ص 52
الثانية: لو كان بينهما أرض وزرع، فطلب قسمة الارض حسب، أجبر الممتنع، لان الزرع
كالمتاع في الدار. ولو طلب قسمة الزرع، قال الشيخ: لم يجبر الاخر، لان تعديل ذلك
بالسهام غير ممكن. وفيه إشكال، من حيث إمكان التعديل بالتقويم إذا لم يكن فيه
جهالة. أما لو كان بذرا لم يظهر لم تصح القسمة، لتحقق الجهالة. ولو كان سنبلا قال
أيضا: لا يصح. وهو مشكل، لجواز بيع الزرع عندنا.
العلو والسفل بمنزلة بيتين (1)
متجاورين، فإذا طلب أحدهما قسمة كل واحد منهما على حدته، بحيث يكون لكل واحد منهما
نصيبا من كل منهما، ولم يكن في ذلك ضرر، أجبر الممتنع، كما يجبر على قسمة البيت
الواحد كذلك. ولا فرق بين أن يجعل نصيب كل منهما من العلو فوق نصيبه من السفل
وعدمه. ويحتمل اشتراط الاول في الاجبار، لما في اختلاف النصيب من الضرر بكل منهما.
وإن طلب قسمتهما (2) بحيث يكون لاحدهما العلو وللاخر السفل، لم يجبر الاخر، كما لا
يجبر على قسمة الدارين المتلاصقتين كذلك. قوله: (لو كان بينهما أرض وزرع... الخ).
إذا كان بينهما أرض مزروعة فأراد قسمة الارض وحدها فلا إشكال في وجوب إجابة الاخر،
لان الارض مما يقسم قسمة إجبار، والزرع فيها غير مانع
(هامش)
(1) في (أ، ت، ث، ط): شيئين. (2) في (أ، ث، م): قسمتها. (*)
ص 53
الثالثة: لو كان بينهما قرحان متعددة، وطلب واحد قسمتها بعضافي بعض، لم يجبر
الممتنع. ولو طلب قسمة كل واحد بانفراده أجبر الاخر. وكذا لو كان بينهما حبوب
مختلفة. ويقسم القراح الواحد وإن اختلفت أشجار أقطاعه، كالدار الواسعة إذا اختلفت
أبنيتها. ولا تقسم الدكاكين المتجاورة بعضها في بعض قسمة إجبار، لانها أملاك متعددة
يقصد كل واحد منها بالسكنى على انفراده، فهي كالاقرحة المتباعدة.
من ذلك، لانه في
حكم المنقول. وإن أرادا قسمة الزرع فمقتضى الاصول الشرعية كون الحكم كذلك حيث يمكن
تعديله، بأن لا يكون بذرا مستورا، سواء كان سنبلا أم حشيشا أم قصيلا. والشيخ (1) -
رحمه الله - أطلق المنع من قسمته قسمة إجبار، محتجا بأن تعديله غير ممكن. ولا يخفى
منعه، إذ لا مانع منه، سواء كان سنبلا أم لا. ولو أرادا قسمتهما معا فالحكم كما لو
أرادا قسمة أحدهما عندنا. ومن جعل القسمة بيعا من العامة (2) شرط في جوازه أن لا
يكون قد اشتد الحب، لانه لا يجوز عنده بيع المطعوم مع غيره [بمطعوم مع غيره] (3)
وهو الارض. قوله: (لو كان بينهما... إلخ).
(هامش)
(1) المبسوط 8: 141. (2) الحاوي الكبير 16: 260، روضة الطالبين 8: 193. (3) من (ت،
ث، خ، ط، م). (*)
ص 54
المشهور بين الاصحاب أن ما يعد شيئين فصاعدا من العقار، كالدور المتعددة، والارض
المتعددة الخالية من الشجر، وهي المعبر عنها بالاقرحة، والدكاكين المتعددة، سواء
تجاورت أم لا، والحبوب المختلفة كالحنطة والشعير، لا يقسم بعضها في بعض - بمعنى جعل
بعضها في مقابلة بعض - قسمة إجبار. وإنما يقسم كل واحد منها على حدته قسمة الاجبار
إذا أمكن ذلك من غير ضرر، لانها أملاك متعددة ولكل [واحد] (1) منها خواص لا تحصل في
الاخر، بخلاف الارض الواحدة والدار الواحدة. وقال ابن البراج (2): إذا استوت الدور
والاقرحة في الرغبات قسمت بعضها في بعض. قال: وكذا لو تضرر بعضهم بقسمة كل على حدته
جمع حقه في ناحية. وفي الارشاد (3) حكم بأن الدكاكين المتجاورة يقسم بعضها في بعض
كذلك، دون الدور والاقرحة. وهو مذهب جماعة من العامة (4)، تنزيلا لها منزلة الخان
الواحد المشتمل على بيوت متعددة. وفرق بعضهم بين ما لو كانت مجتمعة ومتفرقة، فجوز
قسمة المجتمعة بعضها في بعض، كالدار الواحدة والقراح الواحد. والمختار [هو] (5)
المشهور.
(هامش)
(1) من (أ، ث، د، ط، م). (2) المهذب 2: 573 - 574. (3) إرشاد الاذهان 1: 434. (4)
روضة الطالبين 8: 190. (5) من (د). (*)
ص 55
الرابع: في اللواحق وهي ثلاث: الاولى: إذا ادعى بعد القسمة الغلط عليه [لم تسمع
دعواه]، فإن أقام بينة سمعت وحكم ببطلان القسمة، لان فائدتها تمييز الحق ولم يحصل.
ولو عدمها، فالتمس اليمين كان له، إن ادعى على شريكه العلم بالغلط.
قوله: (إذا ادعى
بعد القسمة... إلخ). لا فرق في عدم سماع دعوى الغلط في القسمة بمجردها بين كون
القاسم منصوب الامام ومن تراضيا به وأنفسهما، لاصالة صحة القسمة إلى أن يثبت
المزيل، ولان منصوب الامام كالقاضي لا تسمع الدعوى عليه بالظلم. لكن لو أقام بينة
سمعت ونقضت القسمة، كما لو أقام البينة على ظلم القاضي وكذب الشهود. وطريقه أن يحضر
قاسمين حاذقين لينظرا ويمسحا ويعرفا الحال ويشهدا. ولو لم يقم بينة، وأراد تحليف
الشريك مكن منه إن ادعى عليه العلم بالغلط، وإلا فلا، لان معه الاصل، خصوصا إذا كان
القاسم غيره، فإن التبعة عليه، لا عليه مع عدم علمه. وقيل: له إحلاف الشريك مطلقا.
وهو الوجه، عملا بالعموم (1). وفرق في المبسوط (2) بين قسمة التراضي وغيرها،
كاختصاص أحدهما بالعلو والاخر بالسفل، أو اشتمالها على رد، أو كون القاسم غير
منصوب، فحكم
(هامش)
(1) راجع الوسائل 18: 170 ب (3) من أبواب كيفية الحكم. (2) المبسوط 8: 141 - 142.
(*)
ص 56
الثانية: إذا اقتسما ثم ظهر البعض مستحقا، فإن كان معينا مع أحدهما بطلت القسمة،
لبقاء الشركة في النصيب الاخر. ولو كان فيهما بالسوية لم تبطل، لان فائدة القسمة
باق، وهو إفراد كل واحد من الحقين. ولو كان فيهما لا بالسوية بطلت، لتحقق الشركة.
وإن كان المستحق مشاعا معهما فللشيخ (1) - رحمه الله - قولان: أحدهما: لا تبطل فيما
زاد عن المستحق. والثاني: تبطل، لانها وقعت من دون إذن الشريك. وهو الاشبه.
بعدم
الالتفات إليه في الثانية مطلقا، لانها مشروطة بالتراضي، فإن كان مبطلا في دعواه
فعدم سماعها واضح، وإن كان محقا فقد رضي بترك هذه الفضلة. ويشكل بإمكان عدم علمه
بها حال القسمة. فالوجه سماع الدعوى مع البينة كالسابق. وأطلق ابن الجنيد (2) عدم
سماع دعواه إلا بالبينة. والوجه توجه اليمين على الشريك مطلقا، فإن حلف أقرت، وإن
نكل حلف المدعي، ونقضت إن لم نقض بالنكول، وإلا نقضت بمجرده. ولو تعدد الشركاء وحلف
بعضهم دون بعض ففي نقضها مطلقا، أو في حق الناكل خاصة وجهان، من أنها قسمة واحدة
فلا تتبعض، ومن لزومها في حق الحالف فلا يساوي الناكل. والاول مختار الشهيد - رحمه
الله - في بعض فوائده، والثاني مختار العلامة في التحرير (3). وهو الوجه. قوله:
(إذا اقتسما ثم ظهر البعض... إلخ).
(هامش)
(1) المبسوط 8: 142. (2) حكاه عنه العلامة في المختلف: 707 - 708. (3) تحرير
الاحكام 2: 204. (*)
ص 57
الثالثة: لو قسم الورثة تركة ثم ظهر على الميت دين، فإن قام الورثة بالدين لم تبطل
القسمة. وإن امتنعوا نقضت، وقضي منها الدين.
إذا جرت قسمة ثم ظهر استحقاق بعض
المقسوم، فإما أن يستحق في جز شائع، أو في شي معين. فإن استحق في شائع - كالثلث -
بطلت القسمة في المستحق قطعا. وفي الباقي قولان: أحدهما: لا تبطل، لبقاء السهام بين
الشركاء على التعديل، فلا وجه لابطالها. والثاني - وهو الاصح -: البطلان، لان
المقصود من القسمة تمييز الحقوق، وإذا ظهر الاستحقاق كان المستحق شريك كل واحد
منهم، فلا يحصل التمييز. وأيضا فقد بان أن المستحق شريك، وانفراد بعض الشركاء
بالقسمة ممتنع. وإن استحق شي معين، نظر إن اختص (1) المستحق بنصيب أحدهما، أو كان
من نصيب أحدهما أكثر، بطلت القسمة، لان ما يبقى لكل واحد لا يكون قدر حقه، بل يحتاج
أحدهما إلى الرجوع على الاخر، وتعود الاشاعة. وإن كان المستحقان متماثلين مضت (2)
القسمة في الباقي، لانتفاء المانع، إذ ليس إلا نقصان نصيب كل واحد، وهو غير قادح،
كما لو ظهر الاستحقاق في ماله المنفرد، وأما القسمة فالمقصود منها التعديل (3)
وتمييز نصيب أحد الشركاء عن الاخر، وقد حصل. ولبعض العامة (4) قول بالبطلان، لتفريق
الصفقة. قوله: (لو قسم الورثة... إلخ).
(هامش)
(1) في (ت): استحق. (2) في (أ، ث، ط): بقيت، وفي (د): تثبت. (3) في (د، م): التعديل
بين نصيب أحد الشركاء وبين الاخر.... (4) روضة الطالبين 8: 188 - 189. (*)
ص 58
النظر الرابع في أحكام الدعوى

وهو يستدعي بيان: مقدمة، ومقاصد أما المقدمة فتشمل
فصلين:
الفصل الاول في المدعي

إذا قسمت التركة بين الورثة ثم ظهر دين، فإن قام الورثة
بالدين لم تبطل القسمة، بناء على أنها إفراز حق لا بيع. وإن لم يقوموا به بيعت
الانصباء في الدين. ولو قام به البعض دون البعض، بيع نصيب الممتنع والقسمة بحالها.
ومنجعلها بيعا من العامة (1) فله في بطلانها بظهور الدين وجهان، كما لو باعوها ثم
ظهر الدين. ولا فرق بين ظهور الدين مستوعبا للتركة وعدمه، لان إفراز الحقوق لا
ينافي وفاء الدين منها على تقدير عدم وفائهم له من غيرها. مع احتمال بطلانها مع
الاستيعاب مطلقا إن قلنا بعدم انتقالها إليهم، لصدورها من غير المالك. والمصنف -
رحمه الله - مع قوله بعدم الانتقال حكم بصحة القسمة مراعاة بوفاء الدين، نظرا إلى
تعلق حق الوارث بها في الجملة وإن لم تنتقل إلى ملكه محضا. ولو ظهرت وصية بعد
القسمة، فإن كانت مرسلة فهو كما لو ظهر دين. وإن كانت بجز شائع أو معين فعلى ما
ذكرناه في ظهور الاستحقاق. ولا فرق في هذه الاحكام كلها بين قسمة الاجبار والتراضي.
قوله: (في المدعي... إلخ).
(هامش)
(1) راجع الحاوي الكبير 16: 262، روضة الطالبين 8: 188. (*)
ص 59
وهو الذي يترك لو ترك الخصومة. وقيل: هو الذي يدعي خلاف الاصل، أو أمرا خفيا. وكيف
عرفناه فالمنكر في مقابلته. ويشترط: البلوغ، والعقل، وأن يدعي لنفسه أو لمن له
ولاية الدعوى عنه، ما يصح منه تملكه. فهذه قيود أربعة. فلا تسمع دعوى الصغير، ولا
المجنون، ولا دعواه مالا لغيره، إلا أن يكون وكيلا أو وصيا أو وليا أو حاكما أو
أمينا لحاكم. ولا تسمع دعوى المسلم خمرا أو خنزيرا.
قد عرفت (1) بالخبر (2) أن
البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وقيل في سببه: إن جانب المنكر أقوى،
لموافقته الظاهر، والبينة أقوى من اليمين، لبرأتها عن تهمة جلب النفع، فجعلت البينة
على المدعي لتجبر قوة الحجة ضعف الخبر، وهو الكلام المدعى، وقنع من المنكر بالحجة
الضعيفة، لقوة جنبه. وهذه القاعدة تحوج إلى معرفة المدعي والمدعى عليه ليطالب هذا
بحجته وهذا بحجته إذا تخاصما. وقد اختلف الفقهاء في حد المدعي، فقيل: هو الذي يترك
لو ترك الخصومة. ويعبر عنه بعبارة أخرى، وهو أنه الذي إذا سكت خلي ولم يطالب بشي،
والمدعى عليه لا يخلى ولا يقنع منه بالسكوت. والثاني: أنه الذي يدعي خلاف الاصل،
والمدعى عليه هو الذي يدعي ما يوافقه.وقيل: إن المدعي من يذكر أمرا خفيا يخالف
الظاهر، والمدعى عليه من يوافق الظاهر. فإذا ادعى زيد دينا في ذمة عمرو أو عينا في
يده فأنكر، فزيد هو
(هامش)
(1) في (ت، ث، ط، م): عرفنا. (2) راجع الوسائل 18: 170 ب (3) من أبواب كيفية الحكم.
(*)
ص 60
الذي لو ترك الخصومة ترك، وهو الذي يذكر خلاف الاصل، لان الاصل برأة ذمة عمرو من
الدين وفراغ يده من حق الغير، وهو الذي يذكر أمرا خفيا خلاف الظاهر، لان الظاهر
برأة ذمة عمرو وفراغ يده من حق الغير. وعمرو هو الذي لا يترك وسكوته، ويوافق قوله
الاصل والظاهر. فزيد مدع على جميع التعريفات، وعمرو مدعى عليه. ولا يختلف موجبها في
الاغلب. وقد يختلف، كما إذا أسلم الزوجان قبل المسيس واختلفا، فقال الزوج: أسلمنا
معا والنكاح باق بيننا، وقالت المرأة: بل على التعاقب ولا نكاح بيننا.فإن قلنا:
المدعي من لو ترك ترك، فالمرأة مدعية والزوج مدعى عليه، لانه لا يترك لو ترك، فإنها
تزعم انفساخ النكاح، فيحلف ويحكم باستمرار النكاح إذا حلف. وإن قلنا: إن المدعي من
يخالف قوله الظاهر، فالزوج هو المدعي، لان التساوي (1) الذي يزعمه أمر خفي خلاف
الظاهر، والمرأة مدعى عليها، لموافقتها الظاهر، فتحلف، فإذا حلفت حكم بارتفاع
النكاح. وإن قلنا: إن المدعي هو الذي يذكر خلاف الاصل، فالمرأة مدعية أيضا، لان
الاصل عدم تقدم أحدهما على الاخر. هذا هو المشهور في الفرق بين التعريفات. وقال
بعضهم: إن الزوج هو الذي يترك وسكوته، لان النكاح حقه، فإذا لم يطالبها ترك، وهي لا
تترك لو سكتت، لان بعد ثبوت الحق يصير مدعي زواله مدعيا.
(هامش)
(1) كذا فيما لدينا من النسخ الخطية، ولعل الصحيح: التساوق. (*)
ص 61
ولابد من كون الدعوى صحيحة لازمة. فلو ادعى هبة لم تسمع
وإذا قال الزوج: أسلمت قبلي
(1) فلا نكاح ولا مهر، وقالت: بل أسلمنا معا وهما بحالهما، فعلى الاول المدعي هو
الزوجة، لانها تترك لو تركت. وكذا على الثالث، لان التقارن خلاف الظاهر، فإن وقوع
لفظ الإسلام بحيث لا يتقدم أحدهما الاخر نادر جدا. وعلى الثاني الزوج هو المدعي،
لان الاصل عدم سبق إسلام أحدهما على الاخر. وأما الامناء الذين يصدقون في الرد
بيمينهم فهم مدعون، لانهم يزعمون الرد وهو خلاف الاصل والظاهر، ولا يتركون لو تركوا
الدعوى، لان المالك مطالب بحقه، لكن اكتفي منهم باليمين لانهم أثبتوا أيديهم لغرض
المالك، وقد ائتمنهم وأحسنوا إليه، فلا يحسن تكليفهم بينة على الرد. وربما تكلف
بعضهم (2) بأنهم يدعون ما يوافق الظاهر، لان المالك قدساعدهم على الامانة حيث
ائتمنهم، فهم يستبقون الامانة وهو يزعم ارتفاعها، فكان الظاهر معهم. وعلى هذا فيجوز
كون الامين المذكور مدعيا ومدعى عليه باعتبارين، كما يقع مثله في صورة التحالف.
قوله: (ولا بد من كون الدعوى... إلخ). قد تقدم (3) ما يعتبر في صحة الدعوى من كونها
معلومة أو مظنونة على بعض الوجوه، وكونها مضبوطة بذكر الجنس والوصف والقدر وغيرها.
والمراد بكونها لازمة أن تكون ملزمة للمدعى عليه، فلو قال: وهب مني كذا، لم تسمع
حتى يقول: وأقبضني، أو هبة يلزمه التسليم إلي، ونحو ذلك، لان
(هامش)
(1) في (ت، د، ط): قبل. (2) انظر روضة الطالبين 8: 287 - 288. (3) في ج 13: 436.
(*)
ص 62
حتى يدعي الاقباض. وكذا لو ادعى رهنا. ولو ادعى المنكر فسق الحاكم أو الشهود، ولا
بينة، فادعى علم المشهود له، ففي توجه اليمين على نفي العلم تردد أشبهه عدم التوجه،
لانه ليس حقا لازما، ولا يثبت بالنكول ولا باليمين المردودة، ولانه يثير فسادا.
الهبة أعم من المقبوضة (1)، ولانه قد يهب ويرجع. قوله: (وكذا لو ادعى رهنا). بناء
على ما اختاره المصنف من اشتراط القبض في صحة الرهن. ومن لم يعتبر في صحته القبض
يسمع الدعوى مجردة عنه. وقد يقال في الموضعين: إن القبض إذا كان شرطا في صحة الهبة
والرهنفإطلاقهما محمول على الصحيح كغيرهما من العقود، وإنما يتوجه التفصيل حيث يجعل
القبض شرطا في اللزوم، ليجعل إطلاقهما صحيحين (2) أعم من المقبوض وغيره. وقد تقدم
البحث في ذلك مستوفى في باب الهبة (3). قوله: (ولو ادعى المنكر... إلخ). إذا ادعى
المنكر جرح الحاكم أو الشهود كلف البينة، فإن فقدها وادعى علم المدعي بذلك، ففي
توجه اليمين على المدعي وجهان: أحدهما: نعم، لانه ينتفع به في حق لازم، كما لو قذف
الميت وطلب الوارث الحد، فادعى على الوارث العلم بالزنا فأنكر، فله تحليفه على نفي
العلم.
(هامش)
(1) في (ط): اللازمة. (2) في (أ، ث): صحيحا. (3) في ج 6: 17 - 19. (*)
ص 63
وكذا لو التمس المنكر يمين المدعي منضمة إلى الشهادة، لم تجب إجابته، لنهوض البينة
بثبوت الحق. وفي الالزام بالجواب عن دعوى الاقرار تردد، منشؤه أن الاقرار لا يثبت
حقا في نفس الامر، بل إذا ثبت قضي به ظاهرا.
والثاني: لا، لانه لا يدعي حقا لازما،
ولا يثبت بالنكول ولا باليمين المردودة. ولانه يثير فسادا. ولانه كالدعوى على
القاضي والشهود بالكذب، وهي غير مسموعة بدون البينة قطعا، وإن كان ينتفع بتكذيبهما
أنفسهما، لانه يثير فسادا عاما. وهذا هو الوجه. قوله: (وكذا لو التمس المنكر...
إلخ). فلا تجب الزيادة عليها، لانه تكليف حجة بعد قيام حجته (1)، ولانه كالطعنفي
الشهود. نعم، لو ادعى إبراء أو أداء توجهت اليمين. وقد تقدم (2) البحث في ذلك.
قوله: (وفي ا لالزام بالجواب... إلخ). المراد أنه إن ادعي عليه الاقرار له بالحق،
فهل تسمع الدعوى، بمعنى توجه اليمين على المدعى عليه لو أنكر؟ فيه وجهان: نعم، لانه
ينتفع به مع التصديق، ولا، لان الحق لا يستحق بالاقرار في نفس الامر، وإن كان ثبوته
يوجب الحق ظاهرا. والاظهر هنا السماع، لان المعتبر ثبوت الحق ظاهرا، واعترافه
ينفعه، ونكوله يثبت عليه الحق، أو مع يمين المدعي. والمدعي يجوز له الحلف على أنه
(هامش)
(1) في (ث، خ، م): حجة. (2) في ج 13: 489. (*)
ص 64
ولا تفتقر صحة الدعوى إلى الكشف، في نكاح ولا غيره. وربما افتقرت إلى ذلك في دعوى
القتل، لان فائته لا يستدرك. ولو اقتصرت على قولها: هذا زوجي، كفى في دعوى النكاح،
ولا يفتقر ذلك إلى دعوى شي من حقوق الزوجية، لان ذلك يتضمن دعوى لوازم الزوجية. ولو
أنكر النكاح لزمه اليمين. ولو نكل قضي عليه على القول بالنكول، وعلى القول الاخر
ترد اليمين عليها، فإذا حلفت ثبتت الزوجية. وكذا السياقة لو كان هو المدعي.
أقر له
بذلك، ويثبت به الحق، إذ لا يشترط في استحقاق المقر له علمه بالسبب المقتضي
للاقرار، بل يجوز له أخذه تعويلا على إقراره ما لم يعلم فساد السبب، فجاز استناد
الاقرار إلى سبب لا يعلمه المقر له، كالنذر والجناية والاتلاف، وعموم: (إقرار
العقلا على أنفسهم جائز) يشمله. قوله: (ولا تفتقر صحة الدعوى... إلخ).الدعوى (1)
أنواع: منها: دعوى الدم. والمشهور أنه لابد فيها من التفصيل، على ما هو مبين في
محله، للخلاف في الاسباب الموجبة منه للقود والدية، ولان فائت القتل لا يستدرك.
ومنها: دعوى نفس المال مجردا عن ذكر السبب من بيع وقرض وغيرهما. ولا خلاف في عدم
اشتراط التفصيل فيه، لان الاسباب التي يستحق بها المال
(هامش)
(1) في (م): للدعوى. (*)
ص 65
تكثر وتتكرر، وفي ضبط الاقدار الحاصلة بتلك الاسباب حرج شديد، فأغنى عنه. ومنها:
النكاح والبيع وسائر العقود. وعند [بعض] (1) الاصحاب (2) أنه لا يشترط فيها الكشف
والتفصيل، بل يكفي إطلاق الدعوى بها، كما يكفي في دعوى استحقاق المال، وكما أنه لا
يجب في دعوى النكاح التعرض لعدم الموانع، كالردة والعدة والرضاع. وخالف فيه بعض
العامة (3)، فأوجب التفصيل في الجميع، للخلاف في الاسباب كالدم. وبعضهم (4) خص
إيجاب التفصيل بالنكاح، لان أمر الفروج مبني على الاحتياط كالدماء، والوط المستوفى
لا يتدارك، كالدم المهراق. وعليه، فيعتبر في النكاح أن يقول: إنه وقع بالاوصاف
المعتبرة عند موجب التفصيل، فيقول: إنه تزوجها بولي وشاهدين، ويصفهما بالعدالة ونحو
ذلك. وعلى مذهب الاصحاب يكفي قولها: هذا زوجي، وإن لم تضم إليه شيئا من حقوق
الزوجية، كالمهر والنفقة. واعتبر بعض العامة (5) أن يقترن بها حق من حقوق النكاح،
كصداق ونفقة وقسم وميراث بعد موته، وإلا لم تسمع، محتجا بأن بقاء النكاح حق الزوج
عليها، فكأنها تدعي كونها رقيقة، وهذه دعوى غير ملزمة.
(هامش)
(1) من (ت، ط). (2) المبسوط 8: 260 - 261، تحرير الاحكام 2: 189. (3) انظر الحاوي
الكبير 17: 310 و313، حلية العلماء 8: 185 - 186، المغني لابن قدامة 12:165 و167،
روضة الطالبين 8: 293. (4) انظر الحاوي الكبير 17: 310 و313، حلية العلماء 8: 185 -
186، المغني لابن قدامة 12: 165 و167، روضة الطالبين 8: 293. (5) روضة الطالبين 8:
295. (*)
ص 66
ولو ادعى أن هذه بنت أمته، لم تسمع دعواه، لاحتمال أن تلد في ملك غيره ثم تصير له.
وكذا لو قال: ولدتها في ملكي، لاحتمال أن تكون حرة أو ملكا لغيره. وكذا لا تسمع
البينة بذلك ما لم يصرح بأن البنت ملكه. وكذا البينة. ومثله لو قال: هذه ثمرة
نخلتي. وكذا لو أقر له من الثمرة في يده أو بنت المملوكة، لم يحكم عليه بالاقرار لو
فسره بما ينافي الملك. ولا كذا لو قال: هذا الغزل من قطن فلان، أو هذا الدقيق من
حنطته.
ومن لم يعتبر التفصيل قال: إن النكاح وإن كان حقا له فهو مقصود لها من تعلق
حقوق مثبتة، وتتوسل به إلى تلك الحقوق. وحينئذ فتسمع الدعوى، وتترتب عليها أحكامها
من اليمين والنكول وغيرهما. وكذا القول في دعواه الزوجية. قوله: (ولو ادعى أن
هذه... إلخ). عدم سماع الدعوى لبنت الامة بقوله: (إنها بنت أمته) واضح، لان ذلك أعم
من كونها ملكا له، إذ يجوز كونها بنتا لامته ولا تكون ملكا له، بأن تلدها قبل أن
يملك الام في ملك غيره، أو يكون قد زوجها من حر أو عبد وشرط لمولاه رقية الولد، أو
غير ذلك. ومنه يعلم أنه لا فرق بين إضافة (ولدتها في ملكي) وعدمه، لبقاء الاحتمال
على التقديرين. وأما قول المقر: هذه ثمرة شجرة فلان أو بنت أمته، فإن أضاف إلى ذلك
ما ينافي التبعية كقوله: وهي ملكي، فلا إشكال في عدم ثبوت الاقرار، لما ذكرناهمن
الاشتراك، مضافا إلى تصريحه بما ينافي الاقرار.
ص 67
وأما مع الاطلاق فظاهر كلام المصنف أنه يكون إقرارا بالولد والثمرة، عملا بالظاهر
من كونهما تابعين للاصل حيث لا معارض، ولو كان هناك شي لذكره، فإطلاقه كونهما من
الاصل الذي هو مملوك للمقر له ظاهر في تبعيتهما له، بخلاف الدعوى، فإن شرطها
التصريح بالملك ولو بالاستلزام ولم يحصل. وتبع المصنف على هذا الحكم العلامة في
القواعد (1) والتحرير (2). والفرق بين الدعوى والاقرار لا يخلو من إشكال، لان
الاحتمال قائم على تقدير الاقرار والدعوى. والعمل بالظاهر في الاقرار دون الدعوى لا
دليل عليه. والفرق باشتراط التصريح فيها دونه رجوع إلى نفس الدعوى. وفي الارشاد (3)
أطلق عدم سماع الدعوى والاقرار معا، ولم يعتبر التقييد في الاقرار بتفسيره بما
ينافي الملك. وهذا هو الظاهر. وأما الفرق بين قوله: (إنها ثمرة شجرته، وبنت أمته)
وبين قوله: (إن الغزل من قطنه، والدقيق من حنطته) فواضح، لان الغزل والدقيق من نفس
حقيقة القطن والحنطة، وإنما تغيرت الاوصاف، فملك الاصل يقتضي ملك الفرع، بخلاف
الثمرة والولد، فإنهما منفصلان عن أصلهما حسا وشرعا، فالاقرار بالفرعية لا يقتضي
الاقرار بالملك.
(هامش)
(1) قواعد الاحكام 2: 208. (2) تحرير الاحكام 2: 189. (3) إرشاد الاذهان 2: 143.
(*)
ص 68
الفصل الثاني في التوصل إلى الحق

من كانت دعواه عينا في يد إنسان، فله انتزاعها ولو
قهرا ما لم يثرفتنة، ولا يقف ذلك على إذن الحاكم. ولو كان الحق دينا، وكان الغريم
مقرا باذلا [له]، لم يستقل المدعي بانتزاعه من دون الحاكم، لان للغريم تخيرا في
جهات القضاء، فلا يتعين الحق في شي من دون تعيينه، أو تعيين الحاكم مع امتناعه. ولو
كان المدين جاحدا، وللغريم بينة تثبت عند الحاكم، والوصول إليه ممكن، ففي جواز
الاخذ تردد أشبهه الجواز. وهو الذي ذكره الشيخ في الخلاف (1) والمبسوط (2). وعليه
دل عموم الاذن في الاقتصاص. ولو لم تكن له بينة، أو تعذر الوصول إلى الحاكم، ووجد
الغريم من جنس ماله، اقتص مستقلا بالاستيفاء.
قوله: (في التوصل... إلخ). الغرض من
الباب أن المستحق متى يحتاج إلى المرافعة والدعوى؟ وتفصيله: أن الحق إما عقوبة أو
مال. فإن كان عقوبة، كالقصاص وحد القذف، فلابد من الرفع إلى الحاكم، لعظم خطره،
والاحتياط في إثباته، ولان استيفأه وظيفة الحاكم، على ما تقتضيه السياسة وزجر
الناس.
(هامش)
(1) الخلاف 6: 355 مسألة (28). (2) راجع المبسوط 8: 311، ولكن ذكر ذلك فيما إذا لم
يقدر على إثباته عند الحاكم. (*)
ص 69
وإن كان مالا، فهو إما عين أو دين. فإن كان عينا، فإن قدر على استردادها من غير
تحريك فتنة استقل به، لانه عين ماله فلا حاجة إلى الرجوع في تحصيله إلى غيره. ولو
أدى إلى الفتنة فلابد من الرفع إلى الحاكم دفعا لها. وأما الدين، فإن كان من عليه
مقرا غير ممتنع من الاداء طالبه ليؤدي. وليس له الاستقلال بالاخذ، لان حقه أمر كلي
في ذمة المديون، وله التخير في تعيينه من ماله، فلا يتعين في شي منه بدون تعيينه.
ولا مدخل للحاكم في ذلك أيضا، لان الغرض كونه باذلا، والحاكم إنما يلي على الممتنع
ومن في معناه.وقول المصنف في هذا القسم: (أو تعيين الحاكم مع امتناعه) لا وجه له،
لانه خلاف الغرض. ولو كان جاحدا أو مماطلا، فإن لم يكن لصاحب الحق بينة يثبت بها
الحق عند الحاكم، أو كان ولم يمكن الوصول إليه، أو أمكن ولم تكن يده مبسوطة بحيث
يمكنه تولي القضاء عنه، جاز له الاقتصاص منه، لقوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (1). وقوله تعالى: (فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)
(2). ولما روي عن النبي صلى الله عليه وآله لما قالت له هند: يا رسول الله إن أبا
سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه سرا وهو لا يعلم،
فهل علي في ذلك شي؟ فقال صلى الله عليه وآله: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) (3).
(هامش)
(1) البقرة: 194. (2) النحل: 126. (3) مسند أحمد 6: 50، صحيح البخاري 7: 85، صحيح
مسلم 3: 1338 ح 7، سنن الدارمي 2: 159. (*)
ص 70
وروى جميل بن دراج قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يكون له على الرجل
دين فيجحده، فيظفر من ماله بقدر الذي جحده، أيأخذه وإن لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال:
نعم) (1). وعن داود بن زربي قال: (قلت لابي الحسن موسى عليه السلام: إني أخالط
السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها والدابة الفارهة فيأخذونها، ثم يقع لهم عندي
المال فلي أن آخذه؟ فقال: خذ مثل ذلك، ولا تزد عليه) (2). وغير ذلك (3).ولو كان
هناك بينة يثبت بها الحق عند الحاكم لو أقامها، والوصول إليه ممكن، ففي جواز أخذه
قصاصا من دون إذن الحاكم قولان: أحدهما - وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله هنا
والاكثر -: الجواز، لعموم أدلة الاقتصاص، وقوله صلى الله عليه وآله: (لي الواجد يحل
عقوبته وعرضه) (4). والثاني: لا، لان التسلط على مال الغير على خلاف الاصل، فيقتصر
منه على موضع الضرورة، وهي هنا منتفية. ولان الممتنع من وفاء الدين يتولى القضاء
عنه الحاكم، ويعين من ماله ما يشاء، ولا ولاية لغيره. وهو خيرة المصنف في
(هامش)
(1) التهذيب 6: 349 ح 986، الاستبصار 3: 51 ح 167، الوسائل 12: 205 ب (83) من أبواب
ما يكتسب به ح 10. (2) التهذيب 6: 347 ح 978، الوسائل 12: 201 الباب المتقدم ح 1.
(3) راجع الوسائل 12: 201 ب (83) من أبواب ما يكتسب به. (4) أمالي الطوسي 2: 134،
الوسائل 13: 90 ب (8) من أبواب الدين ح 4، وانظر مسند أحمد 4: 222، صحيح البخاري 3:
155، سنن أبي داود 3: 313 ح 3628، سنن النسائي 7: 316، سنن البيهقي 6: 51. (*)
ص 71
نعم، لو كان المال وديعة عنده، ففي جواز الاقتصاص تردد، أشبهه الكراهية.
النافع
(1). والاقوى الاول. وكون التسلط على مال الغير بغير إذنه خلاف الاصل مسلم، لكن
العدول عن الاصل لدليل جائز، وهو هنا موجود. قوله: (نعم لو كان المال وديعة...
إلخ). اختلف الاصحاب في جواز الاقتصاص من الوديعة، فذهب المصنف وقبله الشيخ في
الاستبصار (2) وأكثر المتأخرين (3) إلى الجواز على كراهية. وذهب الشيخ في النهاية
(4) وجماعة (5) إلى التحريم. ومنشأ الخلاف اختلاف الروايات ظاهرا. والاظهر الاول،
لعموم الادلة السابقة، وخصوص صحيحة أبي العباس البقباق: (أن شهابا ماراه في رجل ذهب
له ألف درهم واستودعه بعد ذلك ألف درهم، قال أبو العباس: فقلت له: خذها مكان الالف
الذي أخذ منك، فأبى شهاب، قال: فدخل شهاب على أبي عبد الله عليه السلام فذكر له
ذلك، فقال: أما أنا فأحب إلي أن تأخذ وتحلف) (6).
(هامش)
(1) المختصر النافع 2: 284. (2) الاستبصار 3: 53 ذيل ح 172.(3) قواعد الاحكام 2:
213، إيضاح الفوائد 4: 347، الدروس الشرعية 2: 85 - 86، التنقيح الرائع 4: 269 -
270. (4) النهاية: 307. (5) الكافي في الفقه: 331، المؤتلف من المختلف 2: 578، غنية
النزوع: 240، إصباح الشيعة: 284. (6) التهذيب 6: 347 ح 979، الاستبصار 3: 53 ح 174،
الوسائل 12: 202 ب (83) من أبواب ما يكتسب به ح 2. (*)
ص 72
وهذا الخبر يدل على الجواز من غير كراهة، لانه عليه السلام لا يحب المكروه. وقوله
عليه السلام: (وتحلف) أراد به أنه إذا طلب منه المودع الوديعة جاز له الانكار، فإن
أحلفه حلف له على عدم الاستحقاق، أو على عدم الاستيداع مع التورية. ثم الكراهة
تستفاد من ظاهر الادلة الاتية جمعا. حجة القائل بالتحريم عموم قوله تعالى: (إن الله
يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها) (1). والامر بأدائها إليهم ينافي جواز الاخذ.
وخصوص رواية ابن أبي عمير عن ابن أخي الفضيل بن يسار، قال: (كنت عند أبي عبد الله
عليه السلام ودخلت امرأة وكنت أقرب القوم إليها، فقالت لي: اسأله، فقلت: عماذا؟
فقالت: إن ابني مات وترك مالا كان في يد أخي فأتلفه ثم أفاد مالا فأودعنيه، فلي أن
آخذ منه بقدر ما أتلف من شي؟ فأخبرته بذلك فقال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه
وآله: أد الامانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) (2). وفي هذا الحديث دلالة من
ثلاثة مواضع: أحدها: من قوله: (لا) في جواب قولها: (فلي أن آخذ منه). وثانيها: من
قوله عليه السلام: (أد الامانة إلى من ائتمنك) فإن الامر بأدائها إليه ينافي جواز
الاخذ، ولانه ذكره في جواب سؤال الاخذ. وثالثها: من قوله عليه السلام: (ولا تخن من
خانك). وهو ظاهر. ورواية سليمان بن خالد قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه ثم حلف، ثم وقع له عندي مال، آخذه مكان
(هامش)
(1) النساء: 58. (2) التهذيب 6: 348 ح 981، الاستبصار 3: 52 ح 172، الوسائل 12: 202
الباب المتقدم ح 3. (*)
ص 73
مالي الذي أخذه وجحده وأحلف عليه كما صنع؟ قال: إن خانك فلا تخنه، ولا تدخل فيما
عبته عليه) (1). والجواب بحمل ذلك على الكراهة جمعا. ويمكن أن يكون وجه الامر بردها
إليه أنه أقر للامام بالحق، وادعى أن له عند صاحبه مالا، واللازممن ذلك قبول إقراره
دون دعواه، فأمره بردها لاجل ذلك، وهو لا ينافي جواز أخذها فيما بينه وبين الله
تعالى، أو على تقدير ثبوت الحق عند الامام. ولانه إن كان الامر الذي ادعاه حقا
فأخذه للوديعة مقاصة في قوة أداء الامانة إلى من ائتمنه، لانه وفى منها دينه بإذن
الشارع العام (2) كما سبق، فكان بمنزلة أدائها إلى وكيله، وأداء الامانة إلى الوكيل
قائم مقام أدائها إلى المالك. ولا نسلم تحقق الخيانة بذلك، لان استيفاء الحق ليس
بخيانة، وإنما يقتضي الخيانة أكل الوديعة بغير حق. وكذا الكلام في قوله: (إن خانك
فلا تخنه، ولا تدخل فيما عبته عليه) فإن الاول خانه بإنكار حقه بالباطل، وعتب (3)
عليه بذلك، وهو لا يقتضي خيانته بأخذها مكان دينه، وعتبه (4) عليه في الحق.
(هامش)
(1) الكافي 5: 98 ح 1، الفقيه 3: 113 ح 482، التهذيب 6: 348 ح 980، الاستبصار 3: 52
ح 171، الوسائل 12: 204 الباب المتقدم ح 7. (2) في الحجريتين: العالم. (3) في (ث،
ط): وعيب، وفي (خ): وعيبه. (4) في (ث، خ، ط): وعيبه. (*)
ص 74
ولو كان المال من غير جنس الموجود جاز أخذه بالقيمة العدل، ويسقط اعتبار رضا المالك
بإلطاطه، كما يسقط اعتبار رضاه في الجنس. ويجوز أن يتولى بيعها وقبض دينه من ثمنها،
دفعا لمشقة التربص بها.
قوله: (ولو كان المال... إلخ). حيث جاز له الاخذ مقاصة
يقتصر على الاخذ من الجنس الموافق لحقه مع الامكان، اقتصارا في التصرف في مال الغير
المخالف للاصل على أقل ما تندفع به الضرورة. فإن تعذر وصوله إلى جنس حقه جاز له
الاخذ من غيره، لعموم الادلة السابقة، وقوله صلى الله عليه وآله: (خذي ما يكفيك
وولدك بالمعروف) (1) حيث لم يفرق بين الجنس وغيره، بل ظاهر الحال أنها لا تجد عين
المحتاج إليه في النفقة والكسوة، وإنما تجد مالا تصرفه في ذلك. وذهب جماعة من
العامة (2) إلى وجوب الاقتصار على الجنس. وعلى مااخترناه يتخير بين أخذه بالقيمة،
وبين بيعه وصرفه في جنس الحق. ويستقل بالمعاوضة كما يستقل بالتعيين. ولو أمكن إثبات
الحق عند الحاكم فالاولى الرجوع إليه هنا، ليستأذنه في هذا التصرف.
(هامش)
(1) تقدم ذكر مصادره في ص: 69 هامش (3). (2) الحاوي الكبير 17: 413، المغني لابن
قدامة 12: 230، حلية العلماء 8: 215، روضة الطالبين 8: 282 - 284. (*)
ص 75
ولو تلفت قبل البيع قال الشيخ: الاليق بمذهبنا أنه لا يضمنها. والوجه الضمان، لانه
قبض لم يأذن فيه المالك. ويتقاصان بقيمتها مع التلف.
قوله: (ولو تلفت قبل البيع...
إلخ). إذا أخذ المستحق من غير جنس حقه، فإن نوى أخذه لنفسه بالقيمة ملكه، وكان تلفه
بعد ذلك منه. وإن قصد بيعه وصرفه في حقه، فهل يكون مضمونا عليه، أم يكون أمانة؟ فيه
قولان: أحدهما - وهو الذي ذهب إليه المصنف رحمه الله -: الضمان، لانه قبضه بغير إذن
المالك لمصلحة نفسه، فكان كقبض المرتهن الرهن بغير إذن الراهن. هكذا علله المصنف
رحمه الله. وفيه: أن إذن الشارع أعظم من إذن المالك. وبه يفرق بينه وبين الرهن.
والثاني: عدم الضمان. وهو مختار الشيخ في المبسوط (1)، لانه مقبوض بحق، فجرى مجرى
الرهن. وهذا هو الاقوى. هذا إذا كان المقبوض بقدر حقه. أما لو كان زائدا عنه حيث لم
يمكن الاقتصار على المقدار، ففي كون الزائد مضمونا أم أمانة الوجهان. ولا فرق حينئذ
بين أن يتلف قبل البيع وبعده، حيث لم يمكن الاقتصار على بيع ما يقابل حقه. وحيث
يجوز البيع يجب المبادرة إليه بحسب الامكان. فإن قصر فنقصت قيمته فكالغاصب. وحيث
يضمن مع التلف، فإن كان بتقصير فكضمان الغاصب، وبغيره
(هامش)
(1) المبسوط 8: 311. (*)
ص 76
مسألتان: الاولى: من ادعى ما لا يد لاحد عليه قضي له. ومن بابه: أن يكون كيس بين
جماعة فيسألون: هل هو لكم؟ فيقولون: لا، ويقول واحد منهم: هو لي، فإنه يقضى به لمن
ادعاه. الثانية: لو انكسرت سفينة في البحر، فما أخرجه البحر فهو لاهله، وما أخرج
بالغوص فهو لمخرجه. وبه رواية في سندها ضعف.
فقيمة (1) يوم التلف مطلقا. وكذا تجب
المبادرة إلى رد الزائد إلى المالك على تقدير اشتماله عليه، ولو بهبة (2) ونحوها،
إذا خاف من الاعتراف بالواقع. قوله: (من ادعى ما لا يد لاحد عليه... إلخ). الاصل في
مسألة الكيس رواية يونس بن عبد الرحمن، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله عليه
السلام، قال: (قلت: عشرة كانوا جلوسا ووسطهم كيس فيه ألف درهم، فسأل بعضهم بعضا
ألكم هذا الكيس؟ فقال كلهم: لا، فقال واحد منهم: هو لي، قال: هو للذي ادعاه). (3)
ولانه مع عدم المنازع لا وجه لمنع المدعي منه، ولا لطلب البينة منه، ولا لاحلافه،
إذ لا خصم له حتى يترتب عليه ذلك. قوله: (لو انكسرت سفينة... إلخ). الرواية
المذكورة رواها الحسن بن علي بن يقطين، عن أمية بن عمرو، عن
(هامش)
(1) في (ط، م): فقيمته.(2) في (ت، ط): بهبته. (3) الكافي 7: 422 ح 5، التهذيب 6:
292 ح 810، الوسائل 18: 200 ب (17) من أبواب كيفية الحكم، وفيما عدا التهذيب: عن
إبراهيم بن هاشم القمي، عن بعض أصحابه، عن منصور... (*)
ص 77
الشعيري، قال: (سئل أبو عبد الله عليه السلام عن سفينة انكسرت في البحر، فأخرج بعضه
بالغوص، وأخرج البحر بعض ما غرق فيها، فقال: أما ما أخرجه البحر فهو لاهله، الله
أخرجه لهم، وأما ما خرج بالغوص فهو لهم، وهم أحق به) (1). وعمل بمضمونها الشيخ في
النهاية (2). والمصنف - رحمه الله - ذكر أنها ضعيفة السند، ولم يذكر ما ينافي
حكمها. ووجه ضعف سندها أن أمية المذكور واقفي. والظاهر أن المراد بالشعيري إسماعيل
بن زياد (3) السكوني المشهور، وهو عامي. ولكن لا يلزم من حكم المصنف بضعف سندها رد
حكمها، لانه كثيرا ما يجبر الضعف بالشهرة وغيرها، والامر في هذه كذلك. وابن إدريس
(4) رد الرواية [خاصة] (5) على أصله، وحكم بأن ما أخرجه البحر فهو لاصحابه، وما
تركه أصحابه آيسين منه فهو لمن وجده وغاص عليه، لانه بمنزلة المباح، كالبعير يترك
من جهد في غير كلا ولا ماء، فإنه يكون لواجده، وادعى الاجماع على ذلك. والاصح أن
جواز أخذ ما يتخلف مشروط بإعراض مالكه عنه مطلقا، ومعه يكون إباحة لاخذه، ولا يحل
أخذه بدون الاعراض مطلقا، عملا بالاصل.
(هامش)
(1) التهذيب 6: 295 ح 822، الوسائل 17: 362 ب (11) من أبواب اللقطة ح 2. (2)
النهاية: 351. (3) كذا فيما لدينا من النسخ الخطية، والصحيح: بن أبي زياد. (4)
السرائر 2: 195. (5) من (أ، ث). (*)
ص 78
المقصد الاول في الاختلاف في دعوى الاملاك

وفيه مسائل: الاولى: لو تنازعا عينا في
يدهما ولا بينة، قضي بها بينهما نصفين. وقيل: يحلف كل منهما لصاحبه. ولو كانت يد
أحدهما عليها، قضي بها للمتشبث مع يمينه، إن التمسها الخصم. ولو كانت يدهما خارجة،
فإن صدق من هي في يده أحدهما أحلف وقضي له. وإن قال: هي لهما، قضي بها بينهما
نصفين، وأحلف كل منهما لصاحبه. ولو دفعهما أقرت في يده.
قوله: (لو تنازعا عينا...
إلخ). إذا تداعيا عينا وادعى كل منهما أن مجموعها له، ولا بينة لاحدهما (1)، فلا
يخلو: إما أن تكون في يدهما، أو في يد أحدهما، أو في يد ثالث. فهنا أحوال: أحدها:
أن تكون في يدهما، فكل واحد مدع في النصف ومدعى عليه في النصف، فيحلف كل واحد منهما
على نفي ما يدعيه الاخر، ولا يتعرض واحد منهما في يمينه لاثبات ما في يده، بل يقتصر
على أنه لا حق لصاحبه فيما في يده. ونقله الحلف قولا يشعر برده. والمذهب ثبوته،
عملا بالعموم (2)، بل لم ينقل الاكثر فيه خلافا. فإذا حلفا أو نكلا ترك المدعى في
يدهما كما كان. وإن حلف أحدهما دون الاخر قضي للحالف بالكل.
(هامش)
(1) في (أ، ث): لاحد منهما. (2) راجع الوسائل 18: 170 ب (3) من أبواب كيفية الحكم.
(*)
ص 79
ثم إن حلف الذي بداء الحاكم بتحليفه، ونكل الاخر بعده، حلف الاول اليمين المردودة
إن لم نقض بالنكول. وإن نكل الاول ورغب الثاني في اليمين، فقد اجتمع عليه يمين
النفي للنصف الذي ادعاه صاحبه، ويمين الاثبات للنصف الذي ادعاه هو، فتكفيه الان
يمين واحدة يجمع فيها بين النفي والاثبات، لان كلا منهما قد دخل فيه. وحينئذ فيحلف
أن الجميع له ولا حق لصاحبه فيه، أو يقول: لا حق له في النصف الذي يدعيه، والنصف
الاخر لي. ويحتمل وجوب يمينين: إحداهما نافية والاخرى مثبتة، لتعدد السبب المقتضي
لتعدد المسبب. وهل يتخير الحاكم في البدأة باليمين، أو يقرع بينهما؟ وجهان. وتظهر
الفائدة في تعدد اليمين على المبتدي على تقدير نكول الاخر. ويمكن أن يقال: كل واحد
منهما مدع ومدعى عليه هاهنا، فينبغي أن ينظر إلى السبق، فمن سبق دعواه بدئ بتحليف
صاحبه. وثانيها: أن تكون العين في يد أحدهما، فيقضى بها للمتشبث - وهو ذو اليد - مع
يمينه، لانه هو المدعى عليه، والخارج مدع، لان الاصل عدم تسلطه على ما في يد غيره،
وظاهر الحال يشهد لذي اليد. فإن نكل ذو اليد عن الحلف أحلف الخارج إن لم نقض
بالنكول. والكلام في حلفهما كما سلف، فيحلف ذو اليد على النفي، والمدعي على
الاثبات. وثالثها: أن تكون في يد ثالث، فذو اليد من صدقه الثالث، وعليه اليمين
للاخر، فإن امتنع حلف الاخر وأغرم القيمة. ولو صدقهما فهي لهما بعد حلفهما أو
نكولهما. ولهما إحلافه إن ادعيا علمه، لفائدة الغرم مع اعترافه، لا القضاء بالعين.
ص 80
الثانية: يتحقق التعارض في الشهادة مع تحقق التضاد، مثل: أن يشهد شاهدان بحق لزيد،
ويشهد آخران أن ذلك الحق بعينه لعمرو، أو يشهدا أنه باع ثوبا مخصوصا لعمرو غدوة،
ويشهد آخران ببيعه بعينه لخالد في ذلك الوقت. ومهما أمكن التوفيق بين الشهادتين
وفق. فإن تحقق التعارض، فإما أن تكون العين في يدهما، أو يد أحدهما، أو [في] يد
ثالث. ففي الاول يقضى بها بينهما نصفين، لان يد كل واحد على النصف، وقد أقام الاخر
بينة، فيقضى له بما في يد غريمه.
ولو أنكرهما حلف لهما، سواء ادعاها لنفسه أم لا.
ولا يجب عليه نسبة الملك إلى نفسه أو إلى أحد معين. ولو قال: هي لاحدكما ولا أعرفه،
احتمل قويا القرعة، فيحلف من خرجت له، فإن نكل حلف الاخر، وإن نكلا قسمت بينهما.
قوله: (يتحقق التعارض... إلخ). إذا أقام المتداعيان بينتين، فإن أمكن التوفيق
بينهما وفق، وعمل بما دلت على ملكه الان، كما لو شهدت إحداهما بملك المدعي أمس،
والاخرى أنها ملكالاخر بسبب انتقالها عن ذلك المدعي اليوم، فيعمل بالثانية، لامكان
صدقهما. وكذا لو أطلقت إحداهما، وفصلت الاخرى كما ذكرناه. وإن تحقق التعارض بحيث
استلزم العمل بإحداهما تكذيب الاخرى، كأن تشهد إحداهما بهذه العين لزيد، وتشهد
الاخرى بها للاخر، فإنه لا يمكن أن يكون كلها ملكا لكل واحد منهما، فيفتقر الحكم
بتقديم إحداهما على الاخرى إلى المرجح، على التفصيل الذي يأتي. قوله: (فإن تحقق
التعارض... إلخ).
ص 81
وفي الثاني يقضى بها للخارج دون المتشبث، إن شهدتا لهما بالملك المطلق. وفيه قول
آخر - ذكره في الخلاف - بعيد.
إذا تعارضت البينتان، وكانت العين في يدهما، فلا
إشكال في الحكم بها بينهما نصفين. لكن اختلف في سببه، فقيل: لتساقط البينتين بسبب
التساوي، وبقي الحكم كما لو لم يكن هناك بينة. وقيل: لان مع كل منهما مرجحا (1)
باليد على نصفها، فقدمت بينته على ما في يده. والذي اختاره المصنف - رحمه الله - أن
العلة تقديم بينة الخارج، فيقضى لكل واحد منهما بما في يد صاحبه. وهذا هو الاشهر.
وتظهر الفائدة في اليمين على من قضي له، فعلى الاول يلزم كلا منهما اليمين لصاحبه،
لان تساقط البينتين أوجب الرجوع إلى اليمين كالمسألة السابقة. وعلى الثاني لا يمين
على أحدهما، لان ترجيح البينة على الاخرى بسبب اليد أوجب العمل بالراجح وترك الاخر،
كما لو تعارض الخبران. وعلى الثالث - وهو الاظهر - لا يمين، لان القضاء له مستند
إلى بينته، وهي ناهضة بثبوت الحق، فيستغنى عن اليمين. وفي التحرير (2) قوى ثبوت
اليمين على كل منهما، مع حكمه بتقديم بينة الخارج، وأن القضاء هنا لكل منهما بما في
يد الاخر، واحتمل عدم اليمين. قوله: (وفي الثاني يقضى... إلخ).
(هامش)
(1) فيما لدينا من النسخ الخطية: مرجح، والصحيح ما أثبتناه. (2) تحرير الاحكام 2:
195. (*)
ص 82
ولو شهدتا بالسبب، قيل: يقضى لصاحب اليد، لقضاء علي عليه السلام في الدابة. وقيل:
يقضى للخارج، لانه لا بينة على ذي اليد، كما لا يمين على المدعي، عملا بقوله [صلى
الله عليه وآله]: (واليمين على من أنكر (1)، والتفصيل قاطع للشركة. وهو أولى. أما
لو شهدت للمتشبث بالسبب وللخارج بالملك المطلق، فإنه يقضى لصاحب اليد، سواء كان
السبب مما لا يتكرر، كالنتاج ونساجة الثوب الكتان، أو يتكرر كالبيع والصياغة. وقيل:
بل يقضى للخارج وإن شهدت بينته بالملك المطلق، عملا بالخبر. والاول أشبه.
إذا كانت
العين المتنازع فيها في يد أحدهما، وأقام كل منهما بينة، ففي ترجيح أيهما أقوال:
أحدها: ترجيح الخارج مطلقا، أي: سواء شهدتا بالملك المطلق أم المقيد بالسبب أم
تفرقتا، بأن شهدت إحداهما بالملك المطلق والاخرى بالمقيد. ذهب إلى ذلك الصدوقان
(2)، وسلا ر (3)، وابن (4) زهرة، وابن إدريس (5)، والشيخ في موضع من الخلاف (6).
لكن الصدوق (7) قدم أعدل البينتين، ومع التساوي الخارج.
(هامش)
(1) مستدرك الوسائل 17: 397 ب (18) من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ح 1. (2)
المقنع: 399، الفقيه 3: 39 ذيل ح 130. (3) المراسم: 234. (4) غنية النزوع: 443. (5)
السرائر 2: 168. (6) الخلاف 3: 130 مسألة (217). (7) المقنع: 399، الفقيه 3: 39 ذيل
ح 130. (*)
ص 83
والحجة: قوله صلى الله عليه وآله: (البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه).
ووجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وآله جعل لكل واحد منهما حجة، فكما لا يمين على
المدعي لا بينة على المدعى عليه، والتفصيل يقطع الاشتراك. ولرواية محمد بن حفص، عن
منصور، عن الصادق عليه السلام قال: (قلت له: رجل في يده شاة فجاء رجل فادعاها وأقام
البينة العدول أنها ولدت عنده ولم يهب ولم يبع، وجاء الذي في يده بالبينة مثلهم
عدول أنها ولدت عنده ولم يبع ولم يهب، قال عليه السلام: حقها للمدعي، ولا أقبل من
الذي في يده بينة، إن الله عز وجل إنما أمر أن تطلب البينة من المدعي، فإن كانت له
بينة وإلا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر الله عز وجل) (1). وطريق الرواية إلى
منصور حسن، أما هو فإنه مشترك بين الثقة وغيره. والثاني: ترجيح ذي اليد مطلقا. وهو
قول الشيخ في كتاب الدعاوي من الخلاف (2). وهو الذي نسبه المصنف - رحمه الله - إلى
البعد. وحجته رواية (3) جابر أن رجلين اختصما عند رسول الله صلى الله عليه وآله في
دابة أو بعير، فأقام كل واحد منهما البينة أنه أنتجها، فقضى بها رسول الله صلى الله
عليه وآله للذي هي في يده.
(هامش)
(1) التهذيب 6: 240 ح 594، الاستبصار 3: 43 ح 143، الوسائل 18: 186 ب (12) من أبواب
كيفية الحكم ح 14. (2) الخلاف 6: 342 مسألة (15). (3) عوالي اللئالي 3: 526 ح 31،
وانظر سنن الدارقطني 4: 209 ح 21، سنن البيهقي 10: 256، تلخيص الحبير 4: 210 ح
2141. (*)
ص 84
ورواية غياث بن إبراهيم عن الصادق عليه السلام: (أن أمير المؤمنين عليه السلام
اختصم إليه رجلان في دابة، وكلاهما أقام البينة أنه أنتجها، فقضى بها للذي هي في
يده). وقال: (لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين) (1). وهذان الحديثان - مع ضعف
سندهما بكون الاول عاميا، والثاني بغياث - أخص من المدعى، لانهما دلا على تقديم ذي
اليد مع السبب لهما، لامع الملك المطلق. والثالث: ترجيح الداخل إن شهدت بينته
بالسبب، سواء انفردت به أمشهدت بينة الخارج به أيضا، وتقديم الخارج إن شهدتا بالملك
المطلق أو انفردت بينته بالسبب. وهذا هو الذي اختاره المصنف - رحمه الله -، وقبله
الشيخ في النهاية (2) وكتابي (3) الاخبار، وتلميذه القاضي (4) وجماعة. وقد وهم
الشيخ في المبسوط (5) حيث نقل عن النهاية خلاف ذلك، فقال فيه: (ما يدل عليه أخبارنا
هو ما ذكرناه في النهاية، وهو أنه إذا شهدتا بالملك المطلق ويد أحدهما عليها حكم
لذي اليد، وكذلك إن شهدتا بالملك المقيد لكل واحد ويد أحدهما عليها حكم لذي اليد).
قال: (وقد روي أنه يحكم لليد الخارجة). ووجه التنافي بين المنقول والمنقول عنه
ظاهر.
(هامش)
(1) الكافي 7: 419 ح 6، التهذيب 6: 234 ح 573، الاستبصار 3: 39 ح 133، الوسائل 18:
182 ب (12) من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ح 3. (2) النهاية: 344. (3) التهذيب
6: 237 ذيل ح 583، الاستبصار 3: 42 ذيل ح 142. (4) المهذب 2: 578. (5) المبسوط 8:
258. (*)
ص 85
وحجة هذا التفصيل الجمع بين الاخبار التي دل بعضها على تقديم الداخل مع بيان السبب،
وقد سمعته، وبعضها على تقديم الخارج، وهو محمول على ما إذا أطلقتا أو اختصت بينة
الخارج بالسبب بطريق أولى، كما أن تقديم بينة الداخل مع انفرادها بالسبب ثابت بطريق
أولى، لورود النص (1) على تقديمها مع اشتراكهما في السبب. والرابع: ترجيح الاعدل من
البينتين، أو الاكثر عددا مع تساويهما فيالعدالة، مع اليمين، ومع التساوي يقضى
للخارج. وهو قول المفيد (2) رحمه الله. وقريب منه قول الصدوق (3)، فإنه قدم أعدل
البينتين، ومع التساوي الخارج. وقد تقدم. والترجيح بهاتين الصفتين عمل به المتأخرون
(4) على تقدير كون العين في يد ثالث، لورودها (5) في بعض (6) الاخبار كذلك. مع أن
في بعضها ما يدل على هذا القول، ففي صحيحة أبي (7) بصير قال: (سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن الرجل يأتي القوم فيدعي دارا في أيديهم، ويقيم الذي في يده الدار
أنه ورثها عن أبيه، لا ندري كيف أمرها؟ فقال: أكثرهم بينة يستحلف وتدفع إليه).
(هامش)
(1) راجع ص: 83 - 84. (2) المقنعة: 730 - 731. (3) المقنع: 399، الفقيه 3: 39 ذيل ح
130. (4) اللمعة الدمشقية: 52، المقتصر: 383. (5) في (د): لورودهما. (6) الكافي 7:
418 ح 1 و3، الفقيه 3: 38 ح 129 و130، التهذيب 6: 234 ح 575 و576، الاستبصار 3: 40
ح 135، الوسائل 18: 181 ب (12) من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ح 1، 5. (7)
الكافي 7: 418 ح 1 و3، الفقيه 3: 38 ح 129 و130، التهذيب 6: 234 ح 575 و576،
الاستبصار 3: 40 ح 135، الوسائل 18: 181 ب (12) من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ح 1، 5. (*)
ص 86
وذكر: (أن عليا عليه السلام أتاه قوم يختصمون في بغلة، فقامت لهؤلا البينة أنهم
أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا، وقامت لهؤلا البينة بمثل ذلك، فقضى بها
لاكثرهم بينة واستحلفهم). قال: (فسألته حينئذ فقلت: أرأيت إن كان الذي ادعى الدار
قال: إن أبا هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن، ولم يقم الذي هو فيها بينة إلا أنه
ورثها عن أبيه، قال: إذا كان أمرها هكذا فهي للذي ادعاها وأقام البينة عليها). فقد
دلت هذه الرواية على الترجيح بالعدد مع تشبث أحدهما وخروج الاخر، وعلى ما لو ذكرا
جميعا السبب. وهي أوضح سندا من الروايات السابقة. وروى عبد الرحمن بن أبي عبد الله
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (كان علي عليه السلام إذا أتاه رجلان ببينة شهود،
عدلهم سواء وعددهم سواء، يقرع بينهم على أيهم يصير اليمين، قال: وكان يقول: اللهم
رب السماوات السبع أيهم كان الحق له فأده إليه، ثم يجعل الحق للذي يصير إليه اليمين
عليه إذا حلف) (1).وهذه متناولة بإطلاقها لهذا القسم. وبقي في المسألة أقوال اخر
نادرة ليس عليها دليل واضح. ونبه المصنف - رحمه الله - بقوله: (سواء كان السبب مما
لا يتكرر، كالنتاج ونساجة الثوب، أو يتكرر، كالبيع والصياغة) على خلاف ابن حمزة (2)
حيث فرق بين السبب المتكرر وغيره، وحكم بتقديم ذي اليد مع كون السبب مما يتكرر.
(هامش)
(1) الكافي 7: 419 ح 3، الفقيه 3: 53 ح 181، التهذيب 6، 233 ح 571، الاستبصار 3: 39
ح 131، الوسئل 18: 183 ب (12) من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ح 5. (2)
الوسيلة: 219. (*)
ص 87
ولو كانت في يد ثالث، قضي بأرجح البينتين عدالة، فإن تساويا قضي لاكثرهما شهودا.
ومع التساوي عددا وعدالة يقرع بينهما، فمن خرج اسمه أحلف، وقضي له. ولو امتنع، أحلف
الاخر وقضي له. وإن نكلا، قضي به بينهما بالسوية. وقال في المبسوط: يقضى بالقرعة إن
شهدتا بالملك المطلق، ويقسم بينهما إن شهدتا بالملك المقيد. ولو اختصت إحداهما
بالتقييد، قضي بها دون الاخرى. والاول أنسب بالمنقول.
قوله: (ولو كانت في يد
ثالث... إلخ). اختصاص هذا القسم بالترجيح بهذين المرجحين - وهما العدالة والعدد -
دون باقي أقسام التعارض هو المشهور بين الاصحاب، خصوصا المتأخرين (1) منهم، تبعا
للشيخ (2) - رحمه الله -، فإنه جعل ذلك جامعا بين الاخبار التي دل بعضها على
الترجيح بهما، وبعضها على الترجيح بالسبب، وبعضها على ترجيح الخارج، وبعضها على
ترجيح ذي اليد. ففصلوا الاحكام كما سبق، حتى إن الشيخ في التهذيب (3) صرح بكون خبر
أبي بصير الذي حكيناه سابقا (4) - المقتضي للترجيح بالعدد - محمولا على حكم ما إذا
كانت العين في يد ثالث. وهو عجيب، فإنها صريحة في كون أحدهما متشبثا، حيث قال:
(يأتي القوم فيدعي دارا في أيديهم) (5). ومن ثم خالف جماعة (6) من المتقدمين
واعتبروا الترجيح بهما في جميع
(هامش)
(1) إرشاد الاذهان 2: 150، اللمعة الدمشقية: 52، المقتصر: 383 - 384. (2) التهذيب
6: 237 ذيل ح 583. (3) التهذيب 6: 237 ذيل ح 583. (4) راجع ص: 85. (5) راجع ص: 85.
(6) المقنع: 399 - 400، المقنعة: 730 - 731. (*)
ص 88
الاقسام، وهو أنسب بحال الروايات التي بعضها مطلق في الترجيح بهما أو بأحدهما،
وبعضها مصرح بخلاف ما ادعاه المفصلون. وأما ما ذهب إليه الشيخ في المبسوط (1) من
الحكم بالقرعة مع شهادتهما لهما بالملك المطلق، فتدل عليه صحيحة الحلبي، قال: (سئل
أبو عبد الله عليه السلام عن رجلين شهدا على أمر، وجاء آخران فشهدا على غير ذلك،
فاختلفوا، قال: يقرع بينهم فأيهم قرع فعليه اليمين، وهو أولى بالحق) (2). فحملها
على ما إذا أطلقا، لدلالة ظاهر الشهادة عليه. ويدل على ما ذكره من أنه مع شهادتهما
بالملك المقيد يقسم بينهما، رواية غياث بن إبراهيم السابقة (3)، وقول علي عليه
السلام: (لو لم يكن في يده جعلتها بينهما نصفين) (4) والحال أنهما شهدتا بالسبب وهو
النتاج. ويدل على ترجيح ذات السبب مع الاختلاف قوتها، مضافا إلى ما سبق من الاخبار
الدالة على تقديم ذات السبب. وبالجملة، فالحكم في هذين القسمين لا يخلو من إشكال،
لاختلاف الاخبار على وجه يعسر الجمع بينها، وضعف ما ذكروه من طريق الجمع، وضعف سند
أكثرها، وعدم عمل الاصحاب بما اعتبر أسناده مقتصرين عليه. ولاجل ما ذكرناه اقتصر
الشهيد في الدروس (5) على مجرد نقل الاقوال من غير ترجيح لاحدها.
(هامش)
(1) المبسوط 8: 258. (2) التهذيب 6: 235 ح 577، الاستبصار 3: 40 ح 137، الوسائل 18:
185 ب (12) من أبوابكيفية الحكم وأحكام الدعوى ح 11. (3) تقدم ذكر مصادرها في ص: 84
هامش (1). (4) تقدم ذكر مصادرها في ص: 84 هامش (1). (5) الدروس الشرعية 2: 101. (*)
ص 89
ويتحقق التعارض بين الشاهدين والشاهد والمرأتين. ولا يتحقق بين شاهدين وشاهد ويمين.
وربما قال الشيخ نادرا يتعارضان ويقرع بينهما. ولابين شاهد وامرأتين وشاهد ويمين،
بل يقضى بالشاهدين والشاهد والمرأتين، دون الشاهد واليمين.
قوله: (ويتحقق
التعارض... إلخ). أما تحقق التعارض بين الشاهدين والشاهد والمرأتين، فلان كلا منهما
حجة مستقلة يثبت بها المال. وأما عدم معارضة الشاهد واليمين لهما، فلان الشاهد لا
يستقل بالحجة (1)، واليمين معه وإن أوجبت ثبوت المال إلا أنه حجة ضعيفة، ومن ثم
اختلف في ثبوته بها. وأيضا فالذي يحلف مع شاهده يصدق نفسه، والذي يقيم شاهدين يصدقه
غيره، فهو أقوى جانبا وأبعد عن التهمة. وبهذا صرح الشيخ في المبسوط (2) في فصل
الدعاوي والبينات، وفي الخلاف (3) أيضا. والقول النادر الذي نسبه المصنف - رحمه
الله - إليه بالتعارض بينهما والقرعة ذكره في المبسوط (4) في فصل الرجوع عن
الشهادة. ووجهه: أن الشاهد واليمين حجة مستقلة في إثبات المال كالشاهدين،
فيعارضانهما كما يعارضهما الشاهد والمرأتان. وإنما قال المصنف - رحمه الله -:
(وربما قال الشيخ... إلخ) لان كلامه
(هامش)
(1) في (د، م): بالحجية. (2) المبسوط 8: 259. (3) الخلاف 6: 334 مسألة (5). (4)
المبسوط 8: 253 - 254. (*)
ص 90
ليس صريحا، وقد اختلف العلماء في فهم عبارته، فالشيخ فخر الدين (1) - رحمه الله -
ذكر أنه تردد في ذلك، ولم يرجح أحد القولين. والشهيد في الدروس (2) قال: إنه صرح
بالتعارض والقرعة. ولننقل عبارة الشيخ في ذلك وننظر فيها، فإن كلا الفهمين محتمل
منها، والاظهر منها هو التردد الذي فهمه الشيخ فخر الدين. وهذه عبارة الشيخ: (شهد
شاهدان أنه أوصى لزيد بثلث ماله، وشهد شاهد واحد أنه أوصى بثلث ماله لعمرو، وقال
عمرو: أحلف مع شاهدي ليكون الثلث بيننا، فهل يزاحم الشاهدين شاهد ويمين أم لا؟ قال
قوم: يحلف ويزاحم ويساويه، لان الشاهد واليمين في الاموال بمنزلة الشاهدين، وقال
آخرون: لايساويه، لان الشاهد واليمين أضعف من شاهدين، لان الشاهد وحده لا يقوم
بنفسه حتى يضم إليه غيره، والشاهدان قائمان بأنفسهما، فلا يعارضهما. فمن قال لا
يعارضهما حكم بالثلث لزيد وحده، ومن قال يعارضهما حلف عمرو مع شاهده، وكان الثلث
بينهما نصفين. وعلى مذهبنا يقرع بينهما) (3). هذه عبارته. فالشهيد - رحمه الله -
فهم التصريح بالتعارض من قوله: (وعلى مذهبنا يقرع بينهما). والذي يظهر أن هذا ليس
حكما بالتعارض، لان القولين اللذين حكاهما عن المخالفين، كما هي عادته، ومذهبهم (4)
أن الوصية المعينة - كالثلث مثلا - لاثنين متعارضين يوجب قسمته بينهما على سبيل
العول، ومذهبنا أن الثاني يكون رجوعا عن الاول إن علم الترتيب، وإن اشتبه أقرع،
(هامش)
(1) إيضاح الفوائد 4: 409. (2) الدروس الشرعية 2: 102. (3) المبسوط 8: 253 - 254.
(4) انظر الحاوي الكبير 8: 309، روضة الطالبين 5: 268. (*)
ص 91
وكل موضع قضينا فيه بالقسمة، فإنما هو في موضع يمكن فرضها كالاموال، دون ما يمتنع،
كما إذا تداعى رجلان زوجة.
وهذا المذكور على إطلاقه من مواضع الاشتباه. فلما ذكر
حكم الوصية على القولين على مذهب المخالف، وكان مذهبنا يوافق القول الاول على تقدير
تقديم الشاهدين، ذكر ما يوافق مذهبنا على تقدير التعارض، لئلا يتوهم أن مذهبنا على
تقديره يوجب اشتراكهما في الموصى به، وهذا ليس حكما بترجيح القول بالتعارض، بل هو
باق على تردده حيث اقتصر على مجرد نقلهما، وإنما فرع ما يناسب القول الثاني من
مذهبنا. فنقل الشيخ فخر الدين - رحمه الله - عنه التردد أقعد. وقول المصنف - رحمه
الله -: (وربما قال الشيخ... إلخ) يدل على احتماله للامرين. وكذلك فعل العلامة في
القواعد (1) نقلا عن الشيخ. قوله: (وكل موضع قضينا فيه... إلخ). إذا تداعيا زوجة
ولم تترجح بينة أحدهما، لكونهما خارجين ونكلا عن اليمين، فإنه لا يتصور القسمة هنا،
كما يقسم بينهما المال لو كانت الدعوى مالا، بل الطريق هنا الحكم لمن أخرجته
القرعة، إذ لا سبيل إلى غيره. ويؤيده مرسلة داود بن أبي يزيد العطار عن أبي عبد
الله عليه السلام: (في رجل كانت له امرأة، فجاء رجل بشهود شهدوا أن هذه المرأة
امرأة فلان، وجاء آخرون فشهدوا أنها امرأة فلان، فاعتدل الشهود وعدلوا، قال: يقرع
بين الشهود، فمن خرج اسمه فهو المحق، وهو أولى بها) (2).
(هامش)
(1) قواعد الاحكام 2: 233. (2) الكافي 7: 420 ح 2، التهذيب 6: 235 ح 579، الاستبصار
3: 41 ح 139، الوسائل 18: 184 ب (122) من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ح 8. (*)
ص 92
والشهادة بقديم الملك أولى من الشهادة بالحادث، مثل أن تشهد إحداهما بالملك في
الحال، والاخرى بقديمه، أو إحداهما بالقديم، والاخرى بالاقدم، فالترجيح لجانب
الاقدم. وكذا الشهادة بالملك أولى من الشهادة باليد، لانها محتملة. وكذا الشهادة
بسبب الملك أولى من الشهادة بالتصرف.
وعلى هذا فلا فائدة في الاحلاف بعد القرعة،
لان فائدته القضاء للاخر مع نكوله، وهو منفي هنا. وفي الرواية دلالة على نفي اليمين
هنا. ولا فرق في ثبوت الشركة في المال على تقديره بين كونه قابلا للقسمة وعدمه
كالجوهرة، وإن كانت العبارة توهم اختصاص الحكم بما يقبل القسمة، لكنه تجوز بها في
إمكان الشركة، ولو عبر بها كان أولى. قوله: (والشهادة بقديم الملك... إلخ). هنا
مسائل: الاولى: إذا تعارضت البينتان في الملك ولكن اختصت إحداهما بزيادة التأريخ،
فالمشهور أنه مرجح، كما لو شهدت بينة أحدهما أنه ملكه في الحال، والاخرى أنه ملكه
منذ سنة، أو شهدت بينة الاول أنه ملكه منذ سنة، وبينة الاخر أنه ملكه منذ سنتين.
ووجه تقديم متقدمة التأريخ: أنها تثبت الملك في وقت لا تعارضها البينة الاخرى فيه،
وفي وقت تعارضها الاخرى، فتتساقطان في محل التعارض، ويثبت موجبها (1) فيما قبل محل
التعارض، والاصل في الثابت دوامه. وفي المسألة وجه آخر بعدم الترجيح بذلك، لان مناط
الشهادة الملك في الحال، وقد استويا فيه، فأشبه ما إذا كانتا مطلقتين أو مؤرختين
بتأريخ واحد.
(هامش)
(1) في (أ، ث، د، ط): موجبهما. (*)
ص 93
والمسألة مفروضة فيما إذا كان المدعى في يد ثالث، فأما إذا كان في يد أحدهما وقامت
بينتان مختلفتا التاريخ، فإن كانت بينة الداخل أسبق تاريخا فهو المقدم لا محالة.
وإن كانت بينة الاخر أسبق تاريخا، فإن لم نجعل سبق التاريخ مرجحا فكذلك يقدم
الداخل. وإن جعلناه مرجحا ففي ترجيح أيهما وعدمه أوجه. أحدها: ترجيح اليد، لان
البينتين متساويتان في إثبات الملك في الحال، فتتساقطان فيه، ويبقى من أحد الطرفين
اليد، ومن الاخر إثبات الملك السابق، واليد أقوى من الشهادة على الملك السابق،
ولهذا لا تزال بها. والثاني: ترجيح السبق، لان مع إحداهما ترجيحا من جهة البينة،
ومع الاخرى ترجيحا من جهة اليد، والبينة تتقدم على اليد، فكذلك الترجيح من جهتها
يتقدم على الترجيح من جهة اليد. والثالث: أنهما يتساويان، لتعارض البينتين (1).
واعلم أن إطلاق عبارة المصنف يقتضي عدم اشتراط إضافة البينة بالملك القديم التعرض
للملك (2) في الحال. وهو أحد الوجهين في المسألة، لان الملك إذا ثبت سابقا فالاصل
فيه الدوام والاستمرار، فلا يفتقر إلى التصريح باستمراره. والثاني - وهو المشهور -:
أن الشهادة بالملك القديم لا تسمع حتى يقول: وهو ملكه في الحال، أولا أعلم له
مزيلا، حتى لو قال: لا أدري زال أم لا، لم يقبل، لان ثبوت الملك سابقا إن اقتضى
بقأه فيد المدعي عليه وتصرفه يدل على
(هامش)
(1) كذا في (خ، م)، وفي سائر النسخ: المعنيين. (2) كذا في (ت، د)، وفي سائر النسخ:
لذلك. (*)
ص 94
الانتقال إليه، فلا يحصل ظن الملك في الحال. ولان دعوى الملك السابق لا تسمع، فكذلك
البينة عليه. وعللوا عدم قبول الشهادة مع قوله: (لا أدري زال أم لا)، مع أن مؤداها
قريب من قوله: (لا أعلم له مزيلا)، بأن الاولى تقتضي ترددا أو ريبة، فهي بعيدة عن
أداء الشهادة. وفيه نظر، لان الجزم الواقع في الشهادة بالصيغتين الاولتين إنما
استند إلى استصحاب الملك وظن الاستمرار مع عدم ظهور المنافي، وإلا فاليقين
بالاستمرار لا يتفق، لان الاسباب الموجبة لانتقال الملك عن المشهود له لا يمكن
القطع بعدمها وإن صحبه الشاهد ليلا ونهارا، فإن منها ما يمكن وقوعه سرا بنفسه مع
(1) نفسه. والاستناد إلى الاستصحاب وظن الاستمرار يتأدى بقوله: (لا أدري زال أم لا)
كما يتأدى بقوله: (وهو ملكه في الحال) لانه إذا لم يدر هل زال أم لا؟ جاز له
استصحاب البقاء والحكم به في الحال. وكون الصيغة بعيدة عن أداء الشهادة في حيز
المنع، ومن ثم ذهب بعضهم إلى عدم اشتراط الضميمة، مع أن الشهادة بالملك السابق لا
تنافي العلم بتجدد انتقاله عنه، فمع إضافة ما ينافي العلم بالانتقال أولى. والحق أن
إطلاق الشهادة بالملك القديم لا تسمع، لعدم التنافي بين كونه ملكا له بالامس مع
تجدد انتقاله عنه اليوم، وإن كان الشاهد يعلم بذلك، بل لابد من إضافة ما يفيد عدم
علمه بتجدد الانتقال، وذلك يتحقق بهذه الصيغ، وإن كان
(هامش)
(1) في (ت، ط): في. (*)
ص 95
الاقتصار على ما لا يشمل على التردد أولى.الثانية: لو تعارضت البينة بالملك المطلق
والبينة باليد فالترجيح لبينة الملك، لان اليد وإن كانت ظاهرة في الملك إلا أنها
محتملة لغيره، لجواز استنادها إلى العارية والاجارة وغيرهما، بخلاف الملك، فإنه
صريح في المطلوب، فكانت الشهادة به مرجحة. ولا فرق على هذا التقدير بين تقدم تاريخ
شهادة اليد - بأن شهدت أن يده على العين منذ سنة، وشهدت بينة الملك بتأريخ متأخر،
أو بأنه ملكه في الحال - وتأخره، لاشتراك الجميع في المقتضي وهو احتمال اليد، بخلاف
الملك. وفي هذه المسألة قول بتقديم اليد على الملك القديم. وسيأتي (1) الكلام فيه.
الثالثة: لو تعارضت البينة بسبب الملك والبينة بالتصرف، بأن شهدت الاولى أن العين
لفلان اشتراها من فلان، وشهدت بينة الاخر أنها وجدته يتصرف في العين تصرف الملا ك،
من البناء والهدم والبيع والرهن ونحو ذلك، قدمت بينة الملك المتسبب (2)، لان التصرف
أعم من الملك المطلق، لجواز وقوعه من الوكيل وغيره، بخلاف الملك المتبين (3) سببه،
فإنه صريح في المطلوب. ومقتضى هذا التعليل تقديم بينة الملك وإن لم يذكر سببه على
بينة التصرف، كما رجحت على بينة اليد، وإن كان التصرف أقوى من مطلق اليد،
لاشتراكهما في قيام الاحتمال دون الملك.
(هامش)
(1) في ص: 100. (2) في (ت، ط): المتشبث، وفي (د): المسبب. (3) في (أ، د): المبين.
(*)
ص 96
الثالثة: إذا ادعى شيئا، فقال المدعى عليه: هو لفلان، اندفعت عنه المخاصمة، حاضرا
كان المقر له أو غائبا. فإن قال المدعي: أحلفوه أنه لا يعلم أنها لي، توجهت اليمين،
لان فائدتها الغرم لو امتنع، لا القضاء بالعين لو نكل أو رد. وقال الشيخ رحمه الله:
لا يحلف ولا يغرم لو نكل. والاقرب أنه يغرم، لانه حال بين المالك و[بين] ماله
بإقراره لغيره. ولو أنكر المقر له حفظها الحاكم، لانها خرجت عن [ملك] المقر، ولم
تدخل في ملك المقر له. ولو أقام المدعي بينة قضي له. أما لو أقر المدعى عليه بها
لمجهول لم تندفع الخصومة، وألزم البيان.
قوله: (إذا ادعى شيئا... إلخ). إذا ادعى
شيئا على إنسان فقال المدعى عليه: إنه ليس لي، فإما أن يقتصر عليه، أو يضيفه إلى
مجهول، أو إلى معلوم. فإن اقتصر عليه، أو أضافه إلى مجهول، بأن قال: هو لرجل لا
أعرفه أو لا اسميه، ففي انصراف الخصومة عنه وانتزاع المال من يده وجهان، أصحهما -
وهو الذي لم يذكر المصنف غيره - أنها لا تنصرف ولا ينتزع المال من يده، لان الظاهر
أن ما في يده ملكه، وما صدر عنه ليس بمزيل، ولم يظهر لغيره استحقاقا. وعلى هذا، فإن
أقر بعد ذلك لمعين قبل، وانصرفت الخصومة إلى ذلك المعين، وإلا فيقيم المدعي البينة
عليه أو يحلفه.