مسالك الأفهام - ج15

الصفحة السابقة الصفحة التالية

مسالك الأفهام - ج15

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 51

وله دفعه ما دام مقبلا، ويتعين الكف مع إدباره. ولو ضربه فعطله لم يذفف عليه، لاندفاع ضرره. ولو ضربه مقبلا، فقطع يده، فلا ضمان على الضارب في الجرح، ولا في السراية. ولو ولى فضربه أخرى، فالثانية مضمونة. فإن اندملت فالقصاص في الثانية. ولو اندملت الاولى، وسرت الثانية، ثبت القصاص في النفس. ولو سرتا، فالذي يقتضيه المذهب، ثبوت القصاص بعد رد نصف الدية.

غسله وتكفينه لا يلحق إلا من قتل في جهاد بين يدي إمام عادل، كما سبق (1) في محله، أما من قتل دون ماله ونحوه فهو كالشهيد في الثواب لا في باقي الاحكام. وقد روي عن الصادق عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (من قتل دون عقال فهو شهيد) (2). والمراد به ذلك، جمعا بين الاخبار. قوله: (وله دفعه ما دام... إلخ). إذا ضربه مقبلا دفعا له فلا ضمان، كما علم من الاخبار السابقة. وأما إذا ولى عنه مدبرا لم يكن له ضربه، لان الضرب إنما يكون على وجه الدفع، فإذا ولى فقد زال ذلك. فإن فعل حينئذ كان ضامنا لما يجنيه. ثم إن سرت الضربة الاولى إلى نفسه فلا ضمان، لانها سراية جرح مباح. وإن سرت الثانية خاصة ضمنه. وإن سرتا معا إلى النفس، قال الشيخ في المبسوط (3): لاقصاص في

(هامش)

(1) راجع ج 1: 82. (2) التهذيب 6: 157 ح 282 وفيه: دون عياله، الوسائل 11: 91 ب (46) من أبواب جهاد العدو ح 5.(3) المبسوط 8: 75 - 76. (*)

ص 52

ولو قطع يده مقبلا، ورجله مدبرا، ثم يده مقبلا، ثم سرى الجميع، قال في المبسوط: عليه ثلث الدية إن تراضيا [بالدية]. وإن أراد الولي القصاص، جاز بعد رد ثلثي الدية. أما لو قطع يده، ثم رجله مقبلا، ويده الاخرى مدبرا، وسرى الجميع، فإن توافقا على الدية فنصف الدية، وإن طلب القصاص رد نصف الدية. والفرق: أن الجرحين هنا تواليا، فجريا مجرى الجرح الواحد، وليس كذلك في الاولى. وفي الفرق عندي ضعف. والاقرب أن الاولى كالثانية، لان جناية الطرف يسقط اعتبارها مع السراية، كما لو قطع يده وآخر رجله، ثم قطع الاول يده الاخرى، فمع السراية هما سواء في القصاص والدية.

النفس، لكن يجب القصاص في اليد - وعنى به: لو كانت الثانية يدا - أو نصف دية النفس. وإلى رده أشار المصنف - رحمه الله - بقوله: (فالذي يقتضيه المذهب ثبوت القصاص بعد رد نصف الدية). وإنما كان ذلك مقتضى المذهب لما سيأتي (1) إن شاء الله تعالى من أن المقتول عمدا بسببين أحدهما من العامد والاخر غير مضمون عليه، يجوز الاقتصاص منه بعد أن يرد عليه ما قابل الجناية الاخرى، وهو نصف الدية، فليكن هنا كذلك. وهذا هو الحق، وبه قطع المتأخرون (2) من غير التفات إلى خلاف الشيخ. قوله: (ولو قطع يده مقبلا... إلخ).

(هامش)

(1) في ص: 82. (2) قواعد الاحكام 2: 273. (*)

ص 53

إذا حصلت السراية من ثلاث ضربات أحدها مضمون، فإن توالت الضربتان الجائزتان فلا إشكال في أن الثابت نصف الدية، أو المردود على تقدير إرادة الولي القصاص، لانه مات بسببين أحدهما مضمون والاخر غير مضمون، ولا نظر إلى زيادة أحد السببين على الاخر. وقد وافق الشيخ - رحمه الله - على ذلك. وأما إذا تفرقت الضربات الجائزة، كما لو قطع يده مقبلا ثم رجله مدبرا ثم يده الاخرى مقبلا، فقد قال الشيخ في المبسوط (1): إنه مع موته بذلك يكون على القاتل ثلث الدية، فارقا بين الصورتين: بأن القطعين المباحين (2) لما تواليا صارا كالقطع الواحد، فلم يضمن، بخلاف ما إذا تفرقا، فإن الاول لما كان موصوفا بالاباحة والثاني بالتحريم والثالث كالاول، فقد حصل بين القطعين ما ليس من جنسه، فلم يبن أحدهما على الاخر، وجعل الجميع بمنزلة ثلاثة أسباب، فتوزع عليها الدية. والمصنف - رحمه الله - استضعف هذا الفرق، واختار أن عليه النصف، وتبعه المتأخرون (3)، محتجا بأن جناية الطرف يسقط اعتبارها مع السراية إلى النفس، كما لو تخلل بين جرحي عاد جرح عاد آخر، فإنه مع السراية يتساويان دية وقصاصا، والشيخ وافق على هذا. وربما فرق (4) بين هذا وبين المتنازع: بأن المجانسة هنا حاصلة، إذ

(هامش)

(1) المبسوط 8: 76.(2) كذا في الحجريتين ونسخة بدل (خ)، ولعله الصحيح، وفي سائر النسخ الخطية: المتأخرين. (3) قواعد الاحكام 2: 273، الدروس الشرعية 2: 59. (4) انظر غاية المراد: 355. (*)

ص 54

مسائل من هذا الباب: الاولى: لو وجد مع زوجته أو مملوكته أو غلامه، من ينال دون الجماع، فله دفعه. فإن أتى الدفع عليه فهو هدر.

الجراحات الثلاث [غير] (1) مضمونة، بخلاف المتنازع، فإن ثانيها خاصة مضمون، فلا يمكن البناء. ورد (2) بأن الجرح الثاني بالنسبة إلى الجارح الاول غير مضمون، وقد تخلل بين الجرحين المضمونين عليه جرح غير مضمون عليه، فلم يكن مجانسا لذلك، فإذا لم يمنع هذا من البناء فكذا الاخر. ومختار المصنف - رحمه الله - هو الاقوى. قوله: (لو وجد مع زوجته... إلخ). لان ذلك من جملة الدفاع الجائز أو الواجب عن العرض. وفي حكمهم الدفاع عن الولد. ويحتمل إلحاق جميع المحارم. واحترز بقوله: (من ينال دون الجماع) عما لو بلغ حده، فإن له حينئذ قتل الزاني بالزوجة كما مر (3). وفي إلحاق المملوكة والغلام بها وجه. والحكم بكون المدفوع هدرا فيما بينه وبين الله تعالى. وأما في الظاهر، فإن أقام البينة على ذلك فلا شي عليه، وإلا فالقول قول ولي المقتول إنه لا يعلمبكون ذلك منه، وله القود أو الدية. وقد تقدم (4) مثله.

(هامش)

(1) من (أ، ث، خ) والحجريتين، ولم ترد في (ت، د، ط، م)، وهي مخلة بالمعنى، والظاهر أنها من زيادة النساخ. (2) انظر غاية المراد: 355. (3 و4) في ج 14: 397. (*)

ص 55

الثانية: من اطلع على قوم، فلهم زجره. فلو أصر فرموه بحصاة أو عود، فجنى ذلك عليه، كانت الجناية هدرا. ولو بادره من غير زجر، ضمن. ولو كان المطلع رحما لنساء صاحب المنزل، اقتصر على زجره. ولو رماه والحال هذه، فجنى عليه، ضمن. ولو كان من النساء مجردة، جاز زجره ورميه، لانه ليس للمحرم هذا الاطلاع.

قوله: (من اطلع على قوم... إلخ). كما يدافع عن الحريم بالفعل المحرم، فكذا مع النظر المحرم، لاشتراكهما في انتهاك العرض بالمحرم. وفي حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (أيما رجل اطلع على قوم في دارهم لينظر إلى عوراتهم، فرموه وفقؤوا عينه أو جرحوه فلا دية له، وقال: من بداء فاعتدى فاعتدي عليه فلا قود له) (1). وروى العلا بن الفضيل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إذا اطلع الرجل على قوم يشرف عليهم، أو ينظر من خلل شي لهم، فرموه فأصابوه فقتلوه أوفقؤوا عينه، فليس عليهم غرم، وقال: إن رجلا اطلع من خلل حجرة رسول الله صلى الله عليه وآله، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله بمشقص (2) ليفقأ عينه

(هامش)

(1) الكافي 7: 290 ح 1، التهذيب 10: 206 ح 813، الوسائل 19: 50 ب (25) من أبواب القصاص في النفس ح 7. (2) المشقص كمنبر: نصل عريض، أو سهم فيه ذلك... القاموس 2: 306. (*)

ص 56

الثالثة: لو قتله في منزله، فادعى أنه أراد نفسه أو ماله، وأنكر الورثة، فأقام هو البينة أن الداخل عليه كان ذا سيف مشهور مقبلا على صاحب المنزل، كان ذلك علامة قاضية برجحان قول القاتل، ويسقط الضمان. الرابعة: للانسان دفع الدابة الصائلة عن نفسه، فلو تلفت بالدفع، فلا ضمان.

فوجده قد انطلق، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أي خبيث أما والله لو ثبت لي لفقأت عينك) (1). ولا فرق في ذلك بين الرحم وغيره، حيث يحرم على الرحم ذلك النظر، كما لو كانت المرأة مجردة. أما مع عدمه فيفرق بين الرحم وغيره، حيث يجوز نظره شرعا. وحيث يجوز الزجر لو توقف على الضرب فجنى به لم يضمن، لانه من ضروب الدفاع الذي لا يترتب عليه ضمان. قوله: (لو قتله في منزله... إلخ). لان علم الشاهد بقصد الداخل القتل مما يتعذر، فيكتفى بالقرائن الحالية الدالة عليه، وتقبل الشهادة عليه بذلك. ومع انتفاء البينة فالقول قول الوارث، لاصالة عصمة المسلم.قوله: (للانسان دفع الدابة الصائلة... إلخ).

(هامش)

(1) الكافي 7: 291 ح 5، التهذيب 10: 207 ح 818، الوسائل 19: 49 الباب المتقدم ح 6. (*)

ص 57

الخامسة: لو عض على يد إنسان، فانتزع المعضوض يده، فندرت أسنان العاض، كانت هدرا. ولو عدل إلى تخليص نفسه بلكمه، أو جرحه إن تعذر التخلص بالاخف، جاز. ولو تعذر ذلك، جاز أن يبعجه (1) بسكين أو خنجر. ومتى قدر على التخلص بالاسهل، فتخطى إلى الاشق، ضمن. السادسة: الزاحفان العاديان، يضمن كل منهما ما يجنيه على الاخر. ولو كف أحدهما، فصال الاخر، فقصد الكاف الدفع، لم يكن عليه ضمان إذا اقتصر على ما يحصل به الدفع، والاخر يضمن.

كما يجوز دفع الادمي الداخل عليه يريد نفسه أو ماله، يجوز دفع الدابة كذلك ونحوه، لاشتراك الامرين في الدفاع المأذون فيه. ولا ضمان مع توقف الدفاع على قتلها أو إنزال عيب بها. قوله: (لو عض على يد إنسان... إلخ). ندرت بالنون أي: سقطت. وإنما كان هدرا لانه متعد بالفعل، والفعل معه دفاع فلا يكون مضمونا، مع مراعاة التخلص بالاسهل فالاسهل. وكذا لو أفضى التخلص إلى جرحه وغيره من أنواع الاذى حيث لا يمكن بدونه، كالتخلص بغيره من أنواع الدفاع. وهو واضح. قوله: (الزاحفان العاديان... إلخ). احترز بالعاديين عما لو كان أحدهما محقا، كزحف الامام، فإن مقاتله عاد خاصة، فيكون الضمان مختصا به. ويتحقق عدوانهما بقصد كل منهما الاخر للقتل أو أخذ المال أو ملك

(هامش)

(1) بعج بطنه بالسكين: شقه فزال ما فيه من موضعه وبدا متعلقا. لسان العرب 2: 214. (*)

ص 58

ولو تجارح اثنان، وادعى كل منهما أنه قصد الدفع عن نفسه، حلف المنكر، وضمن الجارح. السابعة: إذا أمره الامام بالصعود إلى نخلة، أو النزول إلى بئر فمات، فإن أكرهه، قيل: كان ضامنا لديته. وفي هذا الفرض منافاة للمذهب، ويتقدر في نائبه. ولو كان ذلك لمصلحة عامة، كانت الدية في بيت المال. وإن لم يكرهه، فلا دية أصلا.

البلاد، ونحو ذلك من الامور التي لا تسوغ شرعا لذلك القاصد، فيضمن كل منهما ما يجنيه على الاخر في النفس والمال. ويتصور كون أحدهما عاديا دون الاخر حيث لا يكون ذلك بإذن الامام، إذا قصد أحدهما دفاع صاحبه، فلا ضمان على القاصد، لانه واجب أو جائز كما مر (1)، إذا اقتصر على ما يحصل به الدفع، والاخر ضامن. قوله: (ولو تجارح اثنان... إلخ). إنما قدم قول المنكر لان الاصل في نفس المسلم أن تكون محترمة، فمدعي المسقط للضمان يحتاج إلى البينة، والاخر منكر. وحينئذ فيحلف كل منهما للاخر على نفي ما يدعيه، ويثبت الجرحان بالدية لا بالقصاص. وإن كانت الدعوى على العمد، فمع اتفاقهما في مقدار الدية يتهاتران، ومع الاختلاف يدفع فاعل (2) الزائد التكملة. قوله: (إذا أمره الامام بالصعود... إلخ).

(هامش)

(1) في ص: 49. (2) في (ت): يدفع من عليه الزائد. (*)

ص 59

الثامنة: إذا أدب زوجته تأديبا مشروعا فماتت، قال الشيخ: عليه ديتها، لانه مشروط بالسلامة. وفيه تردد، لانه من جملة التعزيرات السائغة. ولو ضرب الصبي أبوه، أو جده لابيه تأديبا فمات، فعليه ديته في ماله.

إذا أمر الامام أحدا بفعل كصعود نخلة والنزول إلى بئر فاتفق تلفه، قيل: كان الامام ضامنا له إن أكرهه عليه، وإلا فلا، لان مثل هذا الفعل مما لا يجب على الفاعل، فيكون إكراهه عليه مجبورا بالضمان. والمصنف - رحمه الله - استضعف هذا القول من حيث إن عصمته تمنع من الاكراه على فعل لا يجب على المأمور. وعلى تقدير جواز إكراهه لا يجامع الحكم بضمانه. والحق أنه متى كان في الفعل مصلحة عامة فأمره به وجب عليه الامتثال، ولا ضمان عليه، لان طاعته واجبة، وإن لم يكن كذلك لم يتحقق أمره به، فضلا عن إكراهه. نعم، يتصور ذلك في نائبه، لعدم اشتراط عصمته. فإن كان إكراهه عليه لمصلحة عامة فديته في بيت المال كخطاء الحكام، وإلا ففي ماله. ولو لم يكرهه فلا ضمان. وفي الدروس (1) جعل ديته مع أمر الامام له به لمصلحة المسلمين في بيت المال. وهو حسن. قوله: (إذا أدب زوجته تأديبا... إلخ).ظاهرهم الاتفاق على أن تأديب الولد مشروط بالسلامة، وأنه يضمن ما

(هامش)

(1) الدروس الشرعية 2: 60. (*)

ص 60

التاسعة: من به سلعة، إذا أمر بقطعها فمات، فلا دية له على القاطع. ولو كان مولى عليه، فالدية على القاطع إن كان وليا، كالاب والجد للاب. وإن كان أجنبيا، ففي القود تردد، والاشبه الدية في ماله لا القود، لانه لم يقصد القتل.

يجنى عليه بسببه. وإنما الخلاف في تأديب الزوجة، فالشيخ (1) وجماعة (2) ادعوا أن الحكم فيها كذلك. وبه قطع في الدروس (3).والمصنف - رحمه الله - استشكل ذلك من حيث إنه تعزير سائغ، فلا يترتب عليه ضمان. ويشكل بأن ذلك وارد في تأديب الولد، لان الفرض وقوعه سائغا، فلو كان جوازه موجبا لعدم الضمان ثبت فيهما. والفرق بينهما بالاتفاق على ضمانه دونها، فيرجع إلى الاصل، في محل المنع. نعم، المقتضي للجواز في تأديبها أقوى مدركا، حيث إنه منصوص القرآن بقوله تعالى: (واضربوهن) (4) إلا أن ذلك لا يخرج عن حكم الاصل، لانا نتكلم في تعزير الولد على وجه يجوز.قوله: (من به سلعة... إلخ). السلعة بكسر السين عقدة تكون في الرأس أو البدن، فإذا قطعها قاطع، فإن كان بإذن من هي فيه وهو كامل، ولم يكن قطع مثلها مما يقتل غالبا، فاتفق موته، فلا دية على القاطع، لانه فعل مأذون فيه لاجل الاصلاح. وإن كان مما يقتل غالبا فمقتضى القواعد الاتية أنه لا ينفعه الاذن في سقوط الضمان.

(هامش)

(1) المبسوط 8: 66. (2) إرشاد الاذهان 2: 188. (3) الدروس الشرعية 2: 61. (4) النساء: 34. (*)

ص 61

وإنما أطلق المصنف - رحمه الله - الحكم بعدم الضمان بناء على الغالب من أن قطعها لا يقتضي الهلاك. وإن كان بغير إذنه ضمن الدية، لانه لم يقصد القتل. وفي الدروس (1) أطلق الحكم بالقصاص حينئذ على القاطع، قاطعا به. ولو كان المقطوع مولى عليه، فإن كان القاطع وليا أو بإذنه ضمن الولي الدية. ويحتمل ضمان القاطع بإذن الولي، لان ذلك بمنزلة المداواة المضمون ما يتلف بسببها، وإن اجتهد الفاعل وكان فعله بالاذن. ولو كان بغير إذن الولي فاتفق القتل، قيل: وجب القتل، لانه حصل بفعله العدوان. ويضعف بأن ذلك غير كاف في ثبوت القود، بل لابد معه من قصد القتل إذا لم يكن الفعل مما يقتل غالبا، وهما منفيان هنا، فتجب الدية خاصة، كما اختاره المصنف رحمه الله.

(هامش)

(1) الدروس الشرعية 2: 61. (*)

ص 63

كتاب القصاص

ص 65

كتاب القصاص وهو: قسمان

القسم الاول في قصاص النفس

والنظر فيه يستدعي فصولا:

الفصل الاول في الموجب

وهو إزهاق النفس المعصومة المكافئة، عمدا عدوانا. ويتحقق العمد: بقصد البالغ العاقل إلى القتل بما يقتل غالبا.

قوله: (كتاب القصاص... إلخ). هو فعال من قص أثره أي: تبعه. والمراد به هنا القود، لانه يتبع أثر الجاني، فيفعل به مثل فعله. والاصل فيه قبل الاجماع قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب) (1) وغيرها من الايات (2). قوله: (في الموجب وهو إزهاق النفس... إلخ). إزهاق النفس إخراجها، قال الجوهري: (زهقت نفسه زهوقا أي: خرجت) (3). وهو هنا مجاز في إخراجها عن التعلق بالبدن، إذ ليست داخلة فيه حقيقة.

(هامش)

(1) البقرة: 179. (2) البقرة: 178، المائدة: 45، الاسراء: 33. (3) الصحاح 4: 1493. (*)

ص 66

ولو قصد القتل بما يقتل نادرا، فاتفق القتل، فالاشبه القصاص. وهل يتحقق، مع القصد إلى الفعل الذي يحصل به الموت، وإن لم يكن قاتلا في الغالب، إذا لم يقصد به القتل، كما لو ضربه بحصاة أو عود خفيف؟ فيه روايتان: أشهرهما أنه ليس بعمد يوجب القود. ثم العمد: قد يحصل بالمباشرة، وقد يحصل بالتسبيب. أما المباشرة:

والمراد بالمعصومة التي لا يجوز إتلافها، من العصم وهو المنع. والمراد بالمكافئة المساوية لنفس المزهق لها في الإسلام والحرية وغيرهما من الاعتبارات. واحترز بقيد العدوان عن نحو المقتول قصاصا، فإنه يصدق عليه التعريف ولكن لا عدوان فيه. ويمكن إخراجه بقيد المعصومة، فإن غير المعصوم أعم من كونه بالاصل كالحربي، والعارض كالقاتل على وجه يوجب القصاص. ولكنه أراد بالمعصومة ما لا يباح إزهاقها للكل، وبالعدوان إخراج ما يباح قتله بالنسبة إلى شخص دون آخر، فإن القاتل معصوم بالنسبة إلى غير ولي القصاص.ويمكن أن يريد بالعدوان إخراج فعل الصبي والمجنون، فإن قتلهما للنفس لا يوجب عليهما القصاص، لانه لا يعد عدوانا، لعدم التكليف، فإن العدوان هنا بمعنى المحرم، وهو منفي عنهما. والاولى إخراجهما بقيد العمد، لما سيأتي من تفسيره بأنه: (قصد البالغ العاقل... إلخ). قوله: (ولو قصد القتل بما يقتل نادرا... إلخ).

ص 67

فكالذبح، والخنق، وسقي السم القاتل، والضرب بالسيف والسكين والمثقل، والحجر الغامز، والجرح في المقتل ولو بغرز الابرة. وأما التسبيب: فله مراتب.

المرتبة الاولى: انفراد الجاني بالتسبيب المتلف.

وفيه صور:

الاولى: لو رماه بسهم فقتله، قتل [به]، لانه مما يقصد به القتل غالبا. وكذا لو رماه بحجر المنجنيق. وكذا لو خنقه بحبل، ولم يرخ عنه حتى مات، أو أرسله منقطع النفس أو ضمنا حتى مات.

لا خلاف في تحقق العمد بقصد القتل بما يقتل غالبا، لصدق التعمد فيه لغة وعرفا. وفي معناه الضرب بما يقتل غالبا وإن لم يقصد القتل، لان القصد إلى الفعل حينئذ كالقصد إلى القتل. وإنما الخلاف في موضعين: أحدهما: ما إذا قصد القتل بما (1) يقتل نادرا، بل بما يحتمل الامرين، فقيل: إنه عمد أيضا، لتحقق القصد إلى القتل، فيدخل في العموم (2). وقيل: يكون خطاء، نظرا إلى عدم صلاحية الالة للقتل غالبا، فلا يؤثر القصد (3) بدونها، وللرواية الاتية. والاظهر الاول. والثاني: إذا كان الفعل مما لا يحصل به القتل غالبا، ولا قصد القتل به، ولكن قصد الفعل فاتفق القتل، كالضرب بالحصاة والعود الخفيف. وفي إلحاقه بالعمد في وجوب القود قولان:

(هامش)

(1) في إحدى الحجريتين: بما لا يقتل غالبا. (2) انظر الهامش (1 - 2) في ص: 65. (3) في (ط) والحجريتين: القتل. (*)

ص 68

أحدهما: أنه عمد يجب فيه القود. وهو اختيار الشيخ في المبسوط (1)، لرواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (لو أن رجلا ضرب رجلا بخزفة أو آجرة أو بعود فمات كان عمدا) (2). ومثلها رواية جميل بن دراج، عن بعض أصحابه، عن أحدهما عليهما السلام قال: (قتل العمد كل ما عمد به الضرب ففيه القود) (3). ورواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن العمد كل من اعتمد شيئا فأصابه بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بوكزة) (4). وفي الرواية الاولى ضعف بعلي بن أبي حمزة، وفي الثانية إرسال، وفي الثالثة في طريقها محمد بن عيسى عن يونس، وهو ضعيف. والثاني - وهو الاشهر، بل الاظهر -: أنه ليس بعمد يوجب القود، بل شبيه عمد، لعدم تعمد القتل بالقصد إليه، ولا بالنظر إلى الفعل الذي في معناه. ولصحيحة أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (أرمي الرجل بالشي الذي لا يقتل مثله، قال: هذا خطاء، ثم أخذ حصاة صغيرة فرمى بها، قلت: أرمي الشاة فأصابت رجلا، قال: هذا الخطاء الذي لا شك فيه، والعمد الذي يضرب بالشي الذي يقتل بمثله) (5).

(هامش)

(1) المبسوط 7: 17. (2) الكافي 7: 279 ح 7، الفقيه 4: 81 ح 258، التهذيب 10: 156 ح 626، الوسائل 19: 26 ب (11) من أبواب القصاص في النفس ح 8. (3) الكافي 7: 278 ح 1، التهذيب 10: 155 ح 623، الوسائل 19: 25 الباب المتقدم ح 6.(4) الكافي 7: 278 ح 2، التهذيب 10: 155 ح 622، الوسائل 19: 24 الباب المتقدم ح 3. (5) الكافي 7: 280 ح 10، التهذيب 10: 157 ح 631، الوسائل 19: 25 الباب المتقدم ح 7. (*)

ص 69

أما لو حبس نفسه يسيرا، لا يقتل مثله غالبا، ثم أرسله فمات، ففي القصاص تردد. والاشبه القصاص إن قصد القتل، أو الدية إن لم يقصد أو اشتبه القصد. الثانية: إذا ضربه بعصا، مكررا ما لا يحتمله مثله بالنسبة إلى بدنه وزمانه، فمات فهو عمد. ولو ضربه دون ذلك، فأعقبه مرضا ومات، فالبحث كالاول. ومثله لو حبسه، ومنعه الطعام والشراب، فإن كان مدة لا يحتمل مثله البقاء فيها فمات فهو عمد.

ورواية يونس، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن ضرب رجل رجلا بالعصا أو بحجر فمات من ضربة واحدة قبل أن يتكلم فهو شبيه العمد، والدية على القاتل، وإن علاه وألح عليه بالعصا أو بالحجارة حتى يقتله فهو عمد يقتل به، وإن ضربه ضربة واحدة فتكلم ثم مكث يوما أو أكثر من يوم ثم مات فهو شبيه العمد) (1). قوله: (أما لو حبس نفسه يسيرا... إلخ). الحكم في هذه [المسألة] (2) متفرع على السابق، فإن هذا الفعل مما لا يقتل غالبا، فإن انضم إليه قصد القتل فهو عمد على أصح القولين، وإلا فلا على أظهرهما. قوله: (إذا ضربه بعصا مكررا... إلخ). الحكم بكون القتل عمدا في الاول واضح، لان الضرب بحسب حال

(هامش)

(1) الكافي 7: 280 ح 9، التهذيب 10: 157 ح 628، الوسائل 19: 25 الباب المتقدم ح 5. (2) من (خ). (*)

ص 70

المضروب - لكونه (1) صغيرا [أو مريضا] (2) أو ضعيف الجسم ونحوه - أو بحسب العوارض اللاحقة لزمانه من الحر والبرد، يصير (3) مما يقتل غالبا، فيكون عمدا كما علم سابقا. وأما الثاني فلان ضربه وإن لم يكن قاتلا غالبا ولا قصده، إلا أن إعقابه للمرض الذي حصل به التلف صير الامرين بمنزلة سبب واحد، وهو مما يقتل غالبا، وإن كان الضرب على حدته مما لا يقتل. ويؤيده ما سيأتي (4) من أن سراية الجرح عمدا توجب القود وإن لم يكن الجرح قاتلا، وهذا من أفراده، لان المرض مسبب عن الجرح، ومنه نشاء الهلاك، فكان في معنى السراية. وبهذا الحكم صرح في القواعد (5) والتحرير (6). ولا يخلو من إشكال، لان المعتبر في العمد - كما تقدم (7) - إما القصد إلى القتل أو فعل ما يقتل غالبا، والمفروض هنا خلاف ذلك، وإنما حدث القتل من الضرب والمرض المتعقب له، والمرض ليس من فعل الضارب وإن كان سببا فيه. ولاجل هذا الاشكال فسر بعضهم (الاول) في قول المصنف: (فالبحثكالاول) بما فصله سابقا في الصورة الاولى من قوله: (أما لو حبس نفسه يسيرا لا يقتل مثله غالبا) إلى قوله: (والاشبه القصاص إن قصد القتل، أو الدية إن لم

(هامش)

(1) في (ت، ط): ككونه. (2) من (د). (3) كذا في (د، م)، وفي سائر النسخ: ويصير. (4) في ص: 74. (5) قواعد الاحكام 2: 278. (6) تحرير الاحكام 2: 241. (7) في ص: 65. (*)

ص 71

الثالثة: لو طرحه في النار فمات، قتل به، ولو كان قادرا على الخروج، لانه قد يشده، ولان النار قد تشنج الاعصاب بالملاقاة، فلا يتيسر له الفرار. أما لو علم أنه ترك الخروج تخاذلا، فلا قود، لانه أعان على نفسه. وينقدح أنه لا دية له أيضا، لانه مستقل بإتلاف نفسه. ولا كذا لو جرح، فترك المداواة فمات، لان السراية مع ترك المداواة من الجرح المضمون، والتلف من النار ليس بمجرد الالقاء، بل بالاحراق المتجدد، الذي لولا المكث لما حصل. وكذا البحث لو طرحه في اللجة. ولو فصده فترك شده، أو ألقاه في ماء فأمسك نفسه تحته، مع القدرة على الخروج، فلا قصاص ولا دية.

يقصد) فيكون الحكم هنا أن الضرب المعقب للمرض عمد إن قصد به القتل، ويوجب الدية إن لم يقصد، لا أنه عمد مطلقا.وهذا التفسير وإن وافق الظاهر من الحكم إلا أنه غير مراد للمصنف - رحمه الله -، لان حكمه وحكم غيره في خصوص هذه المسألة بكونه عمدا مطلقا. والعلامة فرض هذه المسألة على وجه لا يحتمل سوى ذلك، وإن كانت عبارة المصنف لقرب المسألة الاخرى (1) محتملة احتمالا مرجوحا. قوله: (لو طرحه في النار فمات... إلخ). هنا مسائل متشابهة الاطراف:

(هامش)

(1) في (أ، ث، ل): الاولى. (*)

ص 72

، فإن لم يمكنه الخروج منها، بأن كانت في حفيرة لا يقدر على الخروج منها على ذلك الوجه، أو ضعيف الحركة فقهرته النار، أو مكتوفا، ونحو ذلك، فلا إشكال في القود، لان النار على هذا الوجه مما يقتل. وإن أمكنه الخروج، وذلك قد يعلم من قبله، بأن يقول: إني قادر على الخروج ولست بخارج، أو بالقرائن المفيدة للعلم، بأن كان وقوعه في طرفها بحيث يصير خارجا عنها بسهولة وسرعة لا يأتي على نفسه، فلا قود، لانه أعان على نفسه. وهل تثبت الدية؟ فيه وجهان: أحدهما: الثبوت، لانه هو الجاني بإلقائه في النار. وترك التخلص مع القدرة لا يسقط الضمان عن الجاني، كما لو جرحه فترك المجروح مداواة نفسه حتى مات، فإنه ضامن.والثاني: أنه لا دية عليه أيضا. وهو الذي اختاره المصنف، وقبله الشيخ في المبسوط (1)، لانه لما قدر على الخلاص فلم يفعل كان هو الذي أهلك نفسه وأتلفها، فهو كما لو خرج منها ثم عاد إليها. ويفارق المجروح إذا لم يداو نفسه، بأن السراية عنه حصلت ولم يزد ذلك بترك التداوي، وليس كذلك الملقى في النار، لانها استأنفت إحراقا وإتلافا غير الاول، فلهذا لم يكن عليه الدية. وهذا أقوى (2).

(هامش)

(1) المبسوط 7: 18 - 19. (2) في (ت، ث، ط، م): قوي. (*)

ص 73

نعم، على الملقي ضمان ما شيطته (1) النار عند وصوله إليها إلى أن يخرج منها في أول أوقات الامكان. ولو مات في النار واشتبه الحال هل كان قادرا على الخروج فتركه تخاذلا أم لا؟ فالحكم فيه كذلك، لوجود السبب المقتضي للضمان، وهو الالقاء مع الشك في المسقط، وهو القدرة على الخروج [فتركه] (2) مع التهاون فيه. ولا يسقط الحكم بثبوت أصل القدرة ما لم يعلم التخاذل عن الخروج، لاحتمال أن يعرض له ما يوجب العجز، من دهش وتحير أو تشنج أعضائه (3)، ونحو ذلك. ومعنى قوله: (يشده) أي: يدهش. قال الجوهري: (يقال: شده الرجل شدها فهو مشدوه: دهش، والاسم الشده، مثل البخل والبخيل، وقال أبو زيد: شده الرجل: شغل لا غير) (4). والثانية: أن يجرحه فيترك مداواة جرحه إلى أن مات. وهنا لا إشكال في الضمان وثبوت القود، وإن كانت المداواة ممكنة. وقد ظهر الفرق بينها وبين مسألة النار، حيث إن التلف هنا مستند إلى الجرح الواقع عدوانا، بخلاف الموت بالنار، فإنه مستند إلى احتراق متجدد عن (5) الاول الواقع عدوانا. والثالثة: أن يطرحه في لجة الماء بحيث لا يمكنه الخروج فغرق، فعليه القود، سواء كان يحسن السباحة أم لا، لان لجة البحر مهلكة على كل حال.

(هامش)

(1) شيطت النار اللحم، إذا أحرقته. لسان العرب 7: 338. (2) من (خ) والحجريتين. (3) في (ت، ث): أعصابه. (4) الصحاح 6: 2237. (5) في (ت) وإحدى الحجريتين: غير. (*)

ص 74

الرابعة: السراية عن جناية العمد، توجب القصاص مع التساوي.فلو قطع يده عمدا فسرت، قتل الجارح. وكذا لو قطع إصبعه عمدا، بآلة تقتل غالبا، فسرت.

وإن كان إلقاؤه بقرب الساحل وهو لا يحسن السباحة، أو يحسنها ولكن كان مكتوفا لا يمكنه الخروج، فالحكم كما لو ألقاه في اللجة، لان ذلك مما يقتل غالبا. وإن كان يحسن السباحة ولم يكن له عنها مانع، أو كان في محل من الماء يمكنه الخروج بغير السباحة فأمسك نفسه ولم يخرج حتى هلك، فلا قود. وفي الدية الوجهان، وأصحهما العدم، لانه السبب في هلاك نفسه. والرابعة: أن يفصده فيترك شده إلى أن ينزف ومات منه، فلا قصاص ولا دية أيضا، لان هلاكه مستند إلى تقصيره في الشد وخروج الدم الواقع بعد الفصد، فكان كهلاكه بالنار المتجددة على الالقاء. وقيل: حكمه حكم مسألة الجرح، لان هلاكه مستند إلى الفصد، ولولاه لما خرج الدم. والفصد وإن كان مأذونا فيه بخلاف الجرح إلا أن جنايته مضمونة، فكان مشاركا للجرح في ذلك، وإن افترقا في أصل الاباحة. قوله: (السراية عن جناية العمد... إلخ). ظاهره عدم الفرق في إيجاب السراية القصاص - إذا كان أصل الجناية عمدا - بين كونها مما يوجبها غالبا أو يوجب القتل كذلك وعدمه، ولا بين أن يقصد بذلك القتل وعدمه. وبهذا المفهوم صرح العلامة في القواعد (1) والتحرير (2).

(هامش)

(1) راجع قواعد الاحكام 2: 279، ولكن لم يصرح بذلك، بل أطلق الحكم بالضمان. (2) تحرير الاحكام 2: 241. (*)

ص 75

الخامسة: لو ألقى نفسه من علو على إنسان عمدا، وكان الوقوع مما يقتل غالبا، فهلك الاسفل، فعلى الواقع القود. ولو لم يكن يقتل غالبا، كان خطاء شبيه العمد، فيه الدية مغلظة، ودم الملقي نفسه هدرا. السادسة: قال الشيخ (1): لا حقيقة للسحر، وفي الاخبار ما يدل على أن له حقيقة. ولعل ما ذكره الشيخ قريب، غير أن البناء على الاحتمال أقرب. فلو سحره فمات، لم يوجب قصاصا ولا دية، على ما ذكره الشيخ رحمه الله. وكذا لو أقر أنه قتله بسحره. وعلى ما قلناه من الاحتمال، يلزمه الاقرار. وفي الاخبار: يقتل الساحر. قال في الخلاف (2): يحمل ذلك على قتله حدا لفساده، لا قودا.

وتمشية هذا الاطلاق على قاعدة العمد السابقة لا يخلو من إشكال. قوله: (لو ألقى نفسه من علو على إنسان... إلخ). هذا جار على قاعدة العمد السابقة، فإن الوقوع من فعله. فإن كان مما يقتل غالبا فهو متعمد للقتل. وإن لم يقتل غالبا فهو فعل مقصود له، فكان شبيه عمد[بقصده] (3). هذا إذا لم يقصد به القتل، وإلا كان عمدا أيضا. قوله: (قال الشيخ: لا حقيقة للسحر... إلخ).

(هامش)

(1) الخلاف 5: 327 - 328 مسألة (14)، المبسوط 7: 260. (2) الخلاف 5: 330 ذيل مسألة (16). (3) من (أ، ث، ت)، وفي الاولين: لقصده. (*)

ص 76

اختلف الفقهاء في أن السحر هل له حقيقة أي: تأثير، بحيث يتغير به حال المسحور، فيمرض ويموت منه، ويتأثر به فيما يقصده الساحر، أم هو مجرد تخييل وشعبذة لا حقيقة له؟ فذهب بعضهم إلى الاول، وآخرون إلى الثاني. واستند الاولون إلى قوله تعالى: (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المر وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) (1). أسند التفريق إليه، وذمهم على تعلم ما يفرقون به بين المر وزوجه، فلو لم يكن له تأثير لم يتوجه عليهم الذم. ولان تأثيره أمر وجداني شائع بين الخلق [كثيرا] (2) قديما وحديثا. وفي الاخبار (3) ما يدل على وقوعه في زمن النبي صلى الله عليه وآله، حتى قيل: إنه صلى الله عليه وآله سحر حتى كان يخيل إليه أنه فعل الشي ولم يفعله. وفيه نزلت المعوذتان (4). واستند الثاني إلى قوله تعالى: (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) (5). أسند إليه مجرد التخييل. وقوله تعالى: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله). ووجه الدلالة أن تأثيره لو كان بالاضرار، فإما أن يتوقف على إذنه تعالى أولا. ويلزم من الاول إذنه تعالى في القبيح، وهو محال. ومن الثاني خلاف ما دلت عليه الاية.

(هامش)

(1) البقرة: 102. (2) من (ث) والحجريتين. (3) راجع تفسير فرات: 619، مجمع البيان 10: 492. (4) انظر التبيان 10: 434، مجمع البيان 10: 495. (5) طه: 66. (*)

ص 77

المرتبة الثانية: أن ينضم إليه مباشرة المجني عليه وفيه صور: الاولى: لو قدم له طعاما مسموما، فإن علم وكان مميزا، فلا قود ولا دية. وإن لم يعلم، فأكل ومات، فللولي القود، لان حكم المباشرة سقط بالغرور.

وأجابوا عن استدلال الاولين بأن نفي الاضرار غير لازم لنفي التأثير، فلا يستلزم نفيه نفيه. إذا تقرر ذلك، فقد اتفق المسلمون على تحريم عمل السحر وكفر مستحله. وأما قتله فقد تقدم (1) الحكم به، وأنه حده، لفساده في الارض. وأما على تقدير قتله أحدا بالسحر، فلا طريق إلى معرفته بالبينة، لان الشاهد لا يعرف قصده، ولا شاهد تأثير السحر، وإنما يثبت بإقرار الساحر. فإذا قال: قتلته (2) بسحري، فمن قال: لا تأثير له، لم يوجب عليه بالاقرار شيئا. والاقوى الثبوت على القولين، عملا بإقراره، وإلغاء للمنافي على القول به. ثم إن قال مع ذلك: إن سحره مما يقتل غالبا، فقد أقر بالعمد. وإن قال: نادرا، استفسر، فإن أضاف إليه قصده قتله فهو عمد أيضا، وإلا فهو شبيه العمد. وإن قال: أخطأت من اسم غيره إلى اسمه، فهو إقرار بالخطاء، فيلزمه حكم ما أقر به. ولكن في صورة الخطاء لا يلزم إقراره العاقلة، بل تجب الدية في ماله. نعم، لو صدقوه أخذناهم بإقرارهم. قوله: (لو قدم له طعاما مسموما... إلخ).

(هامش)

(1) في ج 14: 454. (2) في (د): قتله سحري. (*)

ص 78

ولو جعل السم في طعام صاحب المنزل، فوجده صاحبه فأكله فمات، قال في الخلاف (1) والمبسوط (2): عليه القود. وفيه إشكال. الثانية: لو حفر بئرا بعيدة في طريق، ودعا غيره مع جهالته، فوقع فمات، فعليه القود، لانه مما يقصد به القتل غالبا.

هذا إذا كان السم الموضوع في الطعام مما يقتل مثله غالبا بالنظر إلى كميته وكيفيته. فلو كان مما يقتل كثيره فقدم إليه قليله، فإن قصد القتل فكالكثير، وإلا فهو شبيه العمد. قوله: (ولو جعل السم في طعام... إلخ). منشأ الاشكال من حيث إنه لم يلجئه إلى الاكل، فلم يلزمه القصاص، ووجب عليه الدية، لانه قتله بالسم، وهو مغرور في أكله، والغار جاعل السم. والاشهر ما اختاره الشيخ، لضعف المباشرة بالغرور، فكان كما لو قدمه إليه. قوله: (لو حفر بئرا بعيدة... إلخ). أي: بعيدة القعر بحيث يقتل الوقوع فيها غالبا. وفي حكم دعائه جعلها في ملك الواقع، كما لو وضع السم في طعامه. ولو كان الوقوع لا يقتل غالبا وقصد القتل فكذلك، وإلا فهو شبيه عمد.

(هامش)

(1) الخلاف 5: 171 مسألة (32). (2) المبسوط 7: 46. (*)

ص 79

الثالثة: لو جرحه، فداوى نفسه بدواء سمي، فإن كان مجهزا فالاول جارح، والقاتل هو المقتول، فلا دية له. ولوليه القصاص في الجرح، إن كان الجرح يوجب القصاص، وإلا كان له أرش الجراحة. وإن لم يكن مجهزا، وكان الغالب فيه السلامة، فاتفق [فيه] الموت، سقط ما قابل فعل المجروح، وهو نصف الدية، وللولي قتلالجارح بعد رد نصف الدية. وكذا لو كان غير مجهز، وكان الغالب معه التلف. وكذا البحث لو خاط جرحه في لحم حي، فسرى منهما، سقط ما قابل فعل المجروح، [وهو نصف الدية]، وكان للولي قتل الجارح، بعد رد نصف ديته.

قوله: (لو جرحه فداوى نفسه... إلخ). إذا جرحه فداوى نفسه بدواء أعان على قتله، فإن كان الجرح الاول متلفا، وقد انتهى المجروح إلى حركة المذبوح، فالاول هو القاتل، دون الثاني وإن كان مجهزا. وإن لم يكن الجرح موجبا للتلف بنفسه، فإن كان الدواء السمي مستقلا بالاتلاف فالمجروح هو القاتل، وعلى الجارح عوض الجرح قصاصا أو دية. وإن لم يكن كل منهما مستقلا بالاتلاف فاتفق الهلاك بهما، كان مشتركا بين المقتول والجارح. فإن كان الجرح وقع عمدا فسرايته كذلك، ولو بالشركة كما مر. فللاولياء قتل الجارح بعد أن يردوا عليه نصف الدية في مقابلة الشركة. ولا فرق مع عدم كون الدواء مجهزا بين كون الغالب معه التلف وعدمه، لوجود السببين مع عدم العلم باستناد الهلاك إلى أحدهما، فيسند إليهما معا، لانتفاء المرجح.

(هامش)

(*)

ص 80

المرتبة الثالثة: أن ينضم إليه مباشرة حيوان

وفيه صور:

الاولى: إذا ألقاه إلى البحر، فالتقمه الحوت قبل وصوله، فعليه القود، لان الالقاء في البحر إتلاف بالعادة. وقيل: لا قود، لانه لم يقصد إتلافه بهذا النوع. وهو قوي. أما لو ألقاه إلى الحوت فالتقمه، فعليه القود، لان الحوت ضار بالطبع، فهو كالالة.

قوله: (إذا ألقاه إلى البحر... إلخ). إذا قصد قتله بما يقتل غالبا فلا إشكال في كونه عمدا، مع هلاكه بذلك السبب.أما لو هلك بغيره بحيث لولا ذلك الغير لهلك بالسبب المقصود، كما إذا كان الالقاء في البحر موجبا للتلف غالبا، فرماه فاتفق هلاكه بغيره، كالتقام الحوت له قبل وصوله أو بعده قبل التلف، فهل يجب القود كالسابق؟ فيه قولان: أحدهما: نعم، لان القصد إلى السبب المعين يستلزم القصد إلى مطلق القتل، ضرورة وجود المطلق في المقيد، ومطلق القتل صادق على غير المعين. ولانه قد أتلفه بنفس الالقاء، لحصوله وإن لم يبتلعه الحوت، كما لو ألقي من علو يقتل غالبا فأصابته سكين فقتلته. وهذا اختيار الخلاف (1) والمختلف (2) وجماعة (3).

(هامش)

(1) الخلاف 5: 162 مسألة (22). (2) المختلف: 823. (3) المهذب 2: 464، إيضاح الفوائد 4: 563، غاية المراد: 59، تلخيص الخلاف 3: 135 مسألة (22). (*)

ص 81

الثانية: لو أغرى به كلبا عقورا فقتله، فالاشبه القود، لانه كالالة. وكذا لو ألقاه إلى أسد، بحيث لا يمكنه الاعتصام، فقتله، سواء كان في مضيق أو برية. الثالثة: لو أنهشه حية قاتلا فمات، قتل به. ولو طرح عليه حية قاتلا، فنهشته فهلك، فالاشبه وجوب القود، لانه مما جرت العادة بالتلف معه.

والثاني: عدم وجوب القود، بل الدية، لان تلفه وقع بغير المقصود المعين، فكان كتلفه بغير قصد أصلا، إذ القصد بالنسبة إلى التلف معدوم. وهذا هو الذي قواه المصنف رحمه الله. وفي الاول قوة. قوله: (لو أغرى به كلبا... إلخ). ما اختاره من وجوب القود [حينئذ] (1) هو الاصح، لان المباشر هنا كالالة، فلا ينسب إليه القتل. ووجه العدم: أن الفعل منسوب إلى الكلب والاسد، وهو مختار في فعله، فلم يكن المغري قاتلا وإن كان سببا، فيضمن الدية. هذا إذا لم يمكنه التخلص منه، كما فرضه في الاسد. فلو أمكنه بالهرب أو بقتله أو بالصياح به ونحوه فلا قود، لانه أعان على نفسه بالتفريط.ثم إن كان التخلص الممكن من مطلق أذاه فكإلقائه في الماء فيموت مع قدرته على الخروج. وإن لم يمكن إلا بعد عضة لا يقتل مثلها فكإلقائه في النار كذلك، فيضمن جناية لا يمكنه دفعها. قوله: (لو أنهشه حية قاتلا... إلخ).

(هامش)

(1) من (خ، ط، م). (*)

ص 82

الرابعة: لو جرحه ثم عضه الاسد وسرتا، لم يسقط القود. وهل يرد فاضل الدية؟ الاشبه: نعم. وكذا لو شاركه أبوه، أو اشترك عبد وحر في قتل عبد.

المراد بكونه أنهشه الحية أنه قبضها وأنهشها بدنه، فكان مباشرا للاتلاف عمدا، فلا إشكال في ثبوت القود. أما لو طرحها عليه أو ألجأه إليها، فالكلام في الضمان كما لو أغرى به الكلب أو ألقاه إلى الاسد، ففيه الوجهان. والاصح القود. قوله: (لو جرحه ثم عضه الاسد... إلخ). إذا هلك المقتول بجراحتين إحداهما موجبة للقود والاخرى غير موجبة، فإن رضي الاولياء بالدية فعلى الجارح الضامن (1) - كشريك الاسد - نصف الدية، لانه مات بسببين أحدهما مضمون عليه، فكان عليه النصف. وإن اختار القود فعندنا أن له ذلك، كما لو قتله بشركة ضامن يقاد منه. وذهب بعض العامة (2) إلى عدم ثبوت القود هنا، لان هلاكه بسببين أحدهما غير مضمون أو غير موجب للقود، فلم يكن موجبا للقود تاما. ثم على تقدير اختيار قتله، هل يرد عليه فاضل ديته عن جنايته، وهو هنا النصف؟ مقتضى المذهب ذلك، وبه جزم العلامة في القواعد (3) والتحرير (4) من غير نقل خلاف، لانه مات بسببين أحدهما مضمون على هذا الجارح، وهو قاتل في الجملة وإن كان بمعونة غيره، فيثبت عليه موجبه، ويجمع بين الحقين برد ما

(هامش)

(1) في (خ): الضمان. (2) انظر الحاوي الكبير 12: 130 - 131، المغني لابن قدامة 9: 381. (3) قواعد الاحكام 2: 280. (4) تحرير الاحكام 2: 242. (*)

ص 83

الخامسة: لو كتفه وألقاه في أرض مسبعة، فافترسه الاسد اتفاقا، فلا قود. وفيه الدية.

المرتبة الرابعة: أن ينضم إليه مباشرة إنسان آخر

وفيه صور:

الاولى: لو حفر واحد بئرا. فوقع آخر بدفع ثالث، فالقاتل الدافع دون الحافر. وكذا لو ألقاه من شاهق، فاعترضه آخر فانقد بنصفين قبل وصوله الارض، فالقاتل هو المعترض.

زاد من ديته عن جنايته. ويحتمل عدم الرد، لان الجرح الاخر غير مضمون مطلقا، وإن كان يضمن على بعض الوجوه كجرح الاب، فلا يوزع عليه من الدية شي. ولا يخفى ضعفه. قوله: (لو كتفه وألقاه في أرض... إلخ). وإنما لم يكن عليه القود لان فعل السبع يقع باختياره، وطبعه يختلف في ذلك اختلافا كثيرا، فليس الالقاء في أرضه مما يقتل غالبا. نعم، تجب الدية، لكونه سببا في القتل. قوله: (لو حفر واحد بئرا... إلخ). إذا اجتمع السبب والمباشرة، فقد تغلب المباشرة على السبب، وهو الاكثر، وقد ينعكس، وقد يستويان. وما ذكره هنا حكم الاول. فإذا حفر واحد بئرا، فدفع آخر فيه ثالثا، فالقاتل هو الدافع، لانه المباشر للقتل بما يقتل وهو الالقاء، دون الحافر، لانه السبب البعيد. وكذا لو ألقاه من شاهق، فتلقاه إنسان بسيفه فقده نصفين، أو ضرب رقبته

ص 84

ولو أمسك واحد وقتل آخر، فالقود على القاتل دون الممسك، لكن الممسك يحبس أبدا. ولو نظر لهما ثالث، لم يضمن، لكن تسمل عينه، أي: تفقأ.

قبل أن يصيب الارض، فالقصاص على المتلقي دون الملقي، سواء عرف الملقي الحال أم لم يعرفه. ووجه بأن الالقاء إذا طراء عليه مباشرة مستقلة صار شرطا محضا. وكما لا يجب القصاص على الملقي، لا يجب عليه الضمان أيضا. قوله: (ولو أمسك واحد... إلخ). هذا أيضا من باب اجتماع السبب والمباشر مع تغليب المباشر. والاصل في ذلك قوله صلى الله عليه وآله: (يقتل القاتل، ويصبر الصابر) (1). قيل: معناه أنه يحبس أبدا (2). وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجلين أمسك أحدهما وقتل الاخر، قال: يقتل القاتل، ويحبس الاخر حتى يموت، كما كان حبسه عليه حتى مات) (3). وغيرهما من الاخبار الكثيرة. وقد دل على الحكم الاخير رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام: (أن ثلاثة نفر رفعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام، واحد منهم أمسك رجلا، وأقبل آخر فقتله، والاخر يراهم، فقضى في الرؤية أن تسمل عينه، وفي الذي

(هامش)

(1) سنن الدارقطني 3: 140 ح 175، سنن البيهقي 8: 50 - 51، تلخيص الحبير 4: 15 ح 1683. (2) في (أ، ت): حدا. (3) الكافي 7: 287 ح 1، الفقيه 4: 86 ح 275، التهذيب 10: 219 ح 862، الوسائل 19: 35 ب (17) من أبواب القصاص في النفس ح 1. (*)

ص 85

الثانية: إذا أكرهه على القتل، فالقصاص على المباشر دون الامر. ولا يتحقق الاكراه في القتل، ويتحقق فيما عداه. وفي رواية علي ابن رئاب: يحبس الامر بقتله حتى يموت. هذا إذا كان المقهور بالغا عاقلا. ولو كان غير مميز، كالطفل والمجنون، فالقصاص على المكره، لانه بالنسبة إليه كالالة. ويستوي في ذلك الحر والعبد. ولو كان مميزا عارفا غير بالغ، وهو حر، فلا قود، والدية على عاقلة المباشر. وقال بعض الاصحاب: يقتص منه إن بلغ عشرا. وهو مطرح. وفي المملوك المميز، تتعلق الجناية برقبته، ولا قود. وفي الخلاف: إن كان المملوك صغيرا أو مجنونا، سقط القود، ووجبت الدية. والاول أظهر.

أمسك أن يسجن حتى يموت كما أمسكه، وقضى في الذي قتل أن يقتل) (1). وعمل بمضمونها الشيخ (2)، وتبعه الاصحاب. قوله: (إذا أكرهه على القتل... إلخ). الاكراه لا يتحقق في القتل عندنا، لاشتماله على دفع الضرب بمثله، ومن هذا الباب قيل: لا تقية في الدماء، لانها أبيحت ليحقن بها الدم، فلا تكون سببا لاراقته. ويثبت فيما دون النفس إذا خاف عليها. ثم المكره على القتل إما حر أو عبد. فإن كان حرا وهو بالغ عاقل تعلق به

(هامش)

(1) الكافي 7: 288 ح 4، الفقيه 4: 88 ح 281، التهذيب 10: 219 ح 863، الوسائل 19: 35 الباب المتقدم ح 3. (2) المبسوط 7: 49، الخلاف 5: 173 مسألة (36). (*)

ص 86

القود، لانه قتله عدوانا لاستبقاء (1) نفسه، فصار كما لو قتل المضطر إنسانا فأكله، فإنه يلزمه القصاص. وخالف في ذلك بعض العامة (2)، محتجا بأنه قتله دفعا عن نفسه، فأشبه قتل الصائل. وأوجب القصاص على المكره، لان المكره له كالالة. وأجيب بمنع القياس على الصائل مع وجود الفارق، لان الصائل متعد متمكن من دفعه، ولهذا لا يأثم [قاتل] (3) الصائل، بخلاف المكره، فإنه يأثم كالمختار. وبهذا يبطل كونه آلة. وأما المكره فيخلد الحبس، لرواية علي بن رئاب، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: (في رجل أمر رجلا بقتل رجل، فقال: يقتل الذي قتله، ويحبس الامر بقتله في السجن حتى يموت) (4). ونسبة المصنف الحكم إلى الرواية يؤذن بالتوقف فيه. ولا بأس به، لصحة الرواية.وإن كان غير مميز - صبيا أو مجنونا - فالقود على الامر، لانهما كالالة. ولا فرق هنا بين الحر والعبد. وإن كان مميزا غير بالغ، فإن كان حرا فلا قود، لان عمد الصبي مختارا خطاء فكيف مع الاكراه! وتجب الدية على عاقلة المباشر.

(هامش)

(1) كذا في (ت، م)، وفي سائر النسخ: لاستيفاء. (2) حلية العلماء 7: 467 - 468، بدائع الصنائع 7: 179، المغني لابن قدامة 9: 331. (3) من (ت). (4) الكافي 7: 285 ح 1، الفقيه 4: 81 ح 254، التهذيب 10: 219 ح 864، الاستبصار 4: 283 ح 1071، الوسائل 19: 32 ب (13) من أبواب القصاص في النفس ح 1. (*)

ص 87

والقول بالاقتصاص من الصبي مع (1) بلوغه العشر للشيخ في النهاية (2) والمبسوط (3)، محتجا بالاخبار. وأطلق الصدوق (4) والمفيد (5) الاقتصاص ممن بلغ خمسة أشبار. والمستند رواية السكوني (6) عن الصادق عليه السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام قضى بذلك. والمستند مع شذوذه ضعيف. ولا فرق في البالغ وغير المميز بين الحر والعبد. وأما المميز غير البالغ إذا كان مملوكا فقيل: يتعلق الجناية برقبته، وعلى السيد إذا كان هو المكره السجن كما مر. وهو قول الشيخ في النهاية (7). وقيل: إن كان صغيرا أو مجنونا سقط القود، ووجبت الدية على السيد. وهو قول الشيخ في الخلاف (8)، ولم يفرق في إطلاق كلامه بين المميز وغيره. وقيل: إن كان صغيرا مميزا فلا قود، وتجب الدية معلقة برقبته. وإن كان غير مميز فالقود على السيد. وإن كان كبيرا فالقود متعلق برقبته كما مر. وهذا هو الذي اختاره المصنف - رحمه الله -، وجعله أظهر. وهو اختيار

(هامش)

(1) في (م): بعد. (2) النهاية: 733 و760 - 761. (3) المبسوط 7: 44. (4) المقنع: 523. (5) المقنعة: 748. (6) الكافي 7: 302 ح 1، الفقيه 4: 84 ح 270، التهذيب 10: 233 ح 922، الاستبصار 4: 287 ح 1085، الوسائل 19: 66 ب (36) من أبواب القصاص في النفس ح 1. (7) انظر النهاية: 747، فقد أطلق الحكم في العبد. (8) الخلاف 5: 168 مسألة (30). (*)

ص 88

فروع

الاول: لو قال: اقتلني أو لاقتلنك، لم يسغ القتل، لان الاذن لا يرفع الحرمة. ولو باشر، لم يجب القصاص، لانه [كان مميزا] أسقطحقه بالاذن، فلا يتسلط الوارث.

الشيخ في المبسوط (1). وعليه العمل. وللشيخ قول رابع في الاستبصار (2)، وهو: إن كان سيد العبد معتادا لذلك قتل السيد، وخلد العبد الحبس. وإن كان نادرا قتل العبد، وخلد السيد الحبس، جمعا بين رواية زرارة السابقة (3) الدالة على قتل القاتل وتخليد الامر الحبس، وبين رواية السكوني عن الصادق عليه السلام: (أن أمير المؤمنين عليه السلام قال في رجل أمر عبده أن يقتل رجلا فقتله: هل عبدالرجل إلا كسيفه؟ يقتل السيد، ويستودع العبد السجن) (4). ومثلها رواية إسحاق بن عمار (5)، حملا لهما على من يعتاد قتل الناس، ويلجئ عبيده ويكرههم على ذلك، لانه حينئذ مفسد في الارض. وفي المسألة أقوال أخر نادرة. قوله: (لو قال: اقتلني... إلخ). إذا قال: اقتلني وإلا قتلتك، فهو إذن منه في القتل وإكراه، حيث تجتمع

(هامش)

(1) المبسوط 7: 43. (2) الاستبصار 4: 283 ذيل ح 1073. (3) راجع ص: 86. (4) الكافي 7: 285 ح 3، التهذيب 10: 220 ح 866، الاستبصار 4: 283 ح 1073، الوسائل 19: 33 ب (14) من أبواب القصاص في النفس ح 2. (5) الكافي 7: 285 ح 2، التهذيب 10: 220 ح 865، الاستبصار 4: 283 ح 1072، الوسائل 19: 33 الباب المتقدم ح 1. (*)

ص 89

الثاني: لو قال: اقتل نفسك، فإن كان مميزا فلا شي على الملزم، وإلا فعلى الملزم القود. وفي تحقق إكراه العاقل هنا إشكال.

شرائطه. وقد تقدم (1) أن الاكراه لا يجري في النفس، فلا يجوز له قتله بذلك. فإن باشر وقتله ففي ثبوت القصاص عليه وجهان: أحدهما - وهو الذي قطع به المصنف رحمه الله -: العدم، لانه أسقط حقه بالاذن، فلا يتسلط الوارث عليه، لانه إنما يستحق بما ينتقل إليه عن المورث، والمورث لا حق له هنا بالاذن. ولان الاذن [هنا] (2) شبهة دارئة.والثاني: الثبوت، لان القتل لا يباح بالاذن، فلم يسقط الحق به، كما لو قال: اقتل زيدا وإلا قتلتك، وأشبه إذن المرأة في الزنا ومطاوعتها، فإنه لا يسقط الحد. ويمنع من كون الحق يجب للمورث أولا، لانه لا يثبت إلا بعد الموت، فيجب للورثة ابتداء. وتوقف العلامة في القواعد (3) في الوجهين. والاشهر الاول. فإن لم نقل (4) بالقصاص ففي ثبوت الدية أيضا وجهان، مبنيان على أن الدية تجب للورثة ابتداء عقيب هلاك المقتول، أو تجب للمقتول في آخر جز من حياته ثم ينتقل إليهم. فعلى الاول تجب، ولم يؤثر إذنه. وعلى الثاني لا. ويؤيده أن وصاياه تنفذ منها، وتقضى ديونه، ولو ثبت للورثة ابتداء لما كان كذلك، كزوائد التركة لو قيل بانتقالها إليهم بالموت. قوله: (لو قال: اقتل نفسك... إلخ). إذا قال له: اقتل نفسك من غير أن يكرهه عليه ففعل، فلا شي على الامر

(هامش)

(1) 73 في ص: 85. (2) من (م) والحجريتين. (3) قواعد الاحكام 2: 282. (4) في (أ، ث، د): يقتل. (*)

ص 90

الثالث: يصح الاكراه فيما دون النفس، فلو قال: اقطع يد هذا أو هذا أو لاقتلنك، فاختار المكره أحدهما، ففي القصاص تردد، منشؤه أن التعيين عري عن الاكراه. والاشبه القصاص على الامر، لان الاكراه تحقق، والتخلص غير ممكن إلا بأحدهما.

إن كان المأمور مميزا، لانه هو المباشر، والسبب هنا على تقدير تسليمه ضعيف جدا. وإن كان غير مميز فالقود على الامر، لضعف المباشر. ولو أكرهه على قتل نفسه، بأن قال: اقتل نفسك وإلا قتلتك، فقتل نفسه، ففي وجوب القصاص على المكره وجهان، منشؤهما أن الاكراه هل يتحقق للعاقل (1) على هذا الوجه أم لا؟ أحدهما: نعم، فيجب القصاص على المكره، لانه بالاكراه على القتل والالجاء إليه قاتل له. وأظهرهما: المنع، وأن ذلك ليس بإكراه حقيقة، لان المكره من يتخلص بما امر به عما هو أشد عليه، وهو الذي خوفه المكره به، وهنا المأمور به القتل المخوف به القتل، ولا يتخلص بقتل نفسه عن القتل، فلا معنى لاقدامه عليه. فظهر بذلك رجحان عدم تحقق إكراه العاقل عليه. نعم، لو كان التهدد بقتل أشد مما يقتل به المكره نفسه، كقتل فيه تعذيب،اتجه تحقق الاكراه حينئذ، لان المكره يتخلص بما امر به عما هو أشد عليه، وهو نوع القتل الاسهل من النوع الاشق، فيجب القصاص فيه كغيره. قوله: (يصح الاكراه فيما دون النفس... إلخ).

(هامش)

(1) في (ت، د، ط، م): للقاتل، وفي (ص): للفاعل. (*)

ص 91

قد عرفت أن الاكراه يتحقق حيث يمكن المكره العدول عما توعد به إلى ما هو أسهل منه، فيتحقق فيما دون النفس إذا توعد بالقتل، كما لو قال له: اقطع يد هذا أو يدك وإلا قتلتك، لانه يحفظ نفسه بفعل المكره عليه، وليس فيه إتلاف نفس. وهذا لا إشكال فيه. وإنما يقع الاشكال فيما إذا حصر المكره الاكراه في شيئين أو أشياء على سبيل التخيير بينها، مع عدم إمكان التخلص [من الجميع] (1) إلا بواحد منها. ووجه الاشكال: من عدم إمكان التخلص من الجميع، فكان كالالجاء إلى المعين، ومن تحقق الاختيار بالقصد إلى أحدها بعينه، ولم يكره عليه بخصوصه، وقد تحقق في الاصول أن الامر بالكلي ليس أمرا بجزئي من جزئياته على التعيين، وإن كان الكلي لا يتحقق إلا في ضمن أحدها، فيكون في الامر الاكراهي كذلك. وفي الاول قوة، لان القصد إلى التعيين من ضرورة الاكراه، فهو ملجاء إلى إبراز فعل (2) كلي في الوجود لا يتم إلا بإيجاده في شخص معين. ولان الاكراه على المعين تخيير في الاوقات حيث لا يكرهه على التعجيل، وكما أن تعيين وقت الفعل إذا جاء باختياره لا يخرجه عن حد الاكراه، فكذا التخيير في صفة القتل، والاتفاق (3) على أنه غير قادح، فكذا في المتنازع. وهذا البحث آت في الاكراه على الجراح والمال وغيرهما. وقد تقدم (4) البحث فيه في الطلاق.

(هامش)

(1) من (خ، م). (2) في (أ، م): أمر. (3) في (ص): للاتفاق. (4) في ج 9: 17 - 19. (*)

ص 92

الصورة الثالثة: لو شهد اثنان بما يوجب قتلا كالقصاص، أو شهد أربعة بما يوجب رجما كالزنا، وثبت أنهم شهدوا زورا بعد الاستيفاء، لم يضمن الحاكم ولا الحداد، وكان القود على الشهود، لانه تسبيب متلف بعادة الشرع.نعم، لو علم الولي وباشر القصاص، كان القصاص عليه دون الشهود، لقصده إلى القتل العدوان من غير غرور. الرابعة: لو جنى عليه، فصيره في حكم المذبوح، وهو أن لا تبقى حياته مستقرة، وذبحه آخر، فعلى الاول القود، وعلى الثاني دية الميت. ولو كانت حياته مستقرة، فالاول جارح، والثاني قاتل، سواء كانت جنايته مما يقضى معها بالموت غالبا، كشق الجوف والامة، أو لا يقضى به، كقطع الانملة.

قوله: (لو شهد اثنان بما يوجب قتلا... إلخ). هذه الصورة مما اجتمع فيه المباشرة مع التسبيب مع غلبة السبب على المباشرة، وذلك إذا أخرجها السبب عن كونها عدوانا مع توليده لها، فإن شهادة الشهود بما يوجب القصاص والرجم ولدت المباشرة به، وأخرجها عن كونها عدوانا، فكانت الشهادة هي الموجبة للقتل العدوان دون فعل الحاكم والولي. ولا إشكال في ثبوت القصاص على المباشر لو علم أنهم شهدوا زورا، لانه هو القاتل عدوانا، وإن كان قد بنى ظاهرا على الحكم المستند إلى الشهادة. قوله: (لو جنى عليه فصيره... إلخ). إذا صدر فعلان مزهقان، نظر إن وجدا معا فهما قاتلان، سواء كانا

ص 93

مدففين (1)، كما إذا حز أحدهما رقبته وقده الاخر نصفين، أو لم يكونا مدففين، كما إذا أجاف كل واحد منهما جائفة أو قطع عضوا ومات منهما. وإن كان أحدهما مدففا دون الاخر، فالقاتل صاحب الفعل المدفف. وإن طراء فعل أحدهما على فعل الاخر فله حالتان: إحداهما: أن يوجد الثاني بعد انتهاء المجني عليه إلى أن صارت حركته حركة المذبوحين، إما عقيب الفعل الاول لكونه مدففا، أو بسرايته وتأثيره مدة، فيكون القاتل الاول، وعلى الثاني حكم الجاني على الميت، وسيأتي (2). والمراد من حركة المذبوح التي لا يبقى معها الادراك والنطق والحركة الاختياريان. الثانية: أن يوجد الثاني قبل انتهائه إلى حركة المذبوحين، فينظر إن كان الثاني مدففا، كما لو جرحه واحد ثم جاء آخر وحز رقبته أو قده نصفين، فالقاتل الثاني، لان الجراحة كانت تؤثر بالسراية، والحز أبطل أثرها وسرايتها. وإنما يجب على الاول القصاص في العضو المقطوع، أو المال على ما يقتضيه الحال. ولا فرق بين أن يتوقع البر من الجراحة السابقة لو لم يطراء الحز، وبين أن لا يتوقع ويستيقن الهلاك بعد يومين أو أيام، لان له في الحال حياة مستقرة، والتصرفات فيها نافذة. وإن لم يكن الثاني مدففا أيضا ومات بسرايتهما جميعا، كما لو أجاف الاول ثم أجاف الثاني، أو قطع الاول يده من الكوع ثم قطع الثاني الساعد من المرفق فمات، فهما قاتلان، لان القطع الاول قد انتشرت سرايته وآلامه وانضم

(هامش)

(1) دفف على الجريح كذفف: أجهز عليه. لسان العرب 9: 105. (2) في ص: 490. (*)

ص 94

الخامسة: لو قطع واحد يده، وآخر رجله، فاندملت إحداهما ثم هلك، فمن اندمل جرحه فهو جارح، والاخر قاتل، يقتل بعد رد دية الجرح المندمل.

فرع

لو جرحه اثنان، كل واحد [منهما] جرحا فمات، فادعى أحدهما

إليها الامر الثاني، فأشبه ما إذا أجاف أحدهما جائفة وجاء آخر ووسعها فمات، فإن القصاص عليهما. ونبه المصنف - رحمه الله - بقوله: (سواء كانت جنايته مما يقضى معها بالموت أو لا... إلخ) على خلاف بعض العامة (1)، حيث فرق بين الامرين، وحكم فيما إذا تيقن هلاكه بالجراحة السابقة بأن القاتل الاول دون الثاني. قوله: (لو قطع واحد يده... إلخ). أما ثبوت الجرح المندمل على جارحه دية أو قصاصا، والقتل على من لم يندمل قطعه، فواضح. وأما إنه يرد عليه دية العضو المندمل، فلان الجاني كامل، والمقتول ناقص وقد أخذ دية العضو البائن الذي لم يسر جرحه، أو ما هو في معنى الدية، فيرد نصف الدية. وفي القواعد (2) استشكل الحكم بالرد، مما ذكر، ومن أن الدية للنفس وحدها، ومن ثم يقتل الكامل إذا قتل مقطوع اليدين والرجلين والاذنين ونحو ذلك من غير رد، نظرا إلى مكافأة النفس للنفس من غير التفات إلى الاعضاء. قوله: (لو جرحه اثنان... إلخ).

(هامش)

(1) لم نجد تصريحا بذلك، وللاستزادة انظر الحاوي الكبير 12: 44 - 45، بدائع الصنائع 7: 238 - 239، المغني لابن قدامة 9: 385، روضة الطالبين 7: 25 - 26. (2) قواعد الاحكام 2: 281. (*)

ص 95

اندمال جرحه وصدقه الولي، لم ينفذ تصديقه على الاخر، لانه قد يحاول أخذ دية الجرح من الجارح والدية من الاخر، فهو متهم في تصديقه، ولان المنكر مدع للاصل، فيكون القول قوله مع يمينه. السادسة: لو قطع يده من الكوع، وآخر ذراعه، فهلك، قتلا به، لان سراية الاول لم تنقطع بالثاني، لشياع ألمه قبل الثانية. وليس كذا لو قطع واحد يده وقتله الاخر، لان السراية انقطعت بالتعجيل. وفي الاولى إشكال.

إذا جرحه اثنان فصاعدا فاندمل بعض الجراحات وبقي بعض ومات به، فإن اتفق الغرماء والولي على أن المندمل أو الباقي جرح معين، لزم كل حكم جرحه من دية أو قصاص. وإن اختلفوا وكان المفروض جرحين، فادعى أحدهما أن جرحه هو المندمل، فإن صدقه الولي لم يقبل في حق الاخر، لانه يروم بذلك إثبات القصاص أو الدية كاملة عليه. ولكن يقبل في حق المقر له، فيسقط عنه القصاص والدية في النفس، ويثبت في الجرح خاصة. وله قتل الاخر بعد أن يرد عليه نصف الدية. وإن طلب الدية لم يكن له إلزامه بأزيد من النصف. وإن كذب الولي مدعي الاندمال حلف. وله القصاص مع الرد، أو المطالبة بنصف الدية. قوله: (لو قطع يده من الكوع... إلخ). هذه المسألة من صور اشتراك اثنين فما زاد في مباشرة الجناية. وقد تقدم (1) أكثر أحكامها، ومنها أنه لو مات بسرايتهما معا فالقصاص عليهما.

(هامش)

(1) في ص: 92 - 94. (*)

ص 96

ولو كان الجاني واحدا، دخلت دية الطرف في دية النفس، إجماعا منا. وهل يدخل قصاص الطرف في قصاص النفس؟ اضطربت فتوى الاصحاب فيه، ففي النهاية: يقتص منه إن فرق ذلك، وإن ضربه ضربة واحدة، لم يكن عليه أكثر من القتل. وهي رواية محمد بن قيس عن أحدهما.

وقد وقع الشك في بعض فروضها، وهي ما إذا دخلت الجناية الاولى في الثانية، كما لو قطع واحد يده من الزند أو من المرفق، فقطع الثاني بقية يده، إما من ذراعه في الاول أو من الكتف في الثاني. وفي حكمه وجهان: أظهرهما: أن القتل منسوب إليهما، لان القطع الاول قد انتشرت سرايته وآلامه، وتأثرت به الاعضاء الرئيسة، وانضم إليها آلام الثاني، فأشبه ما إذا أجاف أحدهما جائفة وجاء آخر ووسعها فمات، فإن القصاص عليهما. والثاني: أن القصاص مختص بالثاني، لدخول الجناية الاولى في جنايته، وانقطاع سرايتها بالثانية، لدخولها في ضمنها، والالم السابق لم يبلغ حد القتل. وعليه، فيلحق الاول حكم الجناية الاولى خاصة، وكان كما لو قطع واحد يده وقتله الاخر. وأجاب المصنف - رحمه الله - بالفرق بين الصورتين، بأن سراية اليد في الثانية انقطعت بتعجيل الثاني الازهاق، بخلاف قاطع اليد ثانيا من المرفق، فإن الروح معه باقية، والالم الحادث على النفس والاعضاء الرئيسة باق من الجنايتين. قوله: (ولو كان الجاني واحدا... إلخ).

الصفحة السابقة الصفحة التالية

مسالك الأفهام - ج15

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب