له الاول أو الثاني دفع إليه الاول والثاني. وإن خرج الخامس أو السادس دفع إليه الخامس والسادس، ثم يخرج باسم أحد الاخرين ويكمل بسهولة. وإن خرج لصاحب الثلث الثالث فله الثالث والثاني، وتعين الاول لصاحب السدس، والثلاثة الاخيرة لصاحب النصف. وإن خرج الرابع فله الخامس معه، وتعين السادس لصاحب السدس، والثلاثة الاول لصاحب النصف.

ص 48

ولو اختلفت السهام والقيمة عدلت السهام تقويما، وميزت على قدر سهم أقلهم نصيبا، وأقرع عليهما كما صورناه. أما لو كانت قسمة رد، وهي المفتقرة إلى رد في مقابلة بناء أو شجر أو بئر، فلا تصح القسمة ما لم يتراضيا جميعا، لما يتضمن من الضميمة التي لا تستقر إلا بالتراضي. وإذا اتفقا على الرد، وعدلت السهام، فهل يلزم بنفس القرعة؟ قيل: لا، لانها تتضمن معاوضة، ولا يعلم كل واحد من يحصل له العوض، فيفتقر إلى الرضا بعد العلم بما ميزته القرعة.

هكذا قرر بعضهم (1). وهو إنما يتم مع اتفاقهم عليه أو مع رأي القاسم. ولا ريب في أن الاقتصار على ما ذكره المصنف أولى وأقل كلفة. قوله: (ولو اختلفت السهام... إلخ). هذا هو القسم الرابع. والحكم فيه كالثالث، لان المعتبر في جعل السهام على أقلها مراعاة القيمة لا المقدار، فإن اتفق المقدار (2) لذلك (3) فذاك، وإلا اعتبرت القيمة، فقد يجعل ثلث الارض بسدس، ونصفها بسدس آخر، والسدس الاخر يقسم أرباعا، فتصير السهام ستة متساوية القيمة. وهكذا. والامر في إخراجها بالقرعة كالسابق. قوله: (أما لو كانت قسمة رد... إلخ). قسمة الرد هي التي لا يمكن فيها تعديل السهام بالقيمة، بل تفتقر إلى

(هامش)

(1) انظر روضة الطالبين 8: 186 - 187.(2) في (د): المقداران. (3) سقطت من (خ، د). (*)

ص 49

ضميمة شي خارج عن المشترك إلى بعض الاقسام ليحصل التعادل. كما لو كان في أحد جانبي الارض بئرا وشجرا، وفي الدار بيت لا يمكن قسمته، فتقسم الجملة على أن يرد من يأخذ الجانب الذي فيه أحد تلك الامور شيئا من المال، أو يكون المشترك عبدين قيمة أحدهما ألف وقيمة الاخر ستة مائة، فلا يستويان إلا برد آخذ النفيس مائتين. ووجه عدم الاجبار في هذه القسمة: اشتمالها على دخول ما لا قسمة فيه، فكان معاوضة محضة تتوقف على التراضي. ثم على تقدير التراضي عليها إن اتفقا على أن يكون الرد من واحد معين، وأوقعا صيغة معاوضة تقتضي ذلك كالصلح، فلا بحث. وإن اتفقا عليه، ودفع الراد العوض من غير صيغة خاصة، كان الحكم هنا كالمعاطاة لا تلزم إلا بالتصرف عند من جعل ذلك حكم المعاطاة، وإن لم نقل بتوقف التراضي على القسمة مع عدم الرد على التصرف. والفرق ما أشرنا إليه من اشتمال قسمة الرد على المعاوضة المقتضية للصيغة الدالة على التراضي على ما وردت عليه من العوضين، والمقسوم الزائد على ما قابل المردود غير متعين، فلا يمكن تخصيصه باللزوم مع التراضي بدون التصرف. وإن اتفقا على إخراج السهم لاحدهما بالقرعة فهل يلزم بنفس القرعة، فيثبت العوض لمن أخرجته أو عليه؟ قال الشيخ - رحمه الله - في المبسوط (1): لا، لما ذكرناه من تضمنها المعاوضة التي لا مدخل للقرعة فيها، ولانه لا يعلم كل واحد من يحصل له العوض المردود. واقتصار المصنف - رحمه الله - على نقله قولا يؤذن برده أو التردد فيه.

(هامش)

(1) المبسوط 8: 148. (*)

ص 50

وكذلك فعل العلامة في القواعد (1). وفي التحرير (2) جزم بتوقف قسمة التراضيمطلقا على التراضي بعد القرعة باللفظ، مثل (رضيت) وما أدى معناه. وكذلك في الدروس (3). وهو الاقوى. ووجه العدم صدق اسم القسمة عليها. والقرعة موجبة لتميز الحق مع اقترانها بالرضا بها كما سلف. وظاهر المصنف وغيره (4) أن مورد الخلاف فيما إذا لم يكن القاسم منصوبا من الامام، وإلا لم يعتبر الرضا بعدها مطلقا. وقد تقدم (5) في العبارة ما يدل عليه. مع احتمال جريان الخلاف فيهما، لان المعاوضة لا تؤثر فيها نظر الحاكم، بل أمرها يرجع إلى المتعاوضين. وكلام الشيخ في المبسوط يدل على ذلك، لانه جعل مورد المسألة الاولى التي ذكر فيها لزوم قسمة المنصوب دون غيره قسمة الاجبار، وجعل مورد هذه قسمة الرد. وفرق في الاولى بين كون القاسم منصوب الامام وغيره، وأطلق في هذه. وهذه عبارته: (القسمة ضربان: قسمة إجبار، وقسمة تراض، فإن كانت قسمة إجبار نظرت في القاسم، فإن كان قاسم الامام لزمت بالقرعة، لان قرعة القاسم كحكم الحاكم، لانه يجتهد في تعديل السهام كما يجتهد الحاكم في إطلاق

(هامش)

(1) قواعد الاحكام 2: 220. (2) تحرير الاحكام 2: 204. (3) الدروس الشرعية 2: 117. (4) تحرير الاحكام 2: 204. (5) في ص: 48. (*)

الصفحة السابقة الصفحة التالية

مسالك الأفهام - ج14

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب