ص 288
الطرف الخامس في اللواحق

وهي قسمان: الاول في اشتراط توارد الشاهدين على المعنى
الواحد وتترتب عليه مسائل: الاولى: توارد الشاهدين على الشي الواحد شرط في القبول،
فإن اتفقا معنى حكم بهما وإن اختلفا لفظا، إذ لا فرق بين أن يقولا: غصب، وبين أن
يقول أحدهما: غصب، والاخر: انتزع. ولا يحكم لو اختلفا معنى، مثل: أن يشهد أحدهما
بالبيع، والاخر بالاقرار بالبيع، لانهما شيئان مختلفان. نعم، لو حلف مع أحدهما ثبت.
من أنها (1) شهادة على الزنا وتلك الاحكام تابعة له، وأنه لو اكتفي باثنين لكان
شهود الاصل أسؤ حالا من شهود الفرع، مع أن الظاهر العكس أو التساوي، ومن أن المقصود
هو حق الادمي من المال وغيره، وهو مما يكفي فيه اثنان، ويمنع اشتراط مساواة شهود
الفرع للاصل مطلقا، إذ لا دليل عليه. قوله: (توارد الشاهدين... إلخ). لابد في قبول
الشهادة من موافقتها للدعوى، وتوافق الشاهدين معنى لا لفظا، لان المشهود به لا يثبت
إلا بتمام العدد. فلو قال أحدهما: غصب، والاخر: انتزع قهرا أو ظلما، فالمعنى واحد
وإن اختلف اللفظ، فقد حصل بالفعل الواحد
(هامش)
(1) في (ت، ث، ط): أنهما. (*)
ص 289
الثانية: لو شهد أحدهما أنه سرق نصابا غدوة، وشهد الاخر أنه سرق عشية، لم يحكم بها،
لانها شهادة على فعلين. وكذا لو شهد الاخر أنه سرق ذلك بعينه عشية، لتحقق التعارض،
أو لتغاير الفعلين. الثالثة: لو قال أحدهما: سرق دينارا، وقال الاخر: درهما، أو قال
أحدهما: سرق ثوبا أبيض، وقال الاخر: أسود، وفي كل واحد يجوز أن يحكم مع أحدهما ومع
يمين المدعي، لكن يثبت له الغرم، ولا يثبت
شاهدان، بخلاف ما لو شهد أحدهما بالبيع
والاخر بالاقرار به، فإن البيع لم يقم بهإلا شاهد واحد، وكذلك الاقرار، لتعددهما،
فيحلف المدعي مع أحدهما. وكذا لو كانت الشهادة على أمر واحد واختلفا في زمانه أو
مكانه أو وصفه، بأن قال أحدهما: إنه غصبه الثوب يوم الجمعة، وقال الاخر: يوم السبت،
أو في البيت، وقال الاخر: في المسجد، أو ثوب كتان، وقال الاخر: قطن، لاقتضاء ذلك
تغاير الفعلين. وحينئذ فيحلف مع أحدهما، سواء تكاذبا أم لا (1)، لان التعارض إنما
يكون بين البينتين الكاملتين. قوله: (لو شهد أحدهما... إلخ). في التعليل لف ونشر
غير مرتب، فإن تحقق التعارض الذي علل به أولا يحصل في الفرض الثاني، وتغاير الفعلين
يحصل في الاول، لان النصاب المشهود به في الاول غير معين، فكانت الشهادة على فعلين.
وفي المسألتين لا يثبت الفعل، لان به شاهدا واحدا. قوله: (لو قال أحدهما: سرق
دينارا... إلخ).
(هامش)
(1) في (ط): أم تصادقا. (*)
ص 290
القطع. ولو تعارض في ذلك بينتان على عين واحدة، سقط القطع للشبهة، ولم يسقط الغرم.
ولو كان تعارض البينتين لا على عين واحدة، ثبت الثوبان والدرهمان.
كما يجوز للمدعي
أن يحلف مع أحدهما يجوز له أن يحلف معهما، لعدم المنافاة، فيثبت الدينار والدرهم
والثوب الابيض والاسود، إذا لم يعينا الزمان بحيث يحصل التنافي، فيقتصر على الحلف
مع أحدهما خاصة. ولا يثبت القطع هنا، لان الحد لا يثبت باليمين. ولو شهد بالفعلين
شاهدان، فإن تعارضا، بأن شهد شاهدان أنه سرق منه دينارا يوم الجمعة عند الزوال،
وشهد آخران أنه سرق منه ذلك الدينار بعينه في وقت آخر، بحيث لا يمكن الجمع بين
الفعلين، سقط القطع، للشبهة والحد يدرأ بها، ولا يسقط الغرم، لثبوت سرقة الدينار
المعين على التقديرين. وإن لم يتعارضا، بأن شهدت إحداهما بسرقته غدوة، والاخرى
عشية، بحيث يمكن أن يسترده المالك ثم يسرقه مرة أخرى، ثبت القطع والغرم. وكذا لو
اختلفت العين، بأن شهدت إحداهما بسرقة الثوب الابيض، والاخرى بسرقة الاسود ولو في
وقت واحد، أو شهدت إحداهما بسرقة الدينار، والاخرى بسرقة الدرهم كذلك، يثبت
الامران، لامكان الجمع حتى مع اتحاد الزمان، لجواز أن يسرق فيه الامران. وفي قول
المصنف - رحمه الله -: (ولو كان تعارض البينتين لا على عين واحدة) تجوز، لانه لا
تعارض حينئذ. وكذا في قوله: (تعارض في ذلك)، لان
ص 291
الرابعة: لو شهد أحدهما أنه باعه هذا الثوب [غدوة] بدينار، وشهد [له] الاخر أنه
باعه [ذلك الثوب] بعينه في ذلك الوقت بدينارين، لم يثبتا، لتحقق التعارض، وكان له
المطالبة بأيهما شاء مع اليمين. ولو شهد له مع كل واحد شاهد آخر، ثبت الديناران.
ولا كذلك لو شهد واحد بالاقرار بألف، والاخر بألفين، فإنه يثبت الالف بهما، والاخر
بانضمام اليمين. ولو شهد بكل واحد شاهدان، ثبت ألف بشهادة الجميع، والالف الاخر
بشهادة اثنين.
الاشارة تعود إلى الامرين المختلفين، والفرض هنا اتحاد العين. وأما
قوله: (ثبت الدرهمان) فالمراد به الدينار والدرهم، وثناهما باسم أحدهما أو باسم
أخفهما، كالقمرين والعمرين. قوله: (لو شهد أحدهما أنه باعه... إلخ). إثبات التعارض
بين الشاهدين باعتبار صورته، وإلا فالتعارض لا يتحقق إلا بين البينتين الكاملتين
كما مر (1). ولو اقتصر على قوله: (لم يثبتا، وكان له المطالبة... إلخ) كما فعل غيره
كان أثبت، لانه لم يقم بكل واحد من البينتين إلا شاهد واحد، فلذلك لم يثبتا. والفرق
بين الاقرار والبيع - حيث يثبت القدر الاقل بهما، ويتوقف الزائد على اليمين في
الاقرار دون البيع -: أن الاقرار ليس سببا في ثبوت الحق في ذمته، بل كاشف عن سبقه،
فجاز تعدده، ولم يناف أحد الاقرارين الاخر، بخلاف البيع، فإنه سبب لثبوت الحق، ولم
يقم بكل واحد من السببين بينة كاملة.
(هامش)
(1) راجع ص: 80 و89. (*)
ص 292
وكذا لو شهد أنه سرق ثوبا قيمته درهم، وشهد الاخر أنه سرقه وقيمته درهمان، ثبت
الدرهم بشهادتهما، والاخر بالشاهد واليمين. ولو شهد بكل صورة شاهدان، ثبت الدرهم
بشهادة الجميع، والاخر بشهادة الشاهدين بهما. ولو شهد أحدهما بالقذف غدوة، والاخر
عشية، أو بالقتل كذلك، لم يحكم بشهادتهما، لانه شهادة على فعلين. أما لو شهد أحدهما
بإقراره بالعربية، والاخر بالعجمية، قبل، لانه إخبار عن شي واحد.
وعليه يترتب ما لو
شهد بكل واحد من الاقرارين شاهدان، فإنه يثبت الاقل بشهادة الجميع والزائد بشهادة
الاثنين، بخلاف البيع، فإنه لا يثبت المجموع إلا بشاهدين، لعدم إمكان تعدد السبب
فيه. قوله: (وكذا لو شهد... إلخ). الكلام في سببية السرقة بالنسبة إلى القيمة
كالاقرار، فإن السرقة نفسها ليست سببا في كون قيمة الثوب درهما أو درهمين، وإنما
القيمة أمر لازم للعين، سواء سرق أم لم يسرق، فكان ذلك بمنزلة ما لو شهد أحدهما أن
له في ذمته درهما، والاخر أن له في ذمته درهمين، فيثبت الدرهم بشهادتهما والاخر مع
اليمين. ولو شهد بكل [واحد] (1) من الفرضين شاهدان ثبت الزائد بشهادة الاثنين،
والاقل بشهادة الجميع، لعدم التنافي. قوله: (ولو شهد أحدهما بالقذف... إلخ).
(هامش)
(1) من (ث، ط). (*)
ص 293
القسم الثاني في الطوارئ وهي مسائل: الاولى: لو شهدا ولم يحكم [بهما]، فماتا، حكم
بهما. وكذا لو شهدا ثم زكيا بعد الموت.
لان القذف الواقع غدوة غير الواقع عشية، ولم
يقم بكل واحد إلا شاهد واحد، فلا يثبت أحدهما وإن أمكن تعدده، ولا محل لليمين مع
أحدهما في الحد. وأما القتل فكذلك، ويزيد أنه لا يقبل التكرر، فالتكاذب متحقق. وأما
شهادة أحدهما بالاقرار بالعربية والاخر بالعجمية، فإن أطلقا وقته أو ذكراه مختلفا
ثبت مدلولهما، لما ذكرناه من أنه ليس بسبب حتى يحصل بتعدد فعله اختلاف، وإنما
مدلوله أمر خارج يمكن التعبير عنه في أوقات كثيرة وبلغات متعددة، والمدلول شي واحد.
ولو اتحد الوقت بحيث لا يمكن الاجتماع، بأن شهد أحدهما أنه أقر عند الزوال بلا فصل
بالعربية، والاخر أنه أقر في ذلك الوقت بعينه بالعجمية، لم يثبت، للتكاذب. قوله:
(لو شهدا ولم يحكم... إلخ). لان الحكم مستند إلى أدائهما وقد حصل. والموت ليس قادحا
في الشهادة، وإنما هو عذر طار غير منقص (1) ولا يوجب تهمة، كما لو ناما أو جنا
أوأغمي عليهما أو على أحدهما.
(هامش)
(1) في (ت، د): منقض. (*)
ص 294
الثانية: لو شهدا ثم فسقا قبل الحكم، حكم بهما، لان المعتبر بالعدالة عند الاقامة.
ولو كان حقا لله كحد الزنا، لم يحكم، لانه مبني على التخفيف، ولانه نوع شبهة. وفي
الحكم بحد القذف والقصاص تردد أشبهه الحكم، لتعلق حق الادمي به.
وكذا الحكم لو شهدا
وعدالتهما مجهولة عند الحاكم، وماتا قبل التزكية، ثم زكيا بعد الموت، لان الحكم
بشهادتهما المؤداة لا بالتزكية، وإنما التزكية كاشفة عن صحة الاعتماد على شهادتهما،
فلم يقدح فيه موتهما قبلها (1). قوله: (لو شهدا ثم فسقا... إلخ). اختلف الاصحاب في
جواز الحكم بشهادة العدلين لو طراء فسقهما أو أحدهما بعد أداء الشهادة وقبل الحكم،
فذهب الشيخ في الخلاف (2) والمبسوط (3) وابن إدريس (4) والمصنف - رحمه الله -
والعلامة (5) في أحد القولين إلى الجواز، محتجين بأن الاعتبار بالعدالة عند الاقامة
لا عند الحكم وقد حصل، ولان الحكم بشهادتهما مع استمرار العدالة ثابت فكذا مع
زوالها، عملا بالاستصحاب. مع أن المصنف - رحمه الله - قد حكم فيما سبق (6) بأنه لو
طراء فسق شاهد الاصل قبل
(هامش)
(1) في (أ، د): قبل الحكم. (2) الخلاف 6: 320 مسألة (73). (3) المبسوط 8: 244. (4)
السرائر 2: 179. (5) قواعد الاحكام 2: 247. (6) في ص: 281. (*)
ص 295
الحكم بشهادة الفرع لم يحكم، محتجا بأن الحكم مستند إلى شهادة الاصل. وهكذا فعل
الشيخ في المبسوط (1)، والعلامة في التحرير (2). ولا فرق بين الامرين، بل الحكم هنا
بعدم الحكم أولى، لانه مستند إلى شهادة من قد فسق خاصة. وذهب العلامة في المختلف
(3) والشهيد (4) وجماعة (5) إلى عدم جواز الحكم، لانهما فاسقان حال الحكم فلا يجوز
الحكم بشهادتهما، إذ يصدق أنه حكم بشهادة فاسقين، كما لو رجعا قبله، وكما لو كانا
وارثين ومات المشهود له قبل الحكم [بشهادتهما] (6). ولان طرو الفسق يضعف ظن العدالة
السابقة، لبعد طروها دفعة واحدة. وأجابوا عن الاستدلال الاول بأنه مصادرة، لان كون
الاعتبار بالعدالة حالة الاداء لاحال الحكم عين المتنازع. وهذا هو الاولى. وطرو
العدالة كطرو الفسق. واتفق القائلان (7) على أن المشهود به إذا كان حقا لله تعالى،
كحد الزنا واللواط وشرب المسكر، لم يحكم به، لوقوع الشبهة الدارئة للحد. ولو اشترك
الحد كالقذف والقصاص، ففي جواز الحكم عند القائل به في غيره وجهان، من بنائه على
التخفيف ودرئه بالشبهة، ومن تعلق حق الادمي به.
(هامش)
(1) المبسوط 8: 233. (2) تحرير الاحكام 2: 215. (3) المختلف: 728. (4) الدروس
الشرعية 2: 133. (5) الجامع للشرائع: 546. (6) من (خ). (7) في (ث): القائلون. (*)
ص 296
الثالثة: لو شهدا لمن يرثانه، فمات قبل الحكم، فانتقل المشهود به إليهما، لم يحكم
لهما بشهادتهما. الرابعة: لو رجعا عن الشهادة قبل الحكم، لم يحكم. ولو رجعا بعد
الحكم والاستيفاء وتلف المحكوم به، لم ينقض الحكم، وكان الضمان على الشهود. ولو
رجعا بعد الحكم وقبل الاستيفاء، فإن كان حدا لله نقض
ورجح المصنف - رحمه الله - حق
الادمي. وعلى هذا، لو كان المشهود به السرقة حكم بالمال خاصة. وعدمه فيها (1) أقوى.
قوله: (لو شهدا لمن يرثانه... إلخ). نبه بقوله: (لم يحكم لهما بشهادتهما) على وجه
الحكم، فإنه لو حكم بشهادتهما لزم أن يكون قد حكم للمدعي بشهادته، وهو باطل قطعا.
ولو كان لهما في الميراث شريك ففي ثبوت حصته بشهادتهما وجهان، من انتفاء المانع من
جهته، ومن أنها شهادة واحدة فلا تتبعض، كما لو شهد بعض رفقاء القافلة المأخوذين
لبعض. وهذا أقوى. وبه قطع في القواعد (2). ويجي على القول بعدم قدح طرو الفسق
احتمال عدمه هنا اعتبارا بحالة الاداء، كما علل به السابق، وعند الاداء لم يكن
الشهادة لهما، إلا أن الجميع اتفقوا على امتناع الحكم هنا.قوله: (لو رجعا عن
الشهادة... إلخ).
(هامش)
(1) في (خ، ط): فيهما. (2) قواعد الاحكام 2: 247. (*)
ص 297
الحكم، للشبهة الموجبة للسقوط. وكذا لو كان للادمي، كحد القذف، أو مشتركا كحد
السرقة. وفي نقض الحكم لما عدا ذلك من الحقوق تردد. أما لو حكم وسلم، فرجعوا والعين
قائمة، فالاصح أنه لا ينقض ولا تستعاد العين. وفي النهاية: ترد على صاحبها. والاول
أظهر.
رجوع الشهود عن الشهادة إما أن يفرض قبل القضاء بشهادتهم، أو بعده. فإن كان
قبله امتنع القضاء مطلقا، لانا لا ندري أنهم صدقوا في الاول أو في الاخر، فلا يبقى
ظن الصدق، ولم يحصل حكم يمتنع نقضه. ثم إن اعترفوا بأنهم تعمدوا الكذب فهم فسقة
يستبرؤن. وإن قالوا: غلطنا، لم يفسقوا، لكن لا تقبل تلك الشهادة لو أعادوها. ولو
كانوا قد شهدوا بالزنا، فرجعوا واعترفوا بالتعمد، حدوا للقذف. وإن قالوا: غلطنا،
ففي حد القذف وجهان: أحدهما: المنع، لان الغالط معذور. وأظهرهما الوجوب، لما فيه من
التعيير، وكان من حقهم التثبت والاحتياط. وعلى هذا ترد شهادتهم. ولو قلنا لا حد فلا
رد. ولو رجعوا بعد القضاء، فرجوعهم إما أن يكون قبل الاستيفاء أو بعده. فإن رجعوا
قبل الاستيفاء، نظر إن كانت الشهادة في مال استوفي، لان القضاء قد نفذ فيه، وليس هو
مما يسقط بالشبهة حتى يتأثر بالرجوع. وفيه وجه آخر أنه لا يستوفى، لان الحكم لم
يستقر بعد، والظن قد اختل بالرجوع. وإن كانت في حد (1) لله تعالى [قيل] (2) لم
يستوف، لانه مبني على
(هامش)
(1) في (ص): حق. (2) من (أ، د). (*)
ص 298
التخفيف، ويدرأ بالشبهة، وهي متحققة بالرجوع. وإن كان حق آدمي أو مشتركا فوجهان، من
تغليب حق الادمي، ووجود الشبهة الدارئة له في الجملة. وهذا أولى. والمصنف - رحمه
الله - جزم بالحكم في القسمين استضعافا للفرق. وتردد في نقض الحكم لما عدا الحد من
الحقوق، سواء في ذلك المالية وغيرها. ومنشأ التردد مما ذكرناه في المال. وينبغي
إلحاق العقوبات كالقتل والجرح بالحدود، والعقود والايقاعات بالمال، لسهولة خطرها،
وترجيحا لحق الادمي. ويحتمل إلحاق النكاح بالحدود، لعظم خطره، وعدم استدراك فائت
البضع. وحيث قلنا بالاستيفاء بعد الرجوع فاستوفي فالحكم [كذلك] (1) كما لو رجعوا
بعد الاستيفاء. ولم يتعرض الاكثر لحكم الرجوع في غير المال قبل الاستيفاء، ولم
يحرروا الحكم فيه. وإن رجعوا بعد الاستيفاء لم ينقض الحكم مطلقا، لنفوذ الحكم
بالاجتهاد [به] (2) فلا ينقض بالاحتمال. ولان شهادتهم إقرار، ورجوعهم إنكار،
والانكار بعد الاقرار غير مسموع. ولان الشهادة أثبتت الحق فلا يزول بالطارئ كالفسق
والموت، خلافا للشيخ في النهاية (3)، حيث حكم برد العين على صاحبها مع قيامها،
وتبعه القاضي (4) وجماعة (5)، محتجين بأن الحق ثبت بشهادتهما فإذا رجعا
(هامش)
(1) من (ث، خ، م). (2) من (ت). (3) النهاية: 336. (4) المهذب 2: 564. (5) الوسيلة:
234. (*)
ص 299
الخامسة: المشهود به إن كان قتلا أو جرحا فاستوفي ثم رجعوا، فإن قالوا تعمدنا اقتص
منهم. وإن قالوا: أخطأنا كان عليهم الدية. وإن قال بعض تعمدنا، وبعض أخطأنا، فعلى
المقر بالعمد القصاص، وعلى المقر بالخطاء نصيبه من الدية. ولولي الدم قتل المقرين
بالعمد أجمع، ورد الفاضل عن دية صاحبه. وله قتل البعض، ويرد الباقون قدر جنايتهم.
جرى مجرى عدم الشهادة. ولا يخفى ضعفه. وحيث لا ينقض يغرم الشهود للمحكوم عليه،
لحصول الحيلولة بشهادتهم، وما يضمن بالتفويت بغير الشهادة يضمن بها كالنفس. ويؤيده
حسنة جميل عمن أخبره عن أحدهما عليهما السلام: (في الشهود إذا شهدوا على رجل ثم
رجعوا عن شهادتهم وقد قضي على الرجل، ضمنوا ما شهدوا به وغرموا، وإن لم يكن قضي
طرحت شهادتهم، ولم يغرم الشهود شيئا) (1). ولبعض العامة (2) قول إنهم لا يغرمون،
لانهم لم يثبتوا اليد على المال ولم يتلفوه، فلا يضمنون، وإن أثموا بما يفضي إلى
الفوات، كمن حبس المالك عن ماشيته حتى ضاعت. قوله: (المشهود به إن كان قتلا...
إلخ). إذا رجعوا بعد الاستيفاء وكان المشهود به مما يتعذر تداركه كالقتل والجرح،
فإن قالوا تعمدنا فعليهم القصاص أو الدية في موضع لا يقتص فيه من
(هامش)
(1) الكافي 7: 383 ح 1، الفقيه 3: 37 ح 124، التهذيب 6: 259 ح 685، الوسائل 18: 238
ب (100) من أبواب الشهادات. (2) الحاوي الكبير 17: 267. (*)
ص 300
ولو قال أحد شهود الزنا بعد رجم المشهود عليه: تعمدت، فإن صدقه الباقون، كان
لاولياء الدم قتل الجميع، ويردوا ما فضل عن ديةالمرجوم. وإن شأوا قتلوا واحدا، ويرد
الباقون تكملة ديته بالحصص بعد وضع نصيب المقتول. وإن شأوا قتلوا أكثر من واحد، ورد
الاولياء ما فضل عن دية صاحبهم، وأكمل الباقون من الشهود ما يعوز بعد وضع نصيب
المقتولين.
المتعمد موزعة، على ما هو مذكور في الجنايات. وكذا لو شهدوا بالردة
فقتل، أو على المحصن فرجم، أو على غير المحصن فجلد ومات منه. لكن هنا يلزمهم الدية،
لانه عمد شبيه الخطاء، لقصدهم إلى الفعل المؤدي إلى القتل. وإن قالوا أخطأنا فعليهم
الدية، على ما يفصل في قتل الخطاء. وإن تفرقوا في الوصف اختص كل بحكمه، على ما
سيأتي (1) في المشتركين في القتل والجرح. قوله: (ولو قال أحد شهود الزنا... إلخ).
الضابط: أن الشهادة متى أوجبت القتل، سواء كان ذلك بسبب الزنا أو بسبب القصاص أو
الردة، فالحكم ما ذكر من جواز قتل المتعمد وأخذ الدية من الخاطئ. وحكم الرد مع
زيادة المقتول على ما يفصل في بابه، فلا حاجة إلى تفصيل كل واحد من حكم الشهادة
بالرجم وبالقتل على حدة.
(هامش)
(1) انظر شرائع الإسلام 4: 205 - 206. (*)
ص 301
أما لو لم يصدقه الباقون، لم يمض إقراره إلا على نفسه فحسب. وقال في النهاية: يقتل
ويرد عليه الباقون ثلاثة أرباع الدية. ولا وجه له.
قوله: (أما لو لم يصدقه... إلخ).
إذا رجع أحد شهود الزنا عن الشهادة وقال: كذبنا، ولم يصدقه الباقون، لم يقبل قوله
عليهم، لاختصاص حكم الاقرار بالمقر. فإن اختار الولي قتله رد عليه ثلاثة أرباع
ديته. وإن اختار أخذ الدية كان عليه الربع خاصة، لانه إنما أقر بالشركة في القتل.
وكذا لو قال: أخطأت. وقال الشيخ في النهاية (1): إن قال: تعمدت، قتل، وأدى الثلاثة
إليه ثلاثة أرباع الدية. وإن رجع اثنان وقالا: أوهمنا، ألزما نصف الدية. وإن قالا:
تعمدنا، كان للولي قتلهما، ويؤدي إلى ورثتهما دية كاملة بالسوية بينهما، ويؤدي
الشاهدان الاخران إلى ورثتهما نصف الدية. وإن اختار الولي قتل واحد قتله، وأدى
الاخر مع الباقين من الشهود على ورثة المقتول الثاني ثلاثة أرباع الدية. ووافقه ابن
الجنيد (2). ومستندهما حسنة إبراهيم بن نعيم قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن أربعة شهدوا على رجل بالزنا، فلما قتل رجع أحدهم عن شهادته، قال: فقال: يقتل
الراجع، ويؤدي الثلاثة إلى أهله ثلاثة أرباع الدية) (3). ووجه العدول عنها:
مخالفتها للاصل، فإن أحدا لا يلزم بإقرار غيره. وربما حملت على ما إذا رجعوا
بأجمعهم، لكن قال أحدهم: تعمدت، وقال الباقون: أخطأنا.
(هامش)
(1) النهاية: 335. (2) حكاه عنه العلامة في المختلف: 726. (3) الكافي 7: 384 ح 5،
التهذيب 6: 260 ح 690، الوسائل 18: 240 ب (12) من أبواب الشهادات ح 2. (*)
ص 302
ولو شهدا بالعتق فحكم، ثم رجعا، ضمنا القيمة، تعمدا أو أخطأ، لانهما أتلفاه
بشهادتهما.
وفي المختلف (1) جعل ذلك محملا لقول الشيخين. وليس بجيد. وإنما يصلح
حملا للرواية التي هي مستند الحكم، وأما حكمهما فعلى ظاهر ما فهمناه من الرواية.
قوله: (ولو شهدا بالعتق... إلخ). إنما ضمناه مطلقا لان إتلاف المال لا يفرق فيه بين
العامد والخاطئ، وقد فوتا ماليته على المالك بشهادتهما وهو لا يريد (2)، لبنائه على
التغليب، مع نفوذ الحكم فيه. ولا فرق بين أن يكون المشهود بعتقه قنا أو مدبرا أو
مكاتبا أو أم ولد أو معلق العتق بصفة، خلافا لبعض العامة (3) في أم الولد، حيث قال:
لا غرم. ولو كانت الشهادة على تدبير عبد ثم رجعا بعد القضاء لم يغرما في الحال، لان
الملك لم يزل، فإذا مات غرما بالرجوع السابق، لان عتقه بسبب الشهادة وإن كان قادرا
على نقضه، إذ لا يجب عليه إنشاء الرجوع لنفع الوارث. ويحتمل عدم الرجوع، لقدرته على
نقضه إن لم يكن لازما بنذر وشبهه. نعم، لو كان رجوعهما بعد موته أغرما للورثة. وكذا
لو شهدا على العتق (4) بصفة على وجه يصح. ولو شهدا بكتابته ورجعا وأدى العبد النجوم
وعتق ظاهرا، ففيما يغرمان وجهان: أحدهما: ما بين قيمته وبين النجوم.
(هامش)
(1) المختلف: 726. (2) في الحجريتين: لا يزيد. (3) الكافي للقرطبي 2: 919. (4) في
(د) والحجريتين: المعتق نصفه. (*)
ص 303
السادسة: إذا ثبت أنهم شهدوا بالزور، نقض الحكم واستعيد المال. فإن تعذر، غرم
الشهود. ولو كان قتلا ثبت عليهم القصاص، وكان حكمهم حكم الشهود إذاأقروا بالعمد.
وأصحهما: جميع القيمة، لان المؤدى من كسبه وكسبه للسيد. ولو عجز فرد في الرق لم
يغرما سوى ما فات من منفعته زمن الكتابة. ولو شهدا أنه أعتقه على مال هو دون القيمة
فكالكتابة، لانه يؤدى من كسبه. ولو شهدا أنه وقفه على مسجد أو جهة عامة فكالعتق،
ولا يرد الوقف بالرجوع. وكذا لو شهد أنه جعل الشاة أضحية. قوله: (إذا ثبت أنهم
شهدوا... الخ). وجه نقض الحكم مع ثبوت التزوير تبين اختلال شرط الشهادة، كما لو
تبين فسقهما قبل الحكم، وأولى بالبطلان هنا. ويدل عليه أيضا صحيحة جميل عن أبي عبد
الله عليه السلام في شاهد الزور قال: (إن كان الشي قائما بعينه رد على صاحبه، وإن
لم يكن قائما ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل) (1). وروى محمد بن مسلم في الصحيح عن
أبي عبد الله عليه السلام: (قال في شاهد الزور ما توبته؟ قال: يؤدي من المال الذي
شهد عليه بقدر ما ذهب من ماله إن كان النصف أو الثلث، إن كان شهد هذا وآخر معه)
(2).
(هامش)
(1) الكافي 7: 384 ح 3، الفقيه 3: 35 ح 116، التهذيب 6: 259 ح 686، الوسائل 18: 239
ب (111) من أبواب الشهادات ح 2. (2) الكافي 7: 383 ح 2، التهذيب 6: 260 ح 687،
الوسائل 18: 238 الباب المتقدم ح 1. (*)
ص 304
ولو باشر الولي القصاص، واعترف بالتزوير، لم يضمن الشهود، وكان القصاص على الولي.
السابعة: إذا شهدا بالطلاق ثم رجعا، فإن كان بعد الدخول لم
واعلم أن الزور إنما
يتحقق بتعمد الكذب لا بمطلق كون الشهادة باطلة، ولذلك (1) كان حكمهم حكم من أقر
بالعمد. وإنما يثبت شهادتهم بالزور بأمر مقطوع به، كعلم الحاكم أو الخبر المفيد
للعلم، لا بالبينة لانه تعارض، ولا بالاقرار لانه رجوع. قوله: (ولو باشر الولي
القصاص... الخ). إذا رجع ولي الدم وحده واعترف بالتزوير فعليه القصاص، أو كمال
الدية على تقدير اعترافه بالخطاء. ولو رجع مع الشهود فوجهان: أجودهما (2): أن
القصاص أو الدية بكمالها عليه، لانه المباشر، وهم معه كالممسك مع القاتل. والثاني:
أنه معهم كالشريك، لتعاونهم على القتل، وليسوا كالممسك مع القاتل، فإنهم (3) صوروه
بصورة المحقين. وعلى هذا، فعليهم جميعا القصاص أو الدية منصفة أو بالحساب. وينبغي
على هذا الوجه أن لا يجب كمال الدية على الولي إذا رجع وحده. قوله: (إذا شهدا
بالطلاق... إلخ).
(هامش)
(1) في (ت، ث): وكذلك. (2) في (ت، د): أحدهما، وفي نسخة بدل (د): أجودهما. (3) في
(ث): كأنهم. (*)
ص 305
يضمنا. وإن كان قبل الدخول، ضمنا نصف المهر المسمى، لانهما لا يضمنان إلا ما دفعه
المشهود عليه بسبب الشهادة.
إذا شهدا على طلاق بائن كالطلاق بعوض والطلقة الثالثة،
أو على رضاع محرم أو لعان أو فسخ بعيب أو غيرها من جهات الفراق، وحكم الحاكم
بشهادتهما ثم رجعا لم يرد الفراق، لان قولهما في الرجوع محتمل، فلا يرد القضاء
المبرم بقول محتمل. وهل يجب الغرم على الشاهدين مطلقا، أم يتقيد بعدم الدخول؟ يبنى
على أن البضع هل يضمن بالتفويت أم لا؟ وفيه وجهان تقدم (1) الكلام فيهما مرارا.
والمشهور أنه لا يضمن، ومن ثم لو قتلها أو قتلت نفسها لم يضمن. وكذا لو غصب أمة
وماتت في يده، فإنه يضمن بذلك قيمتها وقيمة منافعها وإن لم يستوفها، دون بضعها مع
عدم استيفائه. ووجه الضمان: أنه متقوم بالمال، ومن ثم لو استوفاه مستوف ضمنه
بقيمته، وهي مهر المثل. فعلى هذا يغرم الشاهدان مهر المثل، سواء كان قبل الدخول أم
بعده، لانهما فوتا عليه ما يتقوم فيغرمان قيمته، كما لو شهدا بعتق عبد ثم رجعا.
وعلى المشهور إن كانت شهادتهما بالطلاق بعد الدخول لم يضمنا شيئا، لانهما لم يتلفا
المهر، لاستقراره بالدخول، وما أتلفاه من البضع غير مضمون. وإنكانت قبل الدخول ضمنا
نصف المسمى، لانهما ألزماه به، وقد كان بمعرض السقوط بالردة والفسخ من قبلها. وهذا
هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وعليه العمل.
(هامش)
(1) في ج 7: 111. (*)
ص 306
وفي المسألة أقوال أخر نادرة: منها: ما اختاره (1) الشيخ في موضع من المبسوط (2) من
أن المهر إن كان مقبوضا بيدها غرم الشاهدان جميع مهر المثل، لان الزوج لا يتمكن من
استرداد شي، لزعمه أنها زوجته وأنها تستحق جميع الصداق. وإن كان قبل التسليم غرم
النصف خاصة، لانها لا تطالبه إلا بالنصف. ومنها: ما اختاره في النهاية (3)، وهو
أنها لو تزوجت بعد الحكم بالطلاق ثم رجعا ردت إلى الاول بعد العدة، وغرم الشاهدان
المهر للثاني. واستند الشيخ في ذلك إلى موثقة إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي عبد
الله عليه السلام: (في شاهدين شهدا على امرأة بأن زوجها طلقها، فتزوجت ثم جاء زوجها
فأنكر الطلاق، قال: يضربان الحد، ويضمنان الصداق للزوج، ثم تعتد ثم ترجع إلى زوجها
الاول) (4). والرواية ضعيفة بإبراهيم، فإنه واقفي وإن كان ثقة. وقد عرفت أن الحكم
لا ينقض بعد وقوعه في مثل ذلك. وربما حملت الرواية على ما لو تزوجت بمجرد الشهادة
من غير حكم الحاكم. وفي المختلف (5) جعل ذلك محملا لقول الشيخ. وليس بجيد، فإن
الشيخ استند إلى الرواية وعمل بظاهرها، فلا تأويل في كلامه.
(هامش)
(1) في الحجريتين: منها قول الشيخ. (2) المبسوط 8: 247 - 248. (3) النهاية: 336.
(4) الكافي 7: 384 ح 7، التهذيب 6: 260 ح 689، الوسائل 18: 241 ب (13) من أبواب
الشهادات ح 1. (5) المختلف: 726. (*)
ص 307
فروع الاول: إذا رجعا معا، ضمنا بالسوية. فإن رجع أحدهما، ضمن النصف. ولو ثبت بشاهد
وامرأتين فرجعوا. ضمن الرجل النصف، وضمنت كل واحدة الربع. ولو كان عشر نسوة مع
شاهد، فرجع الرجل، ضمن السدس. وفيه تردد.
ومنها: ضمان مهر المثل مع الدخول ونصفه مع
عدمه. حكاه في المبسوط (1)، ومال إليه في التحرير (2)، ثم أفتى بالمشهور. ووجهه: أن
الرجوع على الشاهد إنما يكون بما يتلفه بشهادته، وبشهادتهما بالطلاق قبل الدخول لم
يتلفا نصف المهر، لانه واجب عليه بالعقد طلق أم لم يطلق، وبعد الدخول لم يتلفا
المهر أيضا، لاستقراره في ذمته به، وإنما أتلفا بشهادتهما البضع عليه، فيجب عليهما
قيمته، وهو مهر المثل مع الدخول ونصفه قبل الدخول، لانه إنما ملك نصف البضع، ولهذا
إنما يجب عليه نصف المهر. وهذا القول مبني على ضمان البضع، والاصح عدمه. قوله: (إذا
رجعا معا ضمنا... إلخ). إذا رجع الشهود أو بعضهم [به] (3) على وجه يثبت به الغرم،
فلا يخلو: إما أن يفرض والمحكوم (4) بشهادتهم على الحد المعتبر، أو يفرض وهم أكثر
عددا منه.
(هامش)
(1) المبسوط 8: 247. (2) تحرير الاحكام 2: 216 - 217. (3) من (ث، م). (4) في (خ):
المحكوم. (*)
ص 308
فإن كانوا على الحد المعتبر، كما لو حكم في العتق أو القتل بشهادة رجلين ثم رجعا،
فعليهما الغرم بالسوية، وإن رجع أحدهما فعليه النصف. وكذا لو رجم في الزنا بشهادة
أربعة، فإن رجعوا جميعا فعليهم الدية أرباعا، وإن رجع بعضهم فعليه حصته منها. هذا
إذا كان جميع الشهود ذكورا، أو إناثا في موضع يقبل فيه شهادتهن منفردات. أما إذا
انقسموا إلى الذكور والاناث، فإن لم يزيدوا على أقل ما يكفي، كرجل وامرأتين في
الاموال، أو ما تقبل فيه شهادتهن منفردات، فنصف الغرم على الرجل عند الرجوع، وعلى
كل واحدة منهما الربع.وإن زادوا على الاقل، فالمشهود به إما أن يثبت بشهادة النساء
وحدهن، أو لا يثبت. فالاول: كما لو شهد أربع نسوة مع رجل في الولادة أو الرضاع، فإن
رجعوا جميعا فعلى الرجل ثلث الغرم وعليهن ثلثاه. وإن رجع الرجل وحده ففي غرمه وجهان
يأتيان، من حيث بقاء الحجة. وكذا لو رجعت امرأتان. والثاني: وهو ما لا يثبت بشهادة
النساء المتمحضات كالاموال، فشهد رجل وأربع نسوة ورجعوا، فوجهان: أحدهما: أن على
الرجل ثلث الغرم، وعليهن الثلثان كالاول. والثاني: أن نصف الغرم عليه ونصفه عليهن،
لان المال لا يثبت بشهادة النساء وإن كثرن، فنصف الحجة يقوم بالرجل معهن كم كن.
وهذا الوجه هو الذي طواه المصنف - رحمه الله - بتردده في الاول.
ص 309
الثاني: لو كان الشهود ثلاثة، ضمن كل واحد منهم الثلث، ولو رجع [واحد] منفردا.
وربما خطر أنه لا يضمن، لان في الباقي ثبوت الحق، ولا يضمن الشاهد ما يحكم به
بشهادة غيره للمشهود له. والاول اختيار الشيخ رحمه الله. وكذا لو شهد رجل وعشر
نسوة، فرجع ثمان منهن، قيل: [كان] على كل واحدة نصف السدس، لاشتراكهم في نقل المال.
والاشكال فيه كما في الاول.
فإذا قلنا بالثاني، فإن رجع النساء فعليهن نصف الغرم.
ولو رجعت امرأتان فلا شي عليهما على أحد الوجهين، لبقاء الحجة. ولو رجع الرجل
دونهن، فعلى الرجل الثلث على الاول، والنصف على الثاني. ولو رجع النساء دونه فعليهن
ثلثاه أو نصفه. وهكذا. قوله: (لو كان الشهود ثلاثة... إلخ). هذا هو القسم الثاني،
وهو ما إذا زاد الشهود على الحد المعتبر، كما لو شهد بالمال أو القتل أو العتق
ثلاثة، أو بالزنا خمسة، فإن رجع الكل فالغرم موزع عليهم بالسوية. وإن رجع البعض،
فإما أن يثبت العدد المعتبر على الشهادة، أو لا يثبت إلا بعضهم. فإن ثبت العدد
المعتبر، كما لو رجع من الثلاثة في العتق أو من الخمسة في الزنا واحد، فوجهان:
أحدهما - وهو الذي اختاره الشيخ (1) رحمه الله -: أن على الراجع حصته من الغرم إذا
وزع عليهم جميعا، لان الحكم وقع بشهادة الجميع، وكل منهم قد
(هامش)
(1) المبسوط 8: 248. (*)
ص 310
فوت قسطا، فيغرم ما فوت. والثاني - وهو الذي أشار (1) المصنف بخطوره -: أنه لا غرم
على الراجع، لانه يبقى من يقوم به الحجة، ولو لم يشهد في الابتداء سوى من بقي
لاكتفينا بشهادته، وكان الراجع كأن لم يشهد. وعلى هذا لو شهد رجل وعشر نسوة فرجع
ثمان منهن، فعلى الاول يجب على كل واحدة نصف السدس، لاشتراكهم جميعا في نقل المال،
فيقابل شهادة الرجل السدس وشهادتهن خمسة أسداس، فإذا رجع ثمان فعليهن أربعة أسداس
على كل واحدة نصف سدس. وعلى الثاني لا شي عليهن، لبقاء من يقوم به الحجة. وإليه
أشار المصنف - رحمه الله - بالاشكال الاول. ولو رجع الرجل دونهن، فإن كان الحق مما
يثبت بشهادتهن منفردات فالوجهان. وإن كان مما لا يثبت بهن لم يبق من الشهود ما يثبت
به الحكم، فيكون عليه النصف أو السدس على الخلاف. ولو لم يثبت العدد المعتبر على
الشهادة، كما إذا رجع من الثلاثة أو الخمسة اثنان، بني على الوجهين في الحالة
السابقة. فإن قلنا لا غرم على الراجعين هناك الزائدين على العدد المعتبر وزع الغرم
هنا على العدد المعتبر، وحصة من نقص عن العدد توزع على من رجع بالسوية.ففي صورة
الثلاثة يكون نصف الغرم على الراجعين، لبقاء نصف الحجة. وفي صورة الخمسة عليهما ربع
الغرم، لبقاء ثلاثة أرباع الحجة. وإن أوجبنا الغرم على من رجع هناك فعلى الراجعين
من الثلاثة ثلثا الغرم، ومن الخمسة خمساه.
(هامش)
(1) في (أ، ت، د): اختاره. (*)
ص 311
الثالث: لو حكم فقامت بينة بالجرح مطلقا، لم ينقض الحكم، لاحتمال التجدد بعد الحكم.
ولو تعين الوقت، وهو متقدم على الشهادة، نقض. ولو كان بعد الشهادة، وقبل الحكم، لم
ينقض.
والاظهر هنا الثاني، لان البينة إذا نقص عددها زال حكمها، وصار الضمان متعلقا
بالاتلاف، وقد استووا فيه. قوله: (لو حكم فقامت... إلخ). إذا حكم الحاكم بشهادة
عدلين ثم ثبت جرحهما بعد الحكم، فإن كانت الشهادة بالجرح مطلقة - أي: غير معينة (1)
بوقت الجرح - لم ينقض الحكم، لاحتمال أن يكون الجرح متجددا عليه، فيستصحب حكم
العدالة إلى أن يثبت المزيل. وإن عين الجارح وقته وكان متقدما على الشهادة نقض،
لظهور وقوع الحكم بشهادة فاسقين. ولو كان وقت الجرح بين الشهادة والحكم لم ينقض،
لاداء الشهادة حالة العدالة. وهذا يناسب ما ذكره سابقا (2) من أن الفسق المتجدد بعد
أداء الشهادة وقبل الحكم لا يمنع من الحكم. وعلى ما اختاره المتأخرون من عدم جواز
الحكم يتجه نقضه هنا، لوقوعه في حالة لم يكن الشاهدان عدلين. ويحتمل عدم نقضه هنا
مطلقا، لوقوعه حالة الحكم بعدالتهما ظاهرا، فوقع جامعا لشرائطه، فلا ينقض. وبهذا
قطع العلامة في القواعد (3)، مع اختياره عدم
(هامش)
(1) في (أ، ت، ط): مبينة لوقت. (2) راجع ص: 294. (3) قواعد الاحكام 2: 247. (*)
ص 312
وإذا نقض الحكم، فإن كان قتلا أو جرحا فلا قود، والدية في بيت المال. ولو كان
المباشر للقصاص هو الولي، ففي ضمانه تردد، والاشبه أنه لا يضمن، مع حكم الحاكم
وإذنه. ولو قتل بعد الحكم وقبل الاذن ضمن الدية. أما لو كان مالا، فإنه يستعاد إن
كانت العين باقية. وإن كانت تالفة، فعلى المشهود له، لانه ضمن بالقبض، بخلاف
القصاص.
جواز الحكم بتجدد الفسق بعد الاداء وقبل الحكم. ويضعف بأن الاكتفاء في صحة
الحكم بظهور العدالة وقته (1) يستلزم صحته وإن ثبت الجرح متقدما على الشهادة،
لاشتراكهما في المقتضي. والوجه نقض الحكم على هذا القول، لثبوت فسقهما حالة الحكم
المانع منه، كما يمنع منه مع سبقه على الشهادة. قوله: (وإذا نقض الحكم... إلخ). إذا
نقض الحكم بظهور مانع في الشهادة سابق على الاداء أو على الحكم على الخلاف، فإن كان
المشهود به طلاقا أو عتقا أو عقدا من العقود تبين أنه لا طلاق ولا عتاق ولا عقد.
فإن كانت المرأة قد ماتت فقد ماتت وهي زوجة، وإن مات العبد مات وهو رقيق، ويجب
ضمانه على ما نذكره في ضمان المال. وإن كان المشهود به قتلا أو قطعا أو حدا واستوفي
وتعذر التدارك، فضمانه في بيت المال، لانه من خطاء الحكام، وحكم خطئهم كذلك. ولا
فرق بين أن يكون المباشر للفعل هو الولي أو غيره ممن يأمره الحاكم،
(هامش)
(1) كذا في (ت، د)، وفي سائر النسخ: وفيه يستلزم. (*)
ص 313
ولو كان معسرا، قال الشيخ: ضمن الامام، ويرجع به على المحكوم له إذا أيسر. وفيه
إشكال من حيث استقرار الضمان على المحكوم له بتلف المال في يده، فلا وجه لضمان
الحاكم.
لاستناد الفعل إلى الحكم (1) على التقديرين. وفيه وجه آخر يفرق بين ما إذا
كان المستوفي هو الولي وغيره، لان استيفاء الولي مستند إلى أخذ حقه الذي تبين عدمه،
فيكون كفعله خطاء. والاظهر الاول، لاستناده إلى حكم الحاكم على التقديرين. نعم، لو
باشر القتل بعد الحكم وقبل إذن الحاكم له في الاستيفاء تعلق به الضمان، لتوقف جواز
استيفائه على إذن الحاكم، وإن كان أصل الحق في ذلك له. ويحتمل عدم الضمان هنا أيضا
وإن أثم، لان حكم الحاكم بثبوت الحق اقتضى كونه المستحق، وإن أثم بالمبادرة بدون
إذن الحاكم. ولو كان المحكوم به مالا، فإن كان باقيا عند المحكوم له انتزع منه ورد
إلى المأخوذ منه. وإن كان تالفا أخذ منه ضمانه، سواء أتلفه بنفسه أم تلف بافة
سماوية. وفرقوا بينه وبين الاتلافات السابقة حيث قلنا لا غرم عليه: بأن الاتلافات
إنما تضمن إذا وقعت على وجه التعدي، وحكم الحاكم أخرجه عن أن يكون متعديا، وأما
المال فإذا حصل في يد الانسان بغير حق كان مضمونا وإن لم يوجد منه تعد. قوله: (ولو
كان معسرا... إلخ). حيث قلنا بأن المال مضمون على المحكوم له مطلقا، فإن كان موسرا
غرم
(هامش)
(1) في الحجريتين: الحاكم. (*)
ص 314
مسائل: الاولى: إذا شهد اثنان أن الميت أعتق أحد مماليكه وقيمته الثلث، وشهد اخران
أو الورثة أن العتق لغيره وقيمته الثلث، فإن قلنا: المنجزات من الاصل عتقا. وإن
قلنا: تخرج من الثلث، فقد انعتق أحدهما. فإن عرفنا السابق، صح عتقه، وبطل الاخر.
وإن جهل استخرج بالقرعة. ولو اتفق عتقهما في حالة [واحدة]، قال الشيخ: يقرع بينهما
ويعتق المقروع. ولو اختلفت قيمتهما، أعتق المقروع. فإن كان بقدر الثلث صح، وبطل
الاخر. وإن كان أزيد صح العتق منه في القدر الذي يحتمله الثلث. وإن نقص، أكملنا
الثلث من الاخر.
الحق. وإن كان معسرا قال الشيخ في المبسوط (1): ضمن الامام حتى
يوسر المعسر فيرجع عليه. وعلى هذا فيتخير المضمون له بين رجوعه على الحاكم أو على
المحكوم له المعسر، بأن ينظره إلى يساره. ومثله ما لو كان المحكوم له غائبا، ولا
مال له حاضرا يتسلط عليه الحاكم. والمصنف - رحمه الله - استشكل ذلك، من حيث الحكم
بضمان المحكوم له، والحال أنه لا تقصير من الحاكم، فلا وجه لضمانه. والاقوى استقرار
الضمان على المشهود له، وينظر إلى يساره أو التمكن منالاستيفاء منه. قوله: (إذا شهد
اثنان... إلخ).
(هامش)
(1) المبسوط 8: 250. (*)
ص 315
من الاصول الممهدة أن المريض مرض الموت إذا أعتق عبدين كل واحد منهما ثلث ماله على
الترتيب، ولم يجز الورثة، ينحصر العتق في الاول. وإذا أعتقهما معا يقرع بينهما، كما
فعل النبي (1) صلى الله عليه وآله بالعبيد الذين أعتقهم الأنصاري ولا يملك سواهم.
ولو علم سبق أحدهما ولم يعلم عين السابق فوجهان: أحدهما: أنه يقرع كما لو أعتقهما
معا، لان معرفة السبق من غير معرفة السابق لا تنفع شيئا. والثاني: أنه يعتق من كل
واحد نصفه، لانا لو أقرعنا لم نأمن خروج الرق على السابق وللسابق حق الحرية، فيلزم
منه إرقاق حر وتحرير رقيق. إذا تقرر ذلك، فلو قامت بينة على أن المريض أعتق سالما،
وأخرى على أنه أعتق غانما، من غير أن تتعرض إحداهما لنفي عتق الاخر، وكل واحد منهما
ثلث ماله، فإن أرختا بتاريخين مختلفين عتق من أعتقه أولا. وإن أرختا بتاريخ واحد
أقرع بينهما. وإن أطلقت إحداهما أو أطلقتا احتمل السبق والمعية، فيجي فيه الوجهان
السابقان. والشيخ (2) - رحمه الله - اختار القرعة. وهو حسن، لانها لكل أمر مشتبه.
والمصنف - رحمه الله - نسب القول إليه مؤذنا برده. ووجهه: أنها لاستخراج السابق،
ومن المحتمل اقترانهما، فلا يكون أحدهما أولى من الاخر، فيعتق من كل واحد نصفه.
(هامش)
(1) مسند أحمد 4: 426، صحيح مسلم 3: 1288 ح 56، سنن أبي داود 4: 28 ح 3958، سنن
البيهقي 10: 285. (2) المبسوط 8: 253. (*)
ص 316
وفيه: أن القرعة قد وردت في العتق مع الاقتران كما ذكرناه، وهي وجه الاولوية.
ويتفرع على القولين ما لو قامت البينتان كذلك، لكن أحد العبدين سدس المال، فإن قلنا
بالقرعة وخرجت للعبد الخسيس عتق، وعتق معه نصف الاخر ليكمل الثلث. وإن خرجت للنفيس
انحصر العتق فيه. فإن قلنا هناك يعتق من كلواحد نصفه فهنا وجهان: أحدهما: أنه يعتق
من كل واحد ثلثاه، لان ما زاد على الثلث من التبرع ينسب إلى جميع التبرع، وينقص
بتلك النسبة من كل واحد منهم، وإذا نسبنا الزائد على الثلث - وهو السدس هنا - إلى
جميع التبرع - وهو النصف - كان ثلثه، فيرد العتق في ثلث كل واحد منهما، وينفذ في
ثلثيه. والثاني: أنه يعتق من النفيس ثلاثة أرباعه، ومن الخسيس نصفه، لانه إن سبق
إعتاق النفيس فجميعه حر، وإن سبق إعتاق الاخر فنصفه حر، فنصفه على التقديرين حر،
وإنما النزاع والازدحام في النصف الثاني وهو قدر سدس المال، فيقسم بينهما، فيعتق من
النفيس ربعه، ومن الخسيس نصفه. ونبه المصنف - رحمه الله - بقوله: (وشهد آخران أو
الورثة أن العتق لغيره) على أنه لا فرق هنا بين شهادة الوارث وغيره، إذ لا تهمة
للوارث تمنع شهادته هنا، وإن كانت واردة في غير هذه الصورة، كما سيأتي (1) فيما لو
شهدوا بالرجوع عن الاول.
(هامش)
(1) في الصفحة التالية. (*)
ص 317
الثانية: إذا شهد شاهدان بالوصية لزيد، وشهد من ورثته عدلان أنه رجع عن ذلك وأوصى
لخالد، قال الشيخ: تقبل شهادة الرجوع، لانهما لا يجران نفعا. وفيه إشكال، من حيث إن
المال يؤخذ من يدهما، فهما غريما المدعي.
ويزيد الورثة عن الاجانب أنه لا يشترط هنا
كونهم عدولا، لان شهادتهم بعتق الثاني مع عدم تعرضهم للاول بمنزلة الاقرار بعتقه،
مضافا إلى ما ثبت بالبينة. نعم، يشترط كون الشاهد جميع الورثة، كما يرشد إليه قول
المصنف - رحمه الله -: (أو الورثة). وقال في المسألة الثانية: (وشهد من ورثته
عدلان). ولو كانوا عدولا كفى منهم اثنان كالاجانب. قوله: (إذا شهد شاهدان... إلخ).
لا فرق في شهود العتق والوصية بين أن يكونوا أجانب أو وارثين في اعتبار عدم التهمة،
فكما أن الاجنبي قد يجر نفعا إلى نفسه بشهادته كما في الصور المتقدمة في محلها،
فكذلك الوارث، فلا تقبل شهادته. ويزيد الوارث أن شهادته على تقدير ردها قد تتضمن
إقرارا للمشهود له فيؤاخذ بها. فلو شهد أجنبيان أنه أوصى بوصية لزيد، ولنفرضها
كالاولى عتق سالم، وهو ثلث ماله، وشهد وارثان عدلان أنه رجع عن تلك الوصية وأوصى
بعتق غانم، وهو ثلث ماله أيضا، قبلت شهادتهما على الرجوع عن الوصية الاولى، وتثبت
بهما الوصية الثانية، لانهما أثبتا للمرجوع عنه بدلا يساويه، فارتفعت التهمة. ولا
نظر إلى تبديل المال وخواصه، فقد يكون الثاني أصلح من الاول. ومجرد هذا الاحتمال لو
أثر لما قبلت شهادة قريب لقريب يرثه.
ص 318
الثالثة: إذا شهد شاهدان لزيد بالوصية، وشهد شاهد بالرجوع، وأنه أوصى لعمرو، كان
لعمرو أن يحلف مع شاهده، لان شهادته منفردة لا تعارض الاولى.
هذا هو الذي اختاره
الشيخ - رحمه الله - في المبسوط (1) في فصل الرجوع. والمصنف - رحمه الله - استشكل
ذلك. والعلامة (2) - رحمه الله - رجح عدم القبول، لما أشار إليه المصنف - رحمه الله
- من التعليل، وهو أنه ينتزع المال من يده، فهو غريم للموصى له الاول، فهو كما لو
شهد ذو اليد بما في يده لغيره بعد إقامة آخر البينة أنه له، فإنها لا تسمع، وإن كان
بين المثالين فرق قليل، وهو أن الدعوى في المتنازع ليست متمحضة على الوارث، بخلاف
المال. وإنما اعتبر كون الورثة عدلين ليثبت بهما الرجوع على تقديره، فإنهما لو كانا
فاسقين لم يثبت بقولهما الرجوع، ويحكم بالاولى بشهادة الاجنبيين (3)، لان الثلث
يحتملها كما هو المفروض، ويصح من الثانية قدر ما يحتمله ثلث الباقي (4) من المال
بعد الاول. وبهذا افترق حكم العدالة وعدمها في هذه المسألة والسابقة، لان الوارث لو
لم يتعرض للسابقة كان الحكم كالمسألة الاولى. قوله: (إذا شهد شاهدان لزيد... إلخ).
لما تقدم في باب القضاء (5) أن الشاهد مع اليمين لا يعارض الشاهدين، بل يقدم
الشاهدان مع التعارض، نبه هنا على دفع توهم أنه مع شهادة شاهدين
(هامش)
(1) المبسوط 8: 251 - 252. (2) قواعد الاحكام 2: 230. (3) في (ث، خ، ط): الاجنبي.
(4) كذا في (خ، ص، م)، وفي سائر النسخ: الثاني. (5) في ص: 89. (*)
ص 319
الرابعة: لو أوصى بوصيتين منفردتين، فشهد آخران أنه رجع عن إحداهما، قال الشيخ: لا
يقبل، لعدم التعيين، فهي كما لو شهدت بدار لزيد أو عمرو.
بالوصية لزيد بعين، وشهادة
واحد بالرجوع عنها وأنه أوصى بها لعمرو، من ذلك القبيل وأنه يقدم الشاهدان، فنبه
على ما به يندفع الوهم، وأنه يحكم هنا بالشاهد واليمين، لانه لا تعارض بين الشاهدين
وبينه، لان الشاهد يشهد بأمر آخر غير ما شهد به الشاهدان، ويصدق الشاهدين على ما
شهدا به، ولكن يدعي الرجوع عما شهدا به وأنه أوصى لغيره فيقدم، لعدم التعارض، ويعمل
بكل منهما في مورده،ويحكم ببطلان الوصية الاولى بالرجوع عنها. قوله: (لو أوصى
بوصيتين... إلخ). وجه ما اختاره الشيخ (1) من البطلان أن الابهام يمنع [من] (2)
قبول الشهادة، كما لو شهدا بأنه أوصى لاحد هذين، أو شهدا بدار لزيد أو عمرو. ونسب
الحكم إلى الشيخ مؤذنا بعدم ترجيحه. ووراء قول الشيخ وجهان آخران: أحدهما: القرعة،
لانه أمر مشكل، والمستحق في نفس الامر أحدهما، ونسبتهما إليه على السواء، وقد تعذر
علمه بموت الموصي، وكل أمر مشكل فيه القرعة. والثاني: القسمة بينهما، لانه مال قد
انحصر فيهما، ونسبتهما إليه على السواء، فيقسم بينهما، ويجعل كأنه رد وصية كل واحد
إلى نصفها. والقرعة لا تخلو من قوة.
(هامش)
(1) المبسوط 8: 253. (2) من (خ). (*)
ص 320
الخامسة: إذا ادعى العبد العتق، وأقام بينة تفتقر إلى البحث، وسأل التفريق حتى تثبت
التزكية، قال في المبسوط: يفرق. وكذا قال: لو أقام مدعي المال شاهدا واحدا، وادعى
أن له آخر، وسأل حبس الغريم، لانه متمكن من إثبات حقه باليمين. وفي الكل إشكال،
لانه تعجيل العقوبة قبل ثبوت الدعوى.
قوله: (إذا ادعى العبد العتق... إلخ). وجه ما
ذهب إليه الشيخ (1) أن العبد قد فعل الواجب عليه حيث [قد] (2) أتى ببينة كاملة،
وليس عليه البحث عن حالها، لان الظاهر العدالة حتى يثبت الجرح، وإنما البحث وظيفة
الحاكم. ولان المدعي ربما كان أمة، فلولا التفرقة لم يؤمن أن يواقعها، وهو ضرر
عظيم. وأما مقيم شاهد واحد بالمال، فلانه يتمكن من إثبات حقه باليمين، إذ هما حجة
في الاموال، فكان الشاهد الواحد في معنى الحجة الكاملة. والمصنف - رحمه الله -
استشكل الحكم في الموضعين، من حيث إن التفرقة بين المالك ظاهرا وماله قبل أن يثبت
خروجه عن ملكه، وتعجيل الحبس عقوبة لم يثبت موجبها. ودعوى أنه أتى ببينة كاملة في
الاول مبني على مذهب الشيخ من أن الاصل في المسلم العدالة، وبحث الحاكم عن التزكية
للاستظهار. وعلى المشهور من اشتراط ظهور العدالة لا يسلم كمال البينة قبل التزكية،
بل يمنع من كماليتها على مذهبه أيضا، فإن ظاهر هذا المذهب أن للحاكم أن يبحث عن
التزكية
(هامش)
(1) المبسوط 8: 254. (2) من (ط، م). (*)
ص 321
ويرجئ الحكم إلى أن يظهر، وحينئذ فلا تكون كاملة على هذا التقدير. وقد تقدم (1)
البحث فيه. وحينئذ فلا مانع من تمكين المولى من وطي الامة قبل الثبوت، لانها ملكه
ظاهرا، والناس مسلطون على أموالهم إلى أن يثبت خلافه. وأما مع إقامة الشاهد الواحد
قبل اليمين فعدم الكمال أوضح، لانه متمكن من إثبات حقه بالحلف ولم يفعل، فلا وجه
للحبس قبل ثبوت الحق. وإنما قيد المصنف الشاهد بالمال ليمكن إثباته معجلا باليمين،
فيكون في قوة البينة الكاملة. فلو كان الحق مما لا يثبت إلا بشاهدين - كالطلاق - لم
يحبس، لعدم كمال البينة حينئذ. كذا نص عليه الشيخ (2)، وذكر فيه احتمالا بالحبس
أيضا. وربما قيل بجواز الحبس إن رآه الحاكم صلاحا. ولا بأس به، لانها مسألة
اجتهادية، فتناط برأي (3) الحاكم.
(هامش)
(1) في ج 13: 386. (2) المبسوط 8: 255. (3) في (أ، ث): بنظر. (*)